ثقافة المرض والتطبيب لدى المغاربة من خلال كتاب : الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912- 1945 ـ بوشتى عرية

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse03075ترتبط نظرة المغاربة إلى المرض من خلال أشكال حضوره في واقعهم المعيش، ومن خلال أشكال الممارسات الاجتماعية والثقافية المبنية على مخلفات الموروث التاريخي المكتوب والشفهي، ولا تزال بعض هذه الممارسات ظاهرة للعيان، ومخيمة على عقول كثير ممن تعودوا سلوك أيسر السبل لتشخيص الأمراض وتحضير وصفات العلاج. وسنتناول هذا الموضوع من زاويتين أساسيتين؛ تهم الأولى ثقافة المرض وأنواعه في ذهنية المغاربة، وتكشف الثانية عن كيفية تعاملهم مع المرض وأساليب مواجهته.
     ويعتبر كتاب الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912- 1945 لمؤلفه الدكتور بوجمعة رويان واحدا من المؤلفات الجديدة والقليلة الذي اهتم فيه صاحبه بالدراسة والتحليل بموضوع الصحة لدى المغاربة وعلاقتها بالطب الكولونيالي والمشروع الاستعماري الفرنسي بالمغرب. ولم يفت المؤلف أن يخصص الباب الأول من أطروحته- التي نال بها دكتوراه الدولة في التاريخ المعاصر بكلية الآداب بالرباط صيف 2004- للحديث عن حفظ الصحة لدى المغاربة، من خلال رصد أنتروبولوجي لمختلف أشكال طقوس الحياة الاجتماعية وأنواع الممارسات اليومية في التغذية والشرب والسكن والحمامات، وما ينتج عن ذلك من ظهور الأمراض وتفشي الأوبئة، وأيضا وسائل التداوي وطرق العلاج المعتمدة في غالبيتها على الطب التقليدي والموروث الشعبي.


1- ثقافة المرض وأنواعه.

     المرض كما عرفه مؤلف الكتاب هو حالة من الانحراف الصحي، تلم بالإنسان كلما وقع خلل في توازن جسمه[i]، هذه الحالة كانت بعيدة نوعا ما عن الاعتقاد الشعبي الراسخ لدى المغاربة الذين كانوا يرون المرض شيئا خارجيا لا علاقة له بجسم الإنسان، وإنما يأتي من مصار مختلفة تحيل على ما يحتفظ به المتخيل الشعبي من تمثلات راكمتها ممارسات وتجارب من يسمون أنفسهم بالأطباء. وظل الاعتقاد بأن المرض يأتي أحيانا من كائنات غير مرئية كالعفاريت والجن، وأحيانا أخرى عن طريق الإصابة بالعين أو السحر أو التوكال، كما يعتبر قضاء ينزل من السماء. وقد أكد هذا الواقع ما حمله إلينا الموروث الشفهي في الأمثال والأشعار؛ كأن يقال إن العين حق، والسحر حق، وإن العين تخلي المنازل وتعمر القبور...[ii]، وحتى الكتابات المغربية في هذا الشأن اعتبرت المرض قضاء وقدرا دون أن تتمكن من معرفة أسبابه.
     وفي الوقت الذي كان فيه الطب الأوربي- والفرنسي بالخصوص- يسترشد بآليات جديدة ووسائل عصرية يتحدد بها تصنيف الأمراض، وتكشف عن الجراثيم المسببة لها، ظل المغاربة يعتمدون على الملاحظة العينية في تصنيف الأمراض؛ إما بتحديد مكانها كمرض الرأس ومرض الجلد ومرض الرئة، أو بميزتها الحرارية كمرض البرودة ومرض السخانة، أو بحسب قوتها كالزهري المسمى المرض الكبير والسل الملقب بالمرض القبيح، أو انطلاقا من لونها كمرض بوحمرون ومرض بوصفير...[iii]، وقد اعتبرت هذه التوصيفات والتشخيصات سطحية لا تراعي سبب المرض ولا نوعه ولا الميكروبات المسببة له.
     وإذا كانت نظرة المغاربة إلى المرض تتميز بنوع من السطحية، فإن البحث في سبل العلاج وطرق التداوي ووسائل الاستشفاء التي اتخذت أشكالا متعددة لم تكن تخرج عن نفس السياق.

2- ثقافة التطبيب وأساليب مواجهة الأمراض.

إذا كان المرض في شكله العلمي المرتبط بالانحراف الصحي، أو فيشكله االمتخيل في الذاكرة المغربية، فإن العلاج منه كان ضرورة ملحة على المرضى وذويهم، تستدعي منهم البحث عن كل الوسائل الكفيلة بمحاربته والقضاء عليه، وقد احتفظت لنا الذاكرة المغربية والموروث التقليدي بأنواع شتى من الممارسات العلاجية التي ارتبطت في معظمها بمخلفات كتب الطب التقليدي، وما تناقلته بعض التجارب العلاجية الناجحة، وما حوته أشعار بعض الفقهاء والعارفين من دعوات استشفائية في أماكن معلومة.
     ولقد أشار مؤلف الكتاب الذي درس الموضوع في فترة الحماية الفرنسية بالمغرب إلى انكباب الأطباء والمبعوثين الفرنسيين على دراسة الوضعية الصحية لدى المغاربة، والذين نبهوا في كتاباتهم وتقاريرهم حول بؤر الاستشفاء إلى الحالة المزرية التي وجدوا المغاربة عليها في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم، وإلى رسوخ ثقافة بدائية في البحث عن سبل التداوي، وإلى الانتشار الكبير لبؤر الاستشفاء التقليدي. ومن أهم طرق العلاج التي وجد الفرنسيون المغاربة يتداولونها خلال الفترة المذكورة، نورد بعض ما رصده المؤلف في هذا الباب:
-      الاستشفاء بالحامات: وهي العيون الحارة المساعدة على علاج بعض الأمراض، واشتهر المغرب بعدد من الحمات أهمها حمة مولاي يعقوب قرب مدينة فاس، والتي شكلت مركز تجمع المرضى من كل بقاع المغرب؛ من الجذمى والبرصى إلى المصابين بأمراض الزهري والنوار والبتور والمفاصل وغيرها كثير. ورغم الدور المهم لماء الحمة في معالجة بعض الأمراض الجلدية، فإن طريقة الاستحمام والاختلاط  العشوائي للمرضى جعلها بيئة حقيقية وخطيرة لنقل الأمراض وانتشار العدوى[iv].
-      الاستشفاء بالأولياء: ظل المغاربة لفترات طويلة من تاريخهم يعتقدون في زيارة أضرحة الأولياء حضور البركة وقضاء الحاجة والشفاء من الأسقام، ومما زاد من تشبتهم بهذه العادة، تأكد معتقدهم بعد تجربة ناجحة من شفاء بعض الزوار من أمراضهم، بل لقد تجاوز هذا الأمر أذهان العامة إلى بعض الفقهاء والعارفين، فهذا الفقيه عبد السلام جسوس يقول في ضريح سيدي علي بوغالب بسلا :

           إذا ما الخوارج قد خرجت        بجسمي وضاقت بها حيلي
           أتيت ضريح أبي غالـــــب          وهل للخوارج إلا علــــــــــــــي[v]

-      التداوي بالأعشاب: وهي من أكثر الوسائل المعتمدة في علاج الأمراض، سواء فردية أو مجتمعة، وسواء استعملت أوراقها أو أزهارها أو جذورها أو نقيعها أو مسحوقها أو دخانها، وكثيرا ما كانت تنجح هذه العمليات في علاج عدد من الأمراض من قبيل الحمى والزهري والجذري[vi]. وبالرغم من المعرفة الكبيرة للمغاربة لمجموعة من الأعشاب فإن مقاديرها وطرق استعمالها لم تكن تعتمد على خبرة علمية، وإنما على تجارب واجتهادات الواصفين التي قد تصيب وتخطئ أحايينا.
-      التداوي بالكي والجراحة: استعمل المغاربة الكي بآلات حديدية محماة بالنار لعلاج اليرقان وأمراض المعدة وآلام الفدع والوكز، كما مارسوا الحجامة لاستفراغ الدم الملوث، والفصد لعلاج الأورام والسموم، وتفننوا في إزالة الغشاوة (الجلالة) عن عين المريض، وفي جبر الكسور والتصدعات التي تلحق بالعظام[vii].

     ولم تتوقف وسائل البحث عن الاستشفاء أو العلاج في الوسائل المادية الخاصة بالوصفات المأكولة أو المشروبة أو المدهونة، بل ظهرت بموازاتها أنواع أخرى من الوصفات (الروحانية) المرتبطة بالتمائم والأحرزة و(الحجابات)، وما كان يحرر فيها من أيات قرآنية أو كلمات مبهمة أو أرقام وجداول فلكية يقوم بها دجالون ومشعوذون همهم اصطياد فرائسهم من بين السذج والبسطاء.
     ومن الغريب أن المغاربة كانوا يتناقلون بعض ما يعتبرونه وسائل علاجية تتطلب في نظرهم نقل المرض إلى إنسان آخر، وقد أورد المؤلف أمثلة بعض هذه الممارسات منها؛ أن يوصى المصاب بالسيلان بالبحث عن الشفاء من علته في اتصال جنسي مع امرأة سوداء. أما المصاب بعسر البول فيضع أهله بعض الأعشاب على آجرة ويتبول عليها المريض، ثم توضع عند مفترق الطرق، وينتقل الداء إلى من يضع قدمه عليه[viii].

    ما يمكن أن نستخلصه، أن التاريخ المغربي احتفظ لنا بأسماء بعض الأطباء المعروفين الذين اشتهروا في بلاطات السلاطين من أمثال الوزير الغساني طبيب السلطان أحمد المنصور السعدي، وعبد الوهاب بن أحمد أدراق طبيب السلطان المولى إسماعيل العلوي، وكل من عبد السلام العلمي وأحمد بن حمدون زمن السلطان الحسن الأول. وقد خلف هؤلاء مؤلفات شهيرة، لكنها لم تكن تخرج –حسب المؤلف- عن معارف أولية في الطب والجراحة والصيدلة والأعشاب وجسم الإنسان والرقى والطلسمات. وحتى هذه المعرفة كانت موجهة لأكابر القوم ممن تيسر لهم الاعتناء بأنفسهم وأهليهم[ix]، أما عامة الناس فكانوا يلتجئون إلى التطبيب والتداوي بالأعشاب، وإلى استعمال التمائم والطلاسم والتعاويذ وغيرها[x]، وإلى بعض التجارب الناجحة لبعض من كان لهم الحظ في الاستشفاء ببعض الوصفات المرتجلة؛ العامية منها والسحرية...
     لقد أعطى المغاربة أهمية كبيرة لحفظ الصحة؛ ظهر ذلك من خلال المأشور الشفهي المتواثر على ألسنة الخاصة والعامة، من ذلك قولهم "الصحة هي الفضل هي راس المال" و"الصحة كنز" و"الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى"...وأيضا من خلال اشتداد الزيارات وعيادة المرضى ومؤانستهم، لكن هذا الاهتمام الكبير لم يكن يظهر بنفس القوة والحدة والجدة اتجاه الحفاظ على الصحة والبحث عن وسائل العلاج الحقيقية القمينة بمعالجة ما يلم بهم من أمراض.

[i]  - رويان بوجمعة، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912- 1945، مطابع الرباط نت، الرباط 2013، ص 73.
[ii] - ن، م، صص 73-75.
[iii]  - ن، م، صص 77-78.
[iv]  - ن، م، صص86-90.
[v]  - ن، م، ص 93.
[vi]  - ن، م، ص96.
[vii]  - ن، م، صص97-99.
[viii]  - ن، م، ص76.
[ix]  - ن، م، ص81.
[x] - ن، م، ص82.