القانون والعدالة والنّظام في المجتمعات التقليدية والحديثة - نوربار رولان – ت : سامي الرياحي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
droit.gifتمهيد :
 يعرض نوربار رولان في القسم الثاني من كتابه"الانتروبولوجيا القانونيّة" المعنون ب" مجال القانون" ضمن الفصل الثالث الوارد تحت عنوان "مجالات الانتروبولوجيا القانونيّة"  تصوّرات كلا المجتمعين لمفاهيم القانون الحق و العدل. ولعل أهمّ ما يمكن استنتاجه من هذا المقال هو اختلاف كليهما في تصوّر مدى ارتباط القانون بالعدل و الحق ,فإذا كان المجتمع التقليدي يبحث عن العدل و الحق من خلال تقديم تعاليم قيميّة وعبر توفير نموذج  من السلوك أكثر من الحرص على تطبيق القانون بصرامة فإنّ المجتمعات الحديثة لا ترى فيهما إلاّ بعض وجوه هذا القانون  الذي  يرتبط عندهم مباشرة  بالعقاب. وفي كلا الحالتيْن يبدو أن الهدف  من وجود القانون عندهما هو حفظ النّظام الاجتماعي و تحقيق الانسجام.
 ترجمة :سامي الرياحي.
القسم الثاني:
مجـــال القانون:
       إنّ محاولة حدّ مجال القانون ليست  تحليلا للخطاب و الممارسات فحسب و لكن للتصوّرات التي تقوم عليها أيضا.فمن المفروض أن يسعى القانون في كل مجتمع إلى تحقيق  بعض القيم أو القيام بمهام مختلفة. و من الخطأ حسب وجهة نظرنا أن يغفل المختصّون في العلوم الاجتماعيّة ما يمثّله القانون لدى أكثر الناس ممن اختاروا الانصياع له.ومع ذلك فإنّ الارتباط  بتصوّرات القانون لا يكفي لتحديده.فالقانون ليس بالضرورة ما نتصوّره.لذا ينبغي الاستعانة من جديد بالعمل الفكري والنّظريّات للتوصّل إلى تعريف أفضل. ووفقا للمنهج الانتروبولوجي فإنّه علينا أن ندرس من ضمن تلك النظريات ما يتأسّس منها على التحليل الثقافي للظواهر القانونيّة .
1 ـ تصوّرات القانون:
أكثرها شيوعا هي البحث عن العدل و الحفاظ على النّظام الاجتماعي و الأمن.
أ ـ البحث عن العدل:

إنّ البحث عن العدل كتصور قانوني يبدو قاسما مشتركا بين الكثير من المجتمعات الحديثة و التقليديّة.
 ـ القانون و العدالة في المجتمعات التقليديّة و الحديثة:
كثيرا ما تربط التصوّرات التّقليدية بين القانون و العدل مترجمة إيّاهما برموز معينة . فعند قبائل "النكومي" في الغابون تقترب فكرة العدالة من رمزنا المتمثل في الميزان  فما هو عدل عندها هو القانون في حين أنّ الظلم يتطابق مع ما هو منحرف. و عند قبائل "الولوف" في السينغال فإنّ العدالة متجسّدة عندهم في الطّريق السّويّ المرسوم جيّدا. و في الغالب يكون العدل مرتبطا بالحق . ففي الكاميرون فإنّ ما هو عدل هو حتما الحقّ , إذِ أنّ الباطل تنجرّ عنه أحكام ظالمة تؤدي بدورها  إلى ولادة الشرّ.  إلاّ أنّ الحقّ ليس ما يتطابق مع صّحة الأحداث فحسب بل يتشكّل داخل حقيقة النّظام الرّوحي الذي حافظ عليه الأجداد حيث ينبغي تطبيق العقيدة إذا ما كانت هناك رغبة في معرفة العدل و الحق .فعند قبائل "الولوف" مثلا تلك التي وقعت دراستها من قبل أ.لوروي E.Le Roy ينبغي على المشرّع أن يسعى إلى معرفة الوقائع وأن يعيد تشكيل ما هو أقرب إلي العدل وذلك باستنباط  سيرة "عادية" من إنسان كريم النّسب.
  إلاّ أنّ تصوّرات  القانون المرتبطة بالعدالة هذه  لا تتطابق بدقّة مع تصوراته في المجتمعات الحديثة. فإذا أراد المشرع الحديث   الربط  بين القانون و العدل كما يلحظ ذلك س. أتياس C.Atias  فإنّه  قد يجد صعوبة  في  عقد  الصّلة  ما بين القانون  والحق  لأنّ الوضعيين و الفلاسفة لا يتحدّثون عن الحقّ إلاّ بإيجاز و لأنّ القانون اللّيبرالي لا يقيم له مكانة هامّة  اعتبارا إلى أنّه يسعى بشكل محدّد  إلى حماية المواطنين من المضارّ التي  تفتك بحقوقهم  ,هذا من جهة . ومن جهة أخرى نحن نعلم أنّ المجتمعات التقليدية أمْيل إلى اكتشاف العدل من خلال الرجوع إلى نموذج للسلوك أكثر من الرّجوع إلى قاعدة ما.في حين أنّ المجتمعات الحديثة تربط بدقة بين السعي إلى تحقيق العدالة والعقاب الرّادع  مثلما توضحه جيدا رموزنا  للسيف و الميزان. وأهم أولويّات المشرّع التقليدي هي اكتشاف الحق و العدل و تعليمهما أكثر من المعاقبة بهما .وإذا ما تم العقاب فإنّه يتخذ أولا وقبل كلّ شيء أشكالا غير قضائية.
إن البحث عن العدل في المجتمعات الحديثة موكول  دوما إلى القانون و ما يشرّع جزاءه.إلاّ أنّ الصعوبة تتأتّى من إمكانية حدوث نزاع بين نموذجين من القضاء على الأقلّ.ووفقا لتصنيف أرسطو  سيتمّ البحث إمّا عن تحقيق القضاء التبادلي(commutative ) حيث تتمثّل النتيجة  في تحقيق معادلة رياضية أو باقتفاء القضاء التّوزيعي(distributive )الذي  سيتّجه إلى تكريس حلول غير منصفة على الصعيد الموضوعي كي يضمن  توزيعا أفضل للثروات بين النّاس وذلك  بحسب إمكاناتهم .و قد آثرت المجتمعات الإنسانية على تنوّعها الشديد الحلّ الثاني.و مع ذلك فإنّ هذه التصورات المتنوعة التي تقرن القانون  بالعدل ترفع من قيمة القانون من خلال حدّه وذلك مقارنة بمثل أعلى ايجابي. إلّا أنّ القانون يمكن أن يُصبغ بلون قاتم جدا حسب جون كاربونيي. فهل يكون أساسه الحقيقي ليس إلاّ البحث عن الخير و الحق و العدل و الوجود  المأسوي للشرّ حيث نكون حقّا  في  مواجهة تاريخ البشرية بصرامة واضحة؟  إنّنا متفقون مع جون كاربونيي عندما كتب :"... إنّ هذا العالم الفاسد الموسوم بطبيعة واحدة قد يؤول إلى الاضمحلال  و يهرول للوقوع في عمق الهاوية لو لم تكن فيه قوانين. وفي هذا السيّاق يظهر القانون بمثابة شرّ,لا لأنّه يصنعه أو يسهم في صناعته و لكنّ لأنّه مرتبط بوجوده . إنّه يوحي بالخطيئة, و دون شكّ فإنّ ظواهر التضخّم  التشريعي التي تصدم المتابعين في عصرنا لا تدلّ إلّا على هيجان الشياطين.¹
 لكن حتى و إن اخترنا مواصلة ربط القانون بالخير  فإنّ اقترانه بالعدالة لا تنجرّ عنه صعوبات أكيدة, فهو لا يلقي لنا الضوء على  محتواه إطلاقا, إذ كما لاحظنا  توجد عدّة أشكال من العدالة ,فضلا عن أنّ فكرة العدل تختلف حسب الثقافات .إنّ الجنوح إلى الاعتقاد  بارتباط القانون بقيم ذات طابع أخلاقي يقود فعلا إلى إقرار تغيّره ,و  قد يكون من الملائم الحديث عن مسار للتقنين أكثر من الحديث عن قانون.ولحلّ هذه المعضلة تبنّى الوضعيون حلاّ لم يكن إلاّ عذرا كاذبا و هو أن ّ القانون ليست له علاقة مع ما ينبغي أن يكون  و يتطابق مع الخطابات التشريعيّة . وهي إجابة غير مقنعة جدّا لأنّها تخلط بين تحديد القانون و تحديد مصادره,هذا من ناحيّة.ومن ناحيّة أخرى ومثلما سنلاحظ ذلك فإنّ نموذج تصوّر القانون ليس الوحيد فهو يعاضد تصوّرا آخر و أحيانا يعارضه  بتحويل القانون ذاته حارسا للنّظام.وفي الختام تبيّن دراسة المجتمعات غير الأوروبيّة ـ  بشكل خاصّ ربّما ـ  و بوضوح كما لاحظ ذلك م. أليوت M.Alliot أنّ البحث عن العدل لا يمثّل إلاّ وجها من وجوه القانون إذا ما قصدنا به مراقبة الأعمال و القيم  التي تعدّ  مسألة أساسيّة عند المجتمع مثلما نفعل ذلك اليوم .و كذلك هو شأن "إنوي" قرونلاند  Groenland  Les inuit de, فلتسويّة البعض من أشكال صراعاتها   تلجأ إلى منافسات في الغناء حيث لا يتعرّض الفائز  بالضرورة لضرر بشكل ظالم . و إنّما  يعرّض المغنّي الأكثر مهارة  منافسه للسخريّة².وفي كثير من المجتمعات يعوّض القاتل  الضحيّة في مجموعته العائليّة ويعتني بزوجته وأبنائه.و في مثل هذه الأوضاع لن تكون من أولويّات القانون السعي إلى تحديد من هو على حقّ,ومن هو على باطل ولكنّه سيسعي  للتوفيق بين الخصوم أو بين جماعاتهم لتفادي تصاعد التوتّر  في المجتمع برمّته.و يمكن القول أنّه يتضمّن أيضا قواعد  تلزم بإعادة توزيع الثروات دوريّا ( مثل طقوس الإغريق القديمة و احتفالات تقديم القرابين و الصدقات في المجتمعات التقليديّة وكذلك الضرائب على الدّخل و رأس المال في مجتمعاتنا الحديثة التي لها قدرة قويّة على إعادة توزيع الثروات ).فالذي يُفرض عليه العطاء أو من يقع الاقتطاع من ميراثه لا يسبّب بالضرورة ضررا لجيرانه . غير أنّ تلك الاقتطاعات تعتبر ضروريّة لتجنّب خلق الكثير من التّوتّر.لهذا السبب يمثّل القانون ضامنا  للنظام و الأمن بمعزل عن صلاته بالعدل و الحق.
ـ القانون و النّظام في المجتمعات التقليديّة و الحديثة:
نحن نعلم أنّ القانون عند أتباع التحليل الإجرائي شأن ب.ج.بوهانان  P .J .Bohannan يتم استيعابه مباشرة ضمن صيغ تسويّة النزاعات أيْ في إعادة تثبيت النّظام الذي قد يتشكّل أو لا بواسطة إجراءات تهدف إلى تحديد تقاسم للمسؤوليّات بين الأطراف المتواجدة ( كما هو الشأن في نظامنا القضائي) أو لإعادة السلم الاجتماعية فحسب .وتبيّن أيضا دراسة مفردات لغة "إنوي لابرادور"Inuit du Labrador أنّ القانون عندهم له دور إعادة الانسجام ,و أن كل سلوك غير لائق أو غير مقبول يفسّر ممن تضرّروا منه  كإساءة تعكّر صفو النّظام الاجتماعي.(  العبارات التي تفيد اليوم دلالة ما هو خير أو شرّ  كانت قديما مرادفة لما يوجد أو لا يوجد  وبرهانا دلاليا على الوعي الذي كان لدى "الانوي" في جعل  كلّ سلوك  مشين قادرا على تدمير الحياة الاجتماعيّة).إن التوازن الاجتماعي يطغى على تحديد المسؤوليّات فلا يقوم أيّ حكم على القيمة الذاتيّة للأفراد وأعمالهم سواء عوقبوا أم لا( العبارة التي نترجمها بإساءة ـ و كذلك بالإثم كما يقول المبشّرون ـ تعني بالأحرى عدم الاستقامة و انعدام الرّاحة).
 و يرتبط القانون عادة في مجتمعاتنا بفكرة النّظام الاجتماعي ولكنّ كفاءته تختلف تبعا لمصادقة الكتّاب على النّظام الخاص بنوع المجتمع الذي ينتمون إليه.ففي الحالة الأولى سيفهم القانون باعتباره ضامنا لسلامة المواطنين  وهو ما يتطلّب احترام النّظام الاجتماعي و إن لزم  الأمر قد يعترض على تصور آخر للقانون أساسه العدل(  يؤدّي تأمين سلامة المعاملات إلى إمكانيّة تحقّق هذا الأخير ـ خصوصا عندما يكون موضوعه الأثاث ـ ولو كان  الفارق بين سعر الشيء و قيمته مهمّا ).وفي الحالة الثانية سيُفهم القانون على أنّه ضامن لسيادة المجموعات الحاكمة و هي إحدى ركائز النظام الاجتماعي و الاقتصادي الذي لا يمكن الاعتراض عليه. و عند م. مياي M.Miaille  فإنّ الطابع المجرّد و غير الشخصي  لقواعد القانون في مجتمعاتنا مرتبطة بنمط الإنتاج الرأسمالي حيث يقع تبجيل النزعة الفردية.ومهما تكن الأهليّة التي اختيرت  للانتساب إلى النظام الاجتماعي الذي يصلح  لخدمة التصوّر القانوني الأساسي فإننّا سنلاحظ أن هذا النوع من التصوّرات لا يبدو حاملا لنفس النتائج تبعا لأنواع المجتمعات.وفي المجتمعات التقليديّة لا يقود التصوّر القانوني القائم على النّظام بالضرورة إلى تثمين قيمة العقاب بل على العكس فقد رأينا أن القانون قد يهدف قبل كل شيء إلى تحقيق الانسجام الاجتماعي باعتباره نموذجا  يرتكز أو لا يرتكز على عقوبات تكون في الغالب مرنة.
أمّا في مجتمعاتنا فإنّ الوثوق في القانون وخاصة السطوة التي تفرضها عليه الدولة قد دفعت   إلى إسناد دور فاعل إليه يتجسّد في  التأكيد المفرط  على المعيار القانوني للعقاب فالقواعد الاجتماعيّة المتفق عليها تحت صيغة اللّجوء إلى هيئات قضائيّة تصبح قانونية أو بالأحرى قابلة للعرض على القضاء كما لاحظ ذلك جون كاربونيي J.Carbonnier   لأنّ استخدام  الإكراه في أغلب الأحيان لا يؤدّي بالضرورة إلى تطبيق القانون. بيد أنّ هذا العمل  يبدو غير مقنع, لأنّ أ.وايل A.weil  و ف.ترّي F.Terré   قد كتبا عن ذلك بوضوح كبير ما يلي"...إن قاعدة  غير قانونيّة لأنّه وقع الاتفاق عليها من المجموعة  بأي صيغة من الصّيغ , وهي قاعدة متفق عليها من المجموعة بصيغة من الصيغ  لأنّها قانونيّة"³ . غير أنّه وفقا لوجهة نظرنا تفهم المجموعة  أنّ ما هو قانوني هو ما يؤخذ فيه بعين الاعتبار تماسكها و تكاثرها.
إنّ الإدّعاء بأنّ القانون محدّد بواسطة العقاب هو إساءة لاستخدام اللّغة. وفي أفضل الحالات فهو لا يمثّل إلاّ علامة من العلامات الممكنة له.فقد ينصّ القانون من جهة على قواعد دون فرض عقوبات, ومن جهة أخرى تكون العقوبة مرنة في  أكثر المجتمعات التقليديّة. و قد تتنوّع كثيرا حسب ظروف الجناية والشخص الذي اقترفها. ومن البديهي كذلك أنّ أشكال العقوبة السائدة و طبيعتها تختلف ما بين المجتمعات الحديثة و التقليديّة, إذ  يقع اللّجوء دوما إلى المحاكم وإلى الإكراه المادّي أو المالي في المجتمعات الحديثة. وإجمالا تبيّن بعض الظّواهر القانونيّة حديثة العهد أنّ القانون يمكن أن يتأسّس أيضا على غير العقاب أي على التعويض.ففي سنة 1986 كانت قوى الأمن قد سلّمت في بعض المناطق الفرنسيّة لبعض سائقي السيّارات الحاملين لحزام الأمان مبلغا ماليّا يضاهي الخطية المحتملة لعدم استخدام هذا الحزام, أما في سنة 1987 فقد طبّقت مدينة ليل الفرنسيّة نفس المبدأ مع السوّاق الذين كانوا قد امتثلوا لقواعد الوقوف.و مثل هذه الحالات تجدّد الصلة مع "القانون ـ النموذج" الأكثر تحفيزا و الأقلّ ردعا. إنّ مقياس العقاب مهما كان ناقصا قد مارس تأثيرا كبيرا على التفكير القانوني. وهو ما عبّر عنه ج.بوارييه  J.Poirier أيضا بقوله " إذا كانت الجناية متبوعة بعقاب شرعيّ فنحن نتعامل مع قاعدة قانونيّة, و عليه نعتقد أنّ العقاب الشّرعي موجود إذا استجاب الزّجر للخصائص التّاليّة: التلقائيّة,العلنيّة و الماديّة"4.وفي الوقت الحالي فإنّ الاتجاه السّائد عند علماء إنتروبولوجيا القانون لا يتمثّل في التخلّي عن العقاب بل في الحدّ من دوره داخل الظاهرة القانونيّة 5.لكن. ومع هذا, لماذا يطاع القانون؟
ـ لماذا يُطاع القانون؟
يُطاع القانون إمّا خشية العقوبة التي تنجم عن الإخلال به و هو ما يعزّز دعاة معيار العقاب.وإمّا بسبب ما ينشأ عنه من عوامل نابعة من الضغط الثقافي وهو رأي أغلب الكتّاب الآخرين. وقد لاحظ ر.ب. سايدمان  R.B.Seidman  أنّ إمكانيّة  تقدير التكاليف القانونيّة النّاجمة عن المخالفة تختلف حسب الظروف( فقد يقع  تطبيقها في موضوع حظر وقوف السيّارات أكثر من جريمة عاطفيّة).و من جهة أخرى يبدو مؤكّدا أنّ دور التربيّة محدّد في استيعاب الطابع الإلزامي لقاعدة القانون. و ينبغي ربط  التأثير  الذي يمارسه القانون   بالتقاليد الثقافيّة أثناء عمليّة الاستيعاب هذه.لقد سعى بيار لوجاندر P.Legendre انطلاقا من عمل تاريخي و نفساني للقانون في آن واحد  إلى بيان دور هذا الأخير في نحت "حبّ السلطة"  المتجسّد رمزيّا في اللّه و الإمبراطور و قداسة البابا في تراثنا الغربي, و في المشرّع و الشخصيّات الممثلة للقانون في عصرنا الحالي. وفي مقابل خضوع الفرد للقانون فإنّه يكافأ بالحماية و المحبّة التي تجسّدها شخصيّة بارزة و من هنا يقع حثّه على الاستفادة من هذا الحبّ. و من جهة أخرى ستولّد  هذه الآليّة  قداسة للقانون لأنّ النّصوص  القانونيّة المشتّتة ستتحوّل إلى النصّ الذي يستمدّ شرعيّته من المتلفّظ به والمعقوليّة التي يزيّن بها المشرّعون هذا النصّ. و يمكن أن نرى من خلال هذا التفسير أنّ الانتماء هو أساس لطّاعة القانون أكثر من العقاب. و لكن قد تكون أيضا ناجمة عن عوامل أخرى.ويطرح جون كاربونيي  J. Carbonnier  J. عدّة فرضيّات6 و هو يتساءل عن الطبيعة الإلزاميّة للعرف. فإما يكون سبب هذه الطبيعة الإلزاميّة موجودا خارج نطاق الفرد و عليه تكون تربيته العائليّة والاعتياد على التقليد في الّسلوك الاجتماعي للأفراد ( "قوانين التقليد" لطارد Tarde) أو تأثّره بالأساطير التي يروّجها مجتمعه هي سبب انصياعه للعرف أو أنّ الأمر يتعلّق بعوامل داخليّة لدى الفرد إذ بيّن التحليل النّفسي أن هناك ميلا نفسيّا إلى التكرارـ  يكون عادة مرضيّا ـ و يبدو أنّه إحدى سمات النّفس البشرية.و من جهة أخرى وفي مستوى أكثر وعيا  فقد يكون العرف متولّدا عن التوافق , إذ يقع الانصياع  لقاعدة تمّ ضبطها أملا  في إقامة معاملة بالمثل في الطاعة التي سيُستفاد منها في المستقبل( في هذا المعنى تنظمّ نظريّة جون كاربونيي إلى نظريّة ما لينوفسكي).لكن من وجهة نظرنا تفسّر طاعة القانون بالنظريات التي تركّز على الضغط الثقافي أكثر من العقوبات القضائيّة(  ومثال المجتمعات التقليديّة يدفع إلى التفكير في ذلك), التي ظلّت والتي لا يمكن استبعادها في مجتمعاتنا بشكل محدّد. ومن جهة أخرى فنحن نتفق مع رأي جون كاربونيي في أنّ نظريّة واحدة لا يمكن أن تفسّر كلّ ملابسات طاعة القانون فبعضها يتلاءم أكثر من البعض الآخر وذلك  وفقا للظّروف.
و لمحاولة تحديد أسباب الطاعة هذه يمكن لنا اللّجوء إلى الأمثلة التي وضعها هؤلاء الذين انطبقت عليهم.ففي استطلاع للرأي أجري سنة 1987 بين الفرنسيين المتراوحة أعمارهم ما بين 16 و 21 سنة6 بيّن لنا أنّهم ينصاعون للقانون للأسباب التّاليّة:
لأنّنا تعلّمنا أن نفعل ذلك : 30٪
لأنّه حقّ و ينبغي احترامه:27٪
كي لا نعـــــــــــاقـــب      :40٪
دون إجـــــــــــــابــــــة    :3٪
إنّ هذا الاستبيان الذي ركّز على فئة معينة من العمر لا يمكن أن يقدّم إلاّ نتائج جزئيّة . و مع ذلك تجدر الإشارة إلى أنّ تصوّر القانون ـ العقاب هو الغالب و أنّ ما يتعلّق بالحق و تأثير التربيّة كثير ما ُيستشهد به. و يبدو أنّ طاعة القانون في المجتمعات التقليديّة مكفولة بموجب الرّجوع إلى التقليد (فنحن نفعل ذلك أيضا لأنّ أجدادنا كانوا دوما يفعلونه) و احترام إرادة الأجداد و القوى الغيبيّة التي تسمح العديد من الطّرق الدينيّة بمعرفتها.
هذه هيّ إذن الأسباب المتغيّرة و المتضاربة أحيانا التي تقدّمها مواضيع القانون كيْ يُطاع. إنّ تصوّرات القانون لا تقدّم لنا سوى نتائج جزئيّة .و لهذا السبب علينا العودة مجدّدا إلى نظريّات القانون كي نحاول تحديده ضمن حقل التداخل الثقافي بشكل جيّد.

نوربار رولان. الانتروبولوجيا القانونيّة. ص:134 ـ 141.

الهوامش:
J. Carbonnier .Essais sur les lois ,Répertoire du Notariat Defresnois,1979 .p296.
Cf. N. rouland les modes  juridiques de solution des conflits chez les Inuit(op.cit supra, 65),p.80 -101.
 هذا النوع من تسوية النزاعات الذي يقلّص من  التوترات الاجتماعية يبدو مهيمنا في المناطق الشماليّة حيث تجعل  الظروف المناخيّة الحياة صعبة    وحيث تكون المجتمعات ذات أحجام صغيرة, وهي خصائص تجعلها أكثر قابليّة للصدامات الاجتماعية و عليه فهي متيقظة لكي تتوقّى منها.
A.Weill-F.Terré, Droit civil, Introduction générale, Paris. Dalloz,1979.p.16.
J.poirier,Le Problème de la rédaction des droits coutumiers d'Afrique Noire, Rapports Français  au V congres international de droit compare. Bruxelles 1958,Paris ,Cujas,1963,p.117.
Pour une critique du critère de la sanction ,J .carbonnier ,sociologie juridique, Paris ,A. Collin
,1972,p.129-136; N. rouland , Les modes juridiques de règlement de conflits chez les Inuit(op.cit.supra,65),p.10-47.
J. Carbonnier ,Flexible droit, Paris.1971.p.73-90.
Cf . R. Bosch, Jeunes: ce qu' ils croient, Le Point,769(15 juin 1987),p.90-91.