المعرّي: نقد الفكر الديني بين الفلسفة والشعر ـ محمد حسام الدين العوادي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse02034إنه لمن اغرب المفارقات، وأبغضها لكل مثقف عاقل، تلك الإزدواجية في المعايير لدى المفتخرين بماضينا وتراثنا في العالم العربي الإسلامي. فكيف – ليت شعري ـ يقوم المتدينون من المسلمين بالتبرؤ من عظمائهم ثم يقومون بالإفتخار بأن لهم تاريخا وباعا في العلوم والفلسفة والأدب. من أهم الذين تبرأ منهم كثير المسلمين – قديما وحديثا – نذكر: أبو بكر الرازي ، ابن سينا ، ابن المقفع، الفارابي، جابر بن حيان، ونتطرق اليوم لذلك الرجل الذي يدعى بفيلسوف الشعراء أو شاعر الفلاسفة أو بكليهما، ألا وهو أبو العلاء المعرّي. الذي اتهم منذ القِدم بالإلحاد. والهدف من هذا المقال ليس تحديد إن كان الرّجل مسلما أو كافرا فهذا لا يعنينا بل الإشارة إلى أهم أقواله وأشعاره التي اتهم بسببها بالزندقة أو الإلحاد مع التعريف بهذه الشخصيّة الفذّة التي يعرفها كل من يعرف نصيبا من الأدب العربي وإن قلّ هذا النصيب. قد أثارت هذه الشخصية المشهورة جدلا فدافع عنها من دافع نافيا عنها الإلحاد وهاجمها من هاجم متهما إياها بالإلحاد وافتخر بها مسلمون باعتبارها مسلمة، وتبرأ منها مسلمون باعتبارها ملحدة، كما أعجب بها ملاحدة ومؤمنون وكل ذي عقل رشيد وذوق أدبي رفيع.
الإلحاد لا يعني بالضرورة نفي وجود إله وخالق للكون، فقد اتهم الكثير ممن يؤمنون بالله ويقدسونه بالإلحاد. لذلك يجب أن نرجع مثلا لقاموس لسان العرب ففيه نجد التعريف اللغوي للإلحاد:
معنى الإِلحاد في اللغة المَيْلُ عن القصْد، ولحَدَ إِليه بلسانه: مال. وقال الأَزهري في قول القرآن: لسان الذين يلحدون إِليه أَعجمي وهذا لسان عربي مبين؛ قال الفراء: قرئ يَلْحَدون فمن قرأَ يَلْحَدون أَراد يَمِيلُون إِليه، ويُلْحِدون يَعْتَرِضون. وأَصل الإِلحادِ: المَيْلُ والعُدول عن الشيء.[1[

ومن أشهر من اتهموا بالإلحاد في التاريخ الإسلامي أبو العلاء المعري صاحب رسالة الغفران، يقول بن الجوزي:
"زَنَادقَةُ الإِسْلاَمِ ثَلاَثَةٌ : ابْنُ الرَّاوَنْدِي ، وَأَبُو حَيَّانَ التَّوْحِيْدِيُّ ، وَأَبُو العَلاَءِ المَعَرِيُّ ، وَأَشدُّهُم عَلَى الإِسْلاَم أَبُو حَيَّانَ ، لأَنَّهُمَا صَرَّحَا ، وَهُوَ مَجْمَجَ وَلَمْ يُصرِّح."
أبو العلاء المعري (973-1075م أي أنه عاش في القرنين الرابع والخامس للهجرة ) هو شاعر وفيلسوف ولغوي عربي ولد وتوفّي في معرّة النعمان بسوريا لذلك يُلقّب بالمعرّي. لقّب برهين المحبسين أي محبس العمى ومحبس البيت ذلك لأنه كان قد فقد البصر منذ الرابعة من عمره وكان معتزلا في بيته لا يخرج منه الا قليلا. لذلك قال:
أراني في الثلاثة من سجوني ….. فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي ….. وكون النفس في الجسم الخبيث
ونراه في هذين البيتين جعلها ثلاثة سجون: العمى والبيت والجسم.
المعري شاعر كبير وفيلسوف أديب، وهذا الإمتزاج بين الشعر والفلسفة والأدب صنع منه عملاقا من عمالقة الفكر العربي والإسلامي حتى لقّب عن جدارة بلقب شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء. لقد طبّقت شهرته الآفاق وأفاض العرب وغير العرب في الحديث عنه خاصة المستشرقون.
لم يكن المعرّي ملحدا إذا أخذنا الإلحاد بمعنى الإيمان بخالق، شأنه في ذلك شأن بن سينا والرازي وجميع الفلاسفة العرب تقريبا، بل قد يكون شديد الإيمان فهو يقول:
«الله لا ريبَ فيه، وهو محتجبٌ بادٍ، وكلٌّ إلى طَبعٍ له جذبا… أُثبتُ لي خالقاً حكيماً، ولستُ من معشرٍ نفاة… إذا كُنتَ من فرط السّفاه معطِّلاً، فيا جاحدُ اشهَدْ أنني غيرُ جاحِدِ… أدينًُ بربٍّ واحدٍ وتَجَنُّبٍ قبيحَ المساعي، حينَ يُظلَمُ دائنُ… إذا قومُنا لم يعبدوا الله وحدهُ بنُصْحٍ، فإنَّا منهمُ بُرآءُ» [2]
لكن إذا أخذنا الإلحاد بمعنى التشكيك في الدين، أو النبوات، وما يسمّى بنقد الفكر الديني، فشاعرنا هذا هو إمام من أئمة الإلحاد.
من أشهر أبيات المعرّي قوله:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت …. ويهود حارت والمجوس مضلله
إثنان أهل الأرض ذو عقل بلا …. دين وآخر ديّنٌ لا عقل له

إذا كان شاعرنا يعني ما يقول، فهو يرى – أو يعتقد – بأن جميع الأديان هراء وكلّهم في ضلال بعيد. وهو من ناحية أخرى يرى أنه يصعب الجمع بين العقل والدين، فيقول من كان شديد التديّن غاب عقله وٱ-ضمحل.. وكأني به اطلع على الغيب ورأى كيف ينكر المتديّنون نظريات علميّة دامغة فقط لتعارضها مع الدين، وهذا شيء مؤسف، فقد شاهدت فيما شاهدت شيخا معاصرا ينفي كروية الأرض، وآخر ينفي دورانها حول الشمس، ناهيك عن نظريات أخرى كنظرية التطوّر التي ينكرونها بحذافرها.
وللتأكد من ذلك فقد أنكر الشيخ العلامة (كما يعتبره المسلمون) عبد العزيز بن باز و الشيخ (العلّامة أيضا) العثيمين دوران الأرض في فتاواهما[3]. فكيف يحدث هذا بعد غاليلي Galilé بخمسة قرون ؟
في حين نرى أن أشهر علماء العصر اليوم لا يؤمنون إلا بالعلم وليس هناك متّسع كبير في عقولهم للأديان. ليس هذا فقط بل إن منهم بيولوجيين كبار يرفعون راية الإلحاد مثل ريتشارد دوكينز Richard Dawkins صاحب الكتاب المشهور وهم الإله the god delusion.
يقول المعري أيضا:
تناقض فما لنا الا السكوت عليه .. ونعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجد وديت .. ما بالها قطعت في ربع دينار
ويظهر في هذين البيتين نقد الشاعر الواضح للدين الإسلامي، هو يرى أن هناك تناقضا صارخا في التعاليم الإسلامية، ثم يورد مثالا على ذلك: إذا قطع المرء يد شحص آخر فيجب أن يدفع الدّية 500 دينار، لكن إذا سرق فقط ربع دينار تقطع يده لأنه سرق ربع دينار، هذا التناقض يشير له المعري ويقول اليد تساوي 500 دينار وفي حالة أخرى لا تساوي دينارا واحدا، ومن هنا يتّضح تقديم هذا الفيلسوف للعقل على الدين.

كما قال المعرّي واصفا المتديّنين:
عاشوا كما عاش آباءٌ لهم سلفوا …. وأورثوا الدين تقليدا كما وجدوا
فما يراعون ما قالو وما سمعوا …. ولا يبالون من غي لمن سجدوا
يقول: إن هؤلاء المتدينون ورثوا الدين عن آبائهم، فمن كان أبوه مسلما سنّيا ولد مسلما سنّيا وعاش كذلك ، ومن كان أبوه مسلما شيعيا فعل كذلك، ومسيحيا، وبوذيا وغيره. ويظهر نبوغ المعري وحكمته في هذين البيتين لأن الأديان خاصة في عصرنا هذا أصبحت تورث مع الأسماء والألقاب عن الأب والأم وقلما يتخلّى الإنسان عن دينه الذي ورثه، وإن فعل فغالبا يتجه إلى اللادينية أو اللاأدرية وهذا ما نلاحظه في عالمنا اليوم.

كما يقول المعرّي
وهل أبيحت نساء القوم عن عرض .. للعرب إلا بأحكام النبوّات
والشاعر هنا ينتقد صراحة سبي النساء في الحروب، وينبذ العبوديّة في عصر لم تكن فيه العبوديّة محرمة بل كانت مباحة وسائدة في العالم كله على اختلاف أديانه..هذا الشاعر-الفيلسوف كأنه إطّلع الغيب وعلم أن هذه الممارسة منافية لحقوق الإنسان، وأنها سوف تُحرّم و تُنبذ في العالم كله بعد عشرة قرون، وسوف تمنع حتى في الدول الإسلاميّة التي تتخذ من الشريعة دستورا لها كالسعوديّة وإيران.
إن فلسفة شاعر عظيم كأبي العلاء المعرّي ضاقت بها صدور رجال دين كبار مثل ابن كثير، ابن القيّم وبن الجوزي. فقال بن كثير في ترجمته: “أبو العلاء المعري التنوخي الشاعر المشهور بالزندقة اللغوي…. وقال بعد إيراد بعض شعره : وهذا من قلة عقله وعمى بصيرته …. وقال أيضا : وقد كان ذكيا ولم يكن زكيا وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر وفي بعض أشعاره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين”
وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس
“فيمن لبس عليهم إبليس حتى جحدوا البعث ، وقال أبو العلاء المعري :
حياة ثم موت ثم بعث **** حديث خرافة يا أم عمرو ،
وقال في موضع آخر : وأما أبو العلاء المعري فأشعاره ظاهرة الإلحاد وكان يبالغ في عداوة الأنبياء”[4][5]
ويقول المعرّي في شعره أيضا: [7]
فَلاَ تَحْسَبْ مَقَالَ الرُّسْلِ حَقّاً***وَلَكِنْ قَوْلُ زُورٍ سَطَّرُوهُ
وَكَانَ النَّاسُ فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ***فَجَاؤُوا بِالمُحال فَكَدَّرُوهُ
وبهذين البيتين السابقين يُنكر المعري النبوة أصلا، بل يقول أنها سبب تعاسة الناس لأنها من المحال
ويقول المعرّي في شعره أيضا: [7]
دين وكفر وأنباء تقال وفر *** قان ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها *** فهل تفرد يوما بالهدى جيل
وهذا قول بليغ ينتقد فيه الشاعر الأديان جميعا وليس فقط الإسلام، ومرة اخرى يتنبأ المعرّي بوضعنا الراهن فنحن نرى أديانا كثيرة اليوم وكل أمة تدعي أنها على الدين الصحيح.
وبعيدا عن فكرة إيمان المعرّي أو إلحاده، فقد كان المعرّي ذا خلق حميد، زاهدا، وكان لا يأكل اللّحم لكرهه قتل الحيوانات وذبحها أي أنّه كان نباتيّا (végétarien) لدرجة أنّه لم يكن يرتدي النعال والأحذية المصنوعة من جلود الحيوان، هذا في عصر لم يعرف فيه الناس المطاط أو البلاستيك أو الألياف الصناعية (synthétique) وبلتالي كان لاقتناعه يلبس نعلا من خشب.
حتى جعل هذا رجال الدين الكبار يزدرونه فقد قال ابن القيم في طريق الهجرتين :
“وممن كان على هذا المذهب أي الامتناع عن أكل الحيوان أعمى البصر والبصيرة كلب معرة النعمان المكنى بأبي العلاء المعري فإنه امتنع من أكل الحيوان زعم لظلمه بالإيلام والذبح .” [6]
أنظر عزيزي القارئ كيف يصف شيخ كبير من شيوخ الإسلام وهو بن القيم – وهو تلميذ بن تيميّة – علما من أعلام الشعر والأدب العرفي ومفخرة من مفاخره بكلب معرّة النعمان. ألا يدعو هذا للأسف؟ هل يمكن وصف إنسان بالكلب لاختلافنا معه في الآراء؟ لأنه لا يؤمن بما يؤمن به آباؤنا؟
كان أبو العلاء المعرّي شاعرا مثاليا صادقا، فلم يكن يقف عند الملوك ويمدحهم من أجل المال أو المكانة وكانت له آراء سياسيّة تشهد بنبوغه حيث يرى أن الحاكم أجير المحكومين بمعنى أنه يقوم بوضيفة معينة يجب أن يتلقى عليها أجرا وأن البلاد ليست ضيعته وضيعة أبنائه والشعب فيها أغنام.. وهذا ما كان يحدث في العالم الإسلامي آنذاك ونراه للأسف حتى في يومنا هذا في بعض البلدان. ولكن نبوءة المعرّي تحققت في الدول الديمقراطية حيث يتقاضى الحاكم أجرا مقابل القيام بمهمته لفترة معيّنة.
وقد اوصى المعري قبل وفاته بأن يكتب على قبره
هذا جناه أبي علي *** وما جنيت على أحد
وهذا الشعر لا يصدر الا عن فيلسوف .. الفلاسفة يعدون اتخاذ الولد وإخراجه إلى الدنيا جناية عليه ، ويظهر من حال هذا الفيلسوف أنه متحير لم يجزم برأي في الدين[7] فهل كان ذنبه التفكير ؟
سيظل العظماء الذين صنعوا للأمة العربية الإسلامية تراثا عظماء رغم حسد الحسّاد. لا أرى أي شيء يدعوا قومًا لنبذ عظمائهم والتبرؤ منهم غير حسدهم، ذلك لأنهم عمالقة قدّموا للأمة تراثا مازال يدرّس إلى الآن في جامعاتنا ومعاهدنا، تراث مثل رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي وأشعار المتنبي وكتب فلسفة الفارابي وغيرهم كثير.. تراث ساهم في تشكيل الحضارة العربية التي مانفكّت تتراجع وتتخلّف عن ركب الأمم منذ رأت في عظمائها مجرّد زنادقة خارجين عن الدين


مصادر
1- لسان العرب
2- اللزوميات – أو – لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء المعري
3- الفتوى: 59419 – إسلام ويب
4- الفتوى: 73882 – إسلام ويب
5- تلبيس ابليس – ابن الجوزي
6- ابن القيم – طريق الهجرتين
7- سير أعلام النبلاء- الذهبي

محمد حسام الدين العوادي - باريس