المدينـــة والمواطــنة - عبد الله عطيّة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

artiste-peintreتوطـئـــــة:
تقوم الدّراسـة مثـلمـا يشيــر إلى ذلك العنـوان على مقولتين اثنتين أساسيتين: المدينـة و المواطنــة, وبين اللفظين وصـل أداتــه حرف العطف "الواو".
تقـدم ذكر المدينـة على المواطنـة قصدا على أسـاس أنـهـا إطـارهـا و فضـاؤهـا. و المواطنة بهذا المعنى صفة المديني أعني ساكن المدينة.
نعترف بداية بأن العنوان إشكاليّ إلى حد بعيد و يثير تساؤلات أولية مشروعة منها على سبيل الذكـر:
-         ما هي مبررات اعتبار المدينة مثلما تذهب إلى ذلك الدراسات الحديثة المجال الذي يحقق مواطنة الفرد ؟
-         ما هي خصوصية العيش في المدينة بحيث تنسحب صفة المواطنة على ساكنيها ؟
-         ألا يعتبر ساكنو القرى والأرياف مواطنين ؟
قد يكون من السابق لأوانه مباشرة هذه التساؤلات ولكن نشير إلى أن المواطنة مفهوم مركب  
ومتعدد الأبعاد, ومعناه ملتبس بدوره بالثقافة التي إليها ينتسب وباتجاهات التفكير و الحقب التي إليها ينتمي. وعليه فإن هذه المقولة لا دلالة لها دون محتوى (un contenu) يحدده    ( مثل: معرفة تاريخ المجتمع/حرية التعبير عن الرأي /ممارسة الحقوق السياسية / أداء الضرائب و التكاليف العامة...).
إنّ المواطنة على ضوء هذه الإشارة تفيد الاهتمام بالشأن العمومي (la chose publique) أي بما ييسر على الجمـاعة المدينيّة "العيش معا" (vivre ensemble) وبقبول قواعد العيش الجماعي.فالمواطن هو الذي يحترم الآخرين فيحترمونه والاحترام يتجاوز مجرد كونه قيمة أخلاقية ليغدو علاقة مدنية تتركز على قبول الاختلاف وعلى الوعي بجملة من المسؤوليات المدنيّة ذلك إن المواطنة كما يعرّفها دومينيك شنابر Dominique schnapper هي "أصل الترابط الاجتماعي" [1] "la citoyenneté est la source du lien sociale "


1- المواطن في محيطه الاجتماعي و السياسي :
- مكونات المحيط : المدينة أهم مكون لمحيط المواطن وهي دلالة رمزية تخص تجمعا بشريا كثيفا عددا و غير متجانس نوعا. لغة لفظ "المدينة" مشتق من الفعل الثلاثي دان ومن معانيه:
- أقرض, فنجد الدائن و المدين.
- دانه أي ملكه وأستعبده وحكم عليه.
- دان أي عزّ وذلّ و طاع.
إنّ ما يجمع هذه التعاريف هو معنى الاحتياج والترابط أيّـا كان شكلهما و مستوياتهما:
متكافئا/غير متكافئ
إراديا/مفروضا إلخ...
-  مفاهيم ابن خلدون   للملك والعمران والحكم والدولة ترتبط ارتباطا عضويا بهذا المعنى الرمزي للمدينة "أي المكان الذي يجري فيه القضاء والحكم". [2]
ودون إفاضة القول في أصل نشأة المدينة و مراحل تطورها يحسن التأكيد على أن الثورة الصناعيّة التي شهدتها أوروبا و بخاصة في بريطانيا في منتصف القرن الثامن عشر مثلت لحظة هامة في انتشار ظاهرة التحضر الملازمة لانتشار المدن و اتساع مجالات اهتماماتها, وهو ما دفع الأمم المتحدة إلى أن توصي في إعلانـها للمبادئ بشان المجموعـات السكنية بأنه:"ينبغي, عند تخطيط مجموعات سكنيّة جديدة أو إعادة تشكيل المجموعات القائمة,أن تعطى أولوية عالية لتعزيز الأحوال المثلى والخلاقة للتعايش الإنساني, وهذا يعني إيجاد حيّز مديني محكم البنية بحيث يفي بالموازين الإنسانية ويحقق الترابط الوثيق بين مختلف الوظائف المدينيّة ويقضي على التوترات النفسيّة التي يضيق إنسان المدن بها".[3]
المدينة محيط اجتماعي وسياسي متشابك المكونات ومتعدد الفضاءات والمؤسسات, وهذه الأخيرة – المؤسسات– رغم كونها ليست إنتاجا حديثا فإنها تمثل العلامة المميزة للمجتمع الحديث لكونها:
-         كثيفة عدديا.
-         تستجيب لمختلف حاجات المواطن الشخصية والجماعيّة.
-         تؤطّر مسالك الفعل الفردي /الجماعي و تؤثر في العلاقات السائدة.
- تستبدل منطق الولاء والقرابة والعرف بمنطق القانون أي الوازع وفق التعبير الخلدوني:"
ثم إنّ العمران إذا حصل للبشر...فلا بدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض[4].إن المدينة المتحدث عنها في هذا الجانب ليست مجالا جغرافيا أو هندسة معماريّة على أهميتهما و إنّما هي مؤسسات ومنظمات أي أطر مدينيه تتيح للأفراد ممارسة مواطنتهم. المواطنة المنظور إليها على أســاس من التواصل (communication) الذي يعرفــه شارل كولي (CH.Horton Cooley) بكـونـه : " الآلـية التي بها تنـشـأ العلاقات الإنسـانيـة وتنمو"(Par communication, on entend ici le mécanisme par lequel les relations humaines existent et se développent) و إذا كانت المجتمعات قديما تمتلك منظمات ومؤسسات تدير من خلالها وبها شؤونها فإن المجتمع المديني الحديث هو مجتمع المنظمات. فهي وحدات اجتماعية unités sociales أنشئت لتضمن تحقيق أهداف مخصوصة (المؤسسات التربوية/المنظمات المهنية/الأحزاب السياسية...) وتختص هذه المنظمات بـ:
أ‌     تقسيم العمل والسلطة و المسؤولية. هذا التقسيم ليس قائما على عادات أو تقاليد أو محكوما بالصدفة و إنما بميثاق أي عقد (contrat) يضبط الأدوار ويحدد الوظائف.
ب‌حضور مركز أو مراكز قرار تراقب عمل هذه الهياكل وتوجهه نحو أهداف معلومة.إن وظيفة هذه المراكز تتمثل أيضا في مراجعة أداء الفاعلين و إعادة ترتيبه و متابعة مراحل إنجازه عند الضرورة ضمانا للنجاعة.
ج- إمكانية استبدال الفاعلين الاجتماعيين في هذه الهياكل المدينية بآخرين عند الاقتضاء. ذلك أن هيكل المؤسسة ثابت في حين أن الأطراف المنضوية إليه متحولة من خلال: الترقية / النقلة / الطرد...
إن المنظمات المدينية تنشأ لتكون ناجعة (efficace) وذات مردودية (rentable).
النجاعة تحدّد بقياس مدى توصل المنظمة إلى تحقيق أهدافها,في حين تقاس المردودية بعدد الموارد المستخدمة لتوفير وحدة إنتاجيّة معيّنة .
« L’efficacité réelle d’une organisation spécifique est déterminée par la mesure dans laquelle elle atteint ses objectifs .La rentabilité, elle, est mesurée par la quantité des ressources utilisées pour produire une unité de production [5] »
إلا أن التحليل المقارن لعديد المنظمات والمؤسسات التي يحتويها فضاء المدينة لا يحصر
نجاح هذه الأخيرة في أدائها بمجرد تحقيق أهداف معينة مادية بالخصوص, وإنما ينكب
اهتمامه على تحليل النسق (Le système) أي العلاقات التي ينبغي أن تتوفر حتّى تتمكّن هذه الهياكل من الاشتغال والتواصل.
إنّ دراسة نسق عمل هذه الأطر تقود إلى معرفة الوسائل الناجعة الضامنة لإنجاز الدور الموكول لها والتي من أهمها العلاقات المهنيّة والإنسانية بالخصوص.
وطالما أن المدينة هي مجال تواجد هذه المنظمات فإن موقع الفرد/المواطن ينظر إليه في علاقة مع الآخر الشريك له في هذا "العقد الاجتماعي" أعني المواطنة.
" إن المنظمات الاجتماعيّة والمهنيّة والأحزاب السياسيّة هي قوام المجتمع المدني, مهمتها تأطير المواطنين وتهذيب سلوكياتهم والرفع من درجة الوعي بالمواطنة بينهم ".[6]


ولعل الفرد يحتاج في سياق هذا التنوع الجمعياتي والمؤسساتي إلى إطار مرجعي مدني يمكنه من ممارسة مواطنته ومن إتيان سلوك اجتماعي مسؤول (une conduite sociale responsable).
2- عناصر أولية لممارسة المواطنة :
يحسن البدء بالاقتراب أكثر من مفهوم المواطنة وتحديد بعض تعريفاتها ولئن كان المدخل اللغوي السبيل عادة إلى مثل هذا الضبط فإنه قد لا يفي بالحاجة أحيانا وقد يشكل قصورا معرفيا يحول دون الانتهاء إلى التعريف المناسب.حيث أن "المصطلح هو تمثل ذهنيّ لموضوع تصوره العقل " وان للمصطلحات انسابا وانتماءات إلى أصول فلسفيّة وتاريخيّة وقانونيّة واجتماعية ولسانيّة وعلميّة مختلفة قد تثير التباسا عند الاشتغال عليها.
" المصطلح مشروع مفتوح يتغيّر مع كلّ تحوّل يمر عليه من فرد إلى فرد,ومن زمن إلى زمن ومن لغة إلى لغة "[7] .
إنّ المصطلح هو من "الألفاظ الخاصة" تتوفر فيه مجموعة من السمات العلميّة والتي يفترض أن تنأى به عن كلّ لبس وغموض منها:
-   الوضوح والدقة
-         الاختزال والكثافة
-          المنطقية ( خلوه من التناقض )                                                         
-           استقلاليته عن الذات           
التعريف اللغوي للمواطنة يحددها بالإقامة في الوطن الذي هو " منزل إقامة الإنسان ولد فيه أم لم يولد " والمواطن هو " الذي نشأ معك في وطن واحد أو الذي يقيم معك فيه "[8]
فعلى ضوء هذا التحديد يتضح أنّ معنى المواطنة منظور إليه من زاوية الانتماء والإقامة وهو كذلك فعلا ولكن دون التغافل عن جملة من الاستحقاقات الأخرى تمثل جوهر هذه المقولة وهي حقوقيّة –سياسية بالأساس.
فالمواطنة وفق التصور المدني الحديث لم تعد مجرد صفة تتعلق بالأنساب إلى الوطن وهو ما يرادف مصطلح الجنسيّة (Nationalité) والتي هي انتساب إداري وقانوني إلى كيان سياسي
(الدولة), وإنما هي الكيفية التي يتصور بها الفرد (المواطن) انتماءه لتجمع اجتماعي سياسي.
(المواطنة الأوروبية مثلا). والمواطن بذلك هو المنخرط في قواعد المدنية وغائياتها بما يسمح له بالتمتع بحقوقه والقيام بواجباته.
نجدد التأكيد على أنّ المواطنة مفهوم مركب ومتعدد الأوجه والملامح . فهو يشمل قيما ومبادئ أولية ملازمة لجوهر الإنسان ومحددة لمكانته (الحرية /الكرامة/ الأمن/ الديمقراطية/ التطور...).
وهي بذلك تجلية (Une manifestation) للهوية الوطنيّة خاصة في جانبها السياسي والاجتماعي. 
المواطنة (citoyenneté) تتصل بالهوية الوطنيّة (الجنسيّة) :المواطن كمقابل للأجنبي غير أنّ حامل الجنسيّة قد لا يمارس حقيقة مواطنته لاعتبارات عدّة (الأطفال/فاقدو الحقوق المدنيّة والسياسيّة...) مثلما أنّه قد تتحقق مواطنة الفرد بقطع النظر عن جنسيته بل إنها تستحيل في ذاتها جنسية (المواطنة الأوروبية مثلا ! ) .
تتعدد فضاءات ممارسة المواطنة خاصة في المجال الحضري بحكم خصوصية المكان وتنوع ساكنيه وحرفائه, هذا إلى جانب هشاشة الروابط القرابيّة المميزة للمجال الريفي أو القروي.فالسلوك الفردي أو الجمعي في المشهد الريفي "مجاله العاطفة " غالبا بكلّ تعبيراتها (الولاء /الاحترام/الحياء/حضور الآخر في الوعي واللاوعي...) في حين أنّ "مجال القانون " هو الذي يحكم هذا السلوك في المشهد المديني الحضري في أغلب الأحيان من خلال حضور الأجهزة الإدارية والقانونيّة والعلاقات الشكليّة. وبذلك تصبح المواطنة بناء اجتماعيا لا مجرد جوهر أو صفة فهي تعني كيفية تعلم العيش معا بمراعاة جملة من القيم المدنيّة.

3- المواطنـــة والقيــــــم :
المواطنة صفات خلقيّة (Qualité morales) متمركزة حول مقولة المدنية (civisme) بما تعنيه من الانحياز إلى:
-  ما هو عمومي في مقابل الخاص.
إلى -  ما هو مشترك في مقابل الفردي.
-  والى الآخر في مقابل الأنا.
إلى  -  ما هو واجب إلى جانب الحق.

هذه الإيتيقا المفترض أن تمثل أسّ التواصل داخل المجال الحضري هي ثقافة أي كلّ مركب من القناعات والمواقف والسلوكات تجعل الممارسة فردية كانت أم جماعيّة سويّة ومنسجمة مع ما تقتضيه فلسفة العمران البشري وأصوله. غير أنّ الفردية قد تكتسح مجال هذه العلاقات في الكثير من المسالك فيغدو حضور الآخر في التصور الذاتي ضعيفا وحينها يصبح الحديث عن المواطنة بلا معنى بل غطاء يحجب الكثير من الممارسات اللامدنيّة .ذلك أنّ النسيج الاجتماعي المديني يختلف عنه في الريف بحيث نسجل في الأول نوعا من المفارقة:فبقدر ما يكون الفرد/المواطن قيمة أساسيّة في الثقافة الديمقراطيّة الحديثة في تحوله من الحالة الطبيعية  (L’état de la nature)إلى الحالة المدنيّة (L’état civil) بتخليه عن منطق النفع الشخصي المطلق لفائدة مبدأ التعاقد الذي يتم ّبإرادة جماعيّة ورغبة مشتركة في إدارة الشؤون العامة فتتحقق مدنيته التي هي :" مجموعة الصفات الوديعة والرقيقة التي يحملها الإنسان أثناء تصرفه وفي علاقاته بالآخرين "[9] ,

فبقدر ما ينظر إلى الفرد /المواطن كذلك بقدر ما يبدو المجتمع أحيانا " كلّما ازداد تمدنا أظهر مزيدا من التوحش "[10] , " فالمجتمعات اليوم تعاني من "العنف الصامت " ,وهو عنف يفسره تحول الإنسان الحديث إلى حالة أو رقم أو قوة (بالمعنى الاقتصادي أو الفيزيائي) ,أي إلى موضوع لنشوء دراسات أو لوضع برامج أو لرسم إستراتيجيات .
" هكذا يتضح أنّ المدنيّة مفهوم ينطوي على ثلاث مجموعات من العلاقات:
-         علاقات الإنسان بالمكان:وهي التي تعيّن له حدوده ومختلف احتمالات التحرك والاجتماع والانفصال التي يوفرها.
-         علاقات الإنسان بالزمن: وبالتالي سجله الخاص و إيقاعات الحياة والعمل وتحقيق الذات والموت.
-   علاقات الإنسان بالإنسان: وبالتالي مجموعة شبكات الصلة والعلاقة بين أشكال التمثل والتماثل,وبين مفاهيم الفرد ,المواطن ,العشيرة ,الجماعة ,الطبقة ,أو بين الأيديولوجيات   الخ... ".[11]
" إنّ المدينة لا تجد مبررا لوجودها ولا تتفتح كحيّز لنمو وتطور الحريات والتواصل والقيم الاجتماعيّة المقبولة إلا في قدرتها على التحول إلى مركز لإنتاج الحضارة وإبداعها ونشـرها"4 و إلا " اختزلت من حيز مليء بالرموز والدلالات إلى مكان للتعايش المشوش والازدحام الدلالي " 5 .

4- المدينة ورهـان المواطنـة :
نرى أنه ثمة اختلافات بين المجتمعات /الثقافات في كيفية عيش المواطنة. ولئن كان القاسم المشترك بينها يتمثل في المشاركة في حياة المدينة, فإن موطن التمايز والاختلاف يتمثل في أشكال هذه المشاركة وفي حجمها وفي العقلية المصاحبة لها أو الدافعة إليها.
فمقولة المواطنة لا تفهم خارج السياق الثقافي المنتج لها أو المتبني لها كذلك فهي " مفهوم يتكون ويجب أن لا ينتهي تكوينه, وحين ينتهي تكوينه يتخثر ويصبح وثنا من الأوثان تماما مثل مقولة
التراث والحداثة والغرب "*.
ذلك أن هذه المقولة لا ينبغي أن تحّد بمفهوم ساكن,لأنها بناء تاريخي من ناحية ,وصياغة محلية من ناحية ثانية تأخذ بعين الاعتبار الخصوصي الثقافي والحضاري لمجتمع ما. وتجدر الإشارة


هنا إلى مختلف مراحل نشأة هذه المقولة اليونانية إلى اليوم.ولئن كانت أوروبا هي التي اخترعت فكرة المواطنة وهي أيضا مهد الدولة القومية (L’Etat-Nation)             
فإنها لم تعد بإمكانها التحكم في ملكية هذا المفهوم لأنه غدا ملكا إنسانيا مشتركا.
و الواقع أن ما تختص به المدينة من معايير أساسية تميزها عن الريف وهي:
-    كبر الحجم والكثافة السكانية غير المتجانسة.
-   امتلاك الأدوات التكنولوجية.
-    شدة الحراك الاجتماعي (La mobilité sociale).
...كلها عوامل قد تضعف التماسك الاجتماعي وتهدد نسيج العلاقات في الوسط الحضري بحيث تتراجع أساليب الضبط الاجتماعي, وتكثر في المقابل " البدائل " والاختيارات المتاحة على حدّ تعبير مارغريت ميد (Margaret Mead) .
إن استحقاقات المواطنة في الوسط الحضري عديدة وهي ذات وجوه متنوعة (سياسية / اقتصادية / ثقافية / اجتماعية ...) ولئن وفّر المديني في جانب آخر الأطر والهياكل الملبية لهذه الحاجات فإنّ أشكالا من الممارسات في الكثير من المواقع والظرفيات تحيد عن مبدأ التعاقد وعن فكرة المواطنة التي تتخطى في جوهرها روابط القرابة وتتجاوز منطق الانتماء الأسرى أو العشائري الضيّق.وهو ما يؤشر على أن مبدأ الفردانية هو الذي يحكم في الغالب التصرفات بما قد يجعل " المدنيّة تنمي الفردية " [12]  حين يصبح الإنسان فردا مجردا نكرة أي صوتا في الإحصاءات الانتخابيّة أو رقما في تجمع بشري.
إن المواطنة مقولة سياسية دون شكّ وهي أيضا مقولة ثقافية أي وعي بالآخر و استحضار له في كل حين بما يسمح للفرد / المواطن بالإحساس بالانتماء إلى كيان والى وطن والى هوية تبنى جميعها بحوار بين المرتكزات التالية: الفرد والثقافة والمجتمع.
إن المدينة مجال يمتثل فيه الفرد كما الجماعة لتنظيم معين وقواعد معينة فالمؤسسات والمنظمات على اختلافها هي الصيغ التنظيمية للمبادئ والقواعد والضوابط التي تحدد تنظيم الفضاء المديني, وهي من عوامل الانتظام الاجتماعي, غير أن عضوية الأفراد فيها وانتسابهم إليها لا يعني البتة الالتزام الصارم بهذه التشريعات والضوابط ذلك أنه " لا يوجد مجتمع تحترم فيه القواعد تلقائيا "
كما أشارت إلى ذلك لوسي مير Lucy Mair * .
وبناء على هذا فإن المدينة تؤثر في الفرد من ناحية درجة اجتماعيته وانخراطه في محطاتها المختلفة, وخصوصا في علاقاته بالعمل باعتباره منتجا, وفي علاقاته بالثقافة باعتباره منتجا ومستهلكا.

خــــاتمـة:
إن المواطنة التزام مدني له استحقاقاته وهي سلوكية بدرجة أولى فلا معنى لهذه القيمة إن لم يكن الآخر حاضرا لدى الأنـا حضورا كثيفا في تفكيره و في اهتماماته وفي إنتظاراته. وبذلك يخرج العمران العصري من الوظيفية المهيمنة على شبكة علاقاته إلى الرمزية المحيية لفرص التعارف والتواصل وما يتولد عن ذلك كله من مشاعر الانتماء والتضامن والطمأنينة. " فالجماعات حين تتساكن في فضاء معين ينتظر منها تنظيمه بل وترميزه "                                             (Les groupes en occupant un espace l’organisent et lui donnent un symbole) [13] وحينئذ يشتغل الفضاء المديني باعتباره مدمجا (intégrateur) ومستوعبا مختلف التناقضات التي تخترقه وتلك أهم رهانات المجتمع المديني.
إن التعلم الاجتماعي للإدماج والحوار يتحقق حين تكون قواعد اللعب الحضاري متمثلة من قبل الأغلبية من ناحية, ويكون الاعتراف بالآخر وبحق الاختلاف لا الخلاف قاعدة تعامل بين المدينيين قائمة على الاحترام والتلازم الوثيق بين الفعل الحر والفعل المسؤول .
قد يكون في ما قيل يوتوبيا (Utopie) ولكن " اليوتوبيات هي التي رسمت خطوط المدينة الأولى, ومن الأحلام السخية تأتي الوقائع النافعة.إن اليوتوبيا هي مبدأ كل تقدم, وهي محاولة بلوغ مستقبل أفضل."[14]


عبد الله عطيّة  ( متفقد أوّل للتعليم الثانويّ تونس )                  

[1] D.Schnapper : " La conception de la nation ".cahier française Paris .N°281(1977)pp.11                                           
[2]  د.فؤاد إسحاق ألخوري: " التمدين وتخطيط المدن و إدارتها في المشرق العربي". مجلة المستقبل العربي, عدد 17 / 7/1980.ص 110.
[3]  الأمم المتحدة /إعلان المبادئ/نيويورك, الأمم المتحدة, 1976 ص 9.
[4]  ابن خلدون: " المقدمة " ,دار العلم, بيروت لبنان. ط (1) 1978.  ص (41).

[5] Etzioni Amitai  : " Les organisations modernes ".édition J.Duculot  (1971)  pp.23
[6]  من الميثاق الوطني  التونسي