" الإعاقة الفكرية " وآلية إنتاج المجتمع المدبلج ـ عبد الجبار الغراز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

montagnes_063لا أقصد ب" الإعاقة الفكرية " ذلك المفهوم الذي يشير إلى الخلل الذي يصيب أحد مكونات الجهاز العصبي  فيترك أثرا بارزا يؤثر على سائر وظائف عناصر البنية الدماغية للفرد ككل ,  فهذا المفهوم لديه أناسه  من أهل الاختصاص سواء  في مجال الطب العقلي أو في مجال طب الأعصاب  الذين قدموا مختلف الدراسات العلمية القيمة لمعرفته أحسن معرفة , و لكن أقصد به نلك الفعالية و ذلك النشاط اللذان يحاربان العقل و يساهمان , بشكل كبير , في طمس أو تدمير أطره الفكرية الخلاقة و المبدعة الحاثة على إعمال التفكير النقدي . ومن أجل ذلك اقتضى التحديد المفهومي  النظر إلى " الإعاقة الفكرية "  على أنها مفهوم يعبر عن سيرورة ديناميكية متصاعدة في اتجاه مضاد , تماما ,  لاتجاه العقل و أطره الفكرية .

فإذ كان العقل البشري قد أنتج , عبر فعالياته الذهنية, أسمى لغة تجريدية  ( الرياضيات ) وأنتج , أيضا ,  طاقة تخييلية حولت الخام إلى مصطنع , وأضافت الثقافي إلى الطبيعي و المكتسب إلى الفطري حيث أصبحت تدخل في تركيبته وضمن أطره البنيوية الأساسية , و التي أثبت بفعلها  نجاعته الفكرية في ميادين لم تكن , في الماضي القريب , تحسب عليه , كالموسيقى و الشعر و الرقص و العلاقات البين _ فردية ... كما أكدت  لنا نظرية " تعدد الذكاءات " ل"هوارد غاردنر " , فإن " الإعاقة الفكرية " قد أنتجت في المجتمع المغربي " ثقافة التضبيع " " ثقافة التسطيح " و ثقافة التكلاخ " انطلاقا مما يقدمه إعلامنا المرئي هذه الأيام من أفلام و مسلسلات مدبلجة .

وحتى نفهم جيدا  ," الإعاقة الفكرية " و نضعها في إطارها الصحيح , سنحددها تحديدا خاصا , يخدم فكرة هذا المقال المركزية التي يلخصها عنوانه أعلاه . وهكذا سنعتبرها  نتاجا لمنظومات  فكرية قائمة الذات  تعمل , عبر الاشتغال على وسائل معينة , على شل قدرات  العقل البشري الطبيعية  الخلاقة , بشكل مباشر أو غير مباشر. و من بين تلك المنظومات نجد الإعلام في شقه المرئي  , الذي سنتطرق إليه باعتباره خطابا يتجه إلى فئة الأطفال و فئة الشباب , مبرزين كيفية تسببه في خلق إعاقة فكرية لديهما بالشكل الذي طرحنا أعلاه .

"الإعاقة الفكرية " إذن , هي قدرة خارجية جبارة  , سلطت على العقل واقتحمت بنيته الداخلية , بدون سابق إعلام , و عملت , بشكل بطيء و تدريجي , على شل قدراته و أطره العليا , كالقدرة على التحليل و التركيب و القياس و الاستنتاج و المقارنة و الحجاج و غيرها من القدرات , التي من المفروض إبرازها و تنميتها لدى أطفالنا و شبابنا بدل طمسها . 

فبناء على هذا التحديد يمكن  فهم الأهداف ,  التي يسطره الإعلام  المغربي ,  عبر ما يقدمه  جزءه المرئي  من خطابات مباشرة و غير مباشرة . و التي  تتلخص في  العمل على توحيد الأذواق و تنميط الشخصيات وفق أسلوب استهلاكي واحد , بشكل يجعل التلفزيون  , مثلا , يعمل , كما يقول بيار بورديو , على إنتاج " صناعة ثقافية استهلاكية " و التحكم في شبكات  نشرها , التي سعى الخبراء و أهل الاختصاص في مجال الإشهار إلى التفكير في تطويرها لتغدو , في ظرف زمني وجيز , قوة اقتصادية مجتاحة لكل الأقطار و عابرة , و بدون استئذان , لكل الحدود . 

فأمام  البعد الكوني لهذه التحديات المفروضة من قبل عولمة اقتصادية و أخرى ثقافية  , أصبحنا نرى في مجتمعنا المغربي ,  كيف يتم شل قدرات أطفالنا و شبابنا الفكرية و الإبداعية على مرئى و مسمع منا دون تحريك أي ساكن , لما نجد أطفالنا " مسمرين " لساعات طوال أمام الشاشة الصغيرة  و قد ابتلعتهم  برامجها السخيفة  , أو نجد شبابنا يبحر في متاهات الإنترنيت , دون حسيب و لا رقيب  , جاهلين مخاطره و الزلات التي قد يقعون فيها  كنتيجة لإبحار بدون شواطئ .

لقد تراجع , في المجتمع المغربي ,  بشكل ملحوظ  و خطير دور البيت  التربوي . ذلك الدور الذي سيجنب هؤلاء الأطفال و هؤلاء الشباب مخاطر وسائل إعلام  قد جرفتها تيارات اقتصاد سوق معولم , و لم تعد تميز بين الغث و السمين  أثناء تقديمها لبرامجها المسببة لإعاقة فكرية مزمنه . ذلك الدور الذي يحث الأطفال على مراجعة الدروس و إنجاز الواجبات  المنزلية .  فالبيت المغربي أصبح  , و للأسف الشديد ,  مكانا للتلاقي الميكانيكي لأجساد بلا أرواح .  مكانا لاحتكاك كتلات مادية من شحم و لحم و عظم بلا  تفاعلات حقيقية للعقول و للمشاعر و للأحاسيس الدافئة .  فلم يعد لدى الآباء و الأمهات  القدرة على فهم ما يجري و ما يدور في أدمغة و عقول أطفالهم فلذات أكبادهم , كما لم يعد لدى الأطفال ذلك "الانصياع الطفولي"  الذي  يجعلهم متقبلين لانتقادات الوالدين .  فالانتساب للعائلة أصبح ,الآن , في خبر كان ! لقد حل محله انتساب آخر : انتساب الأطفال للتلفزيون و الإنترنيت . فالأسلوب الإيحائي التنويمي المغناطيسي الذي يسلكه الإعلام المرئي جعل الأطفال ينسلخون عن عالمهم الحقيقي للدخول إلى عوالم افتراضية  تبعدهم , وجدانيا و عاطفيا , عن أسرهم و تجعلهم يعيشون في فراغ نفسي و روحي فظيعين .  فطغيان الصورة الرقمية , أضعف ميكانيزماتهم الدفاعية , و جعلهم , بالتالي  , غير قادرين على الاستفادة و الاستمتاع بخيرات كل تواصل عائلي حقيقي . أصبح البيت إذن , كما المدرسة , مكانا لتجسيد إعاقة فكرية ممنهجة ترسخ التبعية و السلبية و الخضوع لسطوة الشاشة الصغيرة على كل العقول, في أبشع معانيها .

والذي يصدق على  البيت و الأسرة  يمكن أن يصدق أيضا على  المدرسة . فلم يعد المدرس , مثلا , في فصله الدراسي  , قادرا على تطويق مشكل الفشل الدراسي أو مشكل استيعاب تلامذته لمضامين الدروس  بسبب عدم استساغتهم لها , ناهيك عن أنها  تقدم  لهم  بوسائل جد عتيقة . لكن , في المقابل ,  نراهم  يستسيغون المادة الإعلامية " المسمومة "  التي تعرضها عليهم   وسائل الإعلام المرئية , لأنها تقدم بوسائل جد متطورة زيادة على  اعتمادها  على الصوت و الصورة و المؤثرات الأخرى التي تثير الحواس و تجذب العقل ! 

لا يمكن , في نظرنا  , على كل حال , اعتبار , التلقين و الحفظ  و الاستظهار ... , تلك الأساليب العتيقة في التدريس ,  و المطبقة , لحد الساعة ,  في مدارسنا  التعليمية  , أسبابا جوهرية  تحدد تأخر منظومتنا التعليمية عن الركب و التطور الذي تعيشه أمم أخرى , بل  ينبغي اعتبارها  نتاجا حتميا للوضعية المتأزمة التي تعيشها  منظومتنا التعليمية . فالسبب الحقيقي لهذه الأزمة هو عدم تكييف البرامج و المناهج  و أساليب التلقي مع التطور الحاصل في المحيط القريب للتلميذ : فالطفل المغربي , كباقي أطفال الألفية الثالثة ,  يتعامل  في البيت مع أحدث التقنيات التي تمدها له تكنولوجيا الإعلام , و يتفاعل , بشكل طبيعي , مع معطيات عصر تطغى فيه الصورة و الصوت , بشكل صارخ ,  لكن نجده , في المقابل ,  لا يعثر على  ضالته  حين تواجده في الفصل الدراسي بسبب النقص المهول في تلك التكنولوجيا الذي تعاني منه مدارسنا . فالسبورة السوداء المتآكلة و الطباشير الملون و غير الملون  و المقاعد المصفوفة وفق تراتبية معينة ,و بيداغوجية " هل فهمتم ؟ " العقيمة  ,  أصبحت , الآن , كائنات غريبة على محيط  ينتمي لجيل مدرسة النجاح . ذلك الجيل الذي أريد له أن يكون رائدا في كل شيء . جيل يشكل بديلا لطفولة منهكة أجهدها التركيز و أتعبها طول الشرح الممل للدروس من طرف أستاذ تعوزه الوسائل في إيصال رسالته أحسن إيصال . 

فأمام  البعد الكوني لهذه التحديات , أصبحنا نرى , أيضا , كيف يتم تسطيح وعي شبابنا , انطلاقا من السموم التي تنفثها  وسائل الإعلام , خاصة المرئية , عبر ما تقدمه لهم من أفلام و مسلسلات مدبلجة , و برامج ترفيهية و مهرجانات تروج لثقافة التفاهة الخالية من أي مضمون ثقافي هادف يساهم في تكوين و نحث الشخصيات القادرة على بناء المستقبل المشرق , بمباركة منا كآباء و أمهات و مربين . ففي ظل الانعكاسات الخطيرة لاقتصاد السوق على مستقبل الثقافات المحلية و الوطنية و المجتمعات العالمثالثية , بدأنا نرى و نعيش , عبر ما تقدفه المسلسلات المدبلجة من سموم , كيف ينهار ما كان بالأمس القريب , ثابتا من الثوابت , و كيف يؤول مصير ما كان معتقدا راسخا . فقد أصبح مستقبل المجتمع المغربي وأجياله القادمة منفتحا على كل الاحتمالات . فسيأتي يوم ستحل أسماء مثل رودريكو و ألفريدو و بيدرو و ديابلو محل عبد الله و عمر و سعيد و فاطمة . حينها سيغدو المجتمع المغربي , جراء ذلك , مجتمعا مدبلجا بامتياز  قد أتلفت نسخته الأصلية !!!

يستمر مسلسل " الإعاقة الفكرية " و التضبيع و التسطيح و تمتد فصوله الدراماتيكية لتصل بأطفالنا إلى ضفاف نهر المراهقة . و ما ادراك ما المراهقة !!! 

تميل شخصية المراهق , شأنها شأن شخصية الطفل , طبيعيا ,  إلى المعرفة , سواء كانت تلك المعرفة تتعلق  بذاته أو بمحيطه السوسيوثقافي أو بمختلف تجلياتهما وأبعادهما الأخرى الإنسانية و الكونية . وهذا الأمر  يقتضي منه استنفار جهد فكري  و روحي كبيرين ,  لتعبئة مختلف موارده الطبيعية و الثقافية قصد بناء شخصية قوية , و التي قد تجد ضالتها في النهل من  مختلف العلوم و الرؤى الفلسفية و الآداب و الفنون و غيرها .

فإذا كانت المراهقة هي تأكيد للذات و ميل بالشخصية نحو الاستقلالية ,  كما تؤكد ذلك أدبيات التحليل السيكولوجي و السوسيولوجي ,  و إنتاج لما يسميه " تالكوت بارسونز " , ب"الثقافة الفرعية " التي تنبني , سلوكيا و فكريا على فكر بديل رافض للمجتمع و قيمه و نظمه السائدة و أنماطه السلوكية , فإن " الإعاقة الفكرية " تتجلى هنا في التوظيف الإيديولوجي و الاستغلال العنيف  لهذه الفترة العمرية من حياة الإنسان من طرف وسائل الإعلام المرئية , عبر تحويلها إلى مجرد موضات ثقافية , لا أقل و لا أكثر .

ونحن نعيش أجواء العرس المونديالي , فذلك مناسبة نتعرف بواسطتها أين يكمن الوجه الأكثر عنفا لوسائل الإعلام . فالأعلام قد صرف المراهق المغربي عن قضاياه الجوهرية و أزماته الحقيقية التي يعيشها في وسطه الاجتماعي و الاقتصادي الفقير , و جعله رهينة " ديمومة ارتباطية " Interconnectivité مع مغريات عصره . هكذا تسعى الشبكة العنكبوتية و القنوات التلفزية إلى خلق فضاء  بديل للعالم الحقيقي تقدمه للمراهقين و المراهقات , فضاء  خال من الحروب و الأزمات و الويلات التي تعصف بالكيانات . فضاء حيث يتم فيه فبركة عالم مليء  بالمتع  وبالرغبات و اللذات الحسية , اعتمادا على الخدع الادراكية  و إثارة للمشاعر و الانفعالات القوية التي من شأنها تشويه الصور المدركة في العقول عن طريق اللجوء إلى الإشهار و أفلام الحركة و عالم النجومية . فصنع الرغبات هذا, المنبئ , وهميا , بالرفاه و ببحبوحة العيش , يضعف لدى المراهق , كما رأينا مع الطفل , أناه الدفاعية و قدرتها على تحليل وتركيب الرسائل المشفرة لخطاب الصورة .إضعاف  تلك الملكة الذهنية الخلاقة القادرة على خلق مسافة ممكنة و معقولة بين ما يقدمه الإعلام المرئي من  خطابات ملغومة , وبين الذات المستقبلة له قصد تفكيك مختلف رموزها و تأويل ادعاءاتها ونواياها المبطنة .  

لا وقت , إذن ,  لدى المراهق و المراهقة للتفكير و استيعاب الأمور لاتخاد المواقف الصحيحة والحسم في الأمور و القضايا الجوهرية و البناءة . فإمطاره في البيت بسيل من المسلسلات و المقابلات في كرة القدم  و الأفلام المدبلجة : المكسيكي و البرازيلي و الهندي و التركي و الكوري ... و إغراقه في الشارع و الفضاءات العمومية بمهرجانات تتلون بألوان فصول السنة ( تيميتار , موازين , كناوة , العيطة ... ) باسم الثقافة و الغنى الثقافي, هو, لعمري, تكريس كبير لانفصام الشخصيات. فالإعاقة الفكرية , التي نحن بصدد تحليلها و مناقشتها هي  جوهر الشلل الذي بدأ يدب في جسمنا الثقافي المغربي  المريض  أصلا , دون أن  نجد له الدواء الشافي ,  قبل فوات  الأوان  .   
- عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.   عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
algharraz.maktoobblog.com