الجرأة على الحياة ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

    هناك من الناس من يقتل الحياة بعمق، وهناك من يجعل منها حقيقته الأولى والأخيرة.. في مقابل ذلك، هناك من يقول "نعم" للحياة بغض النظر عما تقدمه له، وهناك من يقول "لا" لما قدمته إليه لأنها لم تحقق طموحه، ولم تستجب لحاجياته.. ومن الناس أيضا من أضفى على الحياة حياةً تستحقها، ومنهم في نفس الآن من قتل الحياة فيه وهي حية، وبما أن الإنسان حال وأحوال، فقد كان لزاما التوفر على عينة من جنود هذه الحياة، كما كان من المنطقي وجود أغلبية ساحقة هَلكت دون المساس بمعناها..
    إن أكبر شيء يمكن أن نقدمه لأنفسنا هو الحياة التي قدمتنا لأنفسنا: أعطتنا لنا، وستأخذنا منا ذات يوم.. زرعتنا فينا، وستجني منا.. تقولنا متى أرادت، وتُصمتُنا عندما تريد.. إنها كل شيء بغض النظر عما نحمله لها من ظن أو من سوء ظن، لكنها قد تعدو للسواد الأعظم قيمة مبتذلة، أو بلاءً غير مرجو، بيد أنها تبقى وفية لنفسها إلى أن ترغب فيما لا يرغبه الإنسان، ومع ذلك فإن الفرق بين ترك الحياة وإرادتها يكاد لا يكون.
 

   يقول الحالم منا: إن الحياة أمل وهدف سنحقق فيه ذواتنا، ويرد عليه اليائس قائلا: كلا يا هذا، فالحياة دراما أولا وأخيرا، مأتم في أفراحنا، وجحيم في أحزاننا، أيان لنا فراقها لا لقاؤها؟ يرد عليهما المؤمن: الحياة اختبار وجسر نحو حياة أبدية أزلية، فكونوا لها بالمرصاد، قبل أن تغركم بمتاعها الغرور.. يتأملهم الفيلسوف ثم يجيبهم: الحياة لن تكون إلا حياة بما لها وما عليها، إنها مزاوجة بما نريد ولا نريد، وقدر لولادة أولها نزوة جنسية، وآخرها تراب في تراب.. الحياة ما تحياه الآن، لا تجعل منها ماضيا تبخر، وتسعى إلى إحيائه دون التمكن من ذلك، ولا تجعلها مستقبلا مجهولا فتنسى ما أنت فيه، لصالح ما ستوجد عليه.. إذا أردت أن تنسى، فعليك أولا بالماضي الذي مضى، والحاضر الذي ما يفتأ يمضي، والمستقبل المقبل والمنساب إلينا عاجلا أو آجلا.. ينظر إليه الحالم واليائس والمؤمن برهة، ثم ينصرفوا تاركين إياه رفقة نفسه.
    الجرأة على الحياة هي الوعي بما تقدمه لنا بغض النظر عن طبيعته، هل لأحدنا تلك الجرأة التي تبيح له قبول ما يحصل له؟ كم تذمرنا من هذا الذي جاء على غفلة منا، ومن حدث لم ننتظره بتاتا، فأضحى جزءا لا يتجزأ منا، وكم فرحنا لهذا الذي أردناه باسم قيمة الحسن والمفيد.. إنه هو الآخر جزء من وجودنا.
    ولما يتأكد الفيلسوف من أن الجميع قد انصرف، يكمل كلامه مع نفسه: إن القوي منا هو من يعتبر الحياة أمرا محتوما، وجدنا أنفسنا فيها فجأة، ولا مناص مما نحن عليه، الحياة شروط تتراكم كي تنتج لنا هذا الآن الذي نعيش فيه، وذلك الغد الذي سيأتي، فلماذا سأغضب من شيء حدث ولن يزول أبدا؟ ولماذا سأطالب بشيء تقول لي شروط الآن بأن تحققه غير منطقي بتاتا؟ هكذا فالحياة تريد نفسها بنفسها، وما الإنسان سوى تلك اللعبة التي من خلالها تتحقق الحياة كلحظات متقطعة/متواصلة، هكذا فالحالم قتل حاضره لصالح مستقبله، ناسيا أنه لعبة في يد عوامل وشروط تاريخية واقتصادية وثقافية ولغوية وجنسية.. أما اليائس فقد قتل الآن الذي يحتويه بناءً على ما رآه سالفا، الأجدر به في الأصل أن يعيش لحظة يأسه كيأس حاضر، وليس كتذمر من الذي حصل، بينما المؤمن، قتل ماضيه وحاضره ومستقبله، سعيا إلى كسب حياة أخرى لا توجد فيها ما يوجد في هذه التي نوجد فيها.. ناسيا هو الآخر أن ما أراده، ليس سوى رد فعل على هاته الحياة التي لم تعطه ما يريد، يبتسم الفيلسوف ثم يردف قائلا: لا يمكن إلا أن أعيش اللحظة التي تحتويني، إذا كانت قاسية فلأنخرط فيها مادامت هي الكائنة، وإذا كانت مفرحة فلأنخرط فيها مادامت هي الكائنة أيضا، إن سري هو سخريتي من اللحظات القاسية وقبولها في نفس الوقت، ثم قبولي للحظات المفرحة والسخرية منها ثانيا، كل شيء زائل زوال هذا الذي يزول دوما..

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟