تأملات في الحياة الثقافية والأدبية خلال فترة الحماية الإسبانية على الشمال المغربي (1912-1956) ـ محمد بلال أشمل

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse07083 (1)
بعناية ماستر الأدب العربي في العصر العلوي في كلية الآداب بتطاون، وإشراف منسقه الدكتور عبد اللطيف شهبون، وتقديم الدكتور هاشم أحمد الريسوني، ألقى الدكتور أحمد بلشهاب صبيحة يوم 12 نوفمبر 2014 درسا افتتاحيا بعنوان "حديث عن الثقافة وأدب النهضة في المغرب"، تناول فيه فيما تناول، طائفة من القضايا ذات أهمية بالغة في فهم حقائق الحياة الثقافية والأدبية في فترة الحماية الإسبانية على الشمال المغربي (1912-1956) وامتداداتها اللاحقة على عموم الفكر والثقافة المغربيين. هذه تأملات في بعضها نحب تطارحها للنظر والدرس والعبرة.
(2)
أولى تلك القضايا، يتصل بالمتن الأدبي الذي أثمرته فترة الحماية الإسبانية والفترة السابقة عليها التي تلت حرب تطاون (1859-1860) بين المغرب وإسبانيا. إن الواقف على الإنتاج الشعري المنشور مثلا في الصحف والمجلات الإسبانية في عاصمة منطقة الحماية، سيجد أن هناك نصوصا موقعة بأسماء مستعارة، نرجح أنها لمغاربة يحسنون التعبير بلغة سرفانطيس، ولكنا لا نعلم من أمرهم شيئا، سوى أن نصوصهم صارت بحكم الواقع، جزءا من الحياة الأدبية في الشمال المغربي.

ولقد أحصينا عددا كبيرا من إحداها في أعداد "جريدة إفريقيا" La Gaceta de Africa  لعام 1935 وتحصّل لدينا الانطباع أن هناك متنا شعريا معتبرا يجدرُ بالدارسين النهوض بجمعه، وتصنيفه، ودراسته. ولعل السؤال الذي ينبغي إثارته هاهنا هو: أين نضع هذه النصوص الشعرية التي لها نظائر وأشباه في منشورات سياحية، وجرائد سياسية، ومجلات أدبية أخرى كانت تصدر يومئذ غير "جريدة إفريقيا" التي ليست إلا جريدة إخبارية أحصينا مادتها الأدبية لعام واحد؟ هل نضعها إلى جانب نظيرات لها كتبت باللسان القشتالي، وكان أصحابها من الإسبان المقيمين في تطاون أو العرائش مثلا، أو المقيمين بشبه الجزيرة الإبيرية ممن يرسلون للنشر إنتاجهم الشعري إلى عاصمة المنطقة الخليفية، ولسبب ما، يرفضون الإفصاح عن أسمائهم الحقيقية، ونعدها من ثم، جزءا من المتن الشعري الإسباني العام؟ أم نمضي مباشرة، فنسلكها في زمرة الأدب المغربي المكتوب بالإسبانية، ونسمي أهلها بـ"المتأسبنين" الرواد الذين اختاروا التعبير بلغة الحماة الإسبان، لمحض أن أصحابها الحقيقيين أو المفترضين كانوا مغاربة، وأنها كتبت على أرض مغربية ساقتها الأقدار السياسية إلى قيد الحماية، ونراجع من ثم، سائر أحكامنا المتصلة بالحركة الشعرية في المغرب من حيث البداية والامتداد؟
إن محض الحديث عن الحياة الأدبية في الشمال المغربي خلال فترة الحماية الإسبانية، يحملنا على النظر في مقدماتنا عن "اكتمال" المتن الأدبي طالما لم يتم إدراج الكثير من النصوص المكتوبة بالإسبانية من لدن مغاربة أو من في حكمهم، ضمن هذا المتن. وفي انتظار ذلك، هناك حاجة ملحة إلى البحث عن هذه النصوص، وجمعها، وتوثيقها، ودراستها، وتهيئتها للحكم النقدي الموضوعي.
(3)
  ثاني تلك القضايا، يتصل بالحياة الفكرية في نفس الفترة، ونقصد بها الأعمال التي نشرت مثلا من لدن مغاربة، أو من في حكمهم من المحمّيين، حول قضايا تتعلق بثقافة المجتمع، وتراثه، وتقاليده. إن أعمال عبد الرحيم جبور العدّي المكتوبة بالإسبانية حول مؤسسة الحسبة في الإسلام (1942)، أو حول تاريخ تطاون وعائلاتها الأندلسية (1948)، أو عاداتها وتقاليدها (1950)، أو سيرة عائلة "الفورناشي" من أهلها (1955)، تمضي بنا مباشرة إلى تطارح قضايا الكتابة التاريخية حول الدين والسياسة، والبحث السوسيولوجي حول العادات والتقاليد، ومنشئهما الأول، واستشكال تاريخ الدرسين التاريخي والسوسيولوجي في المغرب المستقل، وإمكانية إعادة إسناد خطابه من جديد بحقائق من مغرب الحماية الإسبانية أمام هذا العمى التاريخي الذي بمقتضاه صار يتم التغاضي عن منزلتها في تشكيل المستقبل الفكري والسياسي العام لمغرب الاستقلال.
ومثلما تمضي بنا كتابات هذا المثقف إلى تطارح قضايا الكتابة التاريخية، والبحث السوسيولوجي في بدايات تشكل الوعي المغربي، تحملنا كتابات مثقف مثل محمد بنعزوز حكيم (1929-2014) إلى إعادة النظر في التأليف التاريخي المغربي المكتوب بالإسبانية، والنظر في خلفيته الفلسفية والعلمية. إن أعمال الرجل الذي رحل عنا هذا العام (2014)  حول معركة وادي المخازن (1949)، واستعداد المولى عبد الملك لخوض غمارها (1949)، وصداها لدى المؤلفين المغاربة (1950)، ومشاهد الملوك الثلاثة فيها (1952)، وما تحصل لديه من بيبليوغرافيا حولها (1953)، إذا ما اجتزأنا بها عن غيرها من الأعمال التي تشمل فنونا كثيرة من الكتابة، أطرفها ما كتبه عن الفيلسوف الأمريكي من أصل إسباني "جورج سانتيانا" (1863-1952)، تحفزنا على تطارح سؤال "التاريخ" بالدوافع الموضوعية، أو بالنوازع العاطفية، وسؤال سلطة الوثيقة التاريخية، ومدى حسن تدبيرها الاستراتيجي في تركيب رؤية عامة للحدث التاريخي في شموليته وامتداده، وسؤال "الموثق" و"المؤرخ" أي فرق بينهما، وهل هناك وجود لرؤية تاريخية، أو قل لفلسفة تاريخية تنضبط لها شرعا صنعة الكتابة التاريخية، وتستهدي بهديها.
ولعل إعادة قراءة أعمال هذين الرجلين، مع أعمال غيرهما من  مفكري ومثقفي الشمال خلال فترة الحماية الإسبانية على المنطقة الخليفية، يستطيع إمدادنا بحقائق عظيمة القدر في فهم تاريخ تلك الفترة، وما سيليها من فترات، لاسيما إذا أنجزت هذه القراءة خارج منطق مركزية الحماية الفرنسية على المغرب السلطاني.
(4)
ثالث تلك التأملات، أن الناظر في ثمار الحياة العقلية والأدبية في شمال المغرب خلال تلك الفترة، لا بدّ تردُ على ذهنه حدوس عديدة وهو يقف على لُمح ولُمع فلسفية وفكرية لرجال الفكر والسياسة، فيمضي من ثم، إلى تطويرها إلى آماد بعيدة وفق فرضيات عمل يسعى إلى تحقيقها. ومن هذه الفرضيات مثلا إمكانية "تفاعل" - حتى لا نقول "تأثر"- بعض وجوه الفكر الوطني في الشمال بالمناخ الفكري والسياسي الإسباني. إن المطلع على نصوص المرير(1887-1977)، والطريس (1910-1970)، والتهامي الوزاني (1903-1972)، وداود (1900-1983) وكثير غيرهم، وقد ألم بشئ من ثمار الحياة العقلية في إسبانيا خلال العشرينات والثلاثينات، لا يستطيع الفكاك من ضغط المقارنة بين هؤلاء ومجرى الأفكار السياسية والفلسفية في شبه الجزيرة الإيبيرية خلال نفس الفترة. ولا غرابة في ذلك؛ فإسبانيا الرسمية كانت قائمة عسكريا ومؤسسيا في كامل المنطقة الخليفية، وإسبانيا الجوهرية كانت ثاوية في عقل ووجدان رجال الفكر الوطني، وثمارها يانعة في مجالسهم الأدبية، ومنتدياتهم العلمية،  وأنديتهم الاجتماعية، ورجالها وثيقي الصلة بوجوه الحياة السياسية والفكرية فيها؛ فكيف لا يكون لهما معا –إسبانيا الرسمية والجوهرية- صدى في فكر هؤلاء وحياتهم؟ إن ذم "النظام الديموقراطي"، ومدح "الصفوة المختارة"، واعتبار "المخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين"، وتكفير من يعتقد في "مذهب النشوء والارتقاء"، واصطناع مصطلحات "النهضة"، و"الترقي"، و"السعادة"، و"الأمة"، والكرامة القومية"، و"السلامة القومية"، و"الطبقة المفكرة" في الكتابة السياسية، والخطابة الحماسية، والمقال الفكري، كلها إشارات تحملنا على ضرورة التفكير في إسهام هؤلاء في الفكر الوطني من منطلق نقدي واع، ربما تفضي بنا، إلى خلاصات جديدة حول حركة الأفكار ومساراتها، ورياح تلاقحها بين جيل وجيل، لا ِقبلَ للتداول الفكري والسياسي بها حين جمد على الأحكام الجاهزة، وتعجل المواقف المريحة. إن استشهاد رجل كالطريس مثلا بـ"كانط" الألماني، و"ديكارت" الفرنسي، و"أونامونو" الإسباني، وغيرهما، استشهاد له دلالته وطرافته في معرض استقصاء ملامح الفكر الغربي في فكر الرجل، وتبين مواطن تأثيره في تكوينه العلمي والثقافي، ومدى واقعة التلاقح الثقافي الذي تجسدت فيه، بعيدا عن الدعاوى الطائفية الحزبية التي شنعت على فكره، أو  الكتابات الصحفية المتعجلة التي هوّنت من شانه. ولا زلنا كلما وقفنا على حقيقة من حقائق الرجل وأسراره، إلا وأشفقنا على حال البحث التاريخي، أي مرتقى ارتقى، وعلى التأويل السياسي، أي مسلك سلك، ليس فقط فيما يتصل بـ"الأستاذ"، بل بعموم أصحابه من جيل الحركة الوطنية والفكرية في شمال الريادة.
(5)
رابع تلك التأملات، يتصل بفقدان رافد أساسي من روافد الفكر الوطني مع مجئ الاستقلال السياسي عام 1956؛ ونقصد به اللغة الإسبانية. لقد كان التداول الفكري والثقافي الإسباني خلال فترة الحماية، جزءا من المشهد العام في هذه القطعة الأساسية من الانطولوجيا المغربية. ولقد كان سيكون لكثير من مظاهر الحياة في الحزب، والمصنع، والنادي، والنقابة، والعصبة، والرابطة، شأن آخر لو ُقدّر لها الارتباط بالأفق اللغوي والفكري الإسباني. أي مصير كان سيكون للفكر المغربي مثلا لو تهيأت له أسباب الاشتغال خارج قيد الواحدية اللغوية الفرنسية؟ ألم يكرهه القضاء على الرافد الإسباني، على الجمود على التقاليد الفكرية الفرانكفونية، ومنعه من الارتواء المباشر من الينابيع الصافية للفكر الإنساني دون وسيط فرنسي؟ ألم يثمر هذا ولاء فكريا للفكر الفرنسي حرم الفكر المغربي من توسيع دائرة انشغالاته؟ ألم يخسر الفكر المغربي الأفق الأمريكولاتيني في شساعته وامتداده، حين قصر خلفيته ولسانه على لغة "موليير"، وذهل عن طيبات لغة "سرفانتيس"؟ أم هي السياسة حين تدخل قرية تجعل أعزة اهلها أذلة؟
نقول هذا لأن هناك الآلاف من الأعمال والمؤلفات الموضوعة بالإسبانية حول تاريخ المغرب في جميع عصوره، وحول أنماط عيشه، وتقاليده، والمذاهب الدينية والفقهية والصوفية التي توجد فيه، وعقلية أهله، ونفسياتهم، وطرائق تفكيرهم، وبنيتهم الجسدية، وسحنتهم الخارجية، وطرائفهم، وجغرافية مساكنهم، وأشكال دور عبادتهم....ما زالت طي الإهمال، وعرضة للنسيان، ويقتضي الوعي الوطني، والوعي الوحدوي، والبحث العلمي، العكوف عليها لاستخراج مكنوناتها، ودراسة ذخائرها، والنظر في أشكالها ومبانيها، استكمالا للنظر العام في التاريخ الوطني، والفكر المغربي. 
(6)
هذه تأملات أحببنا تطارحها للنظر والدرس والعبرة؛ تتصل بفترة انتقالية من مغرب ما قبل الحماية إلى مغرب الاستقلال، وهي فترة نرى أنها ما زالت تختزن الكثير من الذخائر التي تستطيع أن تساهم في الارتقاء بمعرفتنا بكثير من المواقف والحقائق والوقائع الجوهرية في تاريخ المغرب المعاصر لو تصدى لها أولو العزم من الباحثين بالتنقير. أما ما يعرف منها أو هكذا يبدو، فنزعم أنه لم يلق حظه من الدرس الموضوعي، على ما ينطوي عليه، فيما نعتقد، من محددات أساسية لما يمكن الاصطلاح عليه بالنهضة المجهضة في المغرب المعاصر. ولكن الأمل معقود على جيل جديد من الباحثين الوطنيين ممن يجعلون من هذا الأمر قضيتهم العلمية والوطنية.