ابن رشد في فكر رواد الإصلاح في النهضة العربية الحديثة ـ مولاي رشيد غلابي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse01085يختلف الباحثون في تحديد اللحظة التاريخية التي يمكن أن يطلق عليها بداية النهضة العربية، لكنها على العموم لحظات متقاربة تتراوح بين الحملة الفرنسية، بقيادة نابليون، على فلسطين ومصر (1798-1801) و ولاية محمد علي على مصر (1805) وإطلاقه مشروعه الإصلاحي الذي عم نظام الحكم، والجيش، والإدارة، والتعليم، والصناعة، والزراعة وغيرها.
وإذا كان من الصعب تحديد تاريخ معين للانتقالات التاريخية الكبرى، كونها لا تقع في لحظة زمانية واحدة، كما أن حركية التاريخ لا تسير في خط مستقيم متصل بنفس الوتيرة في الزمان والمكان بل يكتنفها كثير من التداخل بين المراحل والتمفصلات التي يحددها المؤرخون والتي لا تعدو في النهاية أن تكون تقسيمات منهجية تتوخى الاقتراب من الواقع لا كونها تقسيمات موضوعية عامة وشاملة، فإن لحظة الالتقاء بين الحضارة العربية الإسلامية التي كانت في طور متقدم من أطوار الانحدار والحضارة الغربية الحديثة التي كانت في طور الصعود قد شكل لحظة فارقة في حياة الأمة وفي وعي النخبة.
لقد بدأ منذ هذه اللحظة الوعي بالتقابل بين القديم الموروث والجديد الوافد، وعي تزامن وترابط مع الوعي بضرورة الإصلاح والتماس أسباب النهوض للخروج من طور الانحطاط، فانقسم دعاة الإصلاح في الوطن العربي إلى فرقتين: أنصار القديم وأنصار الجديد، وفرقة ثالثة من دعاة التوفيق بين القديم والجديد.

ومن هذه المقابلة بين ثنائية القديم والجديد تناسلت جميع الثنائيات التي شغلت، وما تزال، الفكر العربي المعاصر من قبيل: التراث والتجديد، الأصالة والمعاصرة، النص والتأويل، الدين والفلسفة، التقليد والإبداع، التنمية والتخلف ...

ولا غرو أن يكون التراث ساحة رئيسية لهذه المعارك الفكرية، فيخضع لقراءات متعددة وتأويلات مختلفة تخدم هذا الاتجاه أو ذاك. فسواء كان الباحث في التراث من أنصار القديم أومن أنصار الجديد فهو يبحث عن مشروعية من داخل التراث نفسه ويبحث عن سلطة مرجعية يسند إليها رؤيته واجتهاده.

ولم يكن هناك أفضل من أبي الوليد ابن رشد صاحب كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" للتخاصم حوله: هل كان من أنصار الحكمة أومن أنصار الشريعة أومن أنصار التوفيق بين الحكمة والشريعة؟
لم يعش ابن رشد (520هـ - 1126م/ 595هـ - 1198م) واقعا مماثلا للذي نعيشه منذ قرنين من الزمن، فالعالم الإسلامي في عهده وحتى القرن الرابع عشر كان متفوقا على أوربا في ميادين العلوم والفكر والفلسفة والاقتصاد[i]؛ ولم تكن الحكمة التي سعى في طلبها علما حديثا بل كانت حكمة قدماء اليونان، و إنما يصح الشبه من جهة اشتغاله على ضبط العلاقة بين الحكمة والشريعة، بين العقل والنقل، بين البرهان والوحي، وإن شئت فقل بين الفلسفة والدين.
ولد ابن رشد[ii] بمدينة قرطبة إحدى الحواضر الثقافية الكبرى في تاريخ الإنسانية إذا ذكرت ذكرت معها بغداد والإسكندرية والقاهرة وروما وأثينا، ولد بها وهي ما تزال في عصرها الذهبي في أسرة بني رشد العريقة في العلم، فقد كان أبوه فقيها قاضيا بالمدينة، وجده قاضيا للقضاة، كما أصبح هو فيما بعد قاضي الجماعة بها. تلقى دروسه الأولى في بداية حياته العلمية في الفقه والأصول والحديث وعلم الكلام على يد أشهر فقهاء الأندلس، من بينهم والده، الذي قرأ عليه موطأ مالك، وأبو القاسم بن بشكوال وأبو مروان بن مسرة وأبو بكر بن سمحون وأبو جعفر بن عبد العزيز؛ ثم انصرف إلى العلوم الحكمية بهمة شديدة فأخذ الفلسفة عن أبي جعفر هارون الترجالي، وأخذ الطب عن أبي مروان عبد الملك بن جربول.

وقد برع في كل العلوم التي درسها، فقد روي عنه أنه "كان يُفزع إلى فتواه في الفقه كما يفزع إلى فتواه في الطب"، لكن غلب عليه الاشتغال بعلوم الأقدمين، وأعجب بالمعلم الأول أرسطوطاليس أيما إعجاب حتى عده أعظم عقل عرفته الإنسانية حتى أنه لو اجتمعت عقول سابقية ولاحقيه لما أضافت لما أتى به شيئا، وكان يعده منحة ربانية حتى أنه كان يرى أن العناية الإلهية هي التي أبرزته ليكون للناس نموذج الإنسان الكامل[iii].
 ولا أستطيع أن أحدد على وجه القطع السبب الذي أدى به إلى الشغف بعلوم الأوائل: أهوالحركة الثقافية والعلمية التي عرفتها في عهده الأندلس عامة وقرطبة خاصة ومصاحبته لابن زهر وابن الطفيل وقرب عهده بالفيلسوف الكبير ابن باجة، أم هو طلب الأمير الموحدي أبويعقوب يوسف بن عبد المومن بن علي الكومي(558هـ - 580هـ) منه رفع القلق عن عبارة أرسطو حتى يسهل مأخذه على الناس، أم هو تهممه بما آل إليه المسلمون من تفرق وتمزق أحزابا وشيعا بسبب تخاصم الفرق الكلامية ورومه إصلاح هذا الوضع بالكشف عن مناهج الأدلة في حق العامة والخاصة.
وأيا يكن السبب، فقد أنجز ابن رشد عملا موسوعيا تاريخيا بشرحه لعموم أعمال أرسطو جعله بالفعل جسرا حضاريا بين الحضارة اليونانية الإغريقية القديمة والحضارة العربية الإسلامية، ثم الحضارة الأروبية اليهودية والمسيحية فيما بعد.
هذا العمل الذي قام به ابن رشد، وبطلب من الأمير الموحدي أبي يعقوب يوسف لم يكن سببا لتكريمه من ولده يعقوب المنصور(580هـ - 596هـ)، بل على العكس، كان سببا، مباشرا على الأقل، في نكبته ونفيه وإبعاده. فقد عاب عليه بعض فقهاء زمانه اشتغاله بعلوم الأقدمين، وسعوا إلى الأمير ببعض أوراق من كتبه يفهم منها قوله أن الزهرة أحد الآلهة! وقد رويت أسباب أخرى لنكبته ليس غرضنا البحث فيها هنا بقدر ما يهمنا أنه حوكم في المسجد بمحضر من السلطان والفقهاء أصحاب عريضة الاتهام فحكم عليه بالنفي، هو وأصحاب له، بتهمة الاشتغال بالفلسفة إلى قرية كان يسكنها اليهود تدعى أليسانة، ودامت محنته أزيد من عامين دعاه بعدها يعقوب المنصور إلى مراكش وقربه، لكن ما لبث أن وافاه أجله.

انتقل ابن رشد عبر كتبه إلى مصر قبيل وفاته، عن طريق أحد علماء اللاهوت اليهود هو موسى بن ميمون وتلميذه يوسف بن يهوذا. وانتقل إلى أوروبا عبر صقلية وملكها فريدريك الثاني (1197-1250) الذي كان شغوفا بعلوم العرب وحريصا على نقلها إلى الأوروبيين فجعل من قصره مكتبة ودارا للترجمة، ومن أشهر المترجمين الذي عملوا لديه ميخائيل سكوت. كما دخل ابن رشد أيضا إلى أروبا عن طريق اليهود الذي استفادوا من أجواء الحرية التي نعموا بها في ظل الأندلس الإسلامية، والتي مكنتهم من التنقل والتجارة الشيء الذي يسر لهم مخالطة الأوروبيين والعرب في الوقت نفسه فتعلموا اللسانين العربي واللاتيني فكانوا الجسر الذي انتقلت عبره العلوم العربية.

وإذا كانت الموسوعة التي أنجزها ابن رشد على المتن الأرسطي هي السبب المباشر في نكبته فإنها هي التي بوأته منزلة الشارح الأكبر عند الأوربيين. لكن هذا لا يعني أن الطريق أما ابن رشد في أوروبا كان مفروشا بالورود، بل كان موضوع جدل عنيف بين الفلاسفة وعلماء اللاهوت والأدباء والمفكرين ما بين خصم منصف، وعدو لدود، ومؤمن مخلص، ومتذرع مجدف. وفي كل الأحوال فقد شغل ابن رشد أروبا زمنا يزيد على الأربعة قرون أسس فيها مدرسة أصبحت تعرف بالرشديين اللاتين كما صدرت في حقه قرارات كنسية تدينه وتمنع قراءة كتبه أوتدريسها والنظر فيها وتصفه بالكافر المجدف الملحد.
 ظل ابن رشد الموضوع الرئيسي للتفلسف طيلة هذه القرون، حتى قيل "إن الطبيعة لا تفهم بدون أرسطو وأرسطو لا يفهم بدون ابن رشد". ثم جاء على أوروبا زمن تجاوزت فيه أرسطو بعد تقدمها على طريق البحث العلمي الوضعي واشتغالها بطرائقه ومناهجه مع كل من ديكارت وفرنسيس بيكون صاحب الأرغنون الجديد، وأصبح الأرغنون القديم والفلسفة الأرسطية عموما موضوعا للتنذر بين العلماء والأدباء.
أحدثت أوروبا القرن السابع عشر وما بعده قطيعة معرفية مع العلم القديم، فلم يعد ابن رشد موضوعا للتفلسف بل أصبح موضوعا للبحث الأكاديمي بما هو مرحلة من مراحل تطور الفكر الإنساني، لكنها مرحلة أصبحت تنتمي إلى الماضي. وعن طريق البحث الأكاديمي الاستشراقي عاد ابن رشد ليدخل إلى الوطن العربي من جديد، لكن هذه المرة ليس وحده بل معه تاريخ طويل للحركة الرشدية.

لم يدخل ابن رشد العالم العربي موضوعا للبحث الأكاديمي بل دخل ليستأنف كونه موضوعا للتفلسف، وكأنه وجد هنا الشروط التاريخية لإعادة إنتاج الحركة الرشدية من جديد. وكان أول استدعاء لابن رشد على أرض مصر من قبل مفكر لبناني مسيحي ماروني هو فرح انطون، سنة 1902م، على صفحات مجلته "الجامعة" هذا الاستدعاء الذي كان سببا في فتح مناظرة بينه وبين الشيخ محمد عبده حول ابن رشد وفلسفته بإيعاز من تلميذه رشيد رضا صاحب مجلة "المنار" والذي رأى فيما ينشره انطون اعتداء على الإسلام وعلى الدين.

انطلق الشيخ محمد عبده يرد على فرح انطون على صفحات مجلة "المنار" مدافعا عن ابن رشد، أو بالأحرى عن رؤيته لابن رشد. وقد رسمت هذه المناظرة الطريق لاتجاهين في قراءة الفيلسوف الوافد، اتجاه حداثي يرى فيه باعث التنوير في أوربا - بما يعنيه التنوير الأوروبي من معارضة للفكر الديني - ويتحدث عن مفارقة نكبة ابن رشد في وطنه واستقباله رائدا وزعيما في أوروبا؛ واتجاه سلفي تراثي يرى فيه فيلسوفا عربيا إسلاميا ورائدا للعقلانية الإسلامية.
سبق وأشرنا إلى أن ابن رشد عاد للوطن العربي ليستأنف كونه موضوعا للتفلسف من جديد، وهكذا عاد فرح انطون ليطرح موضوعات الفلسفة الرشدية في دائرة النقاش والجدل الذي انتهى في أوروبا قبله بحوالي ثلاثة قرون. وكانت القضية الأولى، والتي اعتبرت المدخل لإعادة تأويل وقراءة ابن رشد هي القول  بالحقيقتين، فذهب انطون إلى أن ابن رشد كان يقول بازدواجية الحقيقة، وأن الحقيقة الدينية هي غير الحقيقة الفلسفية، وأن لكل من الحقيقتين مجالها الخاص ولذلك وجب علينا التمييز بين ابن رشد الفقيه الخاضع للتقاليد القديمة وبين ابن رشد الفيلسوف صاحب الفكر الحر، ذلك أن ابن رشد إذا كان يكتب "كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجراءة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي."[iv] ومن المعلوم أن هذه القضية هي التي رفعها الرشديون اللاتين في وجه الكنيسة من أجل انتزاع حقهم في حرية التفكير، وذلك بأن يسلموا لرجال الدين بما معهم من الحقيقة الدينية وأن يسلم هؤلاء بما تمتلكه الفلسفة من حقيقة في مجالها، فالحقيقة الدينية تنبني على الاعتقاد الإيماني والتسليم القلبي في حين تنبني الحقيقة الفلسفية على البرهان والنظر العقلي، وقد كان هذا المدخلَ الفلسفي للدعوة العلمانية للتفريق بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية.

هكذا انقلب ابن رشد مع فرح انطون إلى فيلسوف علماني صاحب "مذهب مادي قاعته العلم"[v] إذا أردنا الوقوف على حقيقة مذهبه فعلينا أن نبحث عنها في كتبه الفلسفية الموجهة إلى الخاصة لا في كتبه الدينية التي كتبها للجمهور الذين لا ينبغي ولا يجوز أن يصرح لهم بالحقائق البرهانية الفلسفية لأنهم قاصرون عن إدراكها. وهكذا نجد ابن رشد يقول بقدم العالم، وأن الله لا يعلم الجزئيات، وأن الله يتصل بالعالم عن طريق العقل الأول، وأنه يقول بوحدة العقل وما يستلزمه من قول بفناء العقل الفرد وإنكار البعث، ويقول بالسببية وما ينتج عنها من إنكار خلق الأفعال.

أراد فرح انطون أن يثبت الرؤية الرشدية التي تقول بأن الإنسان مستقل بإرادته وبفعله في هذا العالم. فالعالم قديم، والله لا يَخْلق من عدم، والخلق إنما هو عبارة عن تحويل مستمر للمادة عن طريق التحريك، وكل شيء خاضع لقانون السببية: فالنار هي التي تسبب فعل الإحراق لا أن الله هو الذي يخلق فعل الإحراق عند وجود النار، فلو كان الله هو الذي يخلق فعل الإحراق لكان يقدر على الخلق من عدم في حين أن "الكون إنما صنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة بعضها ببعض وكلها مرتبطة ارتباطا مبهما بقوة عليا"[vi]. والله لا يعلم الجزئيات إلا بعلم غير مجانس لعلمنا وذلك "دليل على أنه لا يدبر العالم مباشرة. فشأنه في ذلك شأن حاكم المدينة فإنه مصدر النظام فيها ولكن ليس له مداخلة في كل شأن من شؤونها مباشرة."[vii] فهو لا يتصل بالعالم اتصالا مباشرا ولكن يتصل به عن طريق العقل الأول. والعقل الإنساني عقل واحد بالنوع وهذا العقل وحده هو العقل الخالد وبه يكون خلود الإنسانية، وأما العقل المتعدد المتصل بالأفراد فإنه يتلاشى بتلاشي الأفراد ويفنى مع فناء جسم الإنسان، "إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية. فالإنسانية إذا هي خالدة وحدها دون سواها. وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية."[viii].

هذه هي خلاصة صورة ابن رشد في فكر فرح انطون، فما هي صورته في فكر الشيخ محمد عبده؟

إن صورة ابن رشد في فكر محمد عبده صورة مقابلة لصورته في فكر فرح انطون مقابلة الفلسفة المادية للفلسفة الإلهية، فهنا نجد ابن رشد فيلسوفا إلهيا "ومذهبه مذهب إلهي قاعته العلم"[ix] وليس فيلسوفا ماديا، ولا مذهبه مذهب مادي. فـ"أول مميز للإلهيين عن الماديين أن الأولين يقولون بوجود واجب بريء من المادة والماديات ... وابن رشد من مقرري مذهب أرسطو، فهو من الإلهيين."[x].

وابن رشد عند محمد عبده لا يقول بقدم العالم[xi] على الصورة التي يقول بها فرح انطون، فـ"كون المادة صادرة عن موجد لم يختلف فيها المتكلم والفيلسوف الإلهي. فأرسطو يقول: إن المادة قد استفادت وجودها من موجدها وهو الواجب"[xii]، والله سبحانه وتعالى خلق الكون من العدم، فإنه "لم يكن سوى وجود خالق الكون، ثم إنه أراد إيجاد الكون فأوجده من العدم البحت"[xiii]. وهو لا يقول بأن الله عز وجل لا يعلم الجزئيات، شأنه في ذلك شأن كل المليين من متكلمين ولاهوتيين، الذين ينفون عن الله الاختيار بمعنى التردد في الغايات ثم ترجيح إحداها، مبالغة في التنزيه، أما الاختيار بمعنى أن الفعل صدر عن علم العالم دون إكراه عليه فذلك لا ينفيه أحد منهم، "فقد ذهب جمهورهم والمعول على رأيه عند قومه منهم أن علم الله محيط بالكليات والجزئيات أزلا وأبدا، وقد تعلقت إرادته بتخصيص كل كائن بما هوعليه على حسب علمه، وعلمه لازم لذاته، أزلي بأزلية ذاته، وكل ما يكون في الكون لا بد أن يقع على وفاق علمه الأزلي جل شأنه، فلا تردد عنده بين الغايات، بل ما يصدر عنه اليوم كان لابد أن يصدر عنه. والأسباب والمسببات وارتباط بعضها ببعض مما انتظم في علمه، فهي تصدر عنه على حسب ترتيبها في العلم"[xiv] فالله سبحانه وتعالى هو مدبر الكون ومسبب الأسباب. وهو لا يقول بوحدة العقل "فإن أرسطو وابن رشد لا يقولان بعقل يُسمى عقل الإنسانية العام، بل كان ذلك من مزاعم أفلاطون، التي عني أرسطو بإبطالها، وتبعه ابن رشد"[xv] وتبعا لذلك فهو لا يقول بفناء النفس ولا هو ينكر البعث، بل هو "قائل بخلود النفس وسعادتها وشقائها وعذابها ونعيمها، كما رأيت."[xvi].

هذه هي الصورة التي ظهر عليها ابن رشد في العالم العربي مع مطلع القرن العشرين، وهي كما ترى صورة شديدة التناقض، ومع تقدم البحث والتناظر حول ابن رشد والرشدية زاد التنوع والاختلاف، فإذا كنا قد تابعنا كيف تحول ابن رشد إلى فيلسوف علماني مع فرح انطون وإلى فيلسوف إلهي مع محمد عبده فإنه تحول مع طيب تيزني إلى فيلسوف ماركسي ومع حسن حنفي إلى فيلسوف حضاري ومع حامد أبوزيد إلى فيلسوف هرمنيوطيقي ومؤسس لعلم التأويل ومع عابد الجابري إلى رائد مدرسة فلسفة مغربية عقلية برهانية في مقابل المدرسة العرفانية المشرقية وهوعند محمود قاسم فيلسوف مسلم أصيل وعند عاطف العراقي فيلسوف عربي لا علاقة له بالإسلام، وهكذا. وكما قال فرح انطون نفسه: فإنه "متى ابتدأ الإنسان بالتأويل فإنه لا يعلم إلى أين ينتهي"[xvii].

ونجد الكلمة التي ختم بها الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان دراسة حول ابن رشد والرشدية صادقة كل الصدق، فقد قال في خلاصة دراسته: "كان من نصيب ابن رشد أن يتخذ ذريعة لأشد الأحقاد اختلافا في منازعات العقل البشري وأن تستر باسمه مذاهب يظهر أنه أقل من يفكر فيها لا ريب"[xviii]. كتب هذا الكلام في منتصف القرن التاسع عشر، ونحن نقول اليوم: كان وما زال.

[i] - ابن رشد وإشكالية المعاصرة – فؤاد زكريا، منشور ضمن أعمال: حوار حول ابن رشد – تحرير مراد وهبة (125)
[ii] - ترجم الأستاذ حمادي العبيدي لان رشد في كتاب سماه: "ابن رشد: حياته، علمه، فقهه" وقد اعتمد فيه كل المصادر المعروفة التي ترجمت لابن رشد. وانظر أيضا الملحقات التي نشرها ارنست رينان مع كتابه "ابن رشد والرشدية".
[iii] - انظر: ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب – مراجعة وإعداد د.مقداد عرفة منسية (2/28)، وابن رشد سيرة وفكر- دراسة ونصوص للجابري الهامش رقم 8 صفحة 172.
[iv] - فلسفة ابن رشد – فرح انطون (7- 8)
[v] - نفسه (7)
[vi] - نفسه (7)
[vii] - نفسه (19)
[viii] - نفسه (8)
[ix] - الأعمال الكاملة لمحمد عبده -  تحقيق وتقديم محمد عمارة (3/527)
[x][x] - نفسه (3/523)
[xi] - يوضح ابن رشد موقفه من هذه القضية في كتابه فصل المقال، فيقول عن العالم: "هو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، أعني عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره ... فهذا الوجود الآخر، الأمر فيه بين أنه قد أخذ شبها من الوجود الكائن الحقيقي، ومن الوجود القديم. فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث، سماه محدثا، ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث، سماه محدثا. وهو في الحقيقة، ليس محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة". فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال – ابن رشد (41-42).
[xii] - الأعمال الكاملة لمحمد عبده – تحقيق وتقديم محمد عمارة (3/516)
[xiii] - نفسه (3/517)
[xiv] - نفسه (3/524)
[xv] - نفسه (3/526)
[xvi] - نفسه 3/527)
[xvii] - فلسفة ابن رشد – فرح انطون (11)
[xviii] - ابن رشد والرشدية – إرنست رينان (432)

بيبلوغرافيا مختصرة

·       ابن رشد: حياته، علمه، فقهه – د.حمادي العبيدي/ الدار العربية للكتاب 1984م
·   ابن رشد والرشدية – إرنست رينان، ترجمة عادل زعيتر/ دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي وشركاه / القاهرة 1957م.
·   ابن رشد فيلسوف الشرق والغرب – مراجعة وإعداد د. مقداد عرفة منسية / المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمجمع الثقافي أبو ظبي/ تونس، الطبعة الأولى 1999م
·   ابن رشد: سيرة وفكر- دراسة ونصوص – د. محمد عابد الجابري/ مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت، لبنان/ الطبعة الأولى 1998م
·   الأعمال الكاملة لمحمد عبده – تقديم وتحقيق د. محمد عمارة / دار الشروق – الطبعة الأولى 1414هـ - 1993م
·       حوار حول ابن رشد – تحرير مرتد وهبة / المجلس الأعلى للثقافة – الطبعة الأولى 1995م
·       فلسفة ابن رشد – فرح انطون/ التنوير/ الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993م
·   فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال – أبو الوليد ابن رشد، دراسة وتحقيق د. محمدعمارة/ دار المعارف – القاهرة / الطبعة الثانية
·   الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة – أبو الوليد ابن رشد، تحقيق مصطفى حنفي مع مقدمة تحليلية وشروح للدكتور محمد عابد الجابري/ مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت، لبنان/ الطبعة الأولى 1998م

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟