قراءة منطقية معاصرة لصور الاستدلال الواردة في المستصفى للغزالي ـ د.طارق المالكي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse25062الرموز المستعملة في هذا المقال :
∧ رابط الوصل ويقابله في اللغة الطبيعية بواو العطف 'وَ'.
∨ رابط الفصل ويقابله في اللغة الطبيعية بــ 'أَو'
← يرمز إلى الاستلزام ويعني 'إذا كان ...فإن...'
⊂ يرمز إلى التضمن .
∼ يرمز إلى النفي .
⊢ على يمين هذا الرمز تُذكر المقدمات وفي يساره النتائج المتولد بطرق مخصوصة عن المقدمات.

تقديم
يُعد علم الأصول علما استدلاليا بامتياز لكن تدريسه اتخذ مسارا آخر في كلياتنا فاكتُفي بحفظ المسائل عن تعلم النظر وكيفية الاستدلال على الأحكام ، ما غلب ملكة الحفظ على ملكة الاستدلال.... للأسف هذه المسائل المنطقية والاستدلالية في هذه المصنفات لم تُترجم بعد إلى لغة منطقية معاصرة ، وحتى أثبت صلة هذه المسائل بالمنطق المعاصر فإني سأعمد إلى ترجمة نُتفا منها ، معتمدا على كتاب المستصفى للغزالي.

1.صورة البرهان ومادته
فرق الغزالي بين جانبين متمايزين في البرهان ؛ صورة البرهان ومادته[1] ، لم يخرج  الغزالي بهذا التمييز عن الإطار المعاصر الذي يُدرس فيه المنطق من حيث إن هذا  العلم يبحث في قوانين الاستدلال ووجوه اشتقاق المبرهنات من مجموعة متناهية من المسلمات المنطقية باتباع قواعد الاستنتاج ،  ومن خصائص هذه المباحث المنطقية أنها صورية بمعنى أن صحة الاستدلالات لا تتوقف على ما تحيل عليه القضايا من مضامين ، ولا أدل على ذلك من المثال المشهور المتداول بين الناس: 'كل إنسان فان وسقراط انسان إذن سقراط فان' ، فهذا الاستدلال يبقى مشروعا وصحيحا من الناحية الصورية حتى ولو استبدلنا انسان بطائر في قوله : 'كل طائر فان ، وسقراط طائر ، إذن سقراط فان' !!، لذلك نستغني بالرموز عن الجمل الطبيعية ، لأنه لو ضيق المناطقة مجال اشتغالهم بتعلقهم بالمضامين لما سُمي المنطق بآلة العلوم ، لذلك احتِيج إلى المنطق باعتباره آلة محايدة تضبط عمليات الاستدلال التي تتم عادة في الرياضيات والفيزياء واللسانيات والفقه ،  وتُعتبر مسلمات هذه العلوم مادة البرهان ، وفي ضوء هذا التمايز بين مادة البرهان وصورته يمكن التفريق بين نوعين من المسلمات التي عادة نصادفها في استدلالات المناطقة؛
·       مسلمات صورية خاصة بالمنطق وهي عبارة عن مجموعة متناهية من البديهيات التحصيلية فضلا عن مجموعة من القواعد التي تسمح للمنطقي بالانتقال من مقدمات إلى نتائج وتختلف عدد هذه المسلمات من نظرية منطقية إلى أخرى.
·       مسلمات مادية خاصة بالعلم  (حساب ، فقه ، لسانيات..) الذي نرغب في صورنته مثل أن كل مسكر حرام[2].

2.أنواع صور الاستدلال:
رد الغزالي رحمه الله البرهان إلى ثلاثة أنماط صورية يتكون كل نمط من مقدمات ونتائج:
1.2- صورة النمط الأول  تسمى بالقياس Syllogisme وقد شرحه الغزالي بالمثال المشهور :  'كل نبيذ مسكر ، وكل مسكر حرام فلزم أن يكون كل نبيذ حرام' ، لاحظ أن كلمة 'مسكر' مشتركة بين المقدمتين الأوليتين فتم محوها في النتيجة ، لي رأيان في ترجمة هذه الصورة إما أن نترجمها إلى ما يُعرف بقاعدة القطع[3] Cut  Rule  وصورتها على الشكل الآتي:
أ ← ب ، ب ←ج ⊢ أ←ج
 حيث تم التخلص من ب التي جاءت في التالي في المقدمة الأولى (أ ← ب) وفي المقدم في المقدمة الثانية (ب ←ج) ، وقد اختفت في النتيجة المستخلصة (أ←ج) .
 أما الصورة الثانية التي يمكن أن نترجم القياس إليها فإني سأستعين بتوضيحها بواسطة نظرية المجموعات وقد أشار إلى ذلك الغزالي بقوله: 'فإن حاصله-أي القياس- راجع إلى إدراج خصوص تحت عموم'[4] ، يمكن الإمساك بثنائية خصوص/عموم بواسطة ما يسمى في الرياضيات بمجموعة متضمنة في مجموعة أخرى ، فإذا افترضت معي أن النبيذ مجموعة متضمنة في مجموعة المسكرات ثم افترضت أن كل المسكرات متضمنة في دائرة الحرام فيلزم عن ذلك أن أن مجموعة النبيذ متضمنة في الحرام.
(نبيذ ⊂ مسكر ) وَ (مسكر ⊂ حرام) يستلزم (نبيذ ⊂ حرام)
2.2- صورة النمط الثاني من البرهان يُعرف في المنطق بإثبات التالي ' Modus ponens ' ، وتُعد هذه القاعدة الاشتقاقية من عمدة القواعد التي تستند إليها الأنساق المنطقية في اشتقاق القضايا بعضها من بعض ، وقد مثل له الغزالي رحمه الله : 'إن كان العالم حادثا ، فله محدث' ، فهذه مقدمة : ومعلوم أنه حادث ، وهذه المقدمة الثانية ، فيلزم منه أن له محدثا[5].
الصور المعاصرة لهذا النوع من الاستدلال على الشكل الآتي:
أ ← ب ، أ ⊢ ب
وشرحها على الشكل الآتي: نشتق القضية ب من مقدمتين (أ ← ب) و (أ)
يترتب عن هذا القانون أربع صور استدلالية اثنتان منها صحيحة والأخريات غير صحيحة :
1.2.2. الصورة الاستدلالية الصحيحة الأولى تُعرف في أدبيات المنطق بقانون عكس النقيض ' Contraposition' ، و يلخصه الغزالي في  المبدأ الآتي :'تسليم نقيض اللازم ، فإنه ينتج نقيض المقدم[6]'
 صورة عكس النقيض المعاصرة عل الشكل الآتي : (أ ← ب) ← (∼ب ←∼أ) ، وقد مثل الغزالي لهذا القانون بالمثال التالي: إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ، ومعلوم أن المصلي غير متطهر-فينتج أن الصلاة غير صحيحة.
2.2.2.الصورة الاستدلالية الثانية يوجزها الغزالي في المبدأ : 'تسليم عين المقدم ينتج عين اللازم'[7] ، مثاله : إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ، وملعوم أن هذه الصلاة صحيحة ؛ فيلزم أن يكون المصلي متطهرا ، ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم أن يكون المصلي متطهرا .

أما الاستدلالات المغالطة أو غير المنتجة التي تنجم عن سوء استخدام هذا القانون فهي على ضربين:
3.2.2. يلخص الضرب الأول في الاستدلال المغالط الآتي: 'تسليم عين اللازم' ، وصورته التي ينضبط بها هي:
إذا سلمنا أن أ وَ أ←ب فإنه لا ينتج ب.
4.2.2.أما الضرب المغالط الثاني هو 'تسليم نقيض المقدم لاينتج عين اللازم ولا نقيضه'[8] ، مثاله : معلوم أن الصلاة ليست صحيحة ، فلا يلزم من هذا كون المصلي متطهرا ولا كونه غير متطهر ، وصورته التي تضبطه هي :
أ ← ب ، ∼أ لا ينتج ∼ب ولا ينتج كذلك ب.
3.2-أما صورة النمط الثالث من البراهين فتندرج ضمن ما سُمي لدى المتكلمين بالسبر والتقسيم ، بينما المناطقة يسمونه الشرطي المنفصل ويسمون ما قبله –أي اثبات التالي- بالشرطي المتصل'[9]
 مثل له الغزالي : 'العالم إما قديم وإما حادث ، هي مقدمة وهي قضيتان .الثانية أن تسلم إحدى القضيتين أو نقيضها، فيلزم منه –لامحالة – نتيجة'
يمكن ترجمة السبر والتقسيم إلى أكثر من صورة أحدها : (أ ∨ ∼أ) ∧ أ ← أ

تطبيقات :

لم يقف الغزالي رحمه الله في كتابه عند تأصيل الاستدلال المنطقي إنما وظفه عمليا في إثبات الكثير من المسائل العقائدية والفقهية ،وقبل الخوض في التمثيل لهذه الاستدلالات ،يجدر بنا التذكير أن صورة البرهان التي ترد في سياق الخطاب الطبيعي غير تامة إنما تتعرض بعض مقدمتها أو نتائجها للإضمار ، ومن ثم لا يمكننا أن نتوقع أن نجد صورة الاستدلال تامة، وهذه خاصية من خواص الاستدلال الطبيعي الذي يميل إلى حذف ما يعلمه كل من المتخاطبين من معارف مشتركة 'احترازا عن التطويل' ، ومن ذلك قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )، فالآية تتضمن صورة غير تامة لقانون عكس النقيض ، 'فينبغي أن يضم إليها (ومعلوم أنهما لم تفسدا)'[10] ، هذه الإضافة التي أتم بها الغزالي مساق الآية الكريمة إنما ينبغي ان تُفهم في سياق باب التقدير المعمول به في النحو البلاغة...
ومن أجل إعادة بناء مساق الاستدلال بالآية في ضوء قانون عكس النقيض الذي صورته على الشكل الآتي: (أ ← ب) ← (∼ب ←∼أ). أقترح خطوات الاستدلال الآتية :

أ ← ب : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )[11]
∼ب : معلوم أنهما لم تفسدا
وبالتالي فإن:
∼أ : ليس فيهما آلهة.
مثال آخر:
أ ← ب  : لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا[12]
∼ب : معلوم أنهم لم يبتغوا إلى ذي العرش سبيلا.
فإن: ∼أ : ليس معه آلهة.
في ختام هذا المقال نستجمع مجموع ملاحظاتنا في ملاحظتين :أولاهما أن الغزالي رحمه الله كان واعيا بكون الاستدلال البرهاني يزدوج بجانبين متمايزين صورة ومادة، رادا صور الاستدلال إلى ثلاثة أنواع القياس ، اثبات التالي ثم  السبر والتقسيم ، أما ثاني الملاحظتين وهي كون هذه الصور الاستدلالية لا تخرج عما خطه المناطقة المعاصرين من قواعد استدلالية.

المراجع:
1- الغزالي ، المستصفى من علم الأصول ، المكتبة العصرية .

2-طه عبد الرحمان ، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ،الطبعة الأولى 1998.

3-أسعد الجنابي ، المنطق الرمزي المعاصر ،دار الشروق للنشر والتوزيع، الإصدار الأول 2007.

4- THE COLLECTED PAPERS. OF GERHARD GENTZEN. Edited by. M. E. SZABO. Sir George Williams University. Montreal.1969.

5- P. Lorenzen , Formal Logic , Reidel Publishing Company, 1965

[1] -يقول الغزالي في سياق تعريفه بمادة البرهان : 'وهي المقدمات الجارية من البرهان مجرى الثوب من القميص ، والخشب من السرير. ..' المستصفى ص63.
[2] -انظر تفصيل هذه المسألة في :
GERHARD GENTZEN  , THE COLLECTED PAPERS. OF GERHARD GENTZEN. Edited by. M. E. SZABO. Sir George Williams University. Montreal.1969.
[3] - تندرج قاعدة القطع ضمن القاوعد البنيوية في اصطلاح جينتزن وهي نوع من انواع القياس انظر نفس المرجع اعلاه.
[4] -المستصفى ، ص67.
[5] -المستصفى ، ص61.
[6] -نفسه ص 61.
[7] -نفسه ص 61.
[8] -نفسه ص 61.
[9] -نفسه ص 62.
[10] -الغزالي ، المستصفى من علم الأصول ، المكتبة العصرية ، 2012 ، ص71.
[11] -سورة الأنبياء ، 22.

[12] -سورة الإسراء : 42.