فوكو ومفهوم السلطة الرعوية : الأصول والإمتدادات - ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse09067مقدمة
    أعلن جيل دولوز في حوار "ما بعد الموت"(1) الذي خص به كلير بارني، عن رغبته القوية في تأمل السلطة الرعوية. فقد شكك في تأكيد البعض عن تراجع عمل هذه السلطة داخل المجتمعات المعاصرة، في حين أثنى على العمل المثير الذي اضطلع به كل من باروخ سبينوزا وفريديريك نيتشه وميشيل فوكو والمتمثل في إبداع مفهوم الكاهن، والذي له علاقة مباشرة بمفهوم السلطة الرعوية. فإذا كان نيتشه وسبينوزا قد خلفا مقاربة فلسفية مثيرة حول مفهوم الكاهن اليهودي والمسيحي، فإن مقاربة فوكو لهذا المفهوم وللسلطة الرعوية تطرح تساؤلات مقلقة حول علاقته بالمسيحية، وجرأته في قول الحقيقة عن هذه الديانة التي كانت بمثابة الحقل الثقافي المفضل باستمرار لديه. يتعلق الامر باختزال فوكو لقضية المسيحية عموما في أبسط عباراتها من قبيل "مراقبة الافراد" الطاغية لديه، والتي قوامها الأركان الثلاثة للسلطة الرعوية: الذاتية والجنسانية والحقيقة(2). الاكيد أن الإهتمام التاريخي والفلسفي لفوكو قد انصب حول موضوعة "الذات"، مع متابعة مختلف أنواع الخطابات وأشكال الممارسات المرتبطة بانبثاقها وقول الحقيقة عنها. يشير فوكو إلى أن قول الحقيقة عن الذات، كان موجودا في الثقافة الإغريقية والرومانية، لكن المسيحية ستقوم بخطوة حاسمة لتحوير ثقافة الذات القديمة والتاسيس لطقس "الإعتراف" وما يستلزم ذلك من اعتراف بالذنوب وإجراء التوبة وطلب العون من أشخاص مميزين (كاهن، قس، مدير، رئيس...)، أو الإستعانة بتقنيات ومؤسسات. في سياق هذه التحولات، سينبثق مفهوم السلطة الرعوية، والذي سيتوج بالإعتراف الطبي والإعتراف القضائي خلال القرن التاسع عشر.

1-الأصول التاريخية للسلطة الرعوية ودلالة المفهوم
أ-الأصل العبراني: دور الكاهن اليهودي
    يشير ميشيل فوكو إلى الاصل العبراني لموضوعة السلطة الرعوية؛ ففي الشرق، اتسع نطاق هذه الموضوعة والتي يطبعها عدد من السمات: إن سلطة الراعي لا تمارس على إقليم ثابت بقدرما تمارس على عدد وافر من الناس يتوجه نحو تحقيق هدف ما؛ فدورها هو توفير القوت للقطيع ورعايته يوميا وتأمين سلامته؛ يتعلق الأمر أخيرا بسلطة تمارس التفريد، إذ تمنح، عبر مفارقة أساسية، نفس القيمة لشاة واحدة من القطيع كما للقطيع برمته(3). يؤكد فوكو على خصوصية السلطة الرعوية في المجتمعات الشرقية (مصر، وآشور، ويهوذا). هكذا كان الفرعون هو الراعي المصري؛ في الحقيقة هو، طقسيا، كان يتلقى عصا الراعي في يوم تتويجه. وكان مصطلح "راعي الناس" واحدا من الألقاب الملكية البابلية. ولكن الله هو أيضا راع يقود الناس إلى المراعي ليحصلوا على الطعام"(4). تستمد السلطة الرعوية شرعيتها من ذلك التشكل التاريخي لشخصية الكاهن وللدور الذي اضطلع به من أجل إخضاع الناس لسلطته الدينية، بابتكاره لمفهوم "الدّين اللانهائي" في علاقته  بالإله (الكاهن اليهودي) وعلاقته بالخطيئة الاصلية (القس المسيحي).
 تدعمت هذه السلطة أولا مع تشكل الدولة عند العبرانيين والدور الذي لعبه أنبياؤهم وملوكهم وحوارييهم في تكوين سلطة عليا لا تقتصر على استعمال القهر المرتكز على التخويف فحسب، بل تشتمل كافة الوسائل التي تحمل الناس على طاعة أوامرها. فليس ما يميز الرعية هو الباعث على الطاعة، بل هو الطاعة ذاتها(5). في هذا السياق، ستنشأ "إرادة خضوع" طوعية لسلطة عليا ميزتها الاساس السيطرة على نفوس الرعايا وتأهيلهم بمختلف وسائل الترغيب والترهيب لتنفيذ الاوامر التي هي أوامر الإله ذاته(6).
ب-الأصل الفلسفي: الإرث الإغريقي والهلنيستي والروماني
 يشير فوكو إلى استخدام الاشعار الهوميرية لمجاز الراعي للإشارة إلى الملوك، وتوجد في الفكر اليوناني إشارات إلى المعلم-الراعي  عند أفلاطون، ونماذج الراعي؛ أي النماذج الفيثاغورية، ويظهر مجاز الراعي في " مجتزئات " آرخيتاس التي اقتبسها ستوبيرس. كلمة نوموس (القانون) متصلة بكلمة نوميوس (الراعي) أي الراعي يشارك في جوانب القانون. وبالتالي يطلق على زيوس نوميوس، ونيميوس لأنه يهب الخراف الطعام(7). كما يتحدث أفلاطون عادة عن المعلم-الراعي، لكن فكرة الراعي تبقى ثانوية حسب فوكو. ومع ذلك تبقى مهام الراعي مثيرة للإهتمام في الثقافة اليونانية، بل تحمل مجاز الراعي المثالي في النصوص الشرقية:
أولا: الراعي وحيد على رأس قطيعه.
ثانيا: عمله هو تزويد القطيع بالطعام أي أن يهتم به عندما يمرض، وأن يعزف له الموسيقى ليجمعه، وأن يقوده؛ وأن يرتب التقاء أفراده الجنسي من أجل أن يجلب أفضل ذرية(8).
إلى جانب فكرة الراعي والقطيع هذه، تطورت داخل هذا الإرث، أداتين جوهريتين كانتا تعملان في العالم الهلنيستي، وهما الفحص الذاتي وإراشاد الوعي التي ارتبطت بهما الرعوية المسيحية بشكل كبير:
أولا: شكل إرشاد الوعي رابطة دائمة، أي أن الخروف لا يدع نفسه يقاد فقط ويعبر أي مرحلة بانتصار، بل إنه يدع نفسه يقاد في كل لحظة. فأن تكون مقودا فهذه حالة، وأنت تخسر بشكل مميت إن حاولت الهرب منها.
ثانيا: بالنسبة إلى الفحص الذاتي، فإن هدفه ليس مرتبطا بالوعي الذاتي في ذاته ولكنه بالأحرى يسمح لهذا الوعي أن ينفتح تماما لمرشده ليكشف له أعماق روحه(9).
ويشير ميشيل فوكو إلى أن محاورة "السياسي" لأفلاطون، تبدو أكبر تأمل منظم في العصر الكلاسيكي القديم عن فكرة الرعوية التي ستصبح مهمة جدا في الغرب المسيحي(10).
إن ما يثير في هذه الافكار حول الراعي والقطيع والفحص والإعتراف والإرشاد والطاعة، هو تمحورها حول هدف واحد؛ تمثل في جعل الأفراد يعملون على إماتتهم الشخصية في هذا العالم. والإماتة ليست الموت (الجسدي) بالطبع، ولكنها الرفض لهذا العالم وللذات، هي نوع من الموت اليومي، موت من المفترض أن يزود المرء بالحياة في عالم آخر(11).
ج-الكنيسة المسيحية ومسألة الإعتراف                                                                                        
    يرى ميشيل فوكو أن المسيحية البدائية شكلت فكرة التأثير الرعوي الذي يمارس نفسه على الافراد من خلال إظهار حقيقتها الخاصة، وأن السلطة الرعوية غريبة على الفكر اليوناني على الرغم من عدد من الإستعارات مثل الفحص الذاتي العملي وإرشاد الوعي(12). لكن التحول العميق الذي شهدته المسيحية، هو انتظامها في كنيسة. وهي ككنيسة، تسلم نظريا بأن بعض الأفراد قادرين، من خلال صفتهم الدينية، على خدمة أفراد آخرين، لا كأمراء وقضاة وأنبياء وعرافين ومحسنين أو مربين، وإنما كرعاة. على أن هذه الكلمة تدل على شكل خاص من السلطة:
-إنها شكل من السلطة هدفه النهائي ضمان خلاص الأفراد في العالم الآخر.
-السلطة الرعوية ليست فقط شكلا من سلطة تأمر؛ يجب أن تكون مستعدة أيضا للتضحية بذاتها من أجل الرعية وخلاصها. وهي تتميز في ذلك إذا عن سلطة الملك التي توجب تضحية من جانب الرعايا لإنقاد العرش.
-إنها شكل من السلطة لا يهتم بمجمل المجتمع وحسب، إنما بكل فرد مستقل طوال حياته كلها.
-أخيرا، لا يمكن أن يمارس هذا االشكل من السلطة دون معرفة ما يجول في رأس الناس، دون سبر نفوسهم ودون إرغامهم على كشف أخفى أسرارهم. إنه يستلزم معرفة الشعور وقدرة على توجيهه(13).
تطورت هذه السلطة الرعوية انطلاقا من إجراءات امتحان النفوس والإعتراف وممارسة التوبة في بداية العهد المسيحي، مرورا بتشكل النموذج "الزهدي-الرهباني" المسيحي الذي تميز بتقنيات تطهير القلب واستقبال الحقيقة (الوحي) ومعرفة النفس، حتى تنظيم طقس التوبة مع مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، والذي يؤمر فيه المسيحيون بالإعتراف بآثامهم، وذلك على الأقل مرة واحدة في السنة(14). وخلال هذه الفترة الزمنية الطويلة، تمكنت المسيحية من دمج الاخلاق الوثنية وثقافة النفس الكلاسيكية، و غيرت من موضعها وأعادت استخدامها. ومنذ تبنت المسيحية ثقافة النفس، وضعتها في خدمة ممارسة وسلطة رعوية، بقدرما أصبح الإهتمام بالذات اهتماما بالآخرين الذي هو عمل الراعي، والذي يستهدف خلاص النفس من خلال شرط أساسي هو التخلي عن النفس والتخلص من النفس(15).
تعكس مسألة الإعتراف العلاقة التاريخية بين الدين المسيحي والهم السياسي الذي ميز السلطة الرعوية، والتي تطورت انطلاقا من اختراع ونشر تقنيات وخطابات استخدمها اليونان والرومان والمسيحيون الأوائل وأنصار الإصلاح الديني، وكونت ما سماه ميشيل فوكو ب"تكنولوجيا الإعتراف".
3-تحولات السلطة الرعوية في الدولة الحديثة
أ-من السلطة الرعوية إلى ظهور "داعي المصلحة العليا"
    شهد القرنين الخامس والسادس عشر تطورات جديدة أثرت على سيرورة السلطة الرعوية. بحيث برزت أنواع جديدة من العلاقات بين الراعي والقطيع، وطرق خاصة ب"حكم" الأطفال والعائلة والملك والإمارة. إن طرح مسألة أسلوب الحكم، والقيادة، والإنقياد، يتزامن في نهاية النظام الفيودالي مع بروز أشكال جديدة من العلاقات الإقتصادية والإجتماعية والهياكل السياسية. فرضت هذه التحولات تشكل منطق حكم سياسي جديد، حمل إسم gouvernementalité(16)، أبدعه ميشل فوكو، للدلالة على الحقل الإستراتيجي لعلاقات السلطة، بالمعنى الواسع جدا وليس فقط بالمعنى السياسي(17)، وعلى إرادة مجموعة من الأفراد لممارسة سلطة السيادة. وهذا المفهوم مرتبط بظهور مفهوم سياسي آخر وهو "داعي المصلحة العليا". هكذا سيتم الإنتقال من فن للحكم ذي مبادئ مقتبسة من الفضائل التقليدية (الحكمة، العدل، الكرم، احترام القوانين الإلهية والعادات الإنسانية) أو من المهارات الشائعة (التبصر، القرارات المتعقلة، اختيار أحسن المستشارين) إلى فن حكم تمتلك معقوليته مبادئها الخاصة ومجالها التطبيقي الخاص في الدولة(18). يرتكز هذا الفن على تقنيات دقيقة مخصصة ل"تنظيم" الأفراد وضبطهم، والإهتمام بالدولة كغاية بذاتها- دولة متحررة من نظام أخلاقي أوسع وكذلك من المصير الفردي لكل أمير(19). فالامر السياسي هنا، يهدف –حسب فوكو- ليس إلى دعم الأمير وتحقيق سعادته، بل إلى إخضاع أجساد الرعايا لنظام أكثر صرامة، إلى توسيع مجال السلطة من أجلها بالذات. من واجب العقل السياسي الإنتباه إلى أصول تشكل الدولة "الحديثة"، وبروز معرفة تكنولوجية وإدارة جديدة، والتحول الذي أصاب "القانون" الذي اتجه نحو تأدية مهام أخرى، بعد أن كان مرتبطا بالعدالة، والخير أو القانون الطبيعي.
ب-الليبرالية والعقلانية السياسية 
    أدت التحولات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى تطور محاولات عقلنة المسائل المطروحة على الممارسات الحكومية والمتعلقة بالظواهر الخاصة بمجموعة من الأحياء، الذين يؤلفون جملة السكان: الصحة، نسبة المواليد، طول العمر، الأجناس. أما خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فقد احتلت هذه الظواهر مواقع حساسة، باعتبارها مواضيع رهان سياسي واقتصادي. يرى ميشيل فوكو، أنه من غير الممكن عزل هذه المسائل عن إطار المعقولية السياسية التي تتمثل في ظهور "الليبرالية". لكن، ليست كنظرية أو إيديولوجيا، ولا حتى كطريقة "يصور" بها "المجتمع" نفسه طبعا، بل كممارسة أي ك"طريقة تصرف" متجهة نحو أهداف معينة ومنظمة عبر تفكير متواصل. تصير هنا الليبرالية طريقة لعقلنة ممارسة الحكم، أي تنظيم سير الناس في إطار الدولة وبواسطة أدواتها وأجهزتها التي تسهر على ضبط وتنظيم للسكان ومشاكلهم.
فرضت تحولات المشهد السياسي والإنتقال من "داعي المصلحة العليا" إلى تشكل الدولة الحديثة، وجوب ربط مفهوم الدولة بممارسة الحكم. وبالتالي النظر إلى الليبرالية كشكل من أشكال "التفكير النقدي في الممارسة الحكومية"(20)، ونوع من المعقولية السياسية الهادفة إلى توجيه سلوك الناس عبر إدارة تابعة للدولة، آخذين بعين الإعتبار الطرائق والتقنيات، والأبعاد الإقتصادية، ومشاكل الحياة والسكان. إن هذا التنظيم الجديد لحياة النوع البشري قد اكتسى طابعا سياسيا وعقلانيا، أطلق عليه الألمان في القرن الثامن عشر علم السياسة: أي نظرية وتحليل كل "ما من شأنه أن يؤكد وينمي قوة الدولة ويستخدم قدراتها جيدا ويحقق السعادة لرعاياها، واساسا الحفاظ على الأمن والنظام والقوانين التي من شأنها أن تجعل حياة الرعية مريحة وتوفر لها ما تحتاج إليه لتضمن عيشها"(21). ينبه ميشيل فوكو، أن الامر هنا لا يتعلق بعطف الدولة الحديثة على رعاياها، بل بابتكارها لتكنولوجيا جديدة للسيطرة العقلانية على قوى الجسد البشري بهدف إخضاعه وتفكيك أوصاله وإعادة تركيبه ليساهم بشكل فعال في زيادة قوة الدولة واستمرارها.
ج-الدولة كشكل جديد من السلطة الرعوية
    لقد ارتبط تطور السلطة الرعوية بمؤسسة دينية وهي الكنيسة، لكن سرعان ما امتد عمل هذه المؤسسة إلى مجمل الجسم الإجتماعي. فإذا كان هم السلطة الرعوية هو تحقيق الخلاص في العالم الآخر، فإن غاية الدولة هو تحقيق الخلاص في هذا العالم، عبر ضمان الصحة والرفاه والأمن والحماية من الحوادث، يؤكد فوكو. في هذا السياق، تطورت مجموعة من المؤسسات كالشرطة والمدرسة والمعمل والعائلة والمستشفى(الطب والطب العقلي)، وشكلت ما سمي ب"الدولة الحديثة". حيث حل عدد من الأهداف "الأرضية" محل الأهداف الدينية للرعوية التقليدية، وذلك سهل خصوصا وأن هذه الأخيرة طالما حددت لنفسها عرضيا بعض تلك الأهداف، لأسباب شتى؛ يكفي التفكير في دور الطب ووظيفته الإجتماعية اللذين وفرتهما الكنيستان الكاثوليكية والبروتستانتية زمنا طويلا(22). إن التأكيد على مفهوم "الخلاص الأرضي" المرتبط بشعارات الثورة الفرنسية والأمريكية، وبافكار الأنوار، يحمل في ثناياه مشكلات بنيوية، تتعلق ببداية تشكل تكنولوجيا تاديبية سعت إلى تحويل الفرد إلى جسد طيع، وضبط وتأديب المجتمع نفسه. استفادت هذه التكنولوجيا من تقنيات الإعتراف الديني التي تطورت خلال العصر الوسيط، مرورا بالإصلاح الديني، وتم تحسينها وتوسيعها مع تطور تقنيات جديدة وتكاثر خطابات و"حقائق" أنتجتها علوم حديثة كالطب والطب النفسي والتربية والقضاء. هكذا حصل انتشار واسع لإجراءات الإعتراف، سواء تعلق الامر بالإعتراف الإرادي أو الإجباري، فحين لا يكون الإعتراف عفويا أو مفروضا بدافع داخلي، فإنه ينتزع بالقوة. يستخرج الإعتراف من النفس أو ينتزع من الجسم. لقد قرن القانون اليوناني قبلا بين التعديب والإعتراف، أقله بالنسبة إلى العبيد. ووسع القانون الروماني الإمبراطوري هذه الممارسة(23). ومنذ القرون الوسطى، يرافق التعديب الإعتراف كظله، ويسانده حين يتهرب: الإعتراف والتعديب توأمان أسودان. تحتاج السلطة الأكثر دموية، كما الحنان الاعزل من السلاح، إلى الإعتراف(24). وانطلاقا من القرن السابع عشر، سينتشر طقس الإعتراف ضمن إطار علاقة سلطوية وسياسية جديدة هيمنت عليها هذه المرة إرادة الحياة، عبر محورين:
-المجور الأول: هو الاول تكوّنا، وكان مركزا حول الجسد كآلة: فترويضه، وزيادة قدراته، وانتزاع قواه، والنمو المتوازي لفائدته وطواعيته، ودمجه في أنظمة مراقبة فعالة واقتصادية، كل ذلك أمنته إجراءات سلطوية تميز الانظمة أو قواعد الإنضباط: إنها سياسة تشريحية للجسم البشري.
-المحور الثاني: تكون حوالي منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، وكان مركزا حول الجسد-الجنس البشري، حول الجسد المخترق بآلية الكائن الحي والقائم مقام الركيزة للسياقات البيولوجية: التكاثر، الولادات والوفيات، المستوى الصحي، معدل أجل الحياة، والتعمير، مع كل الشروط التي يمكن أن تغير هذه الظاهرات، ويتم الإهتمام بها بواسطة مجموعة كبيرة من التدخلات والمراقبات الضابطة: إنها سياسة حيوية للسكان(25).
4-السلطة الرعوية في الدولة الحديثة: امتدادات ومقاومات
أ-آليات الإختفاء والإستمرار
    انطلاقا من القرن السادس عشر، ستبرز مشكلات جديدة متعلقة بتقنيات الذات والفحص الذاتي والمسؤولية الأخلاقية التي أصبحت هامة في الكنيسة البروتستانتية أو الكاثوليكية. في نفس الوقت ستطرأ -يقول ميشيل فوكو- تغيرا ت على ميدان الإعتراف؛ فانطلاق من هذا القرن، فقدت تقنيات الإعتراف تمركزها الديني لتمتد إلى ميادين أخرى: التربية أولا، ثم السجن والمعتقلات، وأخيرا الطب في القرن التاسع عشر(26). أما الإنتقال الكبير للإعتراف وبخاصة الإعتراف الجنسي إلى ميدان السلطة، فقد حصل في القرن التاسع عشر حينما أمكن إقناع الفرد بأنه ينبغي عليه الإعتراف برغباته إلى سلطات أخرى، خصوصا الأطباء والأطباء النفسانيين والباحثين في العلوم الإجتماعية. في هذا السياق اعتبر جيل دولوز التحليل النفسي كتجسد جديد للسلطة الرعوية(27)، وأكد على أن المحللون النفسانيون هم في الحقيقة ورثة الرهبان، إنهم "الكهنوت المعاصر"، لأنهم يتحدثون دائما من موقع السلطة التي تشعر بالخطيئة واليأس، ولأنهم يعلنون أنفسهم أوصياء على الناس وعلى أحلامهم، وممثلين لسلطة الواقع والأخلاق(...). فالمحلل هو الوجه الآحدث للراهب الذي لا يمل، باسم الموت والأخلاق، من محاكمة الناس(28). يمكن هنا التساؤل عن سر اختفاء السلطة الرعوية وممثليها من كهنة وقساوسة وضعف تأثيرهم الديني والسياسي، بل تأمل مدى تراجع عملها أو استمراره باشكال أخرى. تلك هي الرغبة التي أبداها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في سياق توسيع وممارسة الفلسفة في علاقتها بتاريخ الفكر وبالمشكلات الحقيقية، وسعيه للإطاحة ب"نظام الأحكام الأخلاقية".
استفادت الدولة الحديثة من تقنيات التوجيه الروحي التي ميزت النظام الكهنوتي والرعوي، ومن النظام الإصلاحي والتربوي والعسكري لتنظيم المجتمع وإخضاع أفراده. كما وظفت مبدأ الحرية كأساس لكل "منطق حكم"، واعتبرتها شرطا لممارسة السلطة لأنها تتيح أمام الأفراد والجماعات مجال إمكانات حيث يمكن أن تقوم عدة تصرفات وعدة استجابات وأنماط سلوكية مختلفة(29). وفي ظل مسلسل الإخضاع هذا، استثمرت الدولة قديما وحديثا انفعالات الناس وأحزانهم وفصلهم عما يقدرون على فعله؛ إنه العمل المدهش والمشترك للكهنة ثم للطغاة وللمحللين النفسانيين؛ كلهم يستمدون سلطتهم من المشاعر الحزينة التي يلهمونها للناس، من نوع:"توبوا باسم الدّين اللانهائي" أنتم موضوعات للدّين اللانهائي". بهذا المعنى تكون السلطة دائما عقبة تعوق تحقق قدرات الفعل، وتفصل الاجساد عما تستطيعه. إن فصل الرعايا قديما و"المواطنين" حاليا عما يقدرون عليه، ومنعهم من تجريب قدراتهم على الفعل، تستدعي التفكير بطريقة مغايرة في مفهوم السلطة وإمكانية مقاومة عملها.
ب-خصوصية السلطة في الدولة الحديثة وإمكانية مقاومتها
     لم تتمكن مختلف أنواع النضالات من مقاومة أشكال الهيمنة السياسية والإجتماعية والدينية والإثنية، ولا أشكال الإستغلال والخضوع والتنميط. وقد ساهم بروز الدولة كشكل جديد للسلطة السياسية منذ القرن السادس عشر، من تطور تقنيات التفريد والإجراءات الكليانية التي تدعمت بتفعيل تقنيات السلطة الرعوية التي ميزت المؤسسات المسيحية. هكذا نشرت هذه السلطة الجديدة ثلاثة أنواع من العلاقات متداخلة ببعضها البعض ومستندة ومتوسلة بعضها بعضا؛ فهناك من جهة، ميدان الأشياء والتقنية الغائية والعمل وتغيير الواقع؛ ومن جهة أخرى، ميدان الإشارات والإتصالات والتبادل وصنع المعنى؛ وأخيرا، ميدان السيطرة على وسائل القسر، والتفاوت وتأثير الناس على الناس(30). وهذا يعني أن السلطة ملأت الحياة مع تحولها إلى "سلطة حيوية" وغدت تدبيرا لها، لدرجة أصبح من الصعب الإنفلات من شباكها. تلك هي الحقيقة التي أعلن عنها جيل دولوز في الكتاب الذي خص به ميشيل فوكو، حيث أكد على أنه ظل حبيس علاقات السلطة، وعاجزاعن تجاوز الخط، عن المرور إلى الجانب الآخر. لكن دولوز سيشيد باكتشاف صديقه للمأزق الذي تضعنا فيه السلطة ذاتها، في حياتنا كم في تفكيرنا، نحن الذين نصطدم بها في أتفه حقائقنا(31).
كيف يمكن إذن الإنفلات من هذا الشباك الذي تم نسجه منذ حوالي ألفي سنة؟
هل الامر يستوجب العودة إلى الماضي، إلى " العصر الذهبي"، للبحث عن حلول لمشاكلنا المعاصرة؟
أم أن وضعنا اليوم يقتضي التفكير بطريقة مختلفة في قضايا لا تتشابه مع مشاكل الأمس؟
خاتمة
    لم يكن اختفاء الرعوية التقليدية نهاية للدور الذي لعبه الكهنة والقساوسة وكل معالجي (سالبي) الأرواح ومرهقي الأجساد، بل كان إعلانا فقط بتخلي مبيان السلطة عن نموذج السيادة لإقامة نموذج تأديبي، في شكل بنية سلطوية ميزتها التفريد والتشميل، أطلق عليه ميشيل فوكو "سلطة حيوية" للسكان، وهذا يدل على انبثاق الحياة كموضوع جديد للسلطة. لقد تفننت الدولة الحديثة في ابتكار تقنيات وأنظمة جديدة لإخضاع الأفراد والجماعات ومراقبتهم؛ فبعد مجتمعات السيادة والتأديب، أخذت بوادر نمط آخر من المجتمعات في الظهور، أطلق عليها ويليام بوروز "مجتمعات المراقبة".
في سياق هذه التحولات، انخرط ميشيل فوكو في بناء مشروعه الأركيولوجي(المعرفة) والجينيالوجي(السلطة والحقيقة والجسد) باحثا عن حلول لمشاكل الحاضر، لكن:
لماذا هذا "الفضول الأركيولوجي والجنيالوجي" الفوكوي الذي تطلب منه العودة إلى مراحل ثقافية قديمة؛ إلى الحقبة الإغريقية والهلنيستية والرومانية؟.
الهوامش:
1-Gilles Deleuze : Abécédaire, entretien avec Claire Parnet, un téléfilm français produit par Pierre André Boutang et réalisé Michel Parmart, tourné entre 1988 et 1989.
2-فيليب شوفاليي: ميشال فوكو: مفهوم "الذات" المسيحي، ترجمة حسن أوزال، موقع مومنون بلا حدود، 10 ديسمبر 2014.
3- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، درس الأمن والإقليم والسكان 1977-1978، ترجمة محمد ميلاد، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1994، ص53و 54.
4- نعوم تشومسكي وميشيل فوكو: عن الطبيعة الإنسانية، ترجمة أمير زكي، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2015، ص208.
5-باروخ سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم حسن حنفي دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص.384
6-يقول باروخ سبينوزا:"لهذا السبب حاول الملوك الذين اغتصبوا السلطة قديما أن يؤمنوا أنفسهم بإقناع شعوبهم بأنهم من سلالة الآلهة الخالدة، وكانوا يعتقدون أنه لو عدهم رعاياهم وجميع الناس آلهة لا بشرا مثلهم فسيرضخون لإراتهم، ويخضعون لهم بسهولة"،  رسالة في اللاهوت والسياسة، ص387. ويشير ميشيل فوكو إلى الدور الكبير الذي لعبه العبريون في تطوير فكرة الرعوية وتكثيفها، وإن كان ذلك بصفة غريبة جدا: فالله، والله وحده هو راعي الناس. مع استثناء وضعي واحد هو داوود، كمؤسس للملكية، فهو الوحيد المشار إليه كراع. فكلفه الله بمهمة جمع القطيع"، نعوم تشومسكي وميشيل فوكو: عن الطبيعة الإنسانية، ترجمة أمير زكي، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2015، ص209.
7- نعوم تشومسكي وميشيل فوكو: عن الطبيعة الإنسانية، ترجمة أمير زكي، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2015، ص213.
8- نعوم تشومسكي وميشيل فوكو: عن الطبيعة الإنسانية، ص216.
9- . نعوم تشومسكي وميشيل فوكو، عن الطبيعة الإنسانية، ص222.
10- نعوم تشومسكي وميشيل فوكو، عن الطبيعة الإنسانية، ص217.
11- نعوم تشومسكي وميشيل فوكو، عن الطبيعة الإنسانية، ص223.
12- نعوم تشومسكي وميشيل فوكو، عن الطبيعة الإنسانية، ص224.
13- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص191.
14- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، 157و158.
15- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص236.
16- تترجم Gouvernementalité إلى:
-حكومية: السيد ولد أباه في كتابه: التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان،  الطبعة الأولى، 1994.
-حكمانية: دروس ميشيل فوكو، ترجمة محمد ميلاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 1994.
-منطق الحكم: حسن اللحية، ترجمة لدرس" Gouvernementalité "La، من الدروس التي ألقاها ميشيل فوكو خلال سنة 1977-1987، تحت عنوان:"الأمن، الوطن والسكان. جريدة الإتحاد الإشتراكي، 6 دجنبر 1992.
-حوكمة: وكيبيديا الحرة، نقد فوكو للسلطة في النظرية الليبرالية.
17- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص238.
18- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، درس الأمن والإقليم والسكان 1977-1978، ترجمة محمد ميلاد، ص54.
19- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية، ص125.
20- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، درس مولد السياسة الحيوية 1978-1979، ترجمة محمد ميلاد، ص19.
21- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، درس الأمن والإقليم والسكان 1977-1978، ترجمة محمد ميلاد، ص56.
22- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص192.
23- انظر الهامش رقم2، من كتاب: ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، إرادة المعرفة، الجزء الأول، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص86.
24- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، إرادة المعرفة، الجزء الأول، ص73و74.
25- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، إرادة المعرفة، الجزء الأول، ص141.
26- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص158.
27-     Gilles Deleuze : Abécédaire, j comme joie.
-عادل حدجامي : فلسفة جيل  دولوز في الوجود والإختلاف، دار توبقال، الطبعة الأولى،2012، ص3928
29- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص197.
30- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص194.
31-جيل دولوز: المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 1987، ص103.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟