تأملات أولية في حدث ظهور ما هو موسيقى ـ عبد الناصر حنفي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse17037"لو لم تكن هناك موسيقى لكانت الحياة خطأ"
 نيتشه: "غسق الأوثان"
-----
"وأما الأوتار وسائر النغمات التي ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيرا عجيبا ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الآثار وقد يعبر عنها بالشوق ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه فهو عجيب والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار أو الشاهين وما أشبهه ليس يدري إلى ماذا يشتاق"
أبو حامد الغزالي: "كتاب السماع والوجد"

من الصوت إلى الموسيقى
1-
ثمة لغز عصي على التأمل في طبيعة "ما هو موسيقى"، ذلك الذي يقدم نفسه بوصفه تلك الساحة التي يمكن أن ينفلت فيها الصوت دائما من كل ما يعود إلى المعنى أو الدلالة (بطبعاتها المختلفة)، ومن كل ما يمكن العودة به إلى ما هو متعين أمام الوعي، بحيث سيبدو وكأنه ذلك الفضاء الذي يتجاوز فيه الصوت أي ترابطات ضرورية يمكن افتراضها، أو أي ترابط مستقر ومتكرر مع ما هو خارجه.
ما هو موسيقى إذا هو فضاء تحليق الصوت المنفرد بذاته، والذي يمكنه أن يستقطب التفات العالم إلى حيث يذهب.
وبرغم أن الصوت الموسيقي هو في النهاية مجرد "حدث معاش على نحو مباشر"، إلا أنه يبدو نمطا فريدا للغاية في إطار كل ما هو معاش.
2-
كل "حدث مباشر" هو "ظهور" مصمت وممتلئ بذاته، ومنقضي في الزمان على نحو لا يسمح باستعادته، بحيث إنه ما إن يظهر حتى يتلاشى تجاه ما هو عدم، وبالتالي فلا سبيل لحفظه أو استبقائه معرفيا إلا عبر دمج تكرارات حدوثه -غير المتجانسة بطبيعتها- في ترابطات أوسع نطاقا، وأكثر تنوعا، مما يفضي إلى ظهور ما يمكن النظر إليه بوصفه "مكون معرفي كنائي" *، أي ذلك المكون الذي يضم سلسلة الوقائع المتكررة لظهور "الحدث المباشر" في كتلة مصمتة تتبدى وكأنها وحدة واحدة.

وعلى هذا النحو يترسب "الحدث المباشر" إلى "مكون معرفي" بطريقة أقرب ما تكون إلى ترسب الطبقة الجيولوجية، عبر دمج مصمت لكتلة تضم ما هو متبعثر وغير متجانس، أو غير نقي في تكوينه، وغير متطابق مع ذاته. وليس الفضاء المعرفي في بداية ظهوره شيئا سوى مجرد امتلاء بهذه المكونات المتجاورة التي لما تترابط بعد، والتي لا تتبدى لنا إلا بوصفها "عماء" ما لا يمكن تمييزه.
لكن هذا الفضاء المفعم بتلك الكتل المعرفية المصمتة هو أيضا غير ساكن، وغير مستقر بطبيعته، فهو قابل للانقسام والتضاعف وخلخلة تكاثفه على نحو لا يتوقف أبدا، مثلما هو مهيأ لاستحداث الترابطات واستقبالها وإعادة إنتاجها سواء بين مكوناته الداخلية أو مع ما هو خارجه، وسواء كانت هذه الترابطات من النمط "الكنائي" والتي تنتهي إلى دمج وضم ما يتجاور ليصبح بمثابة كتلة واحدة، أو كانت ترابطات من النمط الاستعاري والتي تستطيع أن تحقق قفزة تصل بين ما هو متباعد.
إن كل ما هو معرفي يمكن رده في النهاية لهذه الأنماط من الترابطات وما ينتج عنها من مكونات وعلاقات، بما في ذلك أي صوت يمكن تداوله أو تبادله، أو كل ما هو إصاتة بصفة عامة.
وبالنسبة للصوت "الخطابي"، مثلا، فعبر توالي تداوله، أو عبر توالي ظهوره بوصفه "حدث مباشر"؛ فإنه سيندمج في كتلة كنائية تضمه مع ما يصاحبه مما هو متعين ويومي، بحيث يندرج في كتلة معرفية كنائية أكثر تنوعا على نحو يجعل مجرد حدوث هذا الصوت قادرا على استحضار سلسلة بعينها من الوقائع المعرفية.
أما الصوت الموسيقي فهو لا يظهر إلا عبر نمط الترابط الاستعاري فحسب، فهو لا يرتبط بأي وقائع متعينة إلا على نحو عرضي وتصادفي، بل إنه يفقد ماهيته الموسيقية حين يرتبط ارتباطا ضروريا بما هو خارجه، ولذلك فالحديث عن "خطاب موسيقي" بالمعنى الدقيق هو أمر من قبيل التشبيه أو المبالغة.
وهنا نقف أمام إشكالية "الصوت الموسيقي"، ذلك الحدث المباشر الفائق التركيب والتنوع، والذي لا يغادر مباشرته أبدا تجاه ما هو متعين خارجه، ولكنه في النهاية يتمكن من القفز نحو استحضار ما هو أشمل وأكثر تجريدا من أي معطى أو واقعة متعينة.
كيف إذا يتحول ما هو مجرد صوت أو حدث إصاتة إلى ما هو موسيقى؟

في أصل ما هو موسيقى
3-
يتأسس ما هو موسيقى على أرضية ما يمكن تسميته بالترابطات الاستعارية الروحية، أي تلك الترابطات التي تغير بشكل أو آخر في الحدود الفاصلة بين ما هو وعي من جهة، وعماء ما لم يكن بعد من جهة أخرى.
والترابط الاستعاري هو استحداث علاقة تقاطع أو تلاقي بين أكثر من مكون معرفي كنائي، مما يؤدي إلى ظهور مساحة من الفراغ تتبدى بوصفها ما يفصل أطراف هذا التقاطع حيثما لا يقع. وهذه المساحة يمكن بالطبع أن نكرسها بوصفها مجرد اشتقاق "للاختلاف" فيما بين هذه المكونات أو الكتل الكنائية، وهو ما يذهب بنا بالضبط إلى حيث ذهب "دريدا" عبر تحليله لذلك الاختلاف الغير قابل للاستنفاد، أو الديفرانس (differance)، بعدما "استبصر" فعالية هذه الآلية الاستعارية، ولكنه بدلا من أن يتوقف أمامها فضل أن يمتطيها وأن يواجه بها كل ما يقدم نفسه بوصفه كتلة معرفية منتظمة، ليقتصر على وصف كيفية استجابة هذه الكتل وتحول أشكالها وتخلخل تماسكها كلما سدد نحوها "الاستعارات"، أو كلما مرر بعض الترابطات الاستعارية فيما بينها، ولذلك فحتى نتوخى الحذر من التعثر في ملهاة ألعاب التفكيك فعلينا التشديد على أن ما هو مختلف هنا هو مجرد عنصر يمكن اشتقاقه من تفاعل الترابطات الكنائية والاستعارية، وهو اشتقاق هام بالفعل، ولكنه -إن أخذ لذاته- يظل مجرد اختزال مبتسر سيبدو وكأنه يلوح بـ "ما يحدث" فيما يقذفنا أو يطردنا خارجه تماما بحيث سيحجب عنا تلك الحركة التي لا تنقطع أبدا، مثلما سيواري أفق "ما هو عماء" ذلك الحد الذي يكمن وراءه كل ما يمكن أن يأتي -أو لا يأتي- إلى الظهور.
4-
 أما ما هو روح فهو كل تلك المساحات التي "يتبدى" فيها مصاحبة الوعي لذاته، وصولا إلى اقصى نقطة "حدية" يمكن للوعي أن يلاقي فيها ما يخصه، وهكذا فإن حدود وفعالية "ما هو روح" لا تتعلق باي وضعية ميتافيزيقية مفارقة، بل بتلك التراكمات "العظمى" والتغايرات الدقيقة التي تنتجها حركة الوعي، والتي إذا ما أضفناها إلى ما هو خارجها حيث مصدر كل "ما يحدث" فإننا نصبح أمام ما نسميه بـ "العالم".
وينشأ الترابط الاستعاري عبر حركة أطرافه، ابتداء من تلك النقاط أو المساحات أو الكتل المعرفية التي يفترض أن تلك الأطراف تنطلق منها، وتحيل إليها، وصولا إلى تلك النقطة المتباعدة التي يفترض أن تلك الأطراف تتقاطع عندها. وعبر انزلاق الوعي مع تلك الحركة فإن المساحات الفارغة التي تجتازها "ستتبدى" بوصفها مسافات قابلة للانقسام وللامتلاء، ومرورا بهاتين العمليتين: التبدي والامتلاء، سيظهر الوعي وكأنه قد بات حيث لم يكن من قبل، وذلك نتيجة خوضه في فراغ ما هو عماء ودفعه إلى التراجع والانكشاف.
 غير أن هذه المساحة المنكشفة لا تمثل بالضرورة موضوعا للوعي ولا معطى من معطياته، فهي بالمقام الأول مناطق عبور طارئ، وستظل كذلك إلى أن تتكثف فيها المكونات والترابطات المعرفية على نحو يتيح لها أن تصبح مهادا لإنتاج معطى متعين أمام الوعي، ولكن بغض النظر عن تحقق هذه المرحلة التالية أو عدم تحققها، فإن مساحة "ما هو روح" ستبدو وكأنها تتسع وتكتسب زخما متزايدا.
وهكذا، فإن ما هو موسيقى يجد أصله في اشتغال تلك الآلية التي نطلق عليها "الاستعارة الروحية"، وبرغم أنه أداة إطلاق وتحفيز هذه الحركة الاستعارية، ولكنه ليس محل اشتغالها، مثلما أنه ليس معطى سابق عليها، فهو لا يظهر إلا مع سريانها، وينتهي مع إتمام دورتها، وبمعنى آخر، فالصوت في حد ذاته هو مجرد طنين، أو معطى حسي أولي، ولكنه يتحول إلى "ما هو موسيقى" عبر تلك الخلخلة التي يستحدثها الترابط الاستعاري في العلاقة بين المكونات المعرفية "الكنائية"، والتي تفضي إلى انكشاف مساحات جديدة لما هو روح.
5-
وطبقا لهذا التحليل الذي يتوخى الوصف "الفينومينولوجي" فالموسيقى ليست مجرد تراكيب نظامية حسية، ولا هي تلك الامتلاءات أو التباينات التي يمكن حسابها بدقة عبر كثافة وذبذبات وترددات الموجات الصوتية، فكل هذه العناصر هي مجرد أدوات إنتاج وإعادة إنتاج للصوت الذي يمكن أو لا يمكن أن يتحول إلى "ما هو موسيقى".
إن أصل ما هو موسيقى يكمن في تمدد "ما هو روح" واكتسابه مساحات جديدة على حساب ما هو عماء، وفي تراجع العماء أمام حركة الوعي التي تخترقه وتهتك ما يحجبه وتدفعه نحو الانكشاف والظهور. وعلى هذا النحو، فالموسيقى هي أحد أدوات "ظهور" العالم، عالمنا.
6-
وبالطبع يمكن لحجاج ما أن يرى المسار الذي قطعناه حتى الآن بمثابة تحليل زائد عن الحاجة، فالموسيقى هي الموسيقى أيا كان الوعي الذي تمثل أمامه، وأيا كانت العمليات التي يتم إخضاعها لها، وأي جملة كتبها موتسارت -مثلا- تظل هي الموسيقى بألف ولام العهد، سواء لامست روح أحدهم أم لا، وسواء عزفت بإجادة أو لم تعزف قط.
وهذا حجاج لطيف ومؤثر بالطبع، لولا أنه أشبه ما يكون بالدعوى إلى عدم الحاجة للبحث في العمليات الحسابية والرياضية -مثلا- ما دمنا نعرف مسبقا حاصل ضرب عدد في آخر، وما دام لا يوجد أي تحليل أو اقتراح نظري بمقدوره أن يغير هذه النتيجة.
ومن الواضح أن هذا النمط من الحجاج يتأسس على أن تحول الظاهرة إلى معطى متعين وواضح في الذاكرة على نحو يجعلها موضوعا للممارسة وللتبادل أو التداول المعرفي هو خط النهاية في علاقتها بالعالم وعلاقتنا بها، وهو خط لا يمكن زحزحته، وليس ثمة جدوى من التراجع إلى ما قبله.
وبالقطع فإن تحول ما هو معاش إلى ما هو ذكرى، أو أثر لما مضى، هو واحد من أهم دروب التراكم المعرفي والأبستمولوجيا، إلا أن فصم الصلة أو بتر الامتداد بين الظاهرة بوصفها ما يقيم في الذاكرة والظاهرة بوصفها ما يعاش في العالم، والاكتفاء بالتعاطي معها باعتبارها مجرد سجل لما كانت عليه، هذا الفصل ليس فقط أمر ممتنع وغير ممكن على مستوى ما يحدث، ولكنه أيضا كفيل بتحويل الذاكرة إلى أداة ومحل نسيان الظواهر، بحيث تصبح سجنا يحجبنا عن العالم، ويمنعنا من التفكير كيف باتت تلك الظاهرة على ما هي عليه، وكيف "تكون" أو كيف تكتسب كينونتها، وما المسار الذي قطعته حتى تمثل أمام الوعي أو تقيم في الذاكرة، وما تلك اللفحة الغامضة المنتهية وغير القابلة للتكرار والتي جعلتنا نعرف حاصل ضرب رقم في آخر، أو منحتنا الموسيقى، بل وكيف تحفظ تلك الذاكرة نفسها خارج سياق ما أنتجها في الأصل، وكيف يتماثل ما هو موسيقى مع ذاته؟
إن الإقامة في المكان عينه قد تمنحنا سكنا مثلما قد تهبنا إلى السجن أو القبر، والنزوع إلى الانحباس داخل الذاكرة التي تحجب حدوث ما هو معاش في العالم ليس أكثر من قفزة إلى جحيم ما هو ميتافيزيقي حيث تنتظرنا كافة الوحوش الغنوصية التي عرفها الإنسان، والتي قد تقدم نفسها بوصفها أصل كل ما يكون، ولكنها لا تستطيع مواصلة البقاء إلا عبر التهام عالمنا والتقليص المستمر من حدوده وإمكاناته.
وفي المحصلة إذا: فنحن لا نستطيع أن نغادر الإقامة في الذاكرة تماما وإلا كنا نقفز بأنفسنا إلى عالم يذهب نحو الاستغراق في عماء ما لا يمكن تمييزه، مثلما لا نستطيع الانحباس داخلها دون المخاطرة بانفصال هذا العالم عما هو معاش، وبالإضافة لذلك فإن فصل ما هو موسيقى تحديدا عن حدث ظهوره ينفي تلك الظاهرة تماما ولا يبقي منها سوى طنين صوتي، أو ضجيج منظم.
ولذلك فمن أجل وصف ما هو موسيقى كما يظهر في العالم لا كما نتذكره فعلينا العودة باستمرار إلى مبدأ التقويس أو تعليق الحكم الفينومينولوجي (Epoche)، بحيث يتم حصر ما يقيم في الذاكرة بوصفه كذلك، أي بوصفه معطى يتطلب التحليل، وليس مصدرا للحكم.

عن إبستمولوجيا ما هو موسيقى!
7-
 تستطيع الموسيقى إذا أن تستحدث ترابطات بين ما هو متباعد ومبعثر وغير متجانس، وأن تقتحم ما هو عماء وتدفعه للتراجع أمام الوعي بحيث تتمدد مساحة ما هو روح، وأن تجلب إلينا ما سيبدو وكأنه لم يكن قط من قبل، وأن تندفع عبر ما قد "ينكشف" بحيث تجعله مؤهلا لأن يكون موضوعا للوعي فيما بعد.
ولكن ما هو موسيقى لا يؤدي أي من هذه المهام بذاته، فهو مجرد حركة خالصة، وحتى بعدما يتم اصطياده وإجباره على "الإقامة في الذاكرة" فإنه يتحول إلى مجرد كتل باهتة أو واضحة من الأصوات أيا كان انتظامها، ولا سبيل لبعث ما هو موسيقى في هذه الأصوات مرة أخرى إلا عبر تركها "تحدث"، أو إفلاتها من الذاكرة وتركها تذهب إلى العالم.
ما هو موسيقى إذا هو حدوث محض يجلب ما يظهر، أو حركة خالصة، ولكنها حركة تتجه خارج ذاتها باستمرار، وبمعنى آخر فإن التخارج التام يكاد يكون الشرط الأول لسريان ما هو موسيقى.
لقد حاولنا هنا أن نصف كيفية حدوث ما هو موسيقى، ولكن هذا يلقي بنا أمام عتبات سؤال مغاير تماما: كيف يصير ما هو موسيقى ممكنا؟
8-
إن مشروع الوصف الفينومينولوجي للظواهر في العالم ليس في الأساس سوى مجرد تطبيق أو مران لتشغيل ما هو إبستمولوجي، ولذلك فنتائجه النهائية ينبغي العودة بها إلى ساحة ما هو معرفة مرة أخرى، أما استبقاء هذا الوصف تحت الظل الحارق لما هو أنطولوجي، والتعاطي معه بوصفه السجل النهائي لما يوجد فهو أمر يبني علاقتنا بالعالم حينا، ولكنه أيضا يطمس تبايناته ويجعلها عصية على السؤال أحيانا.
وفي هذا الإطار فإن الخطاب "الفلسفي" حول الموسيقى قد دشنها منذ البداية بوصفها تجريدا، إن لم تكن هي التجريد ذاته، ولكنه لم يتوقف ابدأ ليتساءل ما الذي يتم تجريده هنا؟
9-
يتأسس ما هو مجرد بوصفه تلك الحالة العامة التي تنضوي تحتها حالات -لا يمكن حصرها- لما هو متعين، وبما أن كل ما هو متعين هو ترسيب لتكرار "ما يحدث"، فهذا يعني أن "المجرد" لا يحدث بذاته في العالم قط إلا بوصفه ظلا مصاحبا لما يتعين، إنه ذلك المسار الذي يسمح لما هو متعين أن ينفذ خلاله إلى حيث الفضاء المعرفي الذي يحتوي ما يماثله من تعينات، وبعبارة أخرى، فالمجرد هو علاقة "معرفية" متعالية بين المتعينات، ولكنه ليس حدوثا أو تعينا بذاته.
 وبالنسبة لما هو موسيقى، فحتى لو افترضنا جدلا أن حالة حدوثه هي نفسها حالة تعينه، وأن ذلك الصوت الذي أصبح يقيم في الذاكرة هو نفسه "الموسيقى"، فإن تجريد هذه الحالات -كما يجري في العلم الموسيقي مثلا- لا يذهب بنا إلى ماهية الموسيقى بل يضعنا أمام تقنيات إنتاج الصوت، أي كيفية إحداث الإصاتة، والتي تمثل -بكل تأكيد- الشرط الأول لظهور أو استدعاء ما هو موسيقى، ولكنها تظل أيضا مجرد نقطة انطلاق أو بداية، أو تمهيد يمكن أن يفضي أو لا يفضي إلى "حدوث موسيقي". والأمر هنا يشبه تماما دراسة الفونيمات، بوصفها تجريد للصوت الإنساني، أو "للسان"، فلا لغة دون القدرة على إحداث الفونيم، ولكن مهما توسعنا أو تعمقنا في بحث ودراسة كل ما هو فونيم فإن هذا لن يمنحنا معرفة ذات طائل عن "ما هو لغة" كما يحدث ويظهر في عالمنا.
وبالقطع فإن تجريد ما هو موسيقى إلى حدث إصاتة ليس له أدنى علاقة بذلك التجريد الموسيقي الذي تتحدث عنه تلك الخطابات الفلسفية التي ترى أن العالم ذاته يتجرد في الموسيقى أكثر مما تتجرد الموسيقى في العالم، وطبقا لذلك فإن الموسيقى هي أداة تجريد العالم من تعيناته، وليست حدوثا أو تعينا يجري تجريده في العالم.
 وبما أن المسار الإبستمولوجي يكاد يكون هو الإمكان الوحيد لتجريد العالم داخل التحليل الفلسفي، فهذا يعني أننا هنا أمام ما يمكن النظر إليه بوصفه منازعة -صامتة ومكتومة- بين الموسيقى والإبستمولوجيا بوصفهما أداتي تجريد، وهو ما قد يمكننا من تفهم لماذا كانت "إبستمولوجيا الموسيقى" مبحثا ممتنعا، ولماذا ظل حضور الموسيقى في الخطاب الفلسفي مقتصرا على كونها موضوعا للتعليق الملحق بتحليل ما هو معرفة، أو حتى ما هو أخلاقي. ففي حضرة الإبستمولوجيا كان ينبغي دائما على موضوعة ما هو موسيقى أن تخضع للاندماج في مفهوم المعطى المعرفي المتعين، أو أن تترك للانفلات تجاه ما هو ميتافيزيقي غير قادر على تفسير ذاته، أو حتى أن يتم إغراقها فيما هو غنوص لا يطالب سوى بالانصياع.
ولكن الطريف، والمثير، في هذا السياق أنه حيثما يبلغ تحليل العالم أو تفسيره أعمق نقاطه الممكنة حيث يتبدى أمامنا ما يقدم نفسه بوصفه أصل ما يكون، فإن ما هو موسيقى سيعاود الظهور هناك مزاحما ومطالبا بالالتفات إلى فرادة "حدوثه".
10-
إن الحركة الاستعارية التي تؤسس لحدث ظهور "ما هو موسيقى" هي نفسها التي تؤسس لظهور كل ما هو جميل، ولكن بالمقابل فإن الجمالية الموسيقية تظل متمايزة في عدم قابليتها للدمج الكنائي، واحتفاظها بتخارجها عن كل ما تمر به، فمثلما يظهر ما هو موسيقى بغيره، فهو أيضا يحضر بغيره.
وهو ما يفضي بنا إلى إشكالية حضور "ما هو موسيقى" في العالم، وآليات هذا الحضور وكيفية حفظه، وحدود فعاليته، وصولا إلى تحليل تلك التبديات الموسيقية المتداخلة في إنتاج عالمنا كما نعرفه.
إن ميدان "الحضور" هو الساحة الأكثر تفضيلا لكل من التحليل والزهو الفينومينولوجي معا، حيث الاستئناس الدافئ بالذهاب إلى العالم كما هو أو كما يبدو، وإحالة أفقه اللامتناهي إلى موضوع للعب الذي يجلب متعة الانزلاق عبر ما هو مجرد وجاف وبارد إلى ما هو متعين وحسي ومباشر وصاخب.
وفي هذا السياق المضطرب فكثيرا ما يسقط التمايز بين "الظهور" و"الحضور"، بحيث يصبح "ما يظهر" بمثابة اشتقاق تلقائي وبسيط يمكن -لمن يريد- العثور عليه متواريا خلف بقعة الحضور التي يذهب إليها التحليل الفينومينولجي، وهذا المنحى لا يؤدي فقط إلى حجب الظاهرة بوصفها ما يحدث والتعاطي معها باعتبارها ما يقيم أو ما يترسب في الذاكرة، أو حتى ما يمكن الاصطدام به إذا ما قمنا بخلخلة مكونات تلك الذاكرة، ولكنه يؤدي أيضا إلى ابتسار ما يحضر إلى محض "تبدي"، عابر أحيانا، وجزئي دائما.
إن "الظهور" هو في النهاية واقعة معاشة، وبالتالي يمكن تحليله بوصفه حدث، أما الحضور فهو عملية تتسم بالاستمرار والقدرة على حفظ نفسها، ولذلك فلا يمكن تحليلها بمعزل عن "ما هو روح"، وعن العالم الذي تسري فيه.
وهذا يعني أن الانتقال من تحليل ظهور ما هو موسيقى إلى تحليل حضور "الموسيقى" يستلزم التوسع فيما تم طرحه هنا من آليات منهجية ومساحات تحليلية. ولكن لتكن هذه مهمة أخرى.

------
* للتوسع في تحليل فضاء ما هو معرفة عبر ترابطات وحراك "الاستعارة" و"الكناية" انظر للكاتب: "في التقنية الجمالية: أطروحات إبستمولوجية" – مجلة فصول- القاهرة- عدد 63 شتاء وربيع 2004- ص ص 384-389
أو نسخة مبكرة بنفس العنوان في موقع الحوار المتمدن 2002.