التسرب التجاري الاستعماري الفرنسي في المغرب:آلية المعرض التجاري لفاس(1916-1945) ـ د. محمد تلوزت بن علا

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse28109تقديم.
           أَوْلَتْ إدارة الحماية بالمغرب عناية فائقة لقطاع الحرف: باعتبارها تشكل أساس اقتصاد المدن ولأدوارها الاجتماعية، وللتعرف على إمكانات هذا القطاع أمر الجنرال ليوطي سنة 1913 بإجراء بحث ميداني حول الصناعة التقليدية من الوجهة الاقتصادية والاجتماعية والفنية[1]. وإذا كانت علاقة إدارة الحماية مع الحرف متشعبة، فقد أقدمت على تنظيم معارض للصناعة التقليدية والفلاحة والتجارة بالمدن المغربية الكبرى ومن بينها معرض الصناعة التقليدية والصناعة والفلاحة والتجارة لفاس باعتبار أن المعارض «هي أقوى العوامل وأنجح الوسايل [هكذا] لترويج التجارة والصنائع وجلب الذخائر والبضايع من أقاصي الأماكن والمواضع وهي الطريقة الوحيدة لاستدرارالأموال»[2]. فما هي دواعي تنظيم هذا المعرض التجاري؟ وما دوره في تنشيط الحياة الاقتصادية بالمدينة؟.

أولا: الظرفية التاريخية لتنظيم المعرض التجاري لفاس.
 نضجت فكرة تنظيم المعارض التجارية لدى أطر الحماية في خضم الأحداث التي صاحبت الحرب العالمية الأولى، وهي تندرج ضمن المخطط الاقتصادي الاستعماري الذي وضعته فرنسا في المغرب وقد اتخذت سياسة الاستغلال الاقتصادي ثلاثة أشكال رئيسية وهي[3]:
 1  إنجاز أشغال عمومية كبرى.
 2  الحفاظ على الوضعية الاقتصادية للبلاد.

 3  تنظيم تظاهرات تجارية قصد تطوير التجارة الفرنسية في البلاد لتحل مكان التجارة الألمانية النمساوية. ولتهيئ البلاد للاستغلال الاقتصادي الشامل. ومن هنا تفتقت فكرة المعارض التجارية ولإنجاز هذا المشروع خصصت الحكومة الفرنسية لها قرضاً مالياً بقيمة 71.750.000 فرنك[4]، يغطي المرحلة الأولى من أطوار الحرب العالمية الأولى، ومع نهاية سنة 1914 أصبحت سياسة المعارض جاهزة، ونظم أول معرض تجاري بالمغرب في مدينة الدار البيضاء سنة 1915 وشاركت فيه مدينة فاس بجناح تبرع البعض بأشياء يندر وجودها عند سواهم وكان أبرزهم السيد المحتسب إدريس المقري ومولاي إدريس العمراني[5]، ثم تلاه معرض فاس سنة 1916 ثم معرض الرباط سنة 1917[6]، وبهذا يعد معرض فاس حلقة واحدة ضمن سياسة المعارض بالمغرب فما هي دواعي تنظيمه؟.

ثانيا: الدوافع السياسية لتنظيم معرض فاس:

 سبق افتتاح المعرض عمل تحضيري فعال قامت به إدارة الحماية، فتشكلت لجنة تحضيرية بقرار من المقيم العام بتاريخ 10 ماي 1916، بعد موافقة لحكومة الفرنسية وضمت لجنة مركزية بالرباط من بين أعضائها[7]: مدير الفلاحة السيد ماليط (F. Malet)  والكولونيل  برييو (Berriau) رئيس مصالح الاستعلامات وطرانشان دو لونيل (Tranchant de Lanel) رئيس مصالح الفنون الجميلة وروني لوكليرك(René – Leclerc) رئيس مصالح الدراسات الاقتصادية وأخيراً أندري ليشتنبيرغير (André Lichtenberger) مكلف بمهمة. أما اللجنة المحلية بفاس فترأسها العقيد ميليي (Mellier) رئيس المصالح البلدية، ويشرف على التنسيق بين هاتين اللجنتين السيد بيرتي (Berti) ،مهندس بمعرض الدار البيضاء، ومنح له المقيم العام سلطات واسعة مدنية وعسكرية لتحضير أشغال هذا المعرض، وتم تهيئ الظروف العامة لافتتاحه وتهيئ السكان لاستقبال هذه التظاهرة الاقتصادية بنشر إعلانات وإلصاق مناشير في المدينة تُعَرِّفُ به وتعلن تاريخ افتتاحه[8]، وبعد تأجيل افتتاح معرض فاس، ترأس الجنرال ليوطي افتتاحه يوم 15 أكتوبر 1916[9]، وألقى بالمناسبة خطاباً ضمنه الأهداف التي تتوخى فرنسا تحقيقها من هذه التظاهرة التجارية، وأقيم هذا المعرض الأول بساحة المشوار بالقصر الملكي بفاس وامتد إلى 6 نونبر 1916.

 

ثالثا:الأهداف السياسية

      تمثلت هذه الأهداف المعبر عنها لهذه التظاهرة في رغبة فرنسا اقتحام هذه المدينة الغنية والتي ظلت منيعة لزمن طويل عن الأجانب، ويَّنشط بها محرّضون ضد فرنسا يتسربون إليها من المناطق القريبة غير الخاضعة لها، وتنظيم هذه التظاهرة الاقتصادية ستمكن من إظهار قوة فرنسا للسكان وهي بذلك رسالة موجهة للمقاومات المسلحة التي تنشط في جهة فاس، خاصة بعدما سحبت فرنسا زهاء ثُلثي قواتها العسكرية من المغرب ووجَّهتها لجبهات القتال بأوربا، مما عَرَّضَ وجودها بالمغرب وبشمال أفريقيا للخطر. والسؤال الذي واجهته إدارة الحماية هو: كيف يمكن لفرنسا أن تحافظ على مكتسباتها في المغرب، وتواصل خطتها العسكرية لاستكمال سيطرتها على البلاد؟، بعدما تزايد الضغط الألماني "التجسس" لإثارة القلاقل والفتن في وجه الحماية، وقد كان ليوطي مهووساً بهذا الخطر ويأخذه بعين الاعتبار، ففي سنة 1916 عرض على حضوره بمقر إقامته بفاس يافطة وجدت بالقرب من إحدى المعسكرات الفرنسية مكتوب عليها بالألمانية ما مضمونه: « الفرنسيون منهزمون والألمان قادمون»[10]، فكان المعرض أيضاً رسالة موجهة إلى ألمانيا، بعدما تبنت سلطات الحماية قرارات قانونية لمصادرة ممتلكات الألمان ومحاكمة وإعدام المشتبه فيهم، وسجن آخرين في معسكرات خاصة، وفي نفس الوقت شرع في تنظيم استعراضات عسكرية بالمدن المغربية من المعمرين والجنود الاحتياطيين الفرنسيين والذين تتراوح أعمارهم ما بين 17 و60 سنة، لدعم صورة فرنسا القوية في أذهان السكان المغاربة[11].

    كما حرص ليوطي على إعطاء السكان طابع التعايش والتعاون بين فرنسا والمغرب من خلال الظهور بمعية السلطان أمام الجمهور جنباً إلى جنب، حينما رافق السلطان خلال زيارته الرسمية للمعرض، وأطلعه شخصياً على أروقة المعرض والعارضين، كما استقبل الضيوف الفرنسيين إلى المعرض، ومما يدل على أهمية هذا المعرض قيام السلطان بزيارة هذه التظاهرة للمرة الثانية صحبة أفراد أسرته وحاشيته، وزارها للمرة الثالثة واشترى بعض المنتجات المعروضة فيه[12].

     واستهدفت إدارة الحماية من هذه التظاهرة أيضاً خلق احتفالات ترفيهية للأهالي، حيث أقيمت بموازاة النشاط التجاري، أنشطة ترفيهية مثل: مسابقات في الرماية، وركوب الخيل، وكرة القدم ومشاهدة أفلام سينمائية، بهدف تحويل الرأي العام من متابعة الأحداث الحرب داخل المغرب وفي أوربا وخاصة توالي أنباء هزائم فرنسا أمام ألمانيا، وأيضاً محو الأحداث الأليمة من الذاكرة الجماعية لسكان فاس علقت في أذهانهم عن "الرومي" الغازي المحتل.

رابعا: الدوافع الاقتصادية لتنظيم معرض فاس.

 كانت هذه الدوافع محددة لدى إدارة الحماية، وتبلورت ضمن منظور فرنسا الاقتصادي لمستقبلها في المغرب، وكيفية تحقيق جَنْيِ فوائد اقتصادية تصديراً واستيراداً بعدما قدم المغرب لها حوالي 40 ألف جندي وأزيد من 10 آلاف عامل و80 مليون فرنك من الحبوب ورؤوس الماشية في بداية الحرب العالمية الأولى[13]، ولتشجيع هذه المكتسبات شجعت التجارة الفرنسية، والتي استفادت من الفراغ الذي تركته توقيف التجارة الألمانية  النمساوية في المغرب، فجاء مشروع تنظيم التظاهرات الاقتصادية لتحقيق هدفين: أولهما إعداد البلاد للاستغلال الاقتصادي وثانيهما تعويض التجارة الفرنسية للتجارة الألمانية النمساوية في المغرب، ويقول ليوطي في هذا السياق «اقتصادياً نريد أن نضع بين يدي التاجر والمستهلك الأهلي، منتوجات فرنسية من كل الأنواع وفي وضعية ملائمة وفريدة لدفع الاستهلاك، ولتحل مكان المستوردات الألمانية  النمساوية».[14] أما صيغ تحقيق ذلك فطرحت في البداية الأمر صيغة تنظيم متاحف تجارية، لعرض نماذج لبضائع فرنسية لتعريف المغاربة بها، ثم تبلورت الفكرة إلى تنظيم معرض تجاري بفاس على غرار المعرض التجاري للدار البيضاء لسنة 1915. وبفعل انشغال الحكومة الفرنسية بإدارة الحرب العالمية الأولى عمدت وشجعت المبادرة الفردية للمشاركة في هذا المعرض ونظمت داخل فرنسا دعايةً واسعة له وسط التجمعات الصناعية والتجارية ولدى دور غرف التجارة الفرنسية لتعريفها بهذا المشروع وتوعيتها بأبعاده الإيجابية. وداخل المغرب قامت العصبة المناوئة لألمانيا بدعاية واسعة في صفوف الأوربيين بإلقاء محاضرات وتجمعات لتعريف التجار بهذا المعرض وحثهم على التحضير له جيداً بعدما تزايد ضغطهم على ليوطي لفتح السوق المغربي أمام منتجاتهم وخلق جسور بينهم وبين المغاربة. ومن أهم المؤسسات التي شاركت في المعرض التجاري الأول لفاس وهي[15]:

 دار بورجو(La Maison Borgeau) ودار بونشويغ (La Maison Brunschwig) والمخازن المتحدة (Les Maisons Réunies).

     ومما يبرز نَهَمَ وتعطش التاجر الفرنسي لخوض هذه التجربة   والمغامرة هي تحديه لصعوبات المشاركة، فواجهها بعزيمة قوية سواء تلك المشاكل داخل فرنسا المتمثلة في صعوبة الحصول على السلع في المناطق التي سقطت تحت الاحتلال الألماني، وأيضا غلاؤها بفعل ارتفاع أسعار المواد الأولية بسبب الحرب، ثم مخاطر إغراقها في البحر من قبل الأسطول الحربي الألماني، ثم صعوبات نقلها من الموانئ الساحلية في المغرب إلى فاس، كل هذه العوامل زادت من قيمة تكلفة البضائع وزادت من احتمالات تعرض التجارللخسارة، وهذه الصعوبات هي التي أدت إلى تأجيل افتتاح معرض فاس من فاتح أكتوبر إلى 15 منه، وافتتح أبوابه أمام الجمهور رسمياً يوم 20 أكتوبر من سنة 1916.

    حقق المعرض التجاري الأول لفاس أهدافه المرسومة له، بل حقق نتائج لم يكن يتوقعها منظموه، ففي المجال التجاري كان للتاجر الفاسي الفضل في إنجاح هذا المعرض حيث ساهم تجار الجملة والذين كانوا على عِلْمٍ مسبق بانعقاده بشكل فعال في اقتناء البضائع المعروضة فيه، وأبرموا صفقات تجارية مع العارضين، تجاوزت صبيحة أحد أيامه 100ألف فرنك، وبلغ حجم العمليات المالية الإجمالية للمعرض إلى زهاء 4 ملايين فرنك[16]، موزعة كالأتي: مليون فرنك للمنسوجات الحريرية و500 ألف للأقمشة و500 ألف للأواني المنزلية والخزفيات، كما كان الإقبال شديداً على الآلات والمعدات الفلاحية والآلات الصناعية الخاصة بالمطاحن ومعاصر الزيتون، وآلات غزل الصوف والخيوط والمحركات، وبيعت حتى النماذج المستقدمة فقط للعرض، وهذا النجاح دفع المؤسسات العارضة إلى التعبير بصراحة وبإلحاح عن رغبتها في فتح فروع ووكالات لها بفاس.

      أما اجتماعياً فكشف المعرض لمنظميه عن قدرة السوق الفاسي عن استيعاب ليس فقط المواد الأساسية الضرورية وإنما أيضاً المواد الكمالية لوجود طبقة أرستقراطية غنية قادرة على شراء، هذا النوع من البضائع كما أظهر المعرض ضرورة مراعاة العادات والقيم الاجتماعية للمستهلكين المغاربة[17].

     أما سياسياً فقد حرص ليوطي على تفعيل "سياسة الابتسامة" [18]، التي ترتكز على التظاهر بعدم الاكتراث بوقائع الحرب وأهوالها داخل أوربا أوفي المغرب، بهدف تحويل أنظار السكان عنها، والعمل على التقرب إلى الجهاز المخزني ممثّلاً في السلطان والقوى المؤثرة في المجتمع مثل الأعيان والتجار الكبار والشرفاء، وأيضاً تعتمد على التظاهر بالمساواة بين الأوربيين والمغاربة بغية جلب احترامهم وكسب وِدّهِمْ، وفي نفس الوقت إظهار القوة والتبجح بعظمة وقوة الأمة الفرنسية في الخطب التي تلقى في مناسبات يكون فيها المغاربة طرفاً.

 أما نفسياً فتمخضت عن المعرض التجاري الأول لفاس نتائج نفسية ذات آثار عميقة وبعيدة المدى في علاقة المغاربة مع الأوربيين، وتتمثل في خلق وتعزيز الثقة بين "الرومي" والمغربي حيث تكسرت الحواجز النفسية والموانع التي كانت بين الطرفين، وركز ليوطي دائماً على إعطاء النموذج بنفسه فكان يستغل كل المناسبات للجلوس إلى المغاربة وشرب الشاي معهم والتحدث إليهم وفي مقدمتهم السلطان، ومن أهم الأساليب التي ساهمت في تحقيق هذا التقارب تلك الأنشطة الترفيهية الموازية للمعرض التي أحدثها المنظمون مثل ألعاب السيرك التي قدمها "سيرك نافا" (Le Cirque de Nava) والتي استحسنها المغاربة وأقبلوا على مشاهدتها بشغف كبير، ثم ألعاب اليانصيب والرماية بالبنادق ومباريات كرة القدم، غير أن أهم الوسائل الترفيهية التي تركت أثرها في نفوس الزوار المغاربة هي مشاهدة الأشرطة السينمائية التي عرضت في الهواء الطلق حيث كان يجتمع يومياً آلاف منهم منذ الساعة السادسة مساءً لمشاهدتها ويمتد السمر إلى ساعات متأخرة من الليل مما ساهم في تكسير الحواجز النفسية في التعامل مع الأوربيين.

     أما عسكرياً، فترتب عن المعرض نتائج أثرت في العلاقة بين فاس وحركة المقاومات المسلحة، فالمعرض كان طُعْماً مَكّنَ ليوطي من استدراج واستقطاب واحتواء جزء من التجار الذين بدؤوا يرون في نظام الحماية مخرجاً لهم من الظروف المزرية التي يعيشون فيها خاصة في غياب استمرار الأمن في جبال الأطلس وجبال الريف وجنوب المغرب حيث المقاومة نشيطة، كما تمكنت فرنسا من استقطاب بعض أفراد زعامات المقاومات المسلحة وشيوخ قبائل الأطلس المتوسط مثل: مولاي محمد السغروشني وسي سعيد أومحند اللذان كانا يحاربان إلى جانب سيدي رحو، كما زارت المعرض وفود من قبائل مرموشة ألميس واستقبلهم السلطان[19]. وهذه النتيجة سبق للجنرال ليوطي أن حققها من خلال معرض الدار البيضاء لسنة 1915 حيث استقطب السيد عبد السلام من العرائش وهو محمي نمساوي ساهم بشكل فعال في إثارة القبائل ضد فرنسا في منطقة اتصال مجال نفوذها في المغرب مع مجال النفوذ الإسباني[20]، مما يدل على النتائج الكبيرة لهذه التظاهرة الاقتصادية.

خامسا:  تطور نشاط المعرض التجاري لفاس بعد سنة 1916.

     بعد المعرض الأول في سنة1916، أصبح معرض فاس يكبر وينمو سنة بعد أخرى خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وعرف تطوره الكبير في فترة الثلاثينات، حيث اتخذ طابع معرض للصناعة التقليدية والفلاحة والصناعة والتجارة، وتحددت وظيفته في تنشيط وإنعاش الحرف لهذه القطاعات سواء المغربية أو الاستعمارية، كما عمل على فتح الأسواق ليس فقط داخل المغرب وإنما أيضاً خارجه أمام المنتجات بجهة فاس ولتحقيق هذا شجعت إدارة الحماية إنشاء جمعية محلية تعنى بتنظيم هذا المعرض. فما هي أهداف وخصائص هذه الجمعية؟.

تم الإعلان رسمياً عن تأسيس جمعية "لجنة معرض الصناعة التقليدية والفلاحة والصناعة والتجارة المغربية" بفاس بتاريخ 30 نونبر 1934 بعد حصول الجمعية على ترخيص من محكمة الدرجة الأولى بفاس، وحصلت على الموافقة الإدارية بالرباط بتاريخ 1 دجنبر 1934، وقد نصَّ قانونها الأساسي على كونها جمعية ذات استقلال ذاتي، حتى عن المصالح البلدية بالمدينة، فاستقلاليتها تتجلى في عدم خضوعها لوصاية أية جهة سواء غرفة التجارة بالمدينة أو بلدية فاس أو لإدارة الحماية، فهي جمعية تتمتع بكامل الحرية في إدارة شؤونها وفق أهدافها وتصورها الخاص تبعاً لظهير 24 ماي 1940[21]، كما لها صلاحيات في التصرف في ممتلكاتها وإقامة أنشطة المعرض السنوية وصرف أموالها. ووضح بندها الثاني من قانونها الأساسي هدفها المتمثَّل في تنظيم معرض كل سنة لتنمية وتشجيع الصناعة التقليدية بصفة خاصة والفلاحة والصناعة والتجارة بصفة عامة بالمدينة[22]، ويشرف على إدارتها مكتب مسير لمدة سنة واحدة يتكون من رئيس، ونائبين للرئيس، وسكرتير عام، وأمين للصندوق، ويلاحظ عن أعضائها في سنواتها الأولى سيطرة الأوربيين عليها وهيمنة أعضاء غرفة التجارة والصناعة والفلاحة الفرنسية مما أدى إلى نفور المغاربة خصوصاً التجار من المشاركة في هذا المعرض، ولتدارك هذا الخلل اقترح مدير الشؤون السياسية سيكو Sicot على المقيم العام سنة 1941 تعديل البنود المنظمة لعضوية الجمعية وتوسيعها لتشمل أعضاء مغاربة على الشكل التالي[23]:

•        ثلاثة أعضاء يمثِّلون غرفة التجارة والصناعة الفرنسية.
•        ثلاثة أعضاء يمثِّلون الشعبة الأهلية في الغرفة التجارية المختلطة بفاس.
•        عضوان عن غرفة الفلاحة الفرنسية.
•        ثلاثة أعضاء يعينهم رئيس الجهة.

       وقد ساهم هذا التعديل القانوني في فعالية عمل الجمعية رغم المشاكل التي واجهتها إثر نزول قوات الحلفاء بالمغرب خلال الحرب العالمية الثانية فاحتلت هذه القوات مباني المعرض بفاس ما بين 1939 و1941 بالنسبة للقوات الفرنسية ثم تلتها قوات الولايات المتحدة الأمريكية من 1942 إلى و[24]1944، وبذلت الجمعية جهوداً كبيرة لاستعادة هذه المباني.

      ومن المعارض الناجحة التي تم تنظيمها معرض سنة 1935 الذي افتتح رسميا يوم 8 يناير عرف إقبالاً جماهيرياً كبيراً فبلغ عددهم في يومه الأول 8 ألاف زائر، و11 ألف في اليوم الثالث[25]، وأصبح له صدى كبير خارج المدينة ليس فقط في المغرب وإنما أيضاً خارجه في فرنسا والجزائر حيث نظمت حملة اشهارية فيهما للتعريف به، وإظهار أن الحياة لاتزال تدب في فاس[26]، كما زاره الوزير الفرنسي كايار (Gaillard) ولدى وصوله إلى المعرض استقبله السيد الرئيس الشرفي للمعرض السيد بيلو دي مينيير Minieres) Des (Bellot والسيد ماليط (Mallet) عضو لجنة المعرض[27]، ما زاره المقيم العام هنري بونسو (Henri Ponsot) رفقة الصدر الأعظم الحاج محمد المقري[28]، واستهدفت من هذا المعرض الإقامة العامة تحسيس المعمرين بمآزرتها لهم، وكان أداةً اشهارية للمنتجات في حد ذاته بالتركيز على الاشهار بواسطة العرض السينمائي للسلع للنهوض بقطاع الصناعة الأوربية[29]، وعرضت فيه منتجات فلاحية: كالحبوب والحوامض والزيتون والخمور؛ إنها منتجات المعمرين للتعبير على مدى استفادتهم من خيرات المغرب دون المغاربة. واُسْتُغِلَّ المعرض كأداة لمحاربة ارتفاع الأسعار بلجوء المنظمين إلى تخفيض أثمان بعض السلع، وهذه العملية وُجِّهت أساسا ضد المنتجات اليابانية، ولتعزيز التعاون مع الأهالي تم اللجوء إلى توزيع شواهد تقديرية ونقدية على الحرفيين الفائزين في مباراة "الأيام الحرفية"، وساهم هذا المعرض نفسياً في تناسي السكان مشاكلهم والأزمة التي تضرب مدينتهم، وزيادة انبهارهم في الحضارة الأوربية بما تم عرضه من منتجات كهربائية وآلات وما شد انتباههم هو هذه الأبواق التي تطلق أصواتاً أقوى من صوت "الغول".

     ولم يكن لمعرض فاس من أن يحقق أهدافه ويستمر في نشاطه من دون الدَّعم المالي وهكذا دعَّمته الإقامة العامة، فأصبحت الجمعية تتلقى سنوياً مبلغاً مالياً من القسط المالي الذي تمنحه لغرفة التجارة بفاس، كما تخصِّصُ لها بلدية فاس جزءاً من مصاريفها المالية تصل سنوياً إلى زهاء 30 ألف فرنك، كما كان المعرض يحصل على موارد مالية مثل: رسوم كراء أروقة المعرض ورسوم تفرض على الأنشطة الترفيهية المرافقة لهذه التظاهرة. أما مجالات صرف هذه الأموال، فنالت المباني ومرافق المعرض القسط الأوفر حيث تمَّ توسيعها وصيانتها ويوضح الجدول التالي مصاريف معرض فاس.

السنوات

1934

1935

1936

1937

1938

المبالغ المالية (بالفرنك)

189 357,02

40 254,05

61 946,98

76 133,33

77 152,57

السنوات

1939

1940

1941

1942

1943

المبالغ المالية (بالفرنك)

116 061

-         

58 186,61

124 673,61

15 969,70


المصاريف المالية لتنظيم لمعارض فاس ما بين 1934 و1943
 A.M.F., Ville de Fès – Services Municipaux: Note sur la Foire de Fès n° 9987 Cab – Fès , 29 mai 1948.            

  وخلاصة القول مثل المعرض التجاري لفاس أداة نموذجية للتوغُّل  التجاري في هذه المدينة، وتحول مع مرور الزمن إلى سوق يَعُجُّ بمنتجات الصناعة الفرنسية، وملتقى لعرض منتجات الفلاحة الاستعمارية، بجهة فاس ووسيلة لتحسيس المعمرين بمآزرة فرنسا لهم[30]، ولربط اقتصاد المدينة بالاقتصاد الاستعماري خصصت فيه أجنحة لعرض منتجات الصناعة التقليدية المغربية التي بإمكانها تلبية حاجات الفرنسيين ولتحقيق هذا يتم في نهاية كل معرض توزيع شواهد تقديرية وجوائز مالية على الحرفيين الفائزين في "مباراة الأيام الحرفية"[31]، والسُّؤال المطروح هو ماذا استفاد هؤلاء الحرفيين والتجار من هذا المعرض؟.

       وباستثناء بعض الحرفيين الذين ربطوا علاقات تجارية مع دور تجارية أجنبية لتصريف منتجاتهم في الأسواق الفرنسية، نظراً لعلاقاتهم الشخصية وقوتهم المالية فإن غالبية الحرفيين والتجار لم تستفد من هذه المعارض حيث لم يكن باستطاعتهم عرض منتجاتهم في أجنحة المعرض لأن ذلك يخضع لعملية الانتقاء، كما أنهم لم يستفيدوا من بعض التجهيزات الآلية لتطوير أنشطتهم، وفي واقع الأمر فقد كانت هذه المعارض وبالاً على الحرف والأنشطة التجارية التقليدية فمن جهة اطَّلع المستهلك والزبون المغربي على منتجات جديدة أكثر جودةً وأقل سعراً تلبي رغباته وحاجاته فتحوَّل عن المنتوج المغربي لصالح المنتوج الأوربي تدريجياً، وفقدت بذلك الحرف أسواقها الداخلية،ومن جهة أخرى مكنت المعارض الحرف وتجار فاس من اكتشاف الأسواق الخارجية بشكل مباشر في ظروف وشروط لم تكن مستعدة لها فالارتباط بالسوق الخارجي جعلتهم تحت تَقلُّباته.

سادسا: إنشاء المستودع التجاري للصناعة التقليدية بفاس.

      لأجل تنشيط التجارة المرتبطة بالسوق الفرنسي أقدمت إدارة الحماية على إنشاء مستودع تجاري للصناعة التقليدية بالدار البيضاء لمراقبة والإشراف على منتجات الحرف التقليدية، وأحدثت له فروعاً جهويةً في المدن الكبرى مثل: فاس ومراكش ومكناس والرباط والقنيطرة بتاريخ 25 يونيو 1938[32]، وتم إحداثه من قبل الصناديق الجهوية الأهلية للتوفير والاقتراض للمدن السالفة وهذا المستودع في واقع الأمر عبارة عن شركة تعاونية برأس مالي حُدِّد في200 ألف فرنك يوجد مقره في مدينة الدار البيضاء لتشجيع الصادرات الحرفية نحو الخارج وتحديداً السوق الفرنسي.

      ومن بين أهداف المستودع التجاري لفاس  تازة التي وردت في قانونه الأساسي « تشجيع إنتاج الصناعة التقليدية المغربية وتسهيل تسويق منتجاتها، والعمل على تحسين جودتها، وتصريفها بتنسيق مع المكتب الشريف للمراقبة والتصدير ثم البحث عن الأسواق والقيام بالدعاية التجارية، والمشاركة في المعارض الأجنبية »[33]. وهو بذلك يُعَدُّ جهازاً يفتح أمام الإنتاج المحلي الأسواق الخارجية ويسهل على التجار والمصدرين خصوصاً الأوربيين العمليات البنكية في معاملاتهم التجارية. وساهم بذلك هذا المستودع في تنشيط صادرات فاس التي بدأت أيدي التجار الأوربيين تتحكم فيها بدل التجارالمغاربة.

خلاصة.

       بموازاة السيطرة العسكرية الفرنسية على المغرب، بدأت الدولة الحامية بإنجاز مشروعها الاستعماري في البلاد القاضي بتشبيب نفوذها في المغرب واستغلال خيراته الاقتصادية، وكانت أداة تحقيق هذا المشروع هو القطاع التجاري في البلاد والاستيطان الزراعي، فلجأت الإقامة العامة إلى الإشراف على تسهيل انتشار المؤسسات التجارية و المالية والشركات الاستعمارية في البلاد، كما بادرت إلى الاهتمام بالبنية التحتية من طرق وسكك حديدية وموانئ لاستغلال خيرات المغرب لتسهيل ربطه بالميتروبول، واهتمت بالتعمير فشيدت مرافق تجارية بالأحياء الأوربية والأهلية مستجيبة لضغوطات المعمرين. أما على المستوى التنظيمي فأنشأت الغرف المهنية خصوصاً التجارية لتأطير التجار لأوربيين والدفاع عن مصالحهم التجارية وحاولت استقطاب كبار التجار المغاربة بتشجيعهم من الانضواء في غرف استشارية. و على المستوى الهيكلي أحدثت الإقامة العامة مبكرا أجهزة للتجارة الأوربية مركزية وأخرى جهوية، و أنشطة "مهرجان" المعرض التجاري السنوي لترويج المنتجات الفرنسية في هذه الحاضرة و في جهتها، فظهرت و ترعرعت التجارة الأوربية الحديثة في فاس، لترسيخ نفوذها في البلاد باعتبارها آلية سلمية مثلى تحقق ما تعجز عنه فيالق القوات العسكرية، فالاجتياح التجاري أكثر سرعة من التوغل العسكري الذي لايزال إلى عقد الثلاثينات يجابه بمقاومات مسلحة جد شرسة، وقد كانت إدارة الحماية جد واعية بأهميتها في مشروعها الاستعماري و لا أدل على ذلك تنظيمها لمعارض تجارية بالدار البيضاء 1915 و في فاس 1916 والمقاومات المسلحة متأججة في أحواز هذه المدن، مما يدحض فكرة أن التجارة الأوربية استقرت فقط في المدن الساحلية.[34] فالحماية تسيطر على البلاد بالجندي و بالتاجر[35].



[1] - André Lichtenberger, La foire de Fez et le développement économique du Maroc. Imprimerie Rapide, G.Mercié, 1917, p.7.
[2] - جريدة السعادة، العدد 962، الجمعة 23 أبريل 1915، ص.1.
[3] - - Lyautey (P), Lyautey l’Africain…, op.cit., T.3, p.147.
[4] Lyautey (P) , Lyautey l'Africain ,op.cit ,p.147.
[5] - جريدة السعادة،« فاس بالمعرض »،.العدد 1072،السبت 25 يناير1915.
[6] - Lyautey, Lyautey l’Africain …, op.cit, p.148.
[7] - André Lichtenberger, La foire de Fez…,op.cit, p.7.
[8] - A.M.F., Avis : Une Foire à Fès, Fès, le 22mai 1916.
[9] - Lyautey, Paroles d'Action (1900 - 1926). Edition, La Porte 1995, p.234.                
[10] - André Lichtenberger, La foire de Fez..., op.cit., p.6.       
[11] - Ibid., op.cit., p.1.
[12] - Ibid.
[13] -André Lichtenberger, La foire de Fez …,op.cit.,p.7Ibid. , p7.
[14] - Ibid. , p7.
[15] - André Lichtenberger, La foire de Fez …,op.cit.,p.7Ibid. , p7.
[16] - André Lichtenberger, La foire de Fez …,op.cit.,p.7
[17]- Ibid., p.9.
[18] - Lyautey, Lyautey l’Africain, op.cit., T.2, p.149.     
[19] - Lyautey , Lyautey l’Africain..., op.cit., T.2, p.149.
[20] - Lyautey , Lyautey l’Africain..., op.cit., T.2, p.149.
[21] - A.M.F., Lettre du M. Maitre à Monsieur le Ministre Plénipotentiaire Délégué à la Résidence Général. (Objet :Association – Comité de la Foire), n° 705. Rabat, le 18 janvier 1940.
[22] - A.C.C.I.F., Statut du Comité de la Foire de l’Artisanat, de l’Agriculture, de l’Industrie et du Commerce marocain à Fez, n° AC 57817,1934.
[23] - A.M.F., Résidence Générale de France au Maroc, Direction des Affaires Politiques, Foire de Fès, n° 2411DAP/S, Rabat le 3avril 1941, p.1.
[24] - A.M.F., Ville de Fès - Délégation aux Affaires Urbaines, Services Municipaux : Note (Foire de Fès ), n° 9987Cab, Fès le 29 mai 1948, p.2.                  
[25] - C.M., du, 10 /1/1935.
[26] - - La Vigie Marocaine, du 9/1/1935.
[27] - C.M., 16/1/1935.
[28] - C.M., 20 janvier 1935.      
[29] - Echo du Maroc du, 9/1/1935.
[30] - Décision Résidentiel, du 2 septembre 1916, in. B. O., n° 204, du 18 septembre 1916, p.920.
[31] - C.M., du 16 janvier 1935.
[32] - A.M.F., Statut du Comptoir Artisanal marocain ,le 25 juin 1938
[33] - Ibid.
[34] - انظر على سبيل المثال تحليل :
-M.Bertrand Desmazieres ,« L'évolution des grands courants d’échanges … », op.cit.,p.18.
[35] - نفتقر إلى  دراسات تبرز ثنائية الاحتلال الفرنسي للمغرب بين التوغل العسكري و التسرب التجاري.