ملاحظات أولية حول ظاهرة التقرب من المتنفذين داخل المجتمع التونسي من خلال بعض الصور الاجتماعية - جعفر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
jaafar.jpgمن بين الظواهر الاجتماعية البارزة في المجتمع التونسي نلاحظ ظاهرة مهمة تستدعي التأمل العلمي و الاجتماعي، و هي ظاهرة التقرب من أصحاب النفوذ ليس في مستوى الأعمال التجارية و الاقتصادية الكبرى فحسب و إنما من خلال بعض السلوكيات و التصرفات التي يقوم بها بعض الأفراد أو الجماعات في المعيش اليومي، و في هذه المحاولة سنحاول بيان بعض مظاهر هذه الظاهرة الاجتماعية، فماهي هذه المظاهر؟
 نلاحظ في البداية أن المجتمع التونسي تغير في مستوى نظرته للقيم و الأفراد و الجماعات و المواقع الاجتماعية، ففي السابق يحكم المجتمع مجموعة من المعايير الاجتماعية و هو تكوين فرضي معناه ميزان أو مقياس أو قاعدة أو إطار مرجعي للخبرة و الادارك الاجتماعي و الاتجاهات الاجتماعية و السلوك الاجتماعي. و هو السلوك الاجتماعي النموذجي أو المثالي الذي يتكرر بقبول اجتماعي دون رفض أو اعتراض أو نقد. و هو تعميم معياري فيما يختص بالأنماط السلوكية المتوقعة في أي موضوع يتعلق بالجماعة أو أفرادها أو يهمها. و هو مقياس يتقاسمه أعضاء الجماعة يحدد سلوكهم، و يتوقع أن يلتزموا به في المواقف الاجتماعية. و هو إطار مرجعي مشترك ينبع من التفاعل بين أفراد الجماعة و يجعل هذا التفاعل ممكنا و يحكم بواسطته و في ضوئه على السلوك الاجتماعي في الجماعة1 ، و تعطي أولوية و ترتيبا تفاضليا على مستوى داخل نفس المجموعة من مثل العائلة الممتدة على حساب العائلة النووية، و الجنس(الرجل) على(المرأة) و السن الكبير على الصغير، و المكانة التربوية للمعلم على التلميذ و المكانة الاجتماعية،(أصل "رفيع" على حساب أصل "متدني") ...
لكن هذه النظرة إلى المعايير الاجتماعية قد تغيرت و ترسخ البعض منها و إزداد توسعا و توغلا في النسيج الرمزي و الاجتماعي للأفراد و الجماعات بفعل التحولات الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية التي شهدها المجتمع التونسي، و أمام هذا التحول و التغير سواء نحو الأدنى أو الأعلى، يلاحظ الفاعل الاجتماعي مهما اختلف جنسه و سنه و مستواه العلمي و الثقافي و مكانته الاجتماعية و أصوله الجهوية بأن مجموعة من الأفراد و الجماعات ترغب في أن تتقرب إلى أصحاب النفوذ ضمن أسباب و غايات و أهداف
و مصالح مختلفة  بقطع النظر و بدون استغراب أو دهشة من العودة إلى التنشئة الاجتماعية و التركيبة الشخصية لهؤلاء فالأمر بالنسبة لديهم أمر عادي و مقبول أيضا من المجتمع.
من مظاهر هذا التقرب إلى أصحاب النفوذ، سنحاول أن نبين ثلاث مظاهر اجتماعية دون أن نتغافل عن مظاهر أخرى، و هي مظاهر موجودة في الحياة اليومية للناس، المظهر الأول يتجلى في بعض المناسبات الاجتماعية(فرح، أو موت) إذ نرى على سبيل المثال الحرص على الذهاب لذلك الشخص أو تلك العائلة و الأبعد من ذلك الشوق إلى أصحاب هذه المناسبات و يحاول بقدر ما أمكن أن يبرز أمام الشخص المتنفذ أو عائلته أو الناس المحيطين به، بالمصافحة الحارة و هنا تبرز لنا بعض طرق المصافحة التي فيها انكسار و طئطئة للرأس التي تفوق الشيء المألوف في مثل هذه المناسبات الاجتماعية، كما أنه يلبس أحسن اللباس عنده ويبرز بمظهر جديد و إظهار المشاعر أمامه أو أمام عائلته بطريقة ودية و فيها من اللطف و الرقة ما تجعلها واضحة للعيان و يذهب الكثير من هؤلاء إلى تصديق كلام المتنفذ أو أحد عائلته في أي موضوع يطرح للنقاش حتى و إن لم يكن مقتنعا بذلك داخليا.             
المظهر الثاني، مثلا يوجد داخل مؤسسات العمل، و هنا لا نتحدث عن العلاقات المهنية التي توجد بين المسؤولين و الموظفين، و إنما العلاقة بين الموظف و الحرفاء و خاصة بالنسبة للمؤسسات التي هي في علاقة مباشرة مع الناس، إذ يعمد بعض الموظفين على سبيل المثال، حتى في الحالات التي لا توجد معرفة مسبقة  بين الموظف و هذا الشخص منذ أن يدخل صاحب نفوذ ما إلى مؤسسة معينة، نلاحظ الابتسامة و القبول الحسن من الموظف لصاحب هذا النفوذ و يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك لهث الموظف المكلف بتقديم الخدمة أو المصلحة إلى قضائها في أقرب و قت و أسرعه ، و تتأخر بالتالي مصالح بقية الناس.
أما المظهر الثالث فيتجلى بالخصوص في حالات التواصل مع الأفراد عبر ما سمى"الهاتف الجوال" فالعديد من الأفراد يتجنبون في حالات عن قصد الرد على بعض المكالمات الهاتفية المعروفة لديهم أو إغلاق المكالمة عندما تكون آتية من يطلق عنهم في المنطوق اليومي التونسي"الأشخاص العاديين" و تصنع الذرائع و التبريرات لتفسير هذا السلوك في حين يتلهف بعض الأفراد على الرد على مكالمات هاتفية لبعض أصحاب النفوذ، و قد يتعمد العديد من الأفراد حتى في الوسط العائلي و القرابي عدم مكالمة أو مقاطعة أحد أفراد عائلته أو أقاربه للسؤال عن أحواله بتعلة أنه أقل منه اجتماعيا و ماديا و ثقافيا...
و مع ذلك نلاحظ أيضا من زاوية نفسية اجتماعية و بعيدا عن منطق الهدف و المصلحة فإن غاية هؤلاء الأفراد بالتحديد مجرد التقرب و التزلف لأصحاب النفوذ لكي يشعر ضمن تصوره اللاواعي ب"اعتزاز نفسي و اجتماعي" مخصوص و يرسم لنفسه مكانة اجتماعية أو مهنية معتبرة نتيجة هذا التقرب و له احساس ب"السعادة" و بلذة جديدة للحياة  عندما يكون في هذه الوضعية.   
و بناء على هذه المظاهر السابقة و التي انطلقت من بعض الصور الاجتماعية، نستخلص بنسبية و كظاهرة عامة بعيدا عن سلوكيات بعض الأفراد و الجماعات و الاستثناءات، هناك نوع من الرغبة الداخلية لمجموعة واسعة داخل المجتمع التونسي في التقرب و التزلف إلى أصحاب النفوذ مهما كان نوع هذا النفوذ ضمن فلسفة فردية و جماعية و قد تصل في بعض الحالات إلى مجموعة من الاستراتجيات المؤقتة و طويلة المدى للتماهي مع الأفراد و الشرائح الاجتماعية "الأعلى"، فالارتقاء من هذا المنطلق في مختلف المجالات لا يتم إلا عبر عملية التماهي مع ما يسمى الأقوى أو الشخص و الجماعة"الواصلة" حسب المنطوق اليومي التونسي و تحصل عملية التباهي و التفاخر الاجتماعي حتى و لو كان ذلك على حساب الكرامة الشخصية و الاعتزاز بالنفس في حالات عديدة سواء لتحقيق مصلحة أو مجرد رغبة في التقرب و إظهار الولاء و الإعجاب فقط، و يعتبر من ثم هذا الخطاب الأخير نوع من التخلف و الرجوع إلى الوراء فلما لا تتم عملية التقرب لتحقيق أهداف الحياة و الخروج من وضعية "الفقر الكامل" حسب ما يتداول في المنطوق اليومي، كما يتحول بعض الأفراد أو الجماعات إلى شخصيات و جماعات ملهمة و منقضة حسب استعمال عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، و بالتالي إعطاء شكل من أشكال الهيمنة الاجتماعية و الأخلاقية لهذه الفئات المتنفذة.  
لقد سعينا في هذه المحاولة الأولية، المتعلقة بتحليل ظاهرة التقرب من ذوي النفوذ دون الدخول في منطق المع أو الضد، أو الشرعي و اللاشرعي، أو الحقيقة و الوهم، لأننا نتعامل معها كظاهرة اجتماعية تتطلب الدراسة و التحليل من خلال بيان بعض المظاهر الاجتماعية لها و هي ظاهرة قد انتشرت بشكل ملفت للانتباه داخل النسيج الاجتماعي و قد شملت شرائح واسعة من الفئات و المستويات بدون استثناء من المجتمع التونسي، و هي في تنامي مستمر بسبب انتشار قيم اجتماعية جديدة قائمة على المصلحة و المغانم و مراكمة مختلف أشكال الرساميل الرمزية إذا استعملنا مصطلح عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو و الرساميل الأخرى(الثروة المادية، شبكة العلاقات...) التي تسعى إلى اكتسابها العديد من الشرائح الاجتماعية و الأفراد، فهل أن مختلف دواليب المجتمع التونسي تسير وفق منطق العلاقة بالمتنفذين كأشخاص و مؤسسات و قوانين؟

---------------------------
1- الدكتور حامد عبد السلام زهران، علم النفس الاجتماعي، عالم الكتاب، الطبعة الرابعة 1977 ص 112.
         
 
جعفر حسين، باحث في علم الاجتماع من تونس