الدين ، الجنس ، اللغة : ثلاثية الحضارات وترياق التفكير البشري ـ عامر القديري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ANFA2222الحضارة مدار البحث والتفكير تتجدد كلما أمعن العقل البشري فيها ، وكلما أوغلت فيها الدراسات، تستكشف حدودها ودواخلها، ترصد تأثيرها الفعلي على مسيرة البشر، تقارب بين البدايات والنهايات فيها،وبين تجارب الأمم، تتشارك فيها العوامل كل ُ في مكانه على تخوم الدول، وتتعارض بعض النتائج التي تبدو جلية، لذلك نحاول البحث عن أساسيات التشكيل الذي يجعل لهذه الكلمة خصوصيتها، ونعرض التساؤل المحفز للتفكير فيها، هل هي مخزون خام يتشكل، أم نتاج نهائي يظهر في وعاء التاريخ بعد أجيال تتعاقب بثقافاتها وقناعاتها، يحيكها البناءون كالثوب فتخرج متكاملة في صورتها النهائية.
ولكي نستطيع أن نتناول ماهيات التكوين التي تندرج وراء هذه الكلمة, بحثنا عن العوامل الأساسية التي تمثل المحرك الملازم لتراكب النتائج وتشكلها على محورها، والتي تفرض هيئتها، ومعطياتها، وتخلق في النهاية شيئا يؤمن به البشر يدافعون عنه ويصرفون في ذلك كل ما يملكوه من الأرواح والمواد، ويصلون إلى أبعد نقطة في أعماقهم للتعبير عنها كانجاز يحسب للمجتمع والدولة والأفراد، ويجوب المفكرون في صياغة التحليلات ودراسة الحالة التي دفعت أمة من الأمم أن تتقدم على أخراها، ومنطقة من المناطق أن تبقى لا تبارح مكانها على كل المستويات وفي كل المجالات، فهل هناك نشاط معين يحمل البشر في منطقة أن يعملوا بلا توقف لتظهر رموزهم كأيقونات تلازم قناعات شعوبهم إلى الأبد؟، أم هو شعور يختلط باللاوعي يصاحب خيال المبدعين ليخرجوا أبنية خالدة لحضارتهم تمثل العناوين أمام الملايين من البشر ؟.

فحركة الحضارات بما تحتويه من تعاقب مستمر للعقول والانجازات التي تكون هي النتيجة النهائية لها، تختزن طاقات البشر والشعوب فيها لتذهل عوالما فتتبعها، انبهارا بها أو خوفا من قوتها، لهي حرية بسبر الغور فيها ووضع الفكر على أسرار تشكيلها الأولي، ومعرفة المخزون الكامن التي تستمد منه حركتها وبناءها، للتقدم عبر الزمن والوصول إلى نهضة تحقق للبشرية ثراء ينشده في العلم والفكر والسيادة والتحكم العالمي، وتفرض أبجديات للتوافق الكوني بين الشعوب المختلفة، والكيانات المترامية عبر الحدود البعيدة.
ولأن مواضيع الحضارة مترامية كحجمها، ومتجددة بقدر ما يتبقى في الحياة من معنى، فقد اخترنا بحسب ما اعتقدنا ثلاثة عناصر تعتبر الأساسيات التي تصاحب كل تحرك لفكر البشر، وكل نشاط يدور مع بداية انطلاقه نحو ارتقائه واستقراره عبر العصور التي مر بها، لتتفرع عنها عناصر فرعية يستجد اكتشافها كلما توسع الإنسان في بحثه عن معناه، وكلما اكتشف شيئا جديدا في عالمه، وحاولنا أن نجوب حدود هذه الثلاثية نقدم فيها كل ما يمكن للتفكير أن يدركه.

فالدين
في خارج إطاره يبدأ الإنسان بإنتاج الإرادات التي تملأ الفراغ الشاسع حوله، ويبني أجساما ً تمثل بالنسبة له امتدادات دواخله للالتصاق بالفضاء المادي، ولكي يتفاعل مع حركة الطبيعة والأجرام، فيجد ذاته، ويحقق نموذجا ً من البناء الذي يحاكي أبنية الطبيعة من حوله، وهو يبحث بعمله الدائم عن الفراغ الثري، يسخر كل شيء لكي يصل إلى مرحلة لا يعمل فيها دون أن يرى ما حوله يتداعى إلى النقطة الأولى.
وفي إطاره تتشكل جميع الضوابط على محوره، مطمئنا ً بذلك الإنسان إلى كشف المجهول، بمعرفة الإله، وينشغل بإشباع المتطلبات الدنيا التي تتسع لفعله، ويحاول أن يعكس ما في جوفه على من حوله من فراغات الطبيعة، فيطور في حضارته أخلية النفس، وغايات الروح، وقوانين القدر.
وهو بذلك يوثق دون أن ينشئ شيئا ً فقد أسلم أن لا شيء مطلوق في العدم.


الجنس

منشأ التناحر النوعي، ومربط كل تآلف لغايته، تجتمع حوله الأضداد، وتفنى فيه أنفس، تبدأ خطوة الإنسان للتعرف على كنهه، فيبني ممالكه متشكلة في عمقه، ويسخر سبل الاتصال البيني كي يحفظ نوعه، إيمانا بمجد ٍ مستحق، أو رغبة في فناءٍ هاديء ...
وقود كل صراع، وسر كل بناء، تتفتح لأجله عقول الباحثين عن الذات، وتتناحر فيه الأهواء، يكون عقدة كل عصر ومفتاح الخير والشر، تتلون لأجله الإرادة، وتتنابذ العقول، تتشكل الجماعات ويضطهد المفارقون، ويدخل المجدون دائرة الانتهاء من البدايات.
في الطور الأولي، تتماهى الغايات في سلسلة متوالية، لخلق الحالة الجامعة بين الأرواح المترابطة، وإن دفع لذلك بعضا من الضحايا للوصول إلى الممكن وإن كانت المسافة مازالت قائمة بين المبذول والمأمول.
وفي الطور الممتد مع التطور المتلازم مع بقاء الإنسان تتراكب الحسابات التي تشكلت كالحلقات في رحلة الارتقاء المستمرة، في خضم التدافع كذرات الكون، يتفتق بذلك كل جديد ليكشف عن ذاته، ... في عملية تسارع متجددة تحاكي رحلة الوجود.

اللغة

أما اللغة في مكمن التفكير، وآلة التعبير البشري عن عالمه، يتصل بها كل بناء، ويظهر موصوما ً بما يميزه، تتحد بها المتشابهات وتجتمع المشتركات من الكائنات، معرفتها سر الوصول للمبتغيات، وسيادتها رمز التربع النوعي.
في مراحل المباشرة تصبح متطلبا ً لبناء المقاصد، وتبرير الغايات لتقريب الوجهات، وبها تتشكل العناوين التي ينطلق فيها البناءون، تحدوهم رموزها لبلوغ النهايات التي تعبر عنها بما يريد الناطقون بها.
تتزامن مع رحلات البشر منذ الهبوط الأول، وتوثق للعقول ماهيات التواصل، وتتوثق بها خواطر القادمين مع التاريخ، تنشئ الأحداث، وتحمل القناعات كما يتصورها المريدون عند رقصة النصر الأخيرة، وتعبر الأزمنة بوقائعها الغابرة، تحملها بألسنة الباقين.
تختزن فيها كل ما يحتاج الباحثون من مداد التجارب لتصحيح المسارات المعاصرة لهم، فلا يعدمها كائن مهما يكن،فهي من المشتركات الوحيدة التي لم يعلق استخدامها على مجرى الزمن، بل تتطور بتسارع مصحوب للارتقاء.
وتستمر اللغة في عملية تشكيل متجدد بسيط أو معقد حسب مستوى الاتصال والتفكير الذي يسخرها عقل البشر.
وتبقى الثلاثية في خضم جدلية مفتوحة تتعرض لتطورات ينبثق عنها عناوين وفروع يحاول من خلالها الإنسان جاهدا ً في استكشاف ذاته، وبناء ممالكه المتمثلة في شكلها الحضاري، التي تتفاوت في قوتها وديمومتها، ولكن ستظل الحضارات تستمد من ثلاثيتها مخزونها أو شكلها، وستمثل هذه الثلاثية مُشكلا ً للتفكير البشري، ومحفز من محفزات التأمل عبر الوقت في أشكال الانجازات المتعاقبة، وفي أطوال التطور الإنساني المتفاعل مع الزمن، والطبيعة، والتاريخ.