صورة الكاهن في فلسفة نيتشه ـ ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse22057"أنا مخترع علم نفس الكاهن"
نيتشه
   لم يتردد جيل دولوز بعد تقاعده سنة 1987 من تأكيد رغبته في طرح أسئلة فلسفية بعيداعن المباشرة والجانبية والتجريد، إذ هناك حالات لا تمنح الشيخوخة فيها شبابا أبديا، وإنما على العكس حرية تامة وضرورة خالصة. يتعلق الأمر بسؤاله حول مفهوم الحزن والشخصيات التي مثلته منذ فجر التاريخ، شخصيات لاتكتفي بالتمثيل ولعب الأدوار، بل تحاول قدر إرادتها و"ذكائها" تمرير عواطف حزينة للآخرين، شخصيات عمرت طويلا، وفرضت نفسها على الأفراد والجماعات والشعوب. كانت رغبة دولوز متجهة نحو رسم لوحة لهذه الشخصيات، لوحة ابتدأ العمل عليها منذ أواسط القرن السابع عشر مع باروخ سبينوزا، ثم مع فريديريك نيتشه، وأخيرا مع ميشال فوكو. اهتم هؤلاء الفلاسفة في جانب مهم من أعمالهم على البحث عن أصل أحكامنا الأخلاقية، وعلى الكشف عن  التشكل التاريخي لسلطة كانت محتاجة باستمرار إلى حزننا كي تجعل منا عبيدا. وكانت مهمة الفكر مع هؤلاء مركزة على وضع حد نهائي ل"نظام الأحكام الأخلاقية". لقد ساهمت في تشكيل هذا النظام الأخلاقي شخصيات مثيرة حقا، اعتمادا على قدرتها على استعمال الخيال وفرض الطاعة وتطبيق الأخلاق، ونذكر من بينها: شخصية "الكاهن"؛ شخصية قادت أكبر عملية تزوير للأخلاق وقلب لها، مستهدفة الحط من قيمة الحياة وكرهها ومحاكمتها ونفيها. ضدا على هذا الهوى الإرتكاسي، أقدم فريديريك نيتشه، على إبداع فكر مضاد لتيولوجيا الكاهن: فلسفة نقدية وعلم مرح، وتصور جديد للوجود مبني على فضح اضطراب الروح وكشف وهم "العالم الحقيقي" وتأكيد قوى الجسد وإثبات الحياة.


1-خصوصية شخصية الكاهن عند نيتشه
   في سياق اهتمام نيتشه بفلسفة القيم والمعنى، سيدلي بافكاره حول أصل الأحكام الخلقية المسبقة، وهو يوجه خطابه ل"ذوي الأفكار الحرة"، وبتلك الشبهة الخاصة التي تحمل إسم"الأخلاق"(1). هكذا أدرك نيتشه بحسه الفلسفي أن أصل الأحكام الأخلاقية، يرجع إلى فطنة الكاهن اليهودي، إلى "سيكولوجيا الكاهن الأولى"، ذلك الذي يعطي الإضطغان شكلا، ذلك الذي يقود الإتهام، ويتابع مسعى الإنتقام أبعد فأبعد، ذلك الذي يتجرأ على قلب القيم(2).
فأين تتجلى قيمة هذه الشخصية  في تربية وتدجين الكائن الإنساني؟
لقد سمحت ظروف محددة ببروز شخصية الكاهن؛ شخصية ابتكرها اليهود انتقاما لتاريخ طويل من الإضطهاد الفرعوني، وأثناء هروب عبراني في الصحراء بحثا عن الخلاص. كان الأمر الجديد الذي اضطلع به الكاهن، هو تأكيده على فكرة أن الناس هم دائما في حالة"دين لانهائي" إزاء الإله. أكيد أن هذا النوع من "الدّين" كان سائدا بين القبائل، لكنه دين محدد في الزمان، وبالتالي كان بالإمكان التحرر منه نظرا لارتكازه على منطق التبادل(3). المسيحيون كذلك سيتناولون مرة ثانية مفهوم"الدّين اللانهائي" بطريقتهم الخاصة، في علاقته ب"الخطيئة الأصلية". في ظل هذه العلاقة التي نسجها الكاهن مع "الماوراء"، ستزدهر مختلف أنواع العلاج الساذجة للحياة؛ حياة العبيد والمقهورين والضعفاء من بني البشر والتي تتعلق مثلا، بالصوم والتعفف الجنسي والهروب إلى "الصحراء"..، أي تجميد الأهواء والرغبات وإماتة الحواس وإطفاء شعلة الغرائز، وبالتالي قتل الجسد. والحق أننا نستطيع -يقول نيتشه- بشيء من الإنصاف، أن نضيف أن الإنسان إنما بدأ يصبح حيوانا مثيرا للإهتمام عندما يستوي على نفس أرضية هذا الشكل من الوجود الخطر في جوهره الذي هو الوجود الكهنوتي. هنا بالضبط اكتسبت النفس البشرية عمقها وخبثها، بكل ما للمعنى من سمو(4). يتمظهر الوجود الخطر للكاهن في عدائه للحرب، بحسب نيتشه، فهو أعجز الخلق، وهذا العجز يولد لديه كراهية ذهنية رهيبة سامة، وروحية يغذيها الإنتقام. يتضح ذلك أساسا من خلال إجرائه لتحويل جذري لجميع القيم، أي توسله فعلا انتقاما روحيا في جوهره، أصبح بموجبه الفقراء والصغار والعجزة وحدهم الطيبون، والمرضى والمعلولين وحدهم أصحاب التقوى والمباركون من الإله، والغبطة والسعادة وقف عليهم، ليس إلا. أما النبلاء والأقوياء فهم منذ الأزل معشر الخبثاء والطغاة والجشعين، وسيظلون إلى الأبد منبوذين وملعونين وهالكين. لكن سفالة الكاهن و"عبقريته" تظهر بوضوح في عدائه للحياة وحقده الغريزي عليها والقسوة تجاه الذات والبحث عن أنجع الطرق لتحقيرها وابتغاء إمتاتة الجسد واقتلاع نزواته من الجذر، وفي سعيه إلى ربط حياته بذلك القطيع من الخائبين والمغضوب عليهم والضالين والتعساء والمرضى من كل جنس ونوع، هذا القطيع الذي يشكل الكاهن، بالغريزة، راعيا له كما يؤكد نيتشه.

2-الكاهن اليهودي وقلب القيم
    تمثل عمل الكاهن اليهودي في ابتكار اتهام دائم مبني على الإيمان بعالم أوهام يحط من عالم الواقع، بل ينفيه ويزيفه. بهذا القلب في تصور العالم والحياة، قاد الكاهن أكبر عملية تزوير للقيم، وتابع أكبر عملية للإنتقام. هكذا أصبح المعلم في الديالكتيك، ، الذي يعطي العبد فكرة القياس الإرتكاسي، يصنع المقدمات الإرتكاسية، يتصور الحب حبا جديدا يأخذه المسيحيون على عاتقهم، مثل خلاصة حقد لا يصدق، هو الذي يشرع بالقول:" التعساء هم وحدهم الطيبون...، على العكس، أنتم الآخرين، أنتم النبلاء والقادرين، كنتم دائما الأشرار..."(5). بهذه الطريقة، تواطأ الكاهن مع القوى الإرتكاسية، دون الإختلاط بها. إنه يضمن انتصار القوى الإرتكاسية، يحتاج إلى هذا الإنتصار، لكنه يتابع هدفا لا يمكن الخلط بينه وبين هدفها. إن إرادته هي إرادة قوة، وإرادة القوة لديه هي العدمية(6). يتحدد جوهر العدمية عند نيتشه في حرمان القوة الفاعلة من شروط ممارستها المادية، وفصلها قطعا عما تستطيعه. الشيء الذي يجعل هذه الإرادة تنقلب إلى داخل، تنقلب ضد ذاتها. وهنا يؤكد نيتشه أن التحول إلى الداخل، والإنقلاب ضد الذات، هما الطريقة التي تصير بها القوى الفاعلة ارتكاسية حقا. بهذه الطريقة تنتصب قوة الكاهن أمام كل غريزة تريد أن تنفجر، فتنقلب إلى الداخل، وتتحول إلى نبتة خبيثة، أطلق عليها نيتشه"الإحساس بالخطإ". سمحت عملية القلب هذه للكاهن بنشر سمومه، وحقده ضد الحياة، وحبه للكائنات المريضة/الطيبة، ورغبته القوية في إلقاء شقائه في وعي السعداء. نتج عن هذا العمل المثير للكاهن، توليد الألم ومضاعفته، باستبطان القوة، وتسليطها إلى الداخل. لا يتوقف عمل الكاهن عند هذا الحد، بل يواصل اختراع معنى جديد للألم، معنى داخلي؛ إن الألم نتيجة خطيئة يستتبعها خوف وشعور بالذنب، وإنزال عقاب(7). تظهر الآن قيمة الكاهن في التاريخ ومهمته الخارقة؛ سيطرته أولا على الألم وجعله حجة ضد الوجود، وإضفاء معنى علي رد الفعل كميزة للقوى الإرتكاسية، وتحكمه ثانيا في مجموع المتألمين والمرضى باستعمال فنه الزهدي والكهنوتي لحماية قطيعه وضمان خلاصه(8). سيعمل الكاهن على نشر وصفتة الأخلاقية والدعوة إلى الإيمان بوصاياها ومعجزاتها، غاية في إخضاع الجميع وإصابته بالإنهاك والضعف، وتنمية النزعة المعادية للحياة، وقيادة القوى الإرتكاسية نحو الإنتصار.
3-الكاهن المسيحي وتحقيق الخلاص
    يتابع القس المسيحي العمل المدهش الذي قام به الكاهن اليهودي، عن طريق إشرافه على استبطان الألم، والإرتفاع بالإحساس بالخطإ إلى شكله الأعلى: الألم، عاقبة خطيئة. هكذا يغير الكاهن المسيحي شكل الإضطغان؛ ففي المرة الأولى، كان إنسان الإضطغان، المتألم بشكل أساسي، يبحث عن علة لعذابه. إنه يتهم، يتهم كل ما هو فاعل في الحياة، لكن الكاهن المسيحي سيشرف على تغيير الإتجاه؛ سيقوم باختراع الخطيئة، ينبغي أن يجد الإنسان الإرتكاسي، في ذاته، علة عذابه(9). هكذا سيعمل على نشر العدوى، عن طريق، ترسيخ القناعة التالية: "الحياة صعبة وثقيلة"، مع تدبير الرعب الصغير والحميمي، الشكوى الطويلة والكونية بصدد الحياة بتعبير بول فريليو. سينجح الكاهن في دفع الإنسان الإرتكاسي إلى اتهام ذاته/هذه غلطتي، والشعور بالذنب، بل سيحتفل بالنصر عندما سيعيد العالم بأسره هذه اللازمة الحزينة؛ أي الخضوع إلى "دين لامحدود" والإيمان ب"الخطيئة الأصلية". يؤكد نيتشه أولا على مسؤولية الإنسان تجاه "الدّين" و"الخطيئة"، وعلى استحالة الدفع والغفران. لكن الكاهن المسيحي سيبشر المؤمنين والمحبين والعادلين والصادقين بإمكانية الخلاص؛ يقول نيتشه:" الله بذاته مقدما نفسه أضحية لدفع ديون الناس، الله دافعا نفسه لنفسه، الله متوصلا وحده لتحرير الإنسان مما كان قد بات، بالنسبة للإنسان بالذات، غير قابل للغفران"(10). لن يتوقف الكاهن المسيحي هو الآخر عند هذا الحد، بل سيواصل ابتكار أساليب للسيطرة على جموع المتألمين والمنحطين؛ أولئك الذين لا يؤمنون بأنفسهم، والإستعانة بأجسامهم المنهكة وأرواحهم(أفكارهم) المريضة في بناء صرح مؤسسته الفتية: الكنيسة. وهذا يعني الإنخراط في تأسيس سلطة زمانية، مرتكزا على رأفة مفكر فيها بالأتباع والمؤمنين بالعقيدة المسيحية، اعتمادا على إجراءات وتقنيات وطقوس، يمكن إجمالها في:
-الإرتفاع بالإحساس بالخطإ إلى شكله الأعلى: الألم، عاقبة خطيئة.
-دفع المؤمن بالعقيدة الجديدة إلى اتهام ذاته، والإعلان بطيب خاطر أنه مذنب، وتحميله مسؤولية الخطيئة وعواقبها(11).
-إخضاع الإنسان المسيحي لطقوس خلاصية كالتعميد والإعتراف والتوبة.
هكذا تمكن الكاهن المسيحي/ "الكاهن الفنان"، من ترتيب عملية تخليق/تزوير لظواهر الحياة، وإشهار الأمر القدسي (يجب عليك)، وتمييز نظرته لخير الأمور وشرها، وفرض تصوره ل"الحقيقية"؛ حقيقة من نحن، وما يجب علينا أن نفكر فيه، وأن نعمله ونفعله. وفي كل هذا، كان للكاهن مصلحة حياتية في جعل الإنسانية مريضة، وفي قلب مفاهيم "الخير" و"الشر" و"الحق" و"لخطأ"، وجعلها تتخذ منحى خطيرا على الحياة ومفتر على العالم(12).
 
4-دور الكاهن في تأسيس السلطة الدينية
     نستنتج مما تقدم، أن عمل الكاهن تمثل أساسا في تسميم مريده وأتباعه، عن طريق دفعهم إلى الإعتراف بالذنب إزاء "خارج"، والتأكيد على أن الإنسان هو موضوع  ل"دين لامحدود". بعد نجاحه في نشر مرضه بين أكبر نسبة من الإنسانية، انتقل إلى التحسيس بسلطته عن طريق تنظيم "قطيعه" والدفاع عنه. فتحول إلى مربي، وراع، وطبيب؛ أي صاحب إرادة وسلطة. إن براعة الكاهن ستظهر في ذاك الإحساس المشفق على مرضاه، شفقة حيال الحياة الإرتكاسية باسم القيم العليا، وشفقة الله حيال الإنسان الإرتكاسي(13). سيبني الكاهن سلطته باعتماد تدابير؛ إذ سيضطلع بتأسيس وعي جديد مبني على قلق عميق تجاه الواقع وكراهية للطبيعة، واعتبار فكرة الأخلاق كجوهر للعالم، وابتداع قيم متعالية ومشاعر حزينة غاية في التحكم في إرادة الإنسان وأهوائه، والإفتراء على الحياة ونفيها، ومحاكمة الوجود وتلويثه. تبدو شخصية الكاهن هنا جد مثيرة، ليس فقط على المستوى الديني والأخلاقي، بل السياسي. تتفتق إذن عبقرية الكاهن في علاقته بالمجتمع/الرعية، فهو يمثل صورة الرجل الذي يتباكى على الوضع الإنساني، وانفعالات الإنسان في كليتها(14)، والتي تتمثل في الرغبات وتقلبات النفس والجشع والخرافة...، والتي تشكل في مجموعها الخاصية المميزة للنفوس الحزينة. تبدو حاجة الكاهن قوية لهذه النفوس التي تكره الحياة وتحمل في لاوعيها ضغينة ضد الحياة. وهنا يتوسل الكاهن أسلوب الشفقة على المذنبين والخطائين، فينخرط في اختراع وظائف خاصة به، وإضفاء الطابع الديني عليها. ويكفي تقديم مثال واحد عن الاعمال الأخلاقية التي رفعت من شأن الكاهن المسيحي ومهمته، وأخص بالذكر "طقس التعميد". يتمثل هذا الطقس، في أن كل إنسان يخضع له تنزل عليه روح الله، فتهبه أولا معرفة بالحقيقة تكون نورانية وقطعية، وثانيا تطهره من ذنوبه(15).ستطرح أمام الكاهن مع القرون الأولى للمسيحية، مشاكل جديدة متعلقة بالإيمان الحقيقي وإمكانية الإخلاص للتعاليم الدينية. في ظل هذه الشروط، انتبه الكاهن إلى زيارات متوالية لمؤمنين ارتكبوا  ذنوبا بعد التعميد. هنا ستتدخل عبقرية هذه الشخصية عن طريق مضاعفة جرعة الشفقة، بواسطة "الشرعنة" ل"توبة ثانية". يؤكد مشيل فوكو على أن هذا التشريع الجديد يعتبر ثورة بالنسبة للديانة المسيحية الجديدة في بداياتها الأولى(القرن الثاني إلى القرن الرابع الميلادي). إن "الثوبة الثانية" هي فرصة ثانية للخلاص، تمنح للذين أذنبوا مرة أخرى، فهي ما يسمح بإمكانية الإندماج الكلي في الكنيسة، خاصة وأنها تفتح أبوابها لممارسة طقس " الإعتراف"، بواسطة همسة :"إني مذنب". سيضمن هذا الطقس العملي لكائن الإعتراف الكشف عن ذنبه أمام الملأ حتي ينال الصفح بصفة نهائية، وللكاهن سلطة على فئات واسعة من الأتباع والمؤمنين من مختلف طبقات وفئات المجتمع وتأثير على مختلف مجالات الحياة. يجب الإنتباه إلى هذا الإبتكار الكهنوتي، وقيمته التاريخية بالنسبة للإنسانية جمعاء، أو بالاخرى للأغلبية الساحقة من بني الموتى، إن"الثوبة" سلاح يعلنه الكاهن لإثبات سلطته، أي أنه هو وحده الذي "يخلص"(16).

خاتمة
    استمد الكاهن مشروعيته الدينية والسياسية من عملية الإتهام الذي قادها ضد الإنسان والحياة، والتي مكنته من بناء سلطة كهنوتية تطورت فاعليتها مع مرور الزمن، اعتمادا على ترسيخ حقيقتين متعاليتين هما: " الخضوع لدين لامحدود إزاء الإله" و"الإيمان بالخطيئة الأصلية". تولد عن هاتين الحقيقتين مسلسل طويل من ترويض الإنسان وتدجينه، ومنح فرصة للقوى الإرتكاسية كي تعمل انطلاقا من مفاهيم الإصطغان والحقد والإحساس بالخطإ، والمسؤولية والشعور بالذنب. مفاهيم تحمل بين ثناياها مشكلات وجودية حقيقية، تتعلق بالحياة والموقف من الذات والآخر والعالم. يمثل مفهومي الإضطغان والإحساس بالخطإ المثل الأعلى الزهدي، الذي يعبر عن الإرادة التي تجعل القوى الإرتكاسية تنتصر اعتمادا على تنمية الإسقاطات وتنظيم الأوهام الضرورية للحط من قدر الحياة وقيمة الإرادة والفعل. بل تتحول هذه الإرادة إلى إرادة عدم وقرف من الحياة، ورغبة في محاكمتها ونفيها. إن الإضطغان والإحساس بالخطإ هما مكونان لإنسانية الإنسان(17). أما مفهومي المسؤولية والشعور بالذنب، فيمثلان أصل الضمير المتعب؛ كائن الحقد والمحبة في آن واحد، أي التركيب العجيب لعمل الكاهن من أجل اختراع قيم عليا، لمحاكمة الوجود. بهذه الطريقة في الإحساس والتفكير والعمل، ساهم الكاهن في "إبداع" صيرورة ارتكاسية لقوى الإنسان والعالم، في الوقت ذاته، منح لنفسه سلطة لاهوتية لها مشروعية التدخل في حياة الناس وتفاصيلها اليومية(18).
الهوامش:
1-يقول نيتشه:"بفضل هذه الشبهة كان لفضولي وظنوني في أن تتوقف في الوقت المناسب أمام هذا السؤال: ماهو الأصل الذي ينبغي أن نعزو إليه في نهاية الأمر ما لدينا من أفكار حول الخير والشر؟"، كتاب: في أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص11.
2-جيل دولوز: نيتشه والفسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان-بيروت، الطبعة الأولى1993، ص161،
-3 j comme joie :Gilles Deleuze : Abécédaire, entretien avec Claire Parnet, un téléfilm français produit par Pierre André Boutang et réalisé Michel Parmart, tourné entre 1988 et 1989.
                                                                                                             حوارات جيل دولوز مع كلير بارني:
                                                                           https://www.sam-network.org/video/abecedaire-g-a-m                                      
4-فريديريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص29.
5-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، مرجع سابق، ص161و162.
6-جيل دولوز: نيتشه والفلسفلة، ص162. في هذا السياق يقول دولوز-غتاري:"عندما أنشأ نيتشه مفهوم الوعي الردئ، كان يرى فيه أبغض الأشياء في هذا العالم حيث أنه لم يكن يصرح باقل من العبارة الآتية: ها هنا يمكن للإنسان أن يغدو مهما ومثيرا !، وكأنه يعتبر بذلك أنه أنجز حقا إبداع مفهوم جديد للإنسان، وقد كان يناسب الإنسان، يتعلق بشخصية مفهومية جديدة (وهو هنا الراهب) كما يتعلق بصورة جديدة للفكر (وهي إرادة القوة مفهومة في منحنى سلبي مرتبط بالعدمية).... جيل دولوز وفيليكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ترجمة ومراجعة وتقديم مركز الإنماء القومي، لبنان، الطبعة الأولى، ص97.
7-يشير نيتشه إلى ابتكار بولس لوسيلة بسط الإستبداد الكهنوتي ولتكوين القطعان، والإيمان بالخلود؛ أي نظرية "الحساب"، فريديريك نيتشه: نقيض المسيح، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى، 2011، ص94. أما فكرة العقاب، فهي يقول نيتشه:"أخطر نبثة خبيثة على الإطلاق(نقطة تعجب) لقد تم إدخال هاته الفكرة ليس فقط طريقة تصرفنا - وأي شيء أوخم وأكثر مخلفة للصواب من تفسير العلة والمعلول على أنهما السبب والعقاب (نقطة  تعجب) – بل لقد فعلوا ما هو أدهى من ذلك، لقد حرموا الأحداث غير المتوقعة من براءتها باستخدامهم ذلك الفن المشؤوم الذي هو فن تأويل الأحداث على أنها عقاب – بل لقد دفعوا بتلك الحماقة إلى حد دعوتنا لأن نرى في الوجود نفسخ عقابا. – قد نقول بأن الخيال الجامح لسجان وجلاد هو الذي أشرف حتى الآن على تربية الإنسانية(تعجب)"،  فريدريك نيتشه: الفجر، ترجمة محمد الناجي، إفريقيا الشرق، 2013، ص20.
8- يقول فريديريك نيتشه:"ها نحن نمسك ونقبض بكلتا يدينا على معنى الكاهن الزاهد. الكاهن الزاهد ينبغي أن يكون، بالنسبة لنا، المنقد المعد سلفا، راعي القطيع المريض والمدافع عنه: هكذا فقط نستطيع أن نفهم مهمته التاريخية الخارقة. السيطرة على المتألمين، هذا هو الدور الذي أعدته غريزته للقيام به. وهو يجد في هذا الدور فنه الخاص، سيادته، ونوع سعادته. ينبغي أن يكون مريضا هو بالذات. ينبغي أن يكون على صلة حميمية بالمرضى، بالمحرومين، حتى يتمكن من سماعهم والتفاهم معهم. لكن عليه كذلك أن يكون قويا، أن يكون متمكنا من نفسه أكثر من تمكنه من الآخرين. رابط الجأش في إرادته للمقدرة حتى يحوز على ثقة المرضى ويكون موضع خشيتهم. حتى يكون دعما لهم، وسندا، وملزما، ومعلما، وطاغية، وإلاها"، فريديريك نيتشه: في أصل الأخلاق وفصلها، ص123.
9-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص167. لا يقتصر اتهام الإنسان لذاته على عمل الكاهن، بل هناك فلاسفة اقتنعوا بوجود شر قبلي في الإنسان، يقول سينيك في الرسالة رقم 51 إلى لوقيليوس:"إن الشر في أحشائنا أو إن الشر يسكن أحشاءنا"، ويزيد "إن الروح الطيبة أو الخيرة لا تأتي أبدا قبل الروح السيئة والشريرة"، انظر ميشيل فوكو: تأويل الذات، ترجمة وتقديم وتعليق الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2012، ص97. 
10-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص181.
11-يقول نيتشه:"ربما كانت لدى الأجيال الأولى من المسيحيين عموما هاته الفكرة:"إقناع أنفسنا بأننا مذنبون أفضل من إقناعها بأننا أبرياء، لأننا لا نعرف كيف سيتصرف معنا القاضي الشديد القوة، - ونحن نخشى أن يكون ما يتمناه هو أن يجد فقط مذنبين واعين بذنوبهم. فقوته الشديدة قد تجعله يعفو عن مذنب ولا يعترف بأنه من حقه أن يذنب." - هكذا كان السكان يشعرون أمام الحاكم الروماني لإقليمهم: كبرياؤه الشديد يجعلنا لا نجرؤ على على القول بأننا أبرياء."، فريديريك نيتشه: الفجر، ص58.
12-فريديريك نيتشه: نقيض المسيح، ص59.
13-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص192.
14-جيل دولوز: سبينوزا: فلسفة عملية، ص36.
15-فيليب شوفاليي: ميشال فوكو ومفهوم "الذات" المسيحي، ترجمة حسن أوزال، موقع مؤمنون بلا حدود، 10 ديسمبر 2014.
16-يقول نيتشه:"القس وحده هو الذي "يخلص"... ومن وجهة نظر بسيكولوجية، ستكون "الخطايا" داخل كل مجتمع ذي تنظيم قساوسي شيئا ضروريا: لأنها أدوات حقيقية للسلطة، والقس يعيش من الخطايا، وهو بحاجة إلى أن "تقترف خطايا"... قانون أعلى "إن الله يغفر لمن تاب"- أي بعبارة أوضح: لمن يخضع ويخفض جناح الذل للقس -"، فريديريك نيتشه: نقيض المسيح، ص64.
17-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص213.
18-يقول نيتشه:"من الآن فصاعدا ستغدو كل مسائل الحياة مضبوطة على نحو يجعل حضور القس في كل مكان أمرا لا غنى عنه؛ في كل الوقائع الطبيعية للحياة: في الولادة، وفي عقد القران، وفي المرض وفي الوفاة، دون أن نتحدث عن طقوس الأضاحي ("الغذاء") يظهر الطفيلي المقدس ليشوه طبيعتها، أو بلغته هو ل"يطهرها"، فريديريك نيتشه: نقيض المسيح، ص63.