مؤسسة الزاوية بالمغرب من الدور الاجتماعي إلى الدور السياسي ـ إسماعيل اليوسفي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Anfasse02134  يفهم من خلال الكتابات التاريخية [1] ، أن ظهور الزاوية  جاء متأخرا عن الرباط . الذي اضطلع بأدوار جهادية خلال الفتح الإسلامي متمثلة في نشر الإسلام ، ومحاربة أهل البدع . وقد وردت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم  تحبب المرابطة ، والحراسة في سبيل الله ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، قوله عليه السلام : « كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر »[2]. وكذا قوله صلى الله  عليه    وسلم  : « رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه في المنازل »[3].

       ولعل ما يجمع هذه الأحاديث على كثرتها ، هي جعل الرباط والمرابطة من أجلَ الاعمال ، لذلك هبَ ثلة من الصلحاء ، وأهل الصلاح بالمغرب إلى تشييد مجموعة من الرباطات للحراسة في سبيل الله والذود عن الإسلام ، وقد ذكر صاحب التشوف(توفي سنة 627/1230) مجموعة من الرباطات من بينها رباط شاكر الذي ترجع الكتابات التاريخية أمر تشييده ، إلى أحد أصحاب عقبة بن نافع الفهري « وان يعلى بن مصلين الرجراجي بناه وكان يقاتل كفار برغواطة وغزاهم مرات »[4] . كما استنفر الناس للجهاد ، و"حارب برغواطة وحذر الناس من معتقداتهم كما استنهض الهمم من أجل محاربة امارة تامسنا . إلى جانب "رباط شاكر" نجد  "رباط تيطنفطر"، وهو من أقدم الرباطات بالمغرب ، "رباط الحجر"[5] . إلى حدود هذا التاريخ، ظل دور الرباط يختزل في الجهاد، والحراسة .


        لكن هذا الدور سيتسع في العهد المرابطي وستزداد الرباطات أهمية خلال هذا العهد، وقد اعتمد زعيم المرابطين عبد الله بن ياسين، على الرباط كمكان وفضاء لتصحيح عقيدة صنهاجة وتفقيههم في أمور الدين "[6]. بذلك تكون الرباطات في العهد المرابطي رابطة علمية ، تربوية ، تسعى  إلى نشر الدين الإسلامي ، في إطار المذهب المالكي ،  لذلك لا ضير أن نجد بعض الكتابات التاريخية ، ترجع أصل تسميتهم بالمرابطين إلى الرباط الذي أسسه عبد الله بن ياسين ، «...لما اجتمع إلى عبد الله بن ياسين من أشراف صنهاجة نحو ألف رجل سماهم المرابطين للزومهم رابطته...»[7].  من هنا يتضح دور الرباط في تاريخ المغرب الذي أفرز النواة الأولى للدولة المرابطية التي استطاعت فيما بعد بسط نفوذها على الغرب الإسلامي وتوحيده لأول مرة في ظل الحكم الإسلامي المستقل عن المشرق .

      إلى جانب الرباط ،  ظهر في العهد الموحدي ، خاصة في عهد يعقوب المنصور ، ما يعرف بدار الكرامة ، ونجد في المصادر التاريخية ما يعزز هذا الطرح ، حيث تتفق هذه المصادر في جعل هذا السلطان من أهل الكرم والجود. «...لما تمت له البيعة وطاعت له الأمة كان أول شيء فعله أن أخرج مائة ألف دينار ذهبا من بيت المال ففرقها في الضعفاء من بيوتات المغرب...»[8].  وكان دور دار الكرامة انذاك  إطعام الطعام للمعوزين وابن السبيل .

      بعد زوال الدولة المومنية وبزوغ فجر بني مرين ظهر ما يعرف بالزاوية ، حيث ورثت الجهاد عن الرباط ، دون إلغاء هذا الاخير، وورثت إطعام الطعام، عن دار الكرامة . لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماهي العوامل التي ساهمت في ظهور الزاوية بالمغرب خلال هذا العهد؟ وما هي الظروف التي أفرزت هذه المؤسسة ؟

      إن تحديد اللحظة الزمنية لظهور الزوايا ، مجانب للحقيقة التاريخية ، ومخالف للصواب ، إذ لا يمكن اعتبار الزاوية صنيعة العهد المريني حيث يجب أن نفرق بين تداول المصطلح ، وتطوره ، بالفعل فقد ظهرت الزوايا كمصطلح في العهد المريني وتطورت كمؤسسة فيما بعد ، على الرغم من اهتمام سلاطين بني مرين بإنشاء الزوايا «...قام السلطان أبو عنان(752 - 759هـــ/1351-1357م)  بإنشاء العديد من هذه الزوايا خارج المدن المغربية لتكون بمثابة دور للضيافة ينزل فيها الرحالة والمسافرين على اختلاف طبقاتهم من أهمها الزاوية التي أقامها بسلا ، وأطلق عليها ابن الخطيب زاوية سلا ، أو زاوية النساك وقد تم بناؤها في 27 شعبان 757 ه /25 اغسطس 1356...»[9]. ومن يمعن النظر في  الزوايا التي شيدها أبو عنان ، أو سلفه أبو الحسن،(731-752/1331-1351) سيستنتج لا محالة أن وظيفة هذه الزوايا مقتصرة على إيواء المتجول وإطعام المسافر وهذا ما يفسره لنا محمد ابن مرزوق التلمساني المتوفي سنة 781هـ/1379م الذي خص الفصل الثاني والاربعين من كتابه ــــــــــ"المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا ابي الحسن" ــــــــــ للكلام عن الزوايا التي شيدها السلطان المريني أبو الحسن وقال عن وظيفتها : «...والظاهر أن الزوايا عندنا في المغرب هي المواضع المعدة لإرفاق الواردين واطعام المحتاج من القاصدين ...»[10]  من هنا يتضح أن نية سلاطين بني مرين من إنشاء الزاوية ، لم تتجاوز اطعام الطعام، واستقبال أبناء السبيل، وبعض موظفي الدولة، رغم كثرة هذه المنشآت «...بنى ملوك بني مرين عددا من الزوايا في مختلف أرجاء مملكتهم لاستقبال الغرباء والمسافرين والموظفين المتنقلين...»[11].

       إن قصد بني مرين من انشاء الزوايا ، هي جعلها بمثابة دور لاستقبال الغرباء والوافدين ، من الخارج و من كبار الدولة وأعيانها ، فالغرض الاول من تشيدها إذا  كما يتضح أبعد ما يكون عن الهدف الصوفي ، الذي اتجهت اليه فيما بعد خاصة في عهد بني وطاس حيث ساهمت مجموعة من المتغيرات التي طرأت على الساحة المغربية ،  من بروز الزوايا ، وظهورها كمؤسسة فاعلة في التاريخ المغربي .

          يأتي على  رأس هذه المتغيرات ضعف السلطة المركزية ، الذي شجع القوات الإيبيرية من الانطلاق في عمليات الغزو والاستعمار للسواحل المغربية ، وبموازاة ذلك كانت سيمة العصر هو انتشار الحركة الصوفية بالمغرب على نطاق واسع «...في عهد الوطاسيين بدأ انتشار الطرق و الزوايا في المغرب بشكل لم يسبق له مثيل...»[12]. والسبب في ذلك هو اختمار الفكر الصوفي ومغربته عن طريق الطريقة الجزولية مع شيخها "محمد بن سليمان الجزولي[13]."  ومن بين التعاريف التي اعطيت للطريقة ،  بأنها سلم الوصول الى النجاة والسعادة ،  مع مجموعة من الشعائر والممارسات والاذكار ، التي تختلف فيها كل طريقة عن الاخرى في بعض التفاصيل لذلك لجأ أئمة التصوف لتحديد طرقهم ووضعوها على مقتضى الاداب الصوفية ، وانتهت طريقة كل منهم الى أن أصبحت تدل على الحياة داخل الجماعة الصوفية القائمة على سلسلة من الوصايا الخاصة[14]." كما اشتهرت هذه الطرق بزواياها وانتظمت داخلها ورفعت لواء الجهاد ضد الإيبيريين الذين تحرشوا بالسواحل المغربية بفضل قوتهم من جهة وضعف السلطة المخزنية من جهة ثانية .

       من خلال هذه المواقف أبان التصوف المغربي عن خصوصيته حيث انخراط في الحياة العامة للمغاربة وشارك  في الدود عن بيضة الاسلام ، كما فندت الزاوية تللك الاقوال التي تنعتها بأنها تشبه الدير في العصور الوسطى[15]." وتشير بعض الدراسات[16]  أنها مؤسسة منخرطة في المجتمع ، متبنية لقضاياه ، حاملة لهمومه ، وأبرز مثال على ذلك أن الزاوية لم تتبنى موقف المتفرج إزاء ما يحدث  بل تبنت موقف المدافع المستميت عن حوزة المغرب ضد أي عدو خارجي ، كما كان لهذه الزوايا نفوذ روحي بالغ حيث وجد المغاربة في هذه المؤسسات ملاذا لسمو الروح وعلوها وطهارتها في اتباع الطرق الصوفية التي تحتضنها الزوايا ، وإلى جانب الدور الروحي لعبت الزاوية دورا سياسيا بارزا في تاريخ المغرب ، هذا الدور سيبلغ ذروته أثناء الفراغ السياسي الذي خلفه ضعف السلطة المركزية الضامنة لتماسك القطر المغربي ، لذلك برزت الزوايا وأطرت المجتمع ، وملأت الفراغ السياسي ،  «...في هذا الجو من الانحطاط والتمزق برزت الزوايا كقوى سياسية واقتصادية واجتماعية أخذت على عاتقها مسؤولية ملء الفراغ السياسي وعملت على تأطير المجتمع وتزعمت حركة الصمود والجهاد ضد الغزاة الأجانب . وحاربت كل المتعاملين معهم ، معتبرة ذلك من أوجب الواجبات...»[17].

        انتتشر نفوذ وتعاليم الزوايا  في جميع أرجاء المغرب في السهول  كما في الجبال ، و قد كان لواحات وادي درعة نصيب كبير  في احتضان هذه الزوايا ،  خاصة بعد الانتشار الواسع للطريقة الجزولية بدرعة والتي قادت حملات الجهاد ضد الإيبريين في الثغور المغربية ، وكتتويج لذلك تمكنت من تنصيب أحد أتباعها والدفع به إلى الاستيلاء على السلطة .

       فلا نبالغ في شيء إذا قلنا أن الدولة السعدية تأسست  بإيعاز من الزوايا التي أثارت الدفع بالأشراف السعديين نحو السلطة ، بذلك تكون الزاوية ساهمت بقلب موازين الحكم بالمغرب من سلطان عصبوي ظل ميزة الحكم بالمغرب الوسيطي ، يستمد سلطته من العصبية القبلية إلى سلطان شرفاوي يستمد شرعيته من الأصل الشريف ويستند إلى قوة الزاوية .

        إن هذا الامر هو الذي جعل أحد الباحثين يرى أن من بين أسباب انبثاق الزاوية  كمؤسسة سياسية  يرجع بالأساس الى سيطرة الخيار الشرفاوي الذي ستنطلق معه مرحلة جديدة من الصراع بين المخزن الهادف إلى احتكار السلطة ، والقبيلة التي ترغب في المشاركة السياسية الشيء الذي حدا  بها إلى افراز  الزاوية . «...إن ظروف القرن الخامس عشر الميلادي ، وما عرفه المغرب من تحولات طرأت على بنياته وتوجهاته، ثم انبثاق مؤسسة السلطان"الشريف" في القرن السادس عشر الميلادي وما انتهجته هذه المؤسسة الجديدة من سياسة دينية ترمي الى الاحتكار المطلق للسلطة هو ما سيفضي بمؤسسة القبيلة المستهدفة بالدرجة الاولى من التحولات الاجتماعية والسياسية الجديدة إلى فرز تنظيمها الذي يعمل على حماية كيانها ألا وهو الزاوية...»[18].من هنا يظهر أن الزاوية جاءت كرد فعل لما يعيشه المغاربة من تحولات سياسية إبان القرن  الخامس عشر .

[1] محمد بن مرزوق التلمساني، المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا ابي الحسن ، تحقيق وتقديم ماريا خيسوس بيغرا ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، الجزائر،1981.
[2] أبو عيسى محمد بن عيسى الترميذي ، الجامع الكبير ، المجلد الثالث ، تحقيق بشار عواد معروف ، دار الغرب الاسلامي ، بيروت ، 1996 ، ص. 264 ــ 265 .
[3] نفسه ، ص. 197 .
[4] يوسف بن يحي التادلي بن الزيات ، التشوف الى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي ، تحقيق أحمد التوفيق ، منشورات كلية الادب ، الرباط ، الطبعة الثانية ، 1997، ص. 51ــ 52 .
[5] يقع رباط الحجر بدرعة ،  ضمن مجال واحة ترناتة ، ويقع بين قصر أولاد وشاح وزاوية القاضي .
[6] أحمد بن خالد الناصري ، الاستقصا لأخبار دول المغرب الاقصى الجزء الثاني ، تحقيق وتعليق جعفر الناصري ومحمد الناصري ، دار الكتاب ، الدار البيضاء ، 1956 ،   ص. 100
[7] نفسه .
[8]علي بن عبد الله  بن أبي زرع الفاسي ، الانيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس ، مراجعة عبد الوهاب بن المنصور، الطبعة الملكية ، الرباط ، 1999، ص. 152.
[9] علي حامد الماجري ، المغرب في عصر السلطان ابي عنان المريني ، دار النشر المغربية ، الدار البيضاء ، 1986،  ص.248.
[10] محمد ابن مرزوق التلمساني ، المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن ، مصدر  سابق ، ص.412.
[11] ابراهيم حركات ، المغرب عبر التاريخ ، الجزء الثاني ، دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاء ، 1984، ص. 138 .
[12] نفسه ، ص.187.
[13] هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر بن سليمان، بن داود، توفي عام 1465م، وهو من قبيلة جزولة بسوس الأطلس الصغير، درس بفاس بمدرسة الصفارين، ثم رحل إلى تونس والمشرق، وعاد بعد عدة أعوام إلى فاس، فألف كتابه "دلائل الخيرات" وبدأ ينشر طريقته في حاحا، فتجمع حوله آلاف المريدين؛ الشيء الذي أقلق خصومه الذين قاموا بقتله .
[14] عبد العزيز شهبي ، الزوايا والصوفية والعزابة والاحتلال الفرنسي في الجزائر ، دار الغرب للنشر
 والتوزيع ، ص.97.
[15]أحمد الشنتناوي و ليفي بروفنسال ، الزاوية ، موجز دائرة المعارف الاسلامية ، المجلد 17 ، مركز الشارقة للابداع الفكري ، 1998 ، ص.5239 ــــ 5242 .
[16] محمد حجي ، الزاوية الدلائية  ودورها العلمي والسياسي ، المطبعة الوطنية بالرباط ، 1964 ، ص. 26 .
[17] عبد المجيد قدوري ، المغرب وأوربا مابين القرنين الخامس عشر والثامن عشر (مسألة التجاوز ) ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 2000 ، ص. 117.
[18] محمد ضريف ، مؤسسة السلطان "الشريف"بالمغرب محاولة في التركيب ، إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء .ص.84.