من الصيرورة الإرتكاسية إلى الصيرورة الفاعلة : فــي نقـــد العبوديـــــة المعاصــــرة ـ ادريس شرود

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

"تتشكل الآن حالة من العبودية المعممة، فلنحرص على أن يتشكل عصر نبالة"
فريديريك نيتشه
تقديم
     شجع انهيار النظام الإشتراكي نهاية القرن العشرين ومنظومته الفكرية، على الإحتفاء بالرأسمالية وإيديولوجيتها الليبرالية. ولاقت  شعارات المطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان تجاوبا في أوساط المثقفين والأساتذة وطلاب الجامعات. فتحول الإهتمام بالفكر الإشتراكي والأمل في الثورة ونهاية "صراع الطبقات" إلى الإشادة بفكر الأنوار وقيم "الحداثة" و"ما بعدها". لكن ما غاب عن هذه "الموجات الإيديولوجية"، هو تشكل "عبودية معاصرة"، تزامنت مع ولادة الدولة الحديثة، وابتكارها لسلطة وتكنولوجيا سياسية تعمل من خلال الجسم الإجتماعي وتقيم علاقات غير متساوية ولا متناسقة، كما تتفنن في إخفاء والتضحية بمبدإ المساواة النظري كما يعلنه باستمرار القانون والفلسفة السياسية. لم تكن غاية الدولة الحديثة تحقيق المساواة والعدل والحرية، بل تثبيت مسلسل القهر والإخضاع، الهيمنة والإستغلال، وبالتالي تشكيل "عبودية معممة". من اللازم هنا، الإشارة إلى مختلف الإبتكارات والإبداعات الحديثة التي همت تقنيات السلطة وأجهزتها ومؤسساتها و فروع المعرفة الإنسانية والعلمية، والتي ساهمت تفاعلاتها في إنتاج وضع مريض، حرّض على الإكتشاف، وتجريب القوة، وتحصيل السيطرة والهيمنة. ولضمان استمرار الوضع وتثبيته، أقنعت الدولة الحديثة مواطنيها / رعاياها بالإستفادة  من منجزات "الحداثة"، والإكتفاء بوجودهم الإجتماعي المتوافق مع روح العصر؛ أي "عبوديتهم الطوعية".
إن الإحساس بخطورة استمرار الوضعية الإرتكاسية للإنسان الحالي، هو الذي حفزّنا على التساؤل عن صيرورة أخرى لهذا الإنسان ذاته؛ أي إمكانية تدشينه لصيرورة فاعلة؟
1-ولوج "عصر الفراغ" والحاجة إلى "إنسان آخر"

     لم ينتبه معظم المهتمين بعصر النهضة والأنوار إلى تطور وضعية اجتماعية مهمشة تاريخيا وكونيا، تزامنت مع نشأة الدولة الحديثة التي قامت بعمل رهيب لإخضاع الأجساد والشعوب، وتحويلها إلى دعامات للهيمنة الداخلية والخارجية. هكذا ترسخت منذ القرن السادس عشر إرادة عميقة في تكوين سلطة سياسية مطلقة، وتسخير فتوحات العقل لحكم الناس وإخضاعهم، وتكريس  نزوعات حزينة، وفصل الفرد عن قدرته على الفعل ودفعه نحو العجز، غاية في تثبيت العبودية. ساهمت هذه الوضعية في بروز نزعة توسعية استعمارية مع القرن التاسع عشر بحثا عن مصادر الثروة فيما وراء البحار وخلق ظاهرة التبعية فيما بعد. أما في القرن العشرين، وبعد حربي عالميتين ونهاية "الإستعمار القديم"، وتسوية ظاهرة "الحرب الباردة"، دخل العالم مرحلة جديدة أطلق عليه جيل ليبوفيتسكي:"عصر الفراغ".
يمكن تمييز ثلاثة ظواهر شهدها العصر الحديث والمعاصر، مست المستويات التالية:
-المستوى السياسي: رأى إيتيان دو لابوسيه(1530-1563)، عددا لا يحصى من الناس، لا يطيعون فقط، بل يخنعون، ولا يساسون بل يُمتهنون(...)، وهم لايتحكمون(...) حتى بحياتهم(1).
-المستوى الأخلاقي: لم يتردد باروخ سبينوزا(1632-1677) في نقد التصور الاخلاقي للعالم، وطرح تصوره الإيتيقي للعالم، المبني على مناهضة النزعات الأخلاقوية والتزييفات الثيولوجية، ومشاعر الحزن وقوى الإرتكاس(2).
-المستوى العلمي والتقني: ساهمت النهضة العلمية التي شهدها القرن 18م، في انطلاق تطور صناعي وتكنولوجي سريع، مع نمو نزعة توسعية عرفت ب"الإمبريالية" خلال القرن التاسع عشر، تبعتها ظاهرة تشميلية حملت إسم "العولمة" أواخر القرن العشرين. لكن إنجازات العقل الهائلة في العلوم والتقنيات لم تفض إلى ارتقاء الإنسان وسموه الداخلي، بل غالبا ما تحولت إلى أدوات تدميرية للطبيعة والحياة. ومع أن هذه الإنجازات مكنته من السيطرة على الطبيعة، إلا أنها لم تمكنه من السيطرة على نفسه، وضبطها، والتحكم في دوافعها العمياء التي تجنح إلى استعباد الآخر، ونفيه، وإبادته(3).
ساهمت هذه التحولات  السياسية والاخلاقية والعلمية والتقنية  في إحداث انقلاب مست الإنسان ووجوده في العالم، وتمثل ذلك في:
-فقدان إنسان "الحداثة" منزلته الإجتماعية -التي امتلكها العبد نفسه- .
-رسم حدود بين عالم قديم مطبوع بالوحدة والتعالي وعالم حديث موسوم بالتشظي والمحايثة.
-فقدان الاساس الاخلاقي للوجود في العالم، مع تبخر وعود المساواة والعدالة والإخاء، وطموحات التقدم والتنمية، ونمو إستغلال في الداخل(الطبقة العاملة) واضطهاد في الخارج(المستعمرات)، وبالتالي خضوع الإنسان الحديث والمعاصر لعبودية معممة.
في ظل هذا التدهور الحضاري والإنساني السريع، ظهرت منذ القرن التاسع عشر مقاربات فلسفية ونقود جذرية لوجود الإنسان في العالم وتصوره له، وأكدت على الحاجة الملحة لإنسان آخر/ فاعل، مُطالب بأن يبدع أسلوبا مختلفا للحياة وطريقة وجود جديدة مع العالم، يمكن أن تنقل البشرية من الصيرورة الإرتكاسية إلى الصيرورة الفاعلة.
2- في الفرق بين العالم القديم والمعاصر، وضرورة التفكير "معا"
    يرصد الاستاذ عادل حدجامي الفارق بين الامس واليوم؛ بين العالم القديم والعالم المعاصر، انطلاقا من تغيّر جذري مس تصورنا ورؤيتنا لمعنى العالم. فالعالم القديم كان عالما مسكونا بالتراتب على مستوى الكوسمولوجي (السماء أسمى من الارض، الله أسمى من البشر، عالم الغيب أسمى من عالم الشهادة)، يقابله ترسيم تراتب أنطولوجي للوجود وأشيائه وللموجودات. فالعالم متراتب؛ والناس تعترف بهذا التراتب طبيعيا وكل احتجاج عليه يؤدي إلى "الكاووس". ومع القرون الوسطى، حافظت الديانة التوحيدية على نفس التعالي وأصبح التراتب مجسدا في فكرة الإله كضامن للنظام والإرادة والمعنى. ومع حلول العصر الحديث، تم الإحتفاء بيوتوبيا العقل وفتوحاته. أما في القرن العشرين، فقد سقطت فكرة الإله مع الفكرة الرهيبة لنيتشه "مات الاله" ومعها مات التصور القديم عن الدين، وسقطت مرجعية الإله. كما سقطت فكرة العقل ومرجعية وأحلام العقلانية والنزعة الإنسية، مع نقد قوي للعقلانية وللإنسان المحتفى بذاته، والذي انتهى إلى الحربين والقنبلة الذرية. هكذا وجد الإنسان نفسه في عالم فارغ، خال من المعنى، دون سلطة أو مرجع أو سند مؤسسي. وهنا يميز عادل حدجامي بين خصائص الوجه القيمي والعملي للعالم القديم في مقابل العالم المعاصر(4):

عالم قديم

عالم معاصر

 التواصل

الإتصال

الماضي

     الآن/اللحظة

           الإمتداد التاريخي

المكان

الثقافة

الترفيه

         الشيوخ/الأجداد

الشباب

الجماعة

الجمهور

السياسة

الإقتصاد

المدرسة

الإعلام

الخاصية العامة

الخاصية العامة

الوحدة والتعالي

التشظي والمحايثة

تسمح لنا "مقدمات" عادل حدجامي، إمكانية التمييز بين عالم قديم قائم على مبدإ "التعالي"، وعالم معاصر مطبوع ب"المحايثة". هذا التمييز يطرح الآن تنافسا حول تأكيد الذات وهويتها وحقوقها، مقابل تنظيم "محاكمات" لذوات وثقافات وحضارات مغايرة، والمزايدة على الآخر في سوق الروح والعقل والعمل. كما يخلق رغبة في الإحتفاء بدور الذات في تحديد "معنى التفكير؟". يشير دولوز-غتاري، إلى مفهوم "التعالي" كخاصية تميز مجتمعات الشرق، حيث التفكير بواسطة الأشكال والصور(5)، ولا يهم إن كان ذلك حكمة أودينا. ويمكن من هذا المنظور، التقريب بين الإيكساغرام الصينية والماندلا الهندية، وسيفروط اليهودي، و"المتخيلات الإسلامية"، والايقونات المسيحية: فكل ذلك يعني التفكير(6). في حين، يؤكد بالمقابل على أن اليونان فكروا ب"المفاهيم"، التي تتميز باحتفاظها  فقط بالإرتباطات والإقترانات التي تؤسس قوامها، بحيث لم يعد معها أي إسقاطات على صور. يجد هذا الإحتفاء بالمفاهيم، معارضة من طرف الاستاذ فتحي المسكيني؛ فهو لا يرى في خلق المفاهيم واختراع مشكل ورسم مسطح...، أية أصالة، ويرى في "التعالي" انعكاسا لأصالة تاريخية استثنائية للإبراهيميين الساميين، لا يملكها اليونان(7).
إن انتماءنا لهذا الفضاء المتوسطي، ولقائنا التاريخي بشعوبه الاصلية والوافدة؛ بثقافاتها وأديانها وحضاراتها، جعلنا نتأرجح بين تصورين كبيرين للعالم: تصور متعال وآخر محايث، وبالتالي نمطين من الوجود. فمن جهة، هناك الإيمان ب"المثال" و"التفكير بالصور" والرغبة في تكرار عصر ذهبي ورفض واضح للحاضر، ومن جهة أخرى هناك إيمان بالعالم والتفكير ب"المفاهيم" مع الطموح القوي لمقاومة الحاضر. في ظل هذا التأرجح بين التصورين -الذي يجب النظر إليه كما هو- تأتي دعوتنا إلى "التفكير معا"، والعمل من أجل افتتاح عصر جديد أو الدخول في صيرورة مغايرة، مع الامل في مجيء شعب جديد مع أرض جديدة وكيفية جديدة في العيش والوجود. لن ننطلق من الصفر، فأمامنا تاريخ طويل من التجارب الحياتية الرائعة التي توالت على ضفاف حوض البحر الابيض المتوسط...، والتي يمكن التأريخ لها والإستفادة منها من أجل اتخاد موقف نقدي هادئ من الماضي، مع تشخيص صيروراتنا الحاضرة والإعتراف دون أي حرج، بافتقارنا إلى الإبداع؛ إلى "مقاومة الحاضر" بتعبير دولوز، وبالتالي الشروع في تجاوز الصيرورة الإرتكاسية، بل تحويلها إلى صيرورة فاعلة.
3-الصيرورة الإرتكاسية: في معنى العبودية المعاصرة ومظاهرها
    من المثير جدا التاكيد على استمرار أفكار التمييز والعنصرية منذ دخول الإنسانية الأزمنة الحديثة وعصر الأنوار، وأنا أعتبر ذلك انعكاسا لحقيقة العصر ذاته. يظهر ذلك في الموقف السلبي للعديد من فلاسفة الأنوار كروسو وكانط وفولتير...، من المرأة والأفارقة والعمال والمهاجرين، ومن فئات واسعة من المهمشين والمقصيين من النظام الإجتماعي الجديد. فهذه الأفكار أخذت تتعايش بشكل طبيعي مع الدعوة إلى المساواة والعدالة والإخاء. نفس الأمر يمكن ملاحظته مع تعايش الليبرالية وحقوق الإنسان والمواطن والنظام الإقتصادي الرأسمالي الذي يسمح بالتأديب والإخضاع، الإستغلال والمعاقبة، إمكانية التوسع والإستعمار. ولعل من أهم التحولات التي ميزت العصر الحديث؛ بروز شكل جديد للسلطة حمل إسم "الدولة"، والذي نما بصورة مستمرة منذ القرن السادس عشر، وتميز بنشأة علاقات سلطوية مبنية على نظام من التباينات تسمح بالتأثير على تصرفات الغير: فروقات قانونية أو تقليدية في المركز والإمتيازات؛ فروقات إقتصادية في امتلاك الثروات والأموال؛ فروقات في الموقع وسط سياقات الإنتاج؛ فروقات لسانية وثقافية؛ فروقات في المهارات والكفايات(8). ولتثبيت دعائم هذه البنية السياسية الجديدة، تم تشييد مجموعة من المؤسسات(مدارس، معامل، سجون، ثكنات، مستشفيات...) لترويض الأفراد، إخضاعهم واستثمار أجسادهم. هكذا تشكلت سلطة سياسية وتكنولوجيا تأديبية، هدفها اختلاق جسد طيّع وفرض رقابة اجتماعية عليه، بل اعتباره "شيئا" وجب استخدامه وتحويله وتحسينه. ترتب عن هذا الوضع الجديد، ضياع أحلام "الأنوار" و"الحداثة"، وشروع الدولة الحديثة في تعزيز هيمنتها عن طريق ابتكار "سلطة حيوية" ركزت على مراقبة الاجساد والبشر على نطاق واسع، وانعكست أثارها على المستوى الفكري والإنساني والإيكولوجي:
-على المستوى الفكري: تشكلت نزعة تشاؤمية نقدية لفكر الأنوار ومباديء الثورة الفرنسية، وللنزعة الإحتكارية للرأسمالية. ونما إحساس قوي بتطور "عبودية جديدة" متوافقة مع متطلبات العصر، كنتيجة طبيعية لتطور الدولة الحديثة وجهازها الإداري والسياسي والإيديولوجي والإقتصادي.
-على المستوى الإنساني: تحولت قيمة الإنسان ووجوده في العالم؛ بحيث صار موضوعا قابلا لكل أنواع التشكيل والتوجيه والإستثمار، دون اعتبار ل"نوعه" و"قيمته" و"سموه" مقارنة بباقي الكائنات !.
-على المستوى الإيكولوجي: صارت الطبيعة قابلة للحساب ومجبرة على تسليم أسرارها وقواها العميقة وتقديم طاقتها. وتعرضت الأرض منذ بداية الثورة الصناعية إلى عملية استنزاف خطيرة، خاصة مع تصاعد النزعة النفعية التي تمجد الغاية والهدف والربح. فنتج عن ذلك -خلال أقل من قرنين- تدهور خطير لأويكوس Oikos، الذي لم يعد مكانا آمنا ومناسبا للسكن. الشيء الذي دفع ب "الرابحين/البورجوازية"(9) إلى البحث عن كواكب أخرى صالحة للإقامة وليس للتعمير.
لكن ما يغيب عن هذا الإحتفال بالنزعة النفعية، هو حقيقة الوجه الآخر من العملة الذي فقد لونه. يكفي الإلتفات إلى تزايد النزاعات والحروب في العديد من مناطق العالم كدليل واضح على ما خلفه الإستغلال المفرط والمنهجي لثرواتها الطبيعية والبشرية، ونمو ظواهر "التطور اللامتكافئ" و"التخلف" و"التبعية" و"التنمية المؤجلة"؛ إنها تكاليف بشرية واجتماعية وبيئية باهضة جدا، كان من نتائجها نمو قوى إرتكاسية رهيبة متميزة بتنوع ردود أفعالها وطبائع أحاسيسها:
-قوة ارتكاسية تطيع وتقاوم في الوقت ذاته.
-قوة ارتكاسية تفصل القوة عما تستطيعه.
-قوة ارتكاسية تلوّث القوة الفاعلة، وتجرها إلى أقصى الصيروة-الإرتكاسية، في إرادة العدم.
-قوة ارتكاسية كانت في البدء فاعلة، لكنها صارت ارتكاسية، مفصولة عن قدرتها، ثم مقذوفا بها في الهاوية ومنقلبة ضد ذاتها(10).
ساهمت تلاوين هذه القوى في اجتماعها وتواصلها، في إنتاج وضع مركّب وكائنات "خلاسية"، تتعذر معها عملية تمييز القوى القادرة على الإبداع والمقاومة، والمؤهلة لإحداث كسر حقيقي لقيود العبودية والإلتحاق بقوى الكون. لكن،  يبدو أن هناك نوعا آخر من التمييز أكثر تطلّبا؛ وهو أن نبرهن إن كانت الرغبة في الثبات، في التخليد، في الكينونة، هي أصل الفعل المبدع، أو إن كان أصله على العكس، هي الرغبة في الهدم، في الجديد، في المستقبل، في الصيرورة(11).
4-الصيرورة الفاعلة للقوى في العالم القديم(النبيل كمثال)
    يجب التأكيد بدءا، على الاثر الذي يحدثه إسم "نبيل" أو "أرستقراطي" عند سماعه من طرف إنسان عمّر ضفاف البحر الأبيض المتوسط. فعند شعوب شمال المتوسط، يحمل الإسم دلالة عميقة على الرفعة والسمو والشجاعة. فقد ظهر عند إنسان الحضارات القديمة طموح روحي لعيش وفرة القيم والطموحات من خلال تجارب أكثر شخصية ممثلة في المثل الاعلى داخل روح فاتح أومستكشف، أو روح فنان، قديس، مشرع، حكيم، عالم، رجل تقي، عرّاف، رجل وُضع جانبا بغاية الإتقان(12). فما يجمع بين هذه التجارب، هو " الصحة الكبرى "، والصدق(13)، والإحترام(14)، وفيض الحياة. فكل نبيل أرستقراطي، يشعر أنه هو من يحدد قيمه. إنه يعي أنه هو من يسقط المجد على الاشياء، من يخلق القيم. كل ما يجده في ذاته، يمجده؛ وأخلاق مماثلة تقتضي تمجيد الذات. فيه تضع في المقام الأول الإحساس بالإمتلاء، وبالقوة التي تريد أن تفيض، إحساس توتر داخلي عال بالراحة، الوعي بغنى تواق إلى العطاء والبذل(15). هذا الإحساس القوي بالذات، هو الذي دفع النبلاء الإغريق إلى إطلاق تسمية "الحقيقيين" و"الطيبين" على أنفسهم. فبالنسبة ل"الحقيقيين"؛ فقد أطلقت عليهم هذه التسمية على لسان الشاعر الميغاري ثيوغونيس. فكلمة "اسثلوس" اليونانية، التي صيغت لهذا الغرض، تعني من حيث جذرها، امرءا كائنا أو ذا كيان qui est، ذا نصيب من الواقع، أو هو فعلي qui est réel أو صحيح qui est vrai . ثم أصبح الصحيح حقيقيا le vrai devient véridique عبر تحوير ذاتي(16). أما بالنسبة ل"الطيبين"؛ فيقول نيتشه:" ألا يُفترض بكلمتنا الالمانية  gut (طيب) نفسها أن تعني der Göttliche (الإلهي)، الإنسان المتحدر من نسل الآلهة؟ أو لا تكون أيضا مرادفة Goth، التي هي إسم لشعب، لكنها بالأصل إسم لفئة من النبلاء لاغير؟"(17). في حين خلفت الأرستقراطية القبلية -التي اخترقت صحاري ووديان، جبال وسهول جنوب وشرق المتوسط في فترة معينة من التاريخ- أثارا لا يمكن نسيانها. فإذا كانت ذاكرة شرق المتوسط تحتفظ بالفتوحات والغزوات، والتي مجّد نيتشه أرستقراطيتها في كتابه "جينيالوجيا الاخلاق"(18)، فإن ذاكرة جنوب المتوسط تستعيد الآن ذاكرتها "المضادة"، احتفاء بالآثار التي خلفتها الأرستقراطية الامازيغية في فترة حكم المرابطين(قبائل صنهاجة) والموحدين(قبائل مصمودة) والمرينيين(قبائل زناتة) والتي امتدت بعيدا في إفريقيا جنوب الصحراء وماوراء جبل طارق.
لكن، علينا أن لا نأسف على الماضي؛ طريقة ارتكاسية لرد الإعتبار إلى الذات. ونعلن بشجاعة، أننا لا نحس بصيرورة غير الصيرورة – الإرتكاسية، لا نجرب صيرورة غيرها، لا نعرف صيرورة غيرها. إننا نلاحظ لا فقط وجود قوى ارتكاسية، بل نلاحظ في كل مكان نصرها(19). لهذا وجب الإنتباه إلى عمل القوى الإرتكاسية الاساس: "فصل القوة الفاعلة عما تستطيعه"، وتسليمه لإرادة العدم كما لصيرورة- ارتكاسية أعمق منها هي بالذات. أليس ذلك لأن الإنسان هو ارتكاسي من حيث الجوهر؟ لأن الصيرورة الإرتكاسية مكوّنة للإنسان؟(20).
- ف"كيف يمكننا أن نكتفي بالإنسان الحالي؟"(21)
- وهل من صيروة أخرى للإنسان مع العالم؟
5-من الصيرورة الإرتكاسية إلى الصيرورة الفاعلة أو القدرة على العطاء
    ما يتعب أكثر في عالمنا المعاصر هو العودة الرهيبة ل"الإنسان الصغير" / الكائن الإرتكاسي؛ جسد نحيف لا يقوى على الوقوف لوحده، صقلته "الحداثة" و"أوانيها"، ورمت به خارج أفق المعنى والقيمة والحياة الفاعلة. ومع ذلك، نحتفظ لأنفسنا بإمكانية تحويل مجرى الوجود مع العالم وتدشين صيرورة أخرى للقوى الإرتكاسية، مع التذكير بالصعوبة القصوى في تحقيق ذلك. إن الشرط الأساسي لافتتاح صيرورة أخرى، هو ضرورة مضي القوى الإرتكاسية إلى أقصى ما تستطيعه، وجعل ما تستطيعه موضوع إثبات، وبالتالي تكوين قوة فاعلة وتحقيق النصر. بخلاف الدعوة السخيفة إلى ضرورة تشكيل قوة أكبر على طريقة سقراط، أو أغلبية على طريقة "الديمقراطيين" بكل انتماءاتهم. وهنا نستعير مثال المرض، الذي يفصل القوى الإرتكاسية عما تستطيعه، لكن في الوقت نفسه تعطيه قدرة أخرى وتأثرات جديدة وطرقا جديدة للتأثر(22).
فهل تساعد حالة العبودية المعاصرة، على الإرتماء في أحضان صيرورة فاعلة؟
لقد وضع نيتشه شروطا لكل سعادة على ساحة الأرض، وفي مقدمتها تمجيده ل"الصراع" و"الصيرورة" و"المساواة أمام العدو" و"الحرية أمام الموت"(23). وهي شروط تدل على قيم الشجاعة(24)، وجرأة الإسناد إلى الجسد ومقتضياته الاكثر دقة. إنها شروط  تتطلب ضرورة إقحام الجسد في صيرورة العالم(25)، ضدا على التملق المتواصل ل"الروح" الذي يجد في أجساد العبيد أرضا خصبة للتضاعف والإنتشار، وفي "عالم الفراغ" فضاء تتوالد فيه عادات وقيم وأخلاق إرتكاسية: الإستهلاك، التملك، الشهرة، طلب اللذة والإستمتاع. مع ما يصاحب ذلك من وهن جسدي وفقر روحي، يسهل معه الخضوع لأهواء المستبدين والطغاة وسالبوا الأرواح، وتعميم ابتكارات عصر "ما بعد الحداثة": الفساد(26)، الحزن(27) و"الفاشية"(28). إن سيادة هذه الأخلاق الإرتكاسية هي التي عطلت إمكانية تدشين ما سماه نيتشه ب"براءة الصيروة"؛ أي مجانية التبدير وكذلك مجانية الإثراء الذي لا يُسعى إليه إلّا بهدف تنمية إمكانية التبديد. [ف] يتحقق الإندفاع إلى السخاء عبر الإستجابة الإثباتية للثراء، بالنسبة للذات كما بالنسبة للآخرين، باعتباره الشرط الضروري للسخاء(29).
إن الإرتماء في أحضان الصيرورة الفاعلة يعني في المقام الأول؛ التحرر من النزوعات الحزينة التي تجعلنا مفصولين عن قدرتنا على الفعل، أي اللحظة الأعلى لاستلابنا، والتي نصير معها عرضة لشبح الخرافة وحيل الطاغية(30). ويعني في المقام الثاني؛ بناء جسد إيتيقي قادر على الإنفعال و الفعل، وتفعيل المشاعر المرحة وهزم النزوعات الحزينة التي تسيطر على عالمنا. أما المقام الثالث؛ فيتمثل في قيمة البذل والعطاء(31) التي تميز الكائن الفاعل/الكائن القوي؛ أي قدرته على التجريب الخلاق، وإرادته في تذوق الجديد، وسعيه إلى التبذير والمنح أولا وأخيرا.
كما أن تدشين صيرورة فاعلة للقوى يتوافق مع افتتاح زمن جديد/ زمن السخاء الذي لا ينشغل سوى بالمضي قدما في العطاء، وتجاوز الزمن القديم/ زمن اقتصاد التداين المنشغل على الدوام بالعودة وتسديد الدّين(32).
خاتمة
    ليس من الهين أن يكون المرء إنسانا حرا -يقول جيل دولوز عن باروخ سبينوزا- حيث ينبغي الهروب من الطاعون، وتنظيم الإلتقاءات، والرفع من قوة الفعل، والتأثر الذاتي بالفرح، وتكثير العواطف التي تعبر عن أكبر قدر من الإثبات أو تحتوي عليه(33). إن الإبداع هو الرهان الحقيقي للعقول الحرة، فنحن لا ننتظر من ممارسة الصيرورة الفاعلة "تغيير العالم" أو منحه "معنى" يفتقده، بل إبداع وجود فعلي معه، و"تحصيل خطوة بسيطة واقتصادية وموجزة"(34). إنه لأمر صعب أن تغير سلوك فرد، أو عادة قبيلة(35)، أو ذوق شعب(36)، لكن الأمل معقود على صيرورة الأفراد والقبائل والشعوب.
فالرهان الحقيقي للإنخراط الفاعل في صيرورة العالم المعاصر، يقتضي ابتكار وظائف جديدة للأجساد وتجريب ما تستطيعه وتقدر عليه، وإبداع كيفيات للعيش والحياة تكون معمّرة بشكل فائق. وهذا يعني استدعاء قوى قادرة على إبداع "الجديد" و"المهم" و"البارز" و"المثير"، مهما بلغ صغره(37).
يكفي أن نقول أخيرا:
                        "لقد أضاف مسافر جديد حجرا إلى كومة الحجارة"(38).
الهوامش:
1-إيتيان دولابوسيه: العبودية الطوعية، ترجمة عبود كاسوحة، المنظمة العربية للترجمة، مراجعة جوزيف شريم، بيروت، الطبعة الأولى، ديسمبر 2008، ص195. يقول لابوسيه:" إن الشعب -يقول لابوسيه- هو الذي يستسلم للعبودية وهوالذي يحزّ عنقه بنفسه، والذي حين يكون حيال خيار العبودية أو الحرية، يدع الحرية جانبا ويأخذ نير العبودية. وهو الذي مع قدرته على العيش في ظلّ قوانين عادلة، وتحت حماية الدولة، يرغب في العيش في ظلّ الفساد، تحت القهر والظلم واستمتاع الطاغية وحده"، إيتيان دولابوسيه: العبودية الطوعية، ص198.
2-"ينبني التصور الاخلاقي للعالم، أولا، على مبدإ تكون بحسبه القيم سابقة على الوجود، والموجودات غير متساوية في ماهيتها وقيمتها، فالقيم أسمى من الموجودات المادية(...). في مقابل هذا التصور، وضدا على الاخلاق التي هي نظرية "الواجبات"، تتقدم "الإيتيقا" كنظرية للقوة، فالموجودات كلها متساوية في القيمة من منظور الإيتيقا، أي كلها استعداد للإنفعال والفعل، لأنها محض طاقة واستعداد. فلا وجود للواحد الذي يسمو على الباقي، ولا للقيم التي التي تحرك الموجودات نحو التحقق"، عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز في الوجود والإختلاف، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 2012، ص66.
3- روجيه-بول دروا: أساطين الفكر، عشرون فيلسوفا صنعوا القرن العشرين، ترجمة علي نجيب إبراهيم، دار الكتاب العربي، بيروت-لبنان، أكتوبر 2012، ص9.
4- الدكتور عادل حدجامي: عالمنا المعاصر: مقدمات للفهم  https://www.youtube.com/watch?v=1q5rN6y5TN8.
5-يقول دولوز-غتاري:"إن الصورة مثلانية، إسقاطية، تراتبية، مرجعية بالأساس"، جيل دولوز-فيليكس غتاري: ما هي الفلسفة؟، ص103.
6-جيل دولوز-فيليكس غتاري: ما هي الفلسفة؟ ص 103.
7-فتحي المسكيني: الفلسفة والقرآن، https://www.youtube.com/watch?v=N0a9-B564tM.
8-أوبير درايفوس-بول رابينوف: ميشيل فوكو، مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مراجعة وشروحات مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص298و299.
9- لكل هذا، وجب إعادة قراءة التاريخ وكتابته وتحديد الفاعلين فيه، ضدا على تقييمات الدرس الجامعي/ الاكاديمي الذي ألصق ب "البورجوازية" بطولات في مجال الإقتصاد والسياسة، ولم ينتبه إلى سيرورة أخلاقها الفضة والجشعة وميولاتها النفعية والإحتكارية، ونزعة الهيمنة التي اعتبرها كارل ماركس نقلا للحضارة. إنها بالفعل "أخلاق عبيد" بتعبير نيتشه، ف"أخلاق العبيد، هي بالضرورة أخلاق منفعة".
10-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص87.
11-فريديريك نيتشه: العلم المرح، ص238.
12- فريديريك نينتشه: ماوراء الخير والشر، ترجمة حسان بورقية، إفريقيا الشرق، المغرب، 2006، ص248 و249.
13- يقول نيتشه:"ال"صادقون"، كان هو الإسم الذي يمنحه النبلاء لأنفسهم في اليونان القديمة"، فريديريك نيتشه: ما وراء الخير والشر، ترجمة حسان بورقية، إفريقيا الشرق، المغرب، 2006، ص178.
14- يقول نيتشه: وحدهم الأقوياء يتقنون الإحترام؛ فهو فنهم، ومجال إبداعهم الخاص. فالإحترام العميق للشيخوخة والتقليد- وعلى هذا الإحترام المزدوج ينهض الحق- والحكم المسبق لصالح الأسلاف وضد الاجيال الشابة يميز أخلاق الاقوياء. وإذا حدث أن آمن، على العكس  من ذلك، المدافعون عن ال"فكار الحديثة" إيمانا يكاد يكون فطريا، بال"تقدم" وال"مستقبل"، وقل احترامهم، أكثر، للشيخوخة، فإن ذلك يعتبر كافيا لغياب أصل تلك ال"فكار" النبيلة.... الأخلاق النبيلة ليست "أخلاق حديثة"، فريديريك نيتشه: ما وراء الخير والشر، ص179.
15- فريديريك نيتشه: ما وراء الخير والشر، ص179. يستطرد نيتشه في تعداد قيم النبيل بقوله:" والنبيل يمجد فيه الإنسان القوي وصاحب السيادة على نفسه، الذي يعرف كيف يتكلم وكيف يصمت، الذي يحب أن يمارس على نفسه الصرامة والصلابة، والذي يحترم كل شيء صارم وصلب. "لقد وضع الإله في صدري قلبا قاسيا"، تقول حكاية اسكندنافية طويلة؛ مثل هذا الكلام يصدر بحق عن فيكينغ فخور. إن إنسانا شبيها، يفتخر بالضبط لعدم كونه مخلوقا للشفقة قط؛ لهذا أضاف بطل الحكاية الطويلة هذا التحذير:"من لم يملك قلبا قاسيا منذ الصغر، لن يقسوا أبدا". إن النبلاء والكائنات الشهمة التي تفكر على هذا النحو، هم على النقيض من الأخلاق التي ترى في الشفقة أو في التفاني في خدمة الغير أو في التنزه، العلامة المميزة للفعل الأخلاقي. إن الإيمان بالذات، الفخر بها، والعداء العميق والهازئ بالنزاهة، هم في الواقع جزء لا يتجزأ من أخلاق النبلاء، شأن الإحتقار الطفيف والتحفظ إزاء التلطف و"القلوب الدافئة"، نفس المرجع، ص179. أما بالنسبة لقيمة العطاء، فيقول:"النفس النبيلة تعطي كما تأخذ، بمقتضى غريزة شغوفة وحساسة، غريزة العدالة التوزيعية الكامنة فيها" نفس المرجع، ص178.
16-فريديريك نيتشه: أصل الاخلاق وفصلها، ص25 و26. 
17- فريديريك نيتشه: أصل الاخلاق وفصلها، ص27.
18-يقول نيتشه:"ينبغي أن يظهر الوحش من جديد. أن يعود إلى أرضه البكر. الارستقراطية الرومانية، والعربية(التشديد مني) والجرمانية، واليابانية، أبطال هوميروس، الفايكينغ السكندنافيون، جميع هؤلاء لا يساوون إلا ما تساوي حاجتهم تلك"، فريديريك نيتشه: أصل الأخلاق وفصلها، ص36.
19-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص84.
20- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص84.
21-سؤال طرحه فريديريك نيتشه أثناء كتابته لنبدة "الصحة الكبرى"، في كتابه: العلم المرح، إفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الأولى، 1993، ص249.
22-يقول جيل دولوز:"ثمة شيء مدهش في الصيرورة-الإرتكاسية للقوى، مدهش وخطير. وهذا المظهر المزدوج لا يقدمه الإنسان المريض فقط، بل حتى الإنسان المتديّن: من جهة، هو إنسان ارتكاسي؛ ومن جهة أخرى، إنسان ذو مقدرة جديدة. "ربما كان تاريخ البشرية، والحق يقال، شيئا أخرق للغاية من دون الروح التي أحياه بها العاجزن". في كل مرة سوف يتكلم فيها نيتشه على سقراط، والمسيح، واليهودية والمسيحية، على شكل الإنحطاط  والتقهقر، سوف يكتشف هذا الإزدواج ذاته للأشياء، والكائنات والقوى"، جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص86 و87.
23-انظر فريديريك نيتشه: العلم المرح، نبدة "هيراقليطية"، ص35.
24-يقول نيتشه في نبدة "الرجال الممهدون":"أحيي كل العلامات التي تعلن مقدم عصر أكثر رجولية وشراسة، عصر سيعرف قبل كل شيء كيف يرد الإعتبار للشجاعة ! لأنه سيمهد الطريق لعصر أرفع منزلة، وسيركز القوة التي سيحتاجها هذا العصر الآتي-عصر سينقل البطولة إلى داخل ميدان المعرفة سيخوض حروبا حبا في الفكر وآثاره. ويحتاج الأمر في هذا إلى كثير من الرواد الشجعان الذين لن يستطيعوا أن يبعثوا من العدم- ولا من حضارة مدننا أو من تربيتها المائعة والدّبقة: رجال يعرفون، وهم صامتون، وحيدون، وثابتو العزم، كيف يجدون رضاهم في الإستماثة في نشاط خفي: رجال يبحثون في الأشياء، تبعا لرغبة داخلية، بما ينبغي تجاوزه فيه: رجال يتوفر فيهم المرح والصبر والبساطة، وازدراء التفاهات الكبيرة مثلما يتوفر فيهم السخاء في النصر والحلم عن تفاهات كل المهزومين الصغيرة. رجال وُهبوا حكما نافذا تجاه كل منتصر، وواعون بنصيب الحظ في كل نصر، في كل مجد، رجال لهم أعيادهم الخاصة، لهم أيام عملهم الخاصة، لهم أوقات حزنهم الخاصة، متعودون على الحكم بثقة، ومستعدون كذلك ليطيعوا حين يقتضي الأمر ذلك، فخورين في كلتا الحالتين، خادمين لقضيتهم كذلك: رجال أكثر عرضة للخطر، اكثر خصوبة، وأكثر فرحا !"، فريديريك نيتشه: العلم المرح، ص168 و169.
25-يراهن الأستاذ فتحي المسكيني على "أفئدة ما بعد إنسانية"، الفلسفة والقرآن، https://www.youtube.com/watch?v=N0a9-B564tM.
26-الفساد: من اللافت للإنتباه تزايد انتشار ظواهر الفساد في زمن الإنحطاط، والتي تمس الاشخاص والهيئات والمؤسسات الوطنية والقومية والدولية. ومن سمات هذا الفساد حسب نيتشه؛ تردد المأساة على البيوت وشموليتها، تولد الكراهية الكبيرة، انبعاث الكائنات التي تسمى "طغاة"، ونشأة الخبث والرغبة فيه.... إن مصطلح »فساد« ليس سوى واحد من مصطلحات المرحلة الخريفية لشعب ما. فريديريك نيتشه: العلم المرح، ص70.
يقول هاردت ونيغري:"في الإمبراطورية، يكون الفساد موجودا في كل مكان. إنه حجر الزاوية والركيزة الأساسية بالنسبة إلى السيطرة والتحكم. يتخذ أشكالا مختلفة تخترق مراتب الحكم العليا في الإمبراطورية وإدراتها الإقطاعية التابعة، جميع القوات الإدارية والأمنية الأكثر طهارة والأشد تفسخا، سائر (لوبيات) جماعات ضغط الطبقات الحاكمة، مختلف عصابات (مافيات) الفئات الإجتماعية الصاعدة، كل الكنائس والطوائف، جيوش صانعي الفضائح وملاحقيها، سائر المجمعات المالية الكبرى، وجميع التعاملات الإقتصادية اليومية. فعن طريق الفساد تقوم السلطة الإمبراطورية بنشر ستار من الدخان على العالم.، وتتم ممارسة التحكم بالجمهور في هذه الأجواء الفاسدة الموبوءة، في غياب الضوء والحقيقة (...). إن الفساد هو الذي يفصل الجسد والعقل عما يستطيعان فعله "، مايكل هاردت وأنطونيو نيغري: الإمبراطورية: إمبراطورية العولمة الجديدة، تعريب فاضل جتكر، راجع النص رضوان السيد، مكتبة العبيكان، الرياض-المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 2002، ص555 و556.
يزيد هاردت ونيغري:"لا يتبدى الفساد إلا على شكل مرض، وإحباط، وبتر. ذلك هو الأسلوب الذي اعتمدته السلطة على الدوام في محاربة الأجساد المخصّبة التي تم إغناؤها. ويظهر الفساد أيضا على شكل مرض نفسي وعقلي وذهان وخدر أفيوني وكرب وملل، غير أن هذا أيضا، كان على الدوام، يحدث خلال فترة الحداثة ومجتمعات الإنضباط"، مايكل هاردت وأنطونيو نيغري: الإمبراطورية-إمبراطورية العولمة الجديدة، ص558.
27-الحزن: هي صناعة خاصة بالعصر الحديث(بعصر الحداثة وعصر ما بعد الحداثة)، خصها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز باهتمام خاص، وهو يكتب عن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، يقول:
-"نعيش في عالم هو بالأحرى مزعج، حيث تكون السلطات القائمة، وليس الناس فحسب، في حاجة إلى أن تمرر لنا عواطف حزينة. فالحزن والعواطف الحزينة هي التي تقلص كلها قدرتنا على الفعل. تحتاج السلط القائمة إلى حزننا كي تجعل منا عبيدا. يحتاج المستبد والكاهن وسالبوا الأرواح إلى إقناعنا بأن الحياة صعبة وثقيلة"(جيل دولوز-كلير بارني: حوارات، ص80.
-"لم يكف سبينوزا في كل أعماله عن فضح ثلاث أشكال من صور الشخصيات: صورة الرجل صاحب الإنفعالات الحزينة، وصورة الرجل الذي يستغل هذه الإنفعالات الحزينة، والذي يكون محتاجا لهذه الإنفعالات حتى يقوي من دعائم سلطته، وأخيرا صورة الرجل الذي يتباكى على الوضع الإنساني وانفعالات الإنسان في كليتها(هكذا فحتى حين يفكر أو يتهكم فإن سخريته تلك لن تأتي إلا في صورة ممجوجة). [وهذه الصور تقابل] العبد والطاغية ورجل الدين: هؤلاء هم الثلاثي الاخلاقي"، جيل دولوز: سبينوزا: فلسفة عملية، ترجمة عادل حدجامي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 2015، ص36.
28- يقول فوكو:"أخيرا وليس آخرا، العدوّ الأهم، الخصم الإستراتيجي هو الفاشية(...). ليس فقط الفاشية التاريخية، فاشية هتلر وموسوليني-والتي كانت قادرة أن تحرّك وتستخدم رغبة الجماهير بفعالية- بل أيضا الفاشية فينا كلنا، في رؤوسنا وسلوكنا اليومي، الفاشية التي جعلتنا نعشق السلطة، وأن نرغب في كل ما هو يهيمن ويستغلنا"، ميشيل فوكو: ضد-أوديب (مقدمة لحياة لافاشية)، ترجمة وتقديم: عمار جمال، https://ourwing.wordpress.com/2012/11/25/ضد-أوديب-مقدمة-لحياة .
-يقول دولوز:"يتحدث غاتاري عن الفاشيات الصغيرة الموجودة داخل حقل اجتماعي دون أن تتمركز بالضرورة في إطار جهاز دولة معين". جيل دولوز- كلير بارني: حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان-أحمد العلمي، أفريقيا الشرق، 1999، ص176.
-نضيف إلى الفاشية التاريخية، والفاشية التي تسكن رؤوسنا، "فاشية الآخر"؛ ذاك الذي يتدخل في حياتنا وثنايا أجسادنا؛ يتدخل في "حل مشكلاتنا الحياتية" بتعبير المخرج السينمائي الإيطالي فيديريكو فيلليني. يقول فيلليني:"أعتقد بأن الفاشية أخطر بكثير بكونها حركة سياسية، بل إنها حالة نفسية تمس البشرية، إنها شيء كامن في أعماق البشرية، مختبئة عن الأنظار، لقد كانت الفاشية في بعض ملامحها، موجودة في بلادنا قبل مجيء موسوليني ويكفي التأكد من ذلك بالرجوع إلى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، فقد اعتاد الإيطالي على الطاعة والخنوع والخوف، وكان الحكام يعاملونه مثل طفل صغير، لا ينمو ولا يكبر، والداه والكاهن والبابا يقومون بحل كل مشكلاته الحياتية، فهم جميعا يشتركون، ما عداه، في تقرير مصيره. لقد أصبحت عبادة الأساطير والطقوس جزءا لا يتجزأ من شخصيته، وفي النتيجة شكل هذا نمطا سيكولوجيا خاصا به يمكن تسميته ب"نمط طفولي مزمن". منتديات ستار تايمز: أفلام أوسكارية....ليست أمريكية، http://www.startimes.com/?t=793198.
29- بيتر سلوتردايك: "الإنجيل الخامس" لنيتشه، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، كولونيا-ألمانيا، 2003، ص84. يقول سلوتردايك:"المدّخرون والرأسماليون ينتظرون على الدوام مردودا يفوق ما استثمروه، بينما يجد المانح متعته ورضاه في البذل دون اعتبار ل"المحاصيل"؛ وينطبق الأمر هنا على الإستثمار كما على المنحة"، نفس المرجع أعلاه، نفس الصفحة.
30- جيل دولوز: سبينوزا: فلسفة عملية، ص40.
31-يقول سلوتردايك:"إن جانب الإبداع في هديّة نيتشه يتمثل في الإستفزاز للنسج على منواله، حيث يغدو بالإمكان تنشيط المانح من جهة طاقاته العطائية؛ أي من جهة ثروته القادرة على فتح أفق مستقبلية أكثر ثراء. إنه معلم سخاء من حيث هو يبثّ جرثومة الثراء في متقبل الهبة الذي لم يعد يرى من موجب لاكتساب ذلك الثراء بالنظر إلى إمكانية تبديده (...). وفي إطار الإتجاه المتصاعد لفضيلة السخاء، تحتفي الحياة بنفسها، كمجال تكاثر لامتناه لإمكانيات العطاء"، بيتر سلوتردايك: "الإنجيل الخامس" لنيتشه، ص82 و83.
32- بيتر سلوتردايك: "الإنجيل الخامس" لنيتشه، ص83.
33- جيل دولوز-كلير بارني: حوارات، ص80.
34-جيل دولوز-كلير بارني: حوارات، ص40. يقول دولوز"أن يصير الشيء معناه أن يصير موجزا بشكل متزايد، وبسيطا بشكل متزايد، وصحراء بشكل متزايد ويصبح عن طريق كل هذا معمرا انطلاقا من هذا الجانب بالذات". الامر صحيح بالنسبة للملابس(الأناقة الأنجليزية) والطبخ(فاقد الشهية) وبالنسبة كذلك للحياة، بما في ذلك الحياة الاكثر حيوانية. "إذا كانت الحيوانات تبتكر أشكالها ووظائفها فذلك لا يتم دائما بتطورها ولا بتراجعها كما هو الحال في المرحلة السابقة عن النضج، وإنما بالفقدان والتخلي والإختزال والإختصار". حوارات ، ص40 و41.
35-يقول لابوسيه:"علة العبودية الطوعية الأولى، العادة"، إيتيان دو لابوسيه: مقالة العبودية الطوعية، ص165.
36-يقول نيتشه:"إن تغير الذوق العام مهم أكثر من تغير الآراء: فالآراء بمجموع أدلتها، ودحوضاتها وبكل تقنعها الفكري ما هي إلا أعراض الذوق الذي يتغير وليست بالتأكيد دواعي هذا التغيير، كما زلنا غالبا نفترض"، فريديريك نيتشه: العلم المرح، نبدة "تغير الذوق"، ص77.
37- يقول دولوز:"إن صنع حدث ما، مهما بلغ صغره، هو الامر الأكثر صعوبة، إنه عكس صنع مأساة أو قصة"، جيل دولوز-كلير بارني: حوارات، ص85.
38-يتسابق المبدعون الحقيقيون مثلا، نحو ابتكار مضادات ضد أمراض مستعصية كالسيدا وإيبولا والملاريا ومرض السكري...، والبحث عن حلول لظاهرة التدهور الإيكولوجي، وتطوير أنواع جديدة من المنتجات القادرة على مواجهة سوء التغذية والمجاعة.... أما "الإنسان الاخير"، فلازال يبحث عن المعاني المدخرة في كتب ونصوص التراث التي لازالت لم تعش أعمارها الأبدية بعد، ويدعو إلى استثمارها في تأثيت المناخ العام الذي بحوزته. وفي الوقت الذي تتصاعد المطالبة بالزيادة في النسبة المخصصة للبحث العلمي، تتعالى أصوات جنوب البحر المتوسط إلى التشكي من "عدم ملكية جو روحي وأخلاقي يوفر إيتيقا المعنى" !.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟