العنف وثقافة التحريم، أو في لزوم العنف عن المقدس ـ خلوق السرغيني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse01060 من البديهي أن موضوعة العنف تثير اليوم جدلا واسعا بين أهل النظر من الفلاسفة والمفكرين، ولَإن صادروا على واقعيتها، فإن الاختلاف بصدد المصادر التي يمتح منها السلوك العنيف يظل سيد الموقف. وإذا كانت هناك بعض التصورات تؤكد على الطبيعة الطبيعية للسلوك العنيف، فإنه يمكن القول بالمقابل أن للمعطى الثقافي الدور الوازن في بلورة أسس دوافع هذا السلوك، خاصة حينما يصبح هذا المعطى ضمن المسكوتات/المحرمات الاجتماعية  المحاطة بهالة من التقديس التي لا يجوز انتهاكها. فكيف إذن تنتج ثقافة التحريم السلوك العنيف؟
   في البداية يمكننا التأكيد أن ثقافة التحريم التي تتحقق في العبارة التالية: "من الحرام أن..."، لا يمكن إلا أن تكون ثقافة واحدية وأحادية: واحدية لأنها لا تعترف بمشروعية أية ثقافة موازية، وترتد بالمقابل على نفسها في إطار انغلاقها الثقافي التشريعي، فهي الخصم والحكم في نفس الوقت، وأحادية لأن الغاية التي تنشدها واحدة، وكل غاية لا تنتمي إلى الغاية-المجموعة التي تدعو إليها تعتبر لاغية، ولما كان الأمر كذلك فإن ثقافة التحريم هاته هي ثقافة لا يمكن أن تنتج إلا التعصب، هذا الذي يكون المشرع الأول للعنف، فبأي معنى يلزم العنف عن التعصب الذي يسم ويصم ثقافة التحريم المقدسة؟
   إن التعصب هو عنف تمارسه الذات تجاه الغير اعتقادا منها أنه على خطيئة(رمت هنا المعنى الديني ،حيث يكون العنف مقدسا تجاه الفعل المدنس الذي ليس إلا خطيئة مصدرها الغِوَاية الشيطانية ،يمكن أن نستحضر هنا فعل الأكل الآدمي ،أو فعل القتل القابيلي) أي أنه فعل نبذ يقوم به الإنسان -فردا كان أو فئة- للمختلف عنه لا للمشارك ،وقد يكون هذا الإختلاف في الملة أو في السياسة أو في العلم ...عموما في تصور الأنا للعالم ،وذلك من منطلق أن هذه الأنا الأخرى على ضلالة ،بينما الأنا المتعصبة تكون دوما مصيبة في أحكامها وأفعالها أيضا ،كما أنها تمتلك اليقين والصدق التامين بصدد ما تتعصب من أجله ،طالما أنه مقدس ،والذي يمكن أن يكون قولا أو فعلا أو مكانا ،شخصا ،رقما...لكن إذا كان الأمر على هذا المنوال كيف يمكن لفكرة أو قول أو رقم حتى ،أن يكون جدرا للتعصب ودافعا لممارسة العنف؟

   حينما يعتقد الإنسان الفرد أو المجموعة في مسألة من المسائل اعتقادا ينتفي معه أي قبول نظري لتصبح ما ليس هي أو بخلاف ما هي عليه ،حينئذ فنحن في عمق التعصب من الناحية النظرية -وكما اسلفنا لا ممارسة دون تنظير- أما ما يلزم عنه من الناحية المسلكية فذلك أمر طبيعي ،بحيث حينما تستقر المسألة في ذهن المتعصب مادة وصورة: مادة ،من ناحية محتوى القضية التي يعتقد بصحتها ،وصورة من حيث إنها لا تقبل القدح أو النقد ولا حتى النقاش ،لأنها صادقة صدقا مطلقا من الناحية النظرية ،فلا يبقى عليه إلا أن يمارس ما اعتقده ،وتحويل الاعتقاد إلى عمل ،وهنا يبدأ التشريع السلوكي ،سواء لذات المتعصب أو لغيره من الذوات التي تحتاج إلى سبيل قويم ،لأنها في نظره على خطأ ،بل على خطيئة مهلكة ،فيظهر المتعصب حينها كنبي مُخَلِّص أو منقذ من الضلال ،وهنا تبدو الحاجة إلى العنف لازمة كرادع للخصم حتى لا يَقدَح فيما نعتقد أو كسند مادي لهذا المخَلّص وأتباعه ،فتتم بالتالي شرعنته ليصبح عنفا مشروعا ،بل - أكثر من ذلك يصبح عنفا- مقدسا: إعدام مقدس لجسد مدنس( ملحد، مرتد،إرهابي...) ،حرب مقدسة ضد شعب مدنس(كفار،هراطقة ،متخلفون...) ...إلخ
   بهذا يصبح العنف المادي منه والرمزي آلية أساسية للدفاع عن شرعية المقدس من الأفكار والأفعال المضادة المشككة في حقيقته أو حقيقة ما ينسب إليه من طقوس ،بحيث يلجأ المدافع عن المقدس إلى طرق الإقناع اللغوية أي أنه ينزَع للدفاع عن فكرته وإيصالها إلى المخاطب بأي طريقة كانت ،خطابية أو جدلية أو حتى بالبرهنة الرياضية إذا اقتضى الحال ،لكن حينما يستنفد جميع طرق الإقناع البلاغية هذه ولم يحرز أي تقدم ،حينها يعمد إلى العنف لفظيا في البداية وأمله ينصب على إيقاف تقدم الخصم المخالف -إعدام نفسي- لينتقل مباشرة إلى العنف الجسدي فيحاول أن يعدمه جسديا حتى يضمن للمقدس استمراريته وبقاءه ، وبالتالي يكون قد تخلص من كل ما من شأنه تدنيس مقدسه ،فهل يعقل أن يصل المتعصب إلى هذه الدرجة من الغليان؟
   أجل، إن التعصب لا يمكن إلا أن ينتج هذا الغليان الذي يدل على الحماسة العاطفية المفرطة لدى المتعصب وهذا شيء طبيعي، لأن قصور الفكر الدوغمائي عن الدفاع عن دعواه التي يعتقد بصحتها ،وما عداها الباطل والخطأ بعينه، لا يجعله يتوقف أو يراجع معتقده في تلك الدعوى ومدى صحتها ،بل يزيد من حماسته العاطفية ،كما يكون ذلك مبرره للانتقال في الدفاع من المستوى الفكري ،أي مقارعة الحجة بالحجة ،إلى المستوى المادي حيث يشرع في ممارسة العنف بشتى أنواعه وبوسائل مختلفة على من يدعي غير ما يعتقده ،بل الأدهى والأمر هو أن الأذى الذي يلحقه بالآخر المغاير دينيا أو ثقافيا أو سياسيا ...سيصبح واجبا ينتمي إلى دائرة المقدس من الأفعال ،عكس الفكر أو القول أو السلوك الذي يجب إخراسه فهو ينتمي إلى دائرة المدنس ،وهكذا يتولّد العنف من المقدس ويلزم عنه.