من قضايا اللهجات: تصنيفات وخصائص ومواقف – ذ.ثريا خربوش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
anfasse.org1. تقديم
سنحاول، في هذه المقالة، تبيان ، أن تضارب التقسيم للهجات العربية سببه عدم وجود دراسات كافية ترصد تشابه واختلاف اللهجات العربية، وأن التصنيف الجغرافي للهجات المغربية، بشقيها العربي والأمازيغي، عام وغير دقيق، بدوره، نظراً لغياب مقومات الرصد من قبيل الأطاليس ، وتحديد النقط وحصرها في محلات غير شاسعة. وندافع، في مستوى آخر، على " نسبية" قرب أو بعد اللهجات من الفصحى، كما نناقش بعض التصورات المغلوطة حول اللهجات ووظائفها وتفاضلها، ونخلص إلى أن مناهج دراسة اللهجات العربية منحصرة في الوصف والتأريخ لغياب آليات الرصد الدقيق.
1.1. اللهجة العربية المغربية: مسألة التسمية
يطعن باحثون مغاربة في مصطلح لهجة عربية مغربية المرتبط بالتقسيم الجغرافي الذي يُقابل بباقي اللهجات العربية وذلك اعتبارًا منهم للأساس اللغويّ في التقسيم. في هذا الاتجاه، يذهب عبد العزيز حليلي حين يُقسّم اللهجات العربية إلى بدوية وحضرية.و يستدل على تصوّره بالوقائع اللغويّة، حيث تتميّز اللهجات الحضرية بخصائص لا توجد في البدوية. ففي الأولى، مثلا، انقرض التمييز بين المفرد والمثنّى والجمع، بينما مازال مستمرّاً في الثانية، وتُحقّق لهجات المدن القاف قافاً، على غرار الفصحى، في حين، نجده كَافاً في لهجات البوادي، كما أن هذه تتضمن الفعل شاف، وتلك لا تتوفر عليه.1
ويُؤكد حليلي مذهبه باتفاق اللهجات العربية عبر كل أنحاء العالم العربي في السمات الحضرية والبدوية، بمعنى أن لهجات المغرب واليمن قد تلتقيان في سمات لغوية، في الوقت الذي قد لا تتطابق فيهما لهجات اليمن والسعودية أو العراق. أي إن التوافق غير ناتج عن الصدفة أو الاحتكاك أو التجاور، طالما أن القسمين منتشرين في كل المناطق العربية. بل إن اللهجات البدوية غير منحسرة في البوادي، فقد توجد في بعض المدن العتيقة كبغداد ومراكش، كما أن اللهجات الحضرية تتعدّى المدن إلى بعض البوادي مثل اجبالة غرب المغرب.2
إن مفهوم حضري/ بدوي، إذن يطعن في التقسيم الجغرافي الذي يجعل اللهجات العربية قسمان، الأول مغربي يمتد بين المحيط الأطلسي، غربا، وسلوم التشاد، شرقا، ويضم المغرب وتونس والجزائر وليبيا وموريتانيا، والثاني عربي ينتشر شرق خط سلوم التشاد، قرب الحدود الليبية المصرية، وتمتد إلى الحدود السورية التركية، شمالا، والخليج العربي، شرقا، والمحيط الهادي جنوبا.3
ونعتقد أن تضارب المفاهيم واختلافها يعود إلى غياب دراسات كافية ترصد وتغطي خصائص اللهجات العربية، من حيث التشابهات والاختلافات. ولعل اعتبار وجود ثغرات في تغطية جغرافية وخصائص اللهجات العربية، يُفسر مناقشتنا، فيما يلي، لمشاكل التصنيف الذي يُعاني، بدوره، من التضارب في غياب معطيات مستمدة من الأطالس والخرائط.

2.1.  تصنيف اللهجات العربية المغربية
نناقش، هنا، تصنيف لهجات الناضور والحسيمة ووجدة والراشدية ضمن تصورين اثنين. الأول لمصطفى بوشوك الذي نفهم من كلامه أنها لهجات شمالية شرقية4 والثاني لعبد العزيز حليلي، الذي يُحددها بلهجات شمالية شرقية مزدوجة، إذ توجد مدن الحسيمة والناضور في الناحية الأمازيغية المعرّبة المكوّنة من السهول الأطلسية في الغرب والهضاب الشرقية والشواطئ المتوسطية والصحراء الغربية وقسم من الصحراء الشرقية. وتمتد مدينة وجدة  في قسم جبال الريف، حيث تنتشر الريفية، والراشدية في الجهات الأمازيغية: الأطلس المتوسط والكبير والصحراء الشرقية.5
إن ما نقصده من هذه المقارنة تبيان التضارب في التحديد اللهجي المغربي. ذلك أن ما هو لهجة شرقية شمالية، في معالجة، يُعد لهجة شمالية شرقية مزدوجة، عربية-ريفية أو عربية-تامازيغتية في أخرى. ونعتقد أن صعوبة التعيين تعود إلى اعتماد التقسيمات الجغرافية الكبيرة التي يصعب الأخذ بها اعتباراً لضرورة اعتماد وسيط من الوسيطين التاليين:6
الأول، أطلس لغوي (atlas linguistique) يُمكِّن من وضع خرائط تُلامس خصائص اللهجات. ويقتضي وضعه الرجوع إلى المنطقة المدروسة مرّات ومرّات حتى يتيسّر حصر سماتها الأصواتية (phonétique) والمعجمية (lexicologique) والصرفية (morphologique)، وغيرها من المميّزات اللغوية، وذلك بناءاً على تحقيقات منتظمة واستمارات questionnaires)) محكمة ومتكلمين محليين تتوفر فيهم شروط "التمثيلية" من الانتماء إلى المنطقة وصدق الأجوبة وعدم تكلُّفِها.
الثاني، ويُعتمد، إذا لم يتوفّر الأول. ويتمثّل في دراسة خصائص اللهجة في نقطة واحدة من الخريطة ومحل واحد، ذلك أنه ما أن نبتعد حتى تختلف المميّزات particularités)) انسجاماً مع مبدأ عدم تلاؤم مفهوم لهجة طبيعية مع مفهوم منطقة شاسعة.
من ناحية أخرى، يظهر سوء التصنيف على أساس مساحات شاسعة اعتقاد المتلقيِ لنتائجِ البحثِ أن اللهجات المصنّفة تمتاز بالخصائص نفسها. فمثلا حين يكتفي بوشوك بقول إن لهجة وجدة وبركان وفكَيكَ والراشدية شرقية شمالية، قد نظن أن السمات الوجدية (نسبة إلى مدينة وجدة) التالية في الأمثلة من (1-4) 7هي سمات كل هذه اللهجات، والواقع قد يكون غير ذلك، خصوصاً إذا عرفنا أن السمات المذكورة تلتصق بلسان المتكلمين من خارج المدينة، وليس من داخلها، هي نفسها:
 (1) الاحتفاظ بالأصوات الأسنانية، كما في ثوم وظهر ؛
(2) غياب الكاف أو التاء في أول الفعل المضارع؛
(3) تشديد بعض الحروف، حيث نسمع في نضحكوا نضّحكوا ( نضحك)؛
(4) استعمال هاء الغائب، على غرار الفصحى، إذ يقول الوجدي قريتَه في قريتو (قرأته).
3.1. خصائص عربية مغربية عامة
يذهب بعض الباحثين إلى أن اللهجات العربية المغربية بعيدة عن اللغة العربية الفصحى. ويستندون، في حكمهم، على احتكاكها بالأمازيغية، وتأثرها بها.  8مقابل ذلك، يرى آخرون أن الخلاف بين العاميات العربية المغربية وبين الفصحى قليل، وأن اللهجات العربية المغربية من أجمل اللهجات التي انتشرت في أرض الأندلس مع الأمويين، ثم نُقِلت، بعد الجلاء، من هناك إلى مراكش (المغرب). قال كرد علي إن من أهم ملامحها تضمنها ألفاظاً فصيحة لم توجد في لهجات العراق، ولا لهجات مصر أو الشام. 9
ونعتقد أن مسألة القرب أو البعد "نسبية". فقد تبدو العربية المغربية للمتكلّم المشرقي بعيدة، كما قد تكون لهجة مشرقية، من وجهة نظر المتكلّم المغربي، هي البعيدة. وإذا كانت اللهجات غير متطابقة، أصواتيًا وصواتيّا، فلا شك أن لها أصول في الفصحى، وفي هذا قرب مؤكّدٌ.
وعموما تشترك العربية المغربية مع باقي اللهجات العربية في الخصائص العامة. أما، على المستوى الخاص، فتمتاز على المستوى الصوتي ب:10
(1) تسكين الحرف الأول من الكلمة: ضْرَب، خْرَج، كْتَب (ضَرَبَ، خَرَجَ، كَتَبَ)؛
(2) اختفاء الحركات القصيرة: كَتَبَ،مثلا، تُنطق كْتَبْ؛
(3) تقلُّص الحركات الطويلة: كتاب، تُسمع كْتَبْ؛
(4) امتداد الأطباق الصوتي (pharynagilization) على اللفظة برمّتها، حيث طَلَبَ، مثلا، تصبح طْلَبْ؛
(5) الإدغام، كما في نجّ وعنّا وجّاج وهكّا من أصل نسج وعندنا وزجاج وهكذا، تم إدغام السين في الجيم والدال في النون والزاي في الجيم والذال في الكاف، على التوالي.
وأما على المستوى المعجمي، فإن العربية المغربية متأثرة باللغة الأمازيغية والفرنسية والإسبانية والتركية والفارسية.11 من الألفاظ الأمازيغية أتاي في الشاي وبحصوصه في باطن العين وبرهوش في المصاب بالجذري وبزطام في كيس النقود وبغرير في نوع من أنواع الرغيف الإسفنجي  وبلارج في اللقلق وبوخنّو في نوع من الفواكه والتبروري في البرد والزيزون في الأبكم والزرواطة في العصا والشربيل في نوع من أحذية النساء والقراشل في نوع من الكعك والساروت في المفتاح.
 ومن الكلمات الإسبانية، نذكر، مثلا، بابور في باخرة، وأصله12vapor وسبّاط في حذاء من zapot ومونيكا في دمية من mounica وقنِيّة في الأرنب من lonijo وفالطا في خطأ من falta وماريو في دولاب أو خزانة من armario.
ونجد من التركية بقراج في آنية وبقلاوة في نوع من الفطائر وبوغاز في مدخل البحر وتقاشر في الجوارب وريال في خمس فرنكات والشاّل في نوع من أثواب النساء والشاوش في الساعي والطبسيل في الصحن والقشلا في المعسكر والقيطون في الخيمة والكمنجة في الآلة الموسيقية المعروفة.
ويشيع من الفارسية البارشمان في خيط يُستعمل في الخياطة، وباس في قبل، وبْندَق في انحنى احتراما، والدرويش في الفقير، والدفتر في الكرّاسة، والدلاح أو الدلاع في البطيخ، والسبسي في أداة من أدوات الكيف، والطجين في الصحن من الطين، والفانيد في الحبات الحلوة والكاكي، في اللون، ولالاّ في السيدة.
هذه صورة عامة عن الخصائص المشتركة بين العامات العربية المغربية، ذلك أن لكل لهجة في موقعها الجغرافي والمجتمعي سمات مميّزة تُبايِنها عن أخرى تبعد عنها ببضع أميال. فمثلا، كلام أهل فاس يتسم بنطق خاص للراء لا نجده عند سكان مكناس، على الرغم من قرب المسافة بين المدينتين. كما أن للقاف تحقيقات مختلفة، فقد تُسمع قافا أو همزة في مناطق فاس ونواحيها، وتُنطق كَافاً في مناطق البيضاء. ويختلف نطق البدوي في المغرب عن نطق المدني، بحيث يكون النطق البدوي "لهجيا"، في حين يبدو النطق الحضري متأثرا بلغة المدارس والإعلام والثقافة. وكذلك تتباين معاجم العاميات العربية المغربية باختلاف المناطق، فمثلا، كَلس (جلس) في دارجة وجدة: كَعد والشمش(الشمس):  الكًايلة وخيز( الجزر): الزروديه والموسى  (السكين): الخُدمي والشتا (الشتاء):  النوّ ودَبَا (الآن):  ضَروَك، وهكذا.13

4.1. اللهجات الأمازيغية: أوضاع وخصائص وتصوّرات
1.4.1. عن الأوضاع
عانت الأمازيغية من الرهانات السياسية المتناقضة إبان الاستعمار وبعده: إبّانه حين دبّر الفرنسيون سياسة "فرق تسوُد"، وبعده لما تنكّرت لها الحركة الوطنية،14ولم تدمجها في برامجها الوطنية. تولّد عن سلوك التهميش ما يُعرف بالحركة الأمازيغية المُمَثّلة في مجموعات من التيارات والجمعيات والمناضلين من باحثين وسياسيين وحقوقيين رفضوا سياسة طمس معالم الأمازيغية بمنع، مثلا، أسماء الأشخاص والقرى والمدن الأمازيغية والمجلات والملتقيات وتجاهل آلاف السنين من الإنجازات التاريخية للأعلام المغاربة من أمثال ابن خلدون وبن رشد والمختار السوسي والخطابي ولخصاصي وموحا الزياني والحنصالي والفطواكي والشاذلي والجزولي واليوسي والكتاني وأحمد الهيبة وأبليوس وأبو شعيب الدكالي.
تُوِج نضال الحركة الوطنية بنتائج منها تخصيص حيّز إعلامي في نشرات الأخبار منذ يونيو 1994، وتقديم بعض البرامج الإعلانية والرياضية والمسرحيات والأفلام باللغة الأمازيغية، وتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001، وتدريس اللغة بدءاً من السنة الدراسية 2003-2004.

2.4.1. في التصوّرات
تصب كثير من النقاشات والتصورات في اتجاه زائف ومغلوط، يرى البعض أن الهدف من التعريب محو الأمازيغية وإبعادها من محدّدات الهُوية المغربية. ويأتي الزيف من جعل العربية والأمازيغية في وضع مواجهة. وإذا كان الدافع وجداني وعاطفي، فإنه غير موضوعي.15.ذلك أن اللهجات العربية المغربية نفسها تفتقر إلى العناية والاهتمام والدرس، بل إن العربية الفصحى نفسها تُعاني من هيمنة الفرنسية في مجال العلوم والتقنيات.
صحيح أن انحدار العربية المغربية من النسق الفصيح نفسه يجعلها في وضع أفضل، بعكس الأمازيغية التي، وإن كانت أختا للعربية (بحكم الانتماء إلى الأسرة السامية-الحامية)،فإنها لا تنحدر من النسق نفسه. غير أن صحة الوضع لا تبرّر الموقف السلبي من العربية، إذ ما نحتاجه، بالنسبة للغة المغربية، بنوعيها، العربية والأمازيغية، يتحدد في سياسة لغوية تجمع التعدد والتنوع ضمن انسجام يستجيب للوظائف المجتمعية المختلفة.

3.4.1. حول بعض السمات
تُميّز الدراسات في الأمازيغية بين معجمين. المعجم المشترك الذي لا تختلف فيه اللهجات إلا في نطق بعض الحروف، كنطق الكاف شيناً والعين قافاً والزاي هاءاً واللام راءاً والراء لاماً، والمعجم المختصّ، حيث تختضّ التاشلحيت بمجال البحر وتاريفيت بقطاع البساتين وتامازيغت بالرعي والنبات.16
ولعل هذا التمييز يقوم على تقسيم جغرافي واضح بحكم انتشار التاشلحيت في مناطق بحرية والتاريفيت في أخرى صحراوية والتامازيغت في جهات جبلية. إلا أن دقة السمات تبقى، على غرار خصائص العربية المغربية ،وخصائص اللبهجات العربية عموما رهينة بدراسات ميدانية وأطاليس وخرائط.17
ولقد شرع المعهد الملكي في تدبير وبرمجة دراسة اللغة الأمازيغية وحصر مميزاتها. ولقد خطا خطوات فيما يخض اختيار الخط الرسمي (وهو تيفيناغ)، وتنميط المعجم المشترك، ووضع المعجم الاصطلاحي في مجال التربية، وذلك في إطار سيرورات تعيير وتقعيد وتوحيد للهجات الأمازيغية الثلاثة. كما جمع، على المستوى الثقافي الأشعار ودوّن الحكايات والأمثال، وأنجز أبحاثاً في التاريخ والأنتروبولوجيا والمسرح والأغنية، والبقية تأتي، فيما يقول أحمد بوكوس.18
2. اللهجات العربية : المواقف والدراسة
1.2. المواقف من اللهجات
اعترض العرب على المشروع الأجنبي الذي حاول تدبير استعمال اللهجات لغات رسمية في العالم العربي. ولقد كان الاعتراض مبَرّراً (منطقياً)، بالنظر إلى سلوك القادة الأجانب الفرنسيين في شمال إفريقيا والأنجليزيين في مصر، الذي استهدف الروابط العربية، وسعى إلى تفكيكها.19
لكن، بعد الاستقلال، عرفت المواقف العربية اختلافا وتعدّدا عبّر عن اختلاف وتعدّد الاعتبارات، ومن ذلك ما يلي من الآراء والتصوّرات:
1- تبنّي اللهجات لسانا، لأنها لغات بسيطة وغير مكلّفة، ولا تُعيق الإنتاج والاختراع؛20
2- القضاء التّام على اللهجات،21 إذ تُعيق الفكر والإبداع والعمل  والعلم؛
3-احتقار اللهجات، كونها، لغات التخلّف والهجانة والانحراف والعيوب والإعاقة الفكرية، تغزو الفصحى، وتُؤديها بما يطبعها من التردّي ودوام التأثّر بالأعجمي، كما أن مفرداتها ركيكة ودخيلة.22 بل إن مفهوم لهجة نفسه يُحمَّل في ذهن الباحثين، بما فيهم المختصّين، معنى قدحيّاً، ولا أدلَّ على ذلك من قول سلام عمرو، مثلا، ومصطفى سهول: "يمكن استبدال كلمة "دارجة" بتعبير عيّنة لغوية، تحاشياً لكل استنتاج قدحي من الاستعمال الأوّل، ونظراً لوجود التعبير الأخير على جانب من الحيّاد والموضوعية"؛23
4- مفاضلة اللهجات العربية، باعتبار أن بعض اللهجات هي أفضل من أخرى. يقول سقراط سبيرو: "إن اللهجة العاميّة المصرية تتميّز عن سواها من لهجات الأقطار العربية  بسلاسةٍ ومفهوميةٍ وسعةِ انتشار أكسبتها إيّاها وسائل الإعلام المختلفة، خاصة في الربع الأخير من القرن الماضي، حتى إنّك لتجد كثير من الأفلام والأغاني التي تُنتَج في بلاد عربية أخرى تُؤدّى باللهجة العربية المصرية في كثير من الأحيان"24
فالملاحظ أن هذه المواقف متضاربة بين تبني العاميات، وبين احترامها أو احتقارها. إلا أن وجودها لا ينفي شيوع أخرى "مُصحِّحَةٌ" و"مُقنعَةٌ"، ومنها:25
1- الفصحى لغة الإنتاج بكل أنواعه، الأدبي والعلميّ والمجرّد والدّقيق، وهي لغة الاختراع والمنافع الكبيرة، بدليل وظيفتها التاريخية التي ارتبطت، منذ العصر الجاهلي، على الأقل، بما هو راقي في كل مجالات الفكر والحياة، ويستحيل حلول العاميات محلّها،إذ لا يمكن تحوُّل اللهجات إلى لغات أدب لعدّة عوامل، منها ارتباط العربية الفصحى بالدين، وعدم تأثرها بغيرها من اللغات، وهي لغة مهيبة ومكسب وطني وتاريخي. وهي، فوق هذا وذاك، تشكِّل اللغة المشتركة في التجارة والحكم والإدارة والحج، بحيث لا يُمكن لأي لغة أن تُعوِّضها ، لأن من شروط ترقية لهجة إلى مرتبة لغة عدم وجود لغة تسبقها في الرقي؛
2- القضاء على اللهجات "غير مطلوب" في ذاته، لأن الازدواج اللغوي ظاهرة طبيعية توجد في كل اللغات، بل إن اللغات التي اقتربت لهجاتها من لغاتها لم تتخلَّص منه نهائيّاً.
3- يعود احتقار اللهجات إلى عدم التمييز بين وظيفة الفصحى ووظيفة العاميات. الفصحى تعبِّر عن الأوضاع الراقية والعاميات عن الأوساط الدُّنيا التي تُلازم الحياة اليومية العادية. فهي لغة وظيفية، ثمّ إن لها أدواراً أخرى مهمّة، منها، مثلا، تكوين مادةٍ لدراسة الفصحى وتبسيطها وإضاءة الجوانب الغامضة منها، وتطعيمها بما هو فصيح غير مُدمجٍ أو بما هو مستجدٌّ.
4- ليس هناك لهجة أفضل أو أحسن من أخرى. وإذا كان منّا من يعتقد ذلك في لغته أو لهجته، فإن السبب عاطفي ووجداني. ومعلوم أن ما يضمن الغناء أو التمثيل باللهجة المصرية هو الانتشار الفني لهذه اللهجة، وليس اللهجة نفسها، وإلا لما عرفت اللهجات الأخرى روائع محليّة مشهورة.

2.2. دراسة اللهجات
ينقسم البحث في اللهجات إلى نوعين مترابطين: علم اللهجات dialectologie)) ودراسة اللهجات. الأوّل مدخل للثاني، لأنه يضع الأطاليس والخرائط اللغوية.26 تعد الخريطة اللغوية المرجع الأساسي في تزويد الباحث بالمعلومات المعتمدة في استخلاص خصائص اللهجات (الصوتية والدلالية، وغيرها)، وتِبيان نواحي اختلاف الألفاظ حسب المناطق، ووجوه الشبه والاختلاف بين اللهجات أو بين اللهجات والفصحى، وتاريخ الألفاظ، وتلهيجها والمُستجدّات فيها، ومدى انتشارها، وأسباب الانتشار أو عدمه، وطبيعة العوائق المُسهِّلة أو المانعة للانتشار (أهي جغرافية أم سوسيوثقافية أم اقتصادية أم لغوية أم من طبيعة أخرى).
تعد عملية وضع الأطلس اللغويّ صعبة. قد يسهل وضعها للمناطق الصحراوية والمرتفعات والغابات، لكن ليس سهلا رسم الحدود الجغرافية للعواصم والمناطق التي يختلط أهلها بغيرهم. بل إن رسم الخطوط الجغرافية بين اللهجات التي تنتمي إلى لغة غير ممكن لقوّة الصلات بين الناطقين من أبناء الأمة الواحدة.
ولمّا كان من الصعب توفير الأطالس والخرائط، فإن الدراسات العربية غالبا ما تعتمد المواد اللغوية المُسجّلة والمُدوّنة.27 وتتبّع، في ذلك، الدراسة الوصفية أو المقارنة أو التاريخية. يتمثّل الوصف في إعطاء فكرة عن الأنساق واللهجات وأنواع الكلام (les parlers) في استقلال عن بعضها البعض دون الرجوع إلى الأنواع اللغوية المجاورة، أو المُنتمية إلى النسق نفسه. وتترصّد الدراسة المقارنة التّشابهات والاختلافات اللغوية بين أنواع من اللغات واللهجات. وأما الدراسة التاريخية، فيتم، من خلالها، استخلاص ما كان في اللغة متجانساً في مرحلة ثم أصبح بفعل التلهيج والتحوّل الدياكروني مختلفاً، ومعرفة أسباب ذلك.

3. خلاصة
حاولنا في هذه المقالة الدفاع، إن ضمناً أو صراحةً، عن كون التقسيم والتصنيف والتحديد المعتمد في الدراسات العربية الحديثة للهجات العربية عام، وغير دقيق، ولا واضح. وأرجعنا أسباب ذلك لعدم توفر آليات الرصد ومقوماته. وسعينا، من جهة أخرى، إلى تبني التوزيع الوظيفي الذي يجعل الفصحى لغة الوظائف العليا واللهجات لغات الوظائف الدنيا، وإرجاع أسباب مفاضلة اللغات أو اللهجات إلى اعتبارات وجدانية أو عوامل خارجية ( الشيوع الفني مثلاً) .كما ناقشنا بعض التصورات المغلوطة حول اللهجات في المغرب، وبينا أن السمات الناتجة عن التأثر باللغات الأخرى واضحة على المستوى المعجمي، خصوصاً، وأن ماعدا ذلك عام وغير كاف في غياب دراسات علمية ضابطة.

الهوامش:
1. عبد العزيز حليلي، قضايا لسانية، التصريف، أقسام الكلم، مطبعة أنفوبرانت، فاس، ط.1، صص. 20-21.
2. المرجع نفسه.
3. نفسه.
4. المصطفى بن عبد الله بوشوك، تعليم وتعلّم اللغة العربية وثقافتها، الهلال العربية، ط.2، 1994، صص. 28-29.
5. انظر الخريطة اللسانية التي يصوغها عبد العزيز حليلي لمغرب القرن العشرين المعرَّب في المرجع السابق نفسه، ص.19.
6. في هذه الوسائط، راجع قاموس اللسانيات الفرنسية:
Dubois & autres, Dictionnaire De Linguistique, Larousse, Paris,1973
7. انظر سلام موسى ويهول مصطفى، مظاهر لغوية من دارجة وجدة، دراسة تاريخية لبعض الألفاظ ذات الأصل في الفصحى، ع. 3، السنة: 1992، ص.476.
8. من أصحاب هذا الرأي عبد الواحد وافي، فقه اللغة، المرجع السابق نفسه، صص. 143-147.
9. نقلاً عن عبد العزيز بن عبد الله، نحو تفصيح العاميات في العالم العربي، دراسات مقارنة بين العاميات العربية، المرجع السابق نفسه.
10. سلام موسى وسهول مصطفى، المرجع السابق نفسه.
11. انظر في المقتبسات، على سبيل المثال، عبد المنعم سيد عبد العال، لهجة شمال المغرب، تطوان وما حولها، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1986، صص. 55-60، ومحمد شفيق، المعجم العربي الأمازيغي، أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة معاجم، ج.1، 1991.
12. يذهب ابن الخوجة إلى أن كلمة بابُّور معرّبة عن vapeur الفرنسية، ومعناها: غاز، ويُطلق، بحصر المعنى على السفينة البخارية: انظر: محمد العزيز بن عاشور، جيش الدخيل في اللسان التونسي لمحمد ابن الخوجة (1869-1942)، ضمن: التاريخ واللسانيات، النص ومستويات التأويل، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم 20، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1992، ص.95.
13. انظر، في هذه الأمثلة، سلام موسى وسهول مصطفى، المرجع السابق نفسه، ص.477.
14. انظر:
Ahmed Moatassime, La Charte Marocaine D Education à L E preuve Des Langues Maghrébins, 2002, dans
أسئلة اللغة، منشورات معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، 2002.
15. انظر مجموع الحوارات التي نشرتها جريدة الأحداث المغربية خلال السنة 2004 مع عدد من المسؤولين في الأحزاب والجمعيات.من أدلتنا على أن هذه التصورات مغلوطة إغفال تضرّر العربية، على غرار الأمازيغية، واعتبار أن المغرب قد عُرِّب تماما على حساب الأمازيغية، واقتراح تقسيم لأدوار اللغات، غير موضوعي. فمثلا، يقول أحمد الدغرني، غافلا دور الفرنسية: إن سياسة المغرب، خلال ستين عاما، كانت هي تعريب المغرب ومحو الأمازيغية، ويرى إبراهيم أخياط أن دور العربية ينبغي أن ينحصر في الدين.
16. انظر آمنة إبراهيمي التي نقلت هذه المعلومات عن André Basset، في : التخطيط اللغوي ووضع اللغة العربية بالمغرب، بحث لنيل الدكتوراه، كلية الآداب والعلوم الأنسانية، الرباط، 2003.
17.  في أهمية، هذه الأدوات، انظر:
De Saussure, Cours De Linguistique Générale, Payothéque, Paris, 1983. وانظر الدراسة العربية لحسن شقير عبد الجواد، حيث يبين طبيعة المعطيات التي ينبغي توفرها لدى دارسي اللهجات. ومنها: المعلومات اللغوية الدقيقة والممثلة عبر عينة جيدة، ومراعاة أن " اللغة ظاهرة اجتماعية تتغير بتغير المجتمع وتتأثر بما يتأثر به المجتمع" ولذلك يلزم، كما يقول: " اعتبار تلك المتغيرات الاجتماعية عند وصف السلوك اللغوي ودراسة التوزيع اللهجي اللغوي جغرافيا". ولتحقيق ذلك، يضيف: " يجب أن يكون هناك، كما بين لابوف تعاونا وتنسيقا بين علم اللغة وعلم الاجتماع وبين دارسي التنوع الجغرافي للغة (regional variation) ودارسي التنوع الاجتماعي للغة (sociolinguistic variation)، ودارسي التنوع التاريخي للغة، أي ربط الاختلاف اللغوي الاجتماعي والجغرافي والتاريخي".
18.  انظر مجموع الحوارات التي نشرتها الأحداث المغربية، المرجع السابق نفسه.
19.  كيس فرستيخ، المرجع السابق نفسه،صص. 203-204.
20. كتب يوسف السباعي في مجلة الرسالة المصرية أيام كان وزيراً للثقافة بأن تحرير اللغة من القيود والأثقال يتطلّب البساطة، وذلك بتسكين آخر الكلمة وإبطال التنوين، والاقتصار على الجمع بالياء، وحرمان أدوات الجزم والنصب من سلطانها، وتصريف الممنوع من الصرف. كتب عن القيود قائلا: "إن لم نحطِّمها الآن فستحطِّمها الأجيال القادمة، فلنكن شجعان ونريحهم منها": نقلا عن أحمد مختار عمر، العربية الصحيحة، دليل الباحث إلى الصواب اللغوي، عالم الكتب، القاهرة، ص. 13.
وتساءل أستاذ جامعي ، في مجلة الكاتب المصرية، قائلا: "أترانا في حاجة إلى مواطن يُجيد الكلام أكثر مما يُجيد العمل؟ وهل هناك جدوى من معرفة يتم اكتسابها في وقت ليمسها الواقع بعد ذلك؟ وهو، بهذا، يُهاجم تدريس الفصحى، ويستنكر على الدولة ما تُنفقه على تعليمها، ويعتبرها جهداً ضائعاً وعلماً لا يخدم المجتمع، ينبغي رميُه في الطريق، ولفظه من الذاكرة، المرجع نفسه، ص.14.
ولقد شبه مختار عمر، منتقدا، هذا الكلام بما جاء على لسان وليام ولكوس (مهندس الري الإنجليزي الذي وفد على مصر سنة 1883) حين قال: "إن قوّة الاختراع لا توجد عند المصريين، لأنهم يكتبون بالفصحى" المرجع نفسه، ص.14.
21. انظر عبد الرحمن زيد السويداء، فصيح العامي في شمال نجد، ج.1، ط1، 1987، صص. 5-7.

22. انظر، مثلا، عبد الكريم يافي، إعداد الأستاذ الجامعي ومكانة اللغة العربية، الندوة السنوية لتعريب التعليم العالي في الجامعات العربية، المركز العربي للتعريب والتأليف والنشر، 1995، ص.ص.112-113، وشكري فيصل، قضايا اللغة العربية المعاصرة، بحث في الإطار العام للموضوع، اللسان العربي، ع. 26، مكتب تنسيق التعريب، الرباط، 1986، صص. 22-27، محمد المبارك، فقه اللغة وخصائص العربية، دراسة تحليلية مقارنة للكلمة وعرض لمنهج العربية الأصيل في التجديد والتوليد، دار الفكر، بيروت، صص. 236-238، وشحاذة الخوري، المعاجم المتخصِّصة، ودورها في نشر المصطلح وخدمة التعريب، الندوة السنوية لتعريب التعليم العالي في الجامعات العربية، المرجع السابق نفسه.
23.  سلام موسى وسهول مصطفى، المرجع السابق نفسه، صص. 473.
24. انظر، سقراط سبيرو، قاموس اللهجة العامية المصرية، مطابع تيبوبريس، بيروت، 1980.
25.  في هذه الآراء، انظر: أحمد مختار عمر، المرجع السابق نفسه، وساطع الحصري، اللغة العربية واللغة اللاتينية: مقارنة تاريخية، اللسان العربي، مجلد 14، مكتب تنسيق التعريب، 1976، صص. 53-63، وهنري فليش في المرجع السابق نفسه، صص. 40-45، وعبد السلام المسدي، المعرفة اللغوية ودورها في مقاييس الاختبار اللغوي، ضمن: مجالات لغوية، الكليات والوسائط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 1994، صص. 52-53.
26. في مفهوم أطلس وخريطة، وأهميتهما في الدراسة اللهجية، انظر: قاموس اللسانيات الفرنسية، المرجع السابق نفسه.
27. انظر، محمود السعران، علم اللغة، مقدِّمة للقارئ العربي، دار المعارف، مصر، 1962، ص. 266.
 
ذة:  ثريا خربوش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية -المحمدية

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟