نماذج من النظريات الماركسية في علم الاجتماع المعاصر ـ إبراهيم بايزو

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

67071307تقديم:
استطاع علم الاجتماع، بفضل جهود عدة علماء، أن يصل إلى مرحلة متقدمة من الدراسة العلمية للمجتمع. وقد كان من النتائج الطبيعية لهذه المجهودات أن تولدت اتجاهات ونظريات مختلفة حاولت أن تقارب الموضوع الاجتماعي من زوايا مختلفة. ومن أبرز الاتجاهات التي برزت في هذا السياق نجد الاتجاه الماركسي الذي تفرعت وترعرعت في ظلاله نظريات وتصورات وقراءات متعددة.
ويعد هذا العرض محاولة متواضعة لإلقاء الضوء على ثلاثة من النظريات التي تعتبر قراءات جديدة ومعاصرة للإرث الماركسي. ويعود اختيارنا لهذا الموضوع للسببين التاليين:
ü الأول يتعلق بكون الاتجاه الماركسي أحد أبرز الاتجاهات التي شغلت ولازالت تشغل المهتمين بعلم الاجتماع قديما وحديثا. وبالتالي فإن التزود بالمعرفة الكافية بها أمر لا مناص منها لكل مهتم بعلم الاجتماع.
ü الثاني: لأن النظريات العلمية في علم الاجتماع المعاصر لا تنفك أن تتصف بإحدى صفتين: فهي إما إنها تندرج في سياق النظريات الماركسية بحيث تعد تطويرا من داخل النظرية الأم؛ وإما أنها نظرية نقدية لما ترتكز عليه النظرية الماركسية.
ويشتمل هذا العرض على ثلاثة محاور أساسية كما يلي:


المحور الأول؛ ويتناول مفهوم النظرية العلمية في علم الاجتماع,
المحور الثاني، الذي يعرض الإسهام الماركسي النظري والتاريخي في تطور علم الاجتماع.
المحور الثالث؛ وقد خصصناه لعرض ثلاثة من أبرز النظريات المتأثرة بشكل أو بآخر بالإرث الفكري و النظري لكارل ماركس.
أملنا أن يساهم هذا العرض في تعريف إخواني الطلاب بالاتجاهات الرئيسية التي نشأت في علم الاجتماع خاصة الاتجاه الماركسي.
المحور الأول: مفهوم النظرية العلمية في علم الاجتماع:
تشكل مختلف الاتجاهات النظرية في علم الاجتماع، في مجملها، النظرية العامة لهذا العلم؛ ولهذا فقبل الحديث عن النظريات الماركسية، باعتبارها رؤى ضمن اتجاه نظري بعينه، كان لا بد من  أمرين اثنين: أولهما: تحديد معنى النظرية العلمية عموما وفي علم الاجتماع بشكل خاص؛ أما ثانيهما  فهو تمييز الاتجاهات الرئيسية في علم الاجتماع. وأما الغاية من الوقوف عند هذين الأمرين فتجلى في تحقيق الغرضين التاليين:
أ‌ ضمان حسن التواصل نظرا لأهمية المفاهيم في أي عمل علمي.
ب‌ امتلاك القدرة على تمييز تلك النظريات التي يمكن تصنيفها نظريات ماركسية عن غيرها؛ وإدراك مدى علمية كل نظرية ودرجة ارتباطها بطابع علم الاجتماع.
1- مفهوم وخصائص النظرية العلمية في علم الاجتماع:
يكاد يكون هناك اتفاق على أن النظرية العلمية هي: "نسق فكري استنباطي متسق حول ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات المتجانسة يحوي إطارا تصوريا ومفهومات وقضايا نظرية توضح العلاقات بين الوقائع وتنظمها بطريقة دالة وذات معنى، كما أنها ذات بعد أمبيريقي، وذات توجه تنبؤي."[1] فالنظرية العلمية تتميز بمجموعة من الخصائص هي [2]:
أ‌ إنها تمثيلات رمزية عامة.
ب‌ إنها نسق من المفاهيم والقوانين المرتبطة بالظواهر، ومن وظائفها أنها:
· تشكل إطارا تفسيريا لمعطيات الواقع،
· تمكن من وصف ما يحدث من ظواهر متنوعة.
· تستعمل لتوجيه المعلومات العلمية.
· تشكل قاعدة أو أساسا للتحليل.
ت‌ تمكن من صياغة القوانين العلمية بطريقة مختزلة.
وإذا تبين المراد بمفهوم النظرية العلمية وخصائصها الأساسية يبقى أن نشير إلى أن النظرية العلمية في علم الاجتماع كي تكون كذلك يجب عليها أن:
أ‌ تكون نظرية علمية متصفة بما أشرنا إليه أعلاه.
ب‌ تعبر تعبيرا واضحا وشاملا عن موضوع علم الاجتماع.
ت‌ تحمل طابع العلم الذي يميزه عن غيره من العلوم ممثلا في فكرته المركزية وحبكته في الفهم.[3]
2- الاتجاهات النظرية الرئيسية في علم الاجتماع:
إذا تبينت لنا أهمية تمييز الاتجاهات النظرية الرئيسية في علم الاجتماع كمقدمة لدراسة مختلف النظريات ضمن أي اتجاه منها فإننا مع ذلك وقبل أن نعرض لهذه الاتجاهات، نؤكد على ما يلي:
-  إن عملية تصنيف الاتجاهات النظرية عملية شاقة وغاية في التعقيد، ذلك أن المساجلات النظرية غالبا ما تكتسب طابعا تجريديا أكثر مما يغلب على الجدل الذي يدور حول التوجهات والبحوث الأمبيريقية.[4]
-  إن هذا التنوع النظري الذي يميز علم الاجتماع ليس موطن ضعف فيه، بل إنه دليل على الغنى والتنوع والحيوية التي تمتاز بها الدراسات الاجتماعية؛ وهو ما يبعد هذا العلم عن  أي نوع من الاختزالية أو التشدد.
-  أما المسألة الثالثة فهي ذات شقين يتمثل الأول في أن التصنيف الدقيق هو الذي يستند إلى أسس منهجية ونوعية ذات ارتباط بموضوع نظرية علم الاجتماع؛ بينما يتمثل الثاني في أنه لا بد من توافر شروط أساسية في الاتجاه لكي يتم أخذه بعين الاعتبار في التصنيف وهذه الشروط هي: الوضوح والعمومية والتميز والتأثير في مسار العلم[5].
بناء عليه، فإن الاقتراح الذي نقترحه لتصنيف الاتجاهات في هذه المحاولة، وإن كان، في أساسه، ينطلق من أهمية وتميز إسهامات المنظرين الأوائل في هذا العلم؛ إلا أنه مع ذلك يحيل على اتجاهات تتسم بالانسجام النظري داخليا؛ والتباين والتمايز فيما بينها من حيث نظرتها إلى الاجتماع البشري وموضوع علم الاجتماع ومنهجه.
وعموما فإن هذا المعيار يقودنا إلى التمييز بين ثلاثة اتجاهات  سوسيولوجية هي:
-  الاتجاه الوضعي.
-  الاتجاه الفينومينولوجي.
-  الاتجاه الماركسي.
أ‌ الاتجاه الوضعي:
تعد الوضعية مقاربة منهجية تحليلية، وهي تستند إلى ذات الفلسفة التي حكمت قانون الحالات الثلاث لأوجست كونت، وتقوم على استبعاد كافة أنماط التفكير والتحليل اللاهوتي والميتافيزيقي من أي تحليل، مستبدلة كل ذلك بالعقل العلمي. وترجع جذور هذا الاتجاه إلى سان سيمون الذي دعا إلى استبعاد الفكر اللاهوتي عن كل مشاركة في الحياة العملية و عدم التعامل مع الظواهر والأشياء إلا على من منظور علمي أي وفق القوانين التي تحكمها.[6]
إن هذه المضمون الذي أعطاه سان سيمون للمقاربة الوضعية هو ذاته المضمون الذي سنجده في منهج أوجست كونت. وهذه هي الأرضية المعرفية والعلمية التي سينطلق منها هذا الرجل (أوجست كونت) لترتيب  بيت العلوم وتجاوز تلك الفوضى الفكرية التي يقول أنها سادت في عصره؛ والتي تتمثل في استمرار التعاطي مع الظواهر الاجتماعية في إطارها اللاهوتي والتجريدي في الوقت الذي كان يتم فيه التعامل مع الظواهر الطبيعية من منطلق وضعي. ولذلك كان همه هو ترسيخ التعامل الوضعي مع هذا النوع من الظواهر (الظواهر الاجتماعية) لأن ذلك هو المسلك الوحيد الذي يمكن أن يُذهِب حالة الفوضى السائدة.
ويقوم الاتجاه الوضعي في علم الاجتماع الذي أسس له عدة علماء أمثال كونت، دوركايم، ابن خلدون... على مجموعة من المنطلقات والتصورات الخاصة يمكن إجمال أهمها كما يلي:
-  التأكيد على أن لا مبرر للتميز بين نموذجين للعلم، أحدهما للموضوعات الطبيعية، والثاني للموضوعات الإنسانية والمجتمعية.
-  الموضوع الذي يدرسه علم الاجتماع يجب أن يكون شيئا خارجيا، أي يمكن التعرف عليه من الخارج وهذا ما أكد عليه دوركايم بتركيزه على ضرورة دراسة الظاهرات الاجتماعية كأشياء.
-  التشديد على ضرورة إحلال فكرة القانون محل القوى الخارقة للعادة التي تحكمت طويلا في تفسير الظواهر الاجتماعية.
-  ضرورة إخضاع التخيل الفلسفي الذي كانت تقوم عليه المناهج القديمة للملاحظة.
-  الاستناد منهجيا إلى إعطاء العلاقات التي تربط بين الظواهر الاجتماعية أهمية كبرى انطلاقا من أن الفلسفة الوضعية تعتبر نفسها مفسرة للكون ومظاهره وتسعى إلى الكشف عن طبائع الأشياء والقوانين التي تحكمها وهذا بخلاف المناهج القديمة التي لم تعطينا فكرة واضحة عن تحديدها للعلاقات بين مختلف الظواهر وعن الارتباط الحقيقي بينها.[7]
-  النظر إلى المجتمع باعتباره كلية اجتماعية تتكون من الأفراد الأحياء والأموات بكل ما تشتمل عليه من بنى ومؤسسات وعلاقات وتراث وسلوكات وثقافات تعبر بانصهارها جميعا عن كلية اجتماعية أو ما يمكن تسميته بـالوجود الاجتماعي. ويشدد كونت ودوركايم على تحليل القدرة الاجتماعية ليثبتا أن الاجتماع الإنساني هو الحالة الطبيعية للإنسان وبالتالي فان المجتمع مقدم على الفرد ولا يزول بزوال أفراده. فالفرد لا يعتبر عنصرا اجتماعيا ولا قيمة له إلا في الأسرة أو المجتمع لأن القوة الاجتماعية مستمدة من تضامن الأفراد ومشاركتهم في العمل وتوزيع الوظائف بينهم، ويمتاز دوركايم على كونت حين يشدد على "أن المجتمعات التي نعيش فيها وننتسب إليها تفرض قيودا وضغوطا مجتمعية على أفعالنا، وأن للمجتمع اليد العليا على الإنسان الفرد. وأن في المجتمع صلابة وثباتا مستقرا يشبه ما في البنى الموجودة في البيئة الطبيعية من حولنا"[8]. وبإيجاز، يؤكد الاتجاه الوضعي على أن الفردية لا يتحقق فيها أي شئ من المظاهر الجمعية دون امتزاج العقول وتفاعل وجدانات الأفراد واختلاف وظائف وتنوع الأعمال ذات الأهداف الواحدة والغايات المشتركة.
ب‌ الاتجاه الفينومينولوجي:
في مقابل الاتجاه الوضعي، نشأ، في ألمانيا بشكل خاص، اتجاه مناقض تماما في نظرته لقضايا الاجتماع البشري لما آمن به الوضعيون. وقد عرف هذا الاتجاه بالاتجاه الفينومينولوجي، واتجاه يؤكد أنصاره على التجربة الحية والخبرة الذاتية، ويصرون على تَمَيّز الظاهرة الاجتماعية عن الظاهرة الطبيعية، وأن ما يصلح لتعليل الطبيعة لا يصلح لتفهم ماهية الإنسان.
يعتبر ماكس فيبر المؤسس المشهور لهذا الاتجاه؛ لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن جذور هذا التصور ترجع إلى فلاسفة كبار أمثال إدموند هوسرل الذي ألف كتابا تحت عنوان "فكرة الفينومينولوجيا"، كما أن علماء اجتماع آخرين كانوا من رواد هذا الاتجاه وعلى رأسهم ألفريد شوتس تلميذ هوسرل وممثل الفينومينولوجيا في علم الاجتماع كما يعتقد عبد الله إبراهيم.[9]
ويمكن تلخيص أهم التصورات النظرية لهذا الاتجاه كما يلي:
- يقع "المجتمعي" موضوع علم الاجتماع ممثلا في الأفعال الاجتماعية داخل ذوات الأشخاص وإدراكهم وفهمهم وتقييمهم لسلوك الآخرين. والخاصيات الخارجية للسلوك ليست أكثر من مؤشرات نصل عن طريقها إلى الموضوع الحقيقي لعلم الاجتماع[10]. أي أن البنى الاجتماعية لا توجد مستقلة عن الأفراد إنما هي تتشكل بفعل تفاعل تبادلي معقد بين الأفعال.
- تتجلى المهمة الرئيسية لعالم الاجتماع في فهم النشاط الإنساني والاجتماعي وتأويله، أي العمل على الإحاطة بدلالة النشاط الإنساني والمعاني الكامنة وراء الأفعال الاجتماعية والتي يصبغها عليها الأفراد ما دام أن هذه الأفعال تملك معاني وأهدافا توجهها.
- يأتي التفسير السببي بعد عملية الفهم المشار إليها أعلاه من أجل تأكيد نتائجها. وفي هذا الصدد يقول ماكس فيبر: "أصنع تفسيرا بعد أن أكون صنعت الفهم، أتأكد من الفهم بواسطة التفسير"[11]
- من العناصر الأساسية في التحليل الفينومينولوجي لماكس فيبر مفهوم النموذج المثال وهي نماذج افتراضية قلما توجد في الواقع لكن غالبا ما تتضح جوانب قليلة منها في هذا الواقع. "وما يعنيه فيبر أن النموذج يمثل صورة صافية لظاهرة ما".[12] وقد استخدم هذه النماذج المثالية في تحليل أشكال البيروقراطية والسوق.
- لا يرجع ماكس فيبر التغير الاجتماعي إلى الصراع الطبقي كما يعتقد ماركس، بل إن العامل الحاسم في ذلك حسب نظره يتمثل في الآراء والقيم التي يحملها الأفراد دون أن يستبعد كليا دور الصراع القائم على أساس الطبقة.
ت‌ الاتجاه الماركسي:
يحيل الحديث عن الاتجاه الماركسي في نظرية علم الاجتماع على رائده كارل ماركس. وعلى الرغم من الإغفال الذي تعرضت له الماركسية بوصفها نظرية في المجتمع في إطار علم الاجتماع التقليدي الغربي لفترة طويلة، إلا أن هذه النظرية كانت ولازالت تمارس تأثيرا كبيرا على المشتغلين في هذا الحقل المعرفي، بل إننا لا نكون مبالغين إن قلنا أن توجهاتها هي الأكثر انتشارا في الأوساط العلمية الغربية وغير الغربية في عصرنا هذا.
صحيح القول إن كارل ماركس ليس عالم اجتماع فقط؛ إلا أننا هنا سوف نركز على نظرة الرجل إلى القضايا المتعلقة بالنظرية الاجتماعية وذلك لأغراض منهجية تتجلى أساسا في محدودية المجال المخصص واستحالة الإحاطة بمجمل فكر الرجل الذي يتسم بالموسوعية في عرض أو محاضرة من جهة؛ ولأهمية الإحاطة  بتصورات كارل ماركس الاجتماعية، باعتبارها المعين الذي نهلت منه مختلف النظريات التي نشأت ضمن هذا الاتجاه.
إن هذين الاعتبارين هما ما جعلنا نفرد محورا خاصا (المحور الثاني) لتوضيح الإسهام التاريخي والنظري لهذا الرجل في علم الاجتماع لأن من شأن ذلك أن يوجه تحليلنا لهذه النظريات التي ترعرعت تحت "ظلال" الماركسية و التي سنعرض لها في المحور الثالث.
المحور الثاني: كارل ماركس وإسهامه في التطور التاريخي والنظري لعلم الاجتماع
تتحدد مهمة هذا المحور في التمهيد لدراسة النظريات التي نشأت  متأثرة بالأفكار الماركسية، لذلك فإننا سوف نعمل على استعراض كيف ساهم هذا الرجل في نشوء وتطور علم الاجتماع عموما كما سنعرض أهم التصورات النظرية للرجل المتعلقة بنظرته لقضايا الاجتماع الإنساني كما درسها وتصورها. مستهدفين من كل ذلك  تعميق فهمنا للإطار النظري العام للاتجاه الذي نشأ في ظل تأثر العديد من علماء الاجتماع المحدثين بأفكار ماركس، وهو حسب ما نعتقد ما من شأنه أن يكسبنا القدرة على فهم كيف نشأت وتطورت مختلف النظريات التي تصنف ضمنه ومدى ارتباطها بالنظرية الأم.
1- الإسهام التاريخي لماركس في تطور علم الاجتماع:
يعد الألماني كارل ماركس من أشهر علماء الاجتماع الذين استطاعوا أن يسهموا بقوة في تحول هذا السوسيولوجي إلى علم ذي موضوع ومنهج. ورغم مرور زمن غير يسير على وفاته لازال فكر الرجل يشغل حيزا كبيرا من اهتمام المفكرين والباحثين حتى إنه ولا يصنف مؤلف عن نظرية علم الاجتماع إلا وقف ما خلفه.
ولد ماركس في 5 مايو من العام 1818م في بروسيا. وقد نشأ على الحرية وحب المعرفة، وتأثر بثلاث مؤثرات أساسية لوّنت أفكاره وطروحاته بألوان متميزة هي[13]:
ü الفلسفة الألمانية المثالية ولاسيما فلسفة هيجل ونيتشه وفخته.
ü الثورة الفرنسية وما صاحبها من أعمال صخب وعنف وقتل واضطراب في بنية المجتمع الفرنسي.
ü الاقتصاد السياسي الانجليزي وخاصة اقتصاد ديفيد ريكاردو وجون ستيوارت وآدم سميث  وألفريد مارشال.
لقد رفض كارل ماركس استخدام مصطلح sociologie كاسم للعلم الذي يدرس الاجتماع الإنساني، لارتباط لهذه التسمية بالفلسفة الوضعية والمحافظة لأوجست كونت[14]، ويفضل بالمقابل استعمال مصطلح "علم المجتمع" للدلالة  على هذا الفرع المعرفي الذي حدد موضوعه الأساس في دراسة المجتمع الإنساني ككل تاريخي متغير من خلال دراسة القوانين الاجتماعية لتطور التكوينات الاجتماعية الاقتصادية  حيث إنه ركز على دراسة العلاقات الاجتماعية الأساسية خاصة الإنتاجية منها كما درس علاقات الملكية والوجود الاجتماعي  فأثار العلاقة بين الوعي والوجود الاجتماعيين  حيث أكد على أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعي الناس وليس العكس بمعنى أن أسلوب الإنتاج هو الذي يحدد الطابع العام للعمليات الاجتماعية وعليه فإن"الأصول الرئيسية للتغير الاجتماعي في نظره لا تكمن في ما يحمله الناس من أفكار وقيم، بل إن حوافز التغير الاجتماعي تتمثل في المقام الأول في المؤثرات الاقتصادية. والصراعات بين الطبقات هي التي تدفع إلى التطور التاريخي لأنها محرك التاريخ"[15].
إن التصور السوسيولوجي الماركسي  يقوم، إذن، على مقولة أساسية مفادها أن المجتمع موجود واقعي يتوقف كيانه على أسلوب الإنتاج وطبيعته التي تسم المجتمع بطابعها وأن لا وجود للإنسان إلا ضمن مجتمع ولا معنى له إلا بالعمل؛ وهذا ما يجعل مفهوم الطبقة الاجتماعية مفهوما أساسيا ومقولة تحليلية مركزية لديه. وتتحدد هذه الطبقة الاجتماعية عن طريق الملكية وعن طريق قوى الإنتاج والتقسيم الاجتماعي كما تتحدد بالأجر والربح والريع ومعرفة الطبقات بتناقض مصالحها. وعموما يمكن تلخيص أهم الإسهامات الماركسية في تطور علم الاجتماع في النقاط التالية[16]:
ü التفسير المادي البحت لقضايا المجتمع حيث يعتقد بأن المجتمع يستند على قاعدة اقتصادية بحتة.
ü التأكيد على أن البناء الفوقي للمجتمع من قيم وإيديولوجيا ودين وغيرها يرتكز على القاعدة التحتية للمجتمع وهي قاعدة مادية تتجسد بالمعطيات الاقتصادية والاجتماعية.
ü دراسة الطبقات الاجتماعية والتأكيد على أن الانتماء للطبقة يتوقف على العوامل الاقتصادية ومدى الوعي بالتناقض بين مصالح الطبقات المختلفة.
ü الصراع بين الطبقات هو العامل الحاسم في التغير الاجتماعي ولهذا يؤكد على أن التاريخ الإنساني ما هو إلا تعبير عن تاريخ الصراعات الطبقية.
أما منهجه العلمي في دراسة المجتمع فيتجلى في:
ü المنهج التاريخي المادي (المادية التاريخية) لكشف القوانين العامة والنوعية للتطور الاجتماعي وهذا ما يعتقد ماركس أنه سيمنح علم المجتمع الطابع العلمي.
ü المنهج الجدلي (المادية الجدلية) للتمييز بين الضروري وغيره في الحياة الاجتماعية من جهة، وبين ما هو اجتماعي وما ليس كذلك من جهة ثانية؛ وهذا ما من شأنه أن يكسب العلم طابعه النوعي.
وفي الختام لا يسعنا إلا  أن نؤكد على أن غاية علم المجتمع عند كارل ماركس كانت تتمثل في الكشف عن القوانين التي تحكم التطور الاجتماعي بهدف توفير أرضية علمية للتنبؤ بالمسار الاجتماعي وما يقتضيه الأمر من تخطيط لتجاوز تناقضاته وسوءاته التي تظهر غالبا في شكل استغلال واغتراب أو أية صورة أخرى لاستلاب الإنسان.
4. النظرية الاجتماعية لكارل ماركس:
إذا تبين لنا، من خلال هذا العرض السريع،  كيف أن كارل ماركس قد ساهم بقوة في تطور علم الاجتماع (علم المجتمع) موضوعا ومنهجا؛ فإن الذي يتعين أن نعرض له في هذا السياق هو أهم الأفكار النظرية التي توصل إليها الرجل في ظل دراساته وتأملاته حول المسألة الاجتماعية.
وإذا أردنا تجنب التفصيل، يمكن إجمال أهم التصورات النظرية الماركسية كما يلي:
-  إن الفكرة الأساسية التي تميز التصور الماركسي عن غيره هي فكرة التغير الجدلي، وتعني هذه الفكرة أن "التغير ينبع من الصراع بين العناصر المتضادة والمتناقضة".[17] وتحيل هذه الفكرة مباشرة على الحتمية التاريخية للصراع أي أن الصراع حسب ماركس هو الطريق الطبيعي لإحداث التغيرات الاجتماعية والتاريخية.
-  إن المشاكل والاختلالات التي يعيشها المجتمع الرأسمالي لا تعود إلى الأفراد وأخطاءهم، وإنما تكمن في الأساس في النظام والبنية الاجتماعيين؛ وعليه فإن البحث الاجتماعي ينبغي أن ينصب على التحليل العلمي للمجتمع والنظام الاجتماعي كضرورة منطقية  لتحليل المشكلات الاجتماعية.
-  يؤكد ماركس على أسبقية الوجود الاجتماعي على الوعي الاجتماعي؛ ويحيل هذا التأكيد على التمييز الذي يقيمه هذا الرجل في البنية الاجتماعية بين ما يسميه النظم الاجتماعية الفعالة والمسيطرة والنظم الاجتماعية المترتبة أو المستجيبة. وفي هذا الصدد يؤكد ماركس على أن البنية الأساسية في المجتمع التي تتحكم وتسيطر على باقي البنيات بما فيها البنية الفوقية تتمثل في قوى الإنتاج والعلاقات الإنتاجية.
-  يعمل المجتمع حسب التصور الماركسي من خلال النظام الاقتصادي الإنتاجي ومن ثم فإن السيطرة على وسائل الإنتاج تحدد الوضع الاجتماعي والقوة الاجتماعية أي الوضع الطبقي في المجتمع وهو ما يخلق صراعا طبيعيا بين طبقة الذين يملكون (البورجوازية) وطبقة الذين لا يملكون (البروليتاريا) بحكم تناقض المصالح بينهما.
-  يعد مفهوم الاغتراب أحد المفهومات الرئيسية في السوسيولوجيا الماركسية، ويشير هذا المفهوم إلى حالة تتحول فيها العلاقة الطبيعية والسياق الطبيعي للأشياء إلى سياق غير طبيعي.[18] ويعتقد ماركس أن هناك علاقة طبيعية بين العمال وناتج عملهم تتمثل في الوحدة بين العمال كمنجين وناتج العمل، لكن في النظام الرأسمالي يتم انتزاع فائض القيمة من العمال فيصبح العامل مغتربا عن عالمه الطبيعي حين يفقد ملكيته لناتج عمله. وببساطة، فإن الاغتراب يشير إلى أنه "في ظل النظام الرأسمالي يستنزف الرأسمالي جهود وقوى العامل ليحولها من خلال التبادل والتراكم إلى رأسمال يستخدمه في مزيد من الاستنزاف والتراكم الرأسمالي".[19]
المحور الثالث: النظريات الماركسية المعاصرة في علم  الاجتماع
في هذا المحور سنقتصر على عرض وتحليل تصورات ثلاثة علماء اجتماع ينتمون إلى المدرسة الماركسية وحاولوا أن يقدموا قراءات خاصة بهم للموروث الفكري و النظري لكارل ماركس كما هو الحال بالنسبة لألتوسير ودارندوف، أو سعوا إلى صياغة رؤى نقدية من داخل النظرية الماركسية الأم كما هو الحال إلى حد ما بالنسبة ليورغن هابرماس,
1. قراءة لويس ألتوسير بيير للماركسية: البنيوية الماركسية:
ولد لويس بيير ألتوسير ( 1918 ـ 1991 ) في الجزائر، وانظم للحزب الشيوعي الفرنسي بعدما حصل على الإجازة في الفلسفة وهو في الثلاثين من عمره، وقد كان ماركسيا خالصا، رافضا للنزعات الإنسانية للفلسفة الهيجلية التي تأثر بها ماركس الشاب، كما كان متأثرا إلى حد كبير بالمناهج الحديثة لاسيما البنيوية منها. وهذا ما جعله يقف ضد محاولات إحياء النزعة الإنسانية في الفلسفة الماركسية لكل من  لوكاش، لوفيفر، سارتر وغارودي. و "إذا كان سارتر قد وجّه انتقاداته الحادة إلى منهجية ماركس في دراساته للاقتصاد السياسي معوِّلاً على النزعة الإنسانية لماركس الشاب، فإن ألتوسير على العكس من ذلك، حاول إلغاء ماركس الشاب لصالح ماركس الناضج في "رأس المال".  وهذا ما يؤكده هذا النص الذي يقول فيه ألتوسير: "إن النزعة اللاانسانية النظرية لدى ماركس هي أولا وقبل كل شيء نزعة لا إنسانية فلسفية... وبالفعل إذا ما فحصنا النصوص التي يمكن اعتبارها حاسمة في الفلسفة الماركسية، فإننا نرى أنه لا توجد فيها أية مقولة للإنسان أو أية صورة أخرى من صورها الماضية أو الممكنة. فالأطروحات المادية والجدلية التي تؤسس بوضوح كل الفلسفة الماركسية يمكن أن تكون محط كل أنواع التعليقات. وأنا لا أرى أنها قد تتلاءم مع أي تأويل ذي نزعة إنسانية: بل هي، على العكس من ذلك، قد أقيمت لكي ترفض مثل هذه التأويلات من حيث هي نوع من أنواع المثالية، ولكي تدعو إلى التفكير بشكل آخر مختلف كل الاختلاف."[20]
لكن، بأي معنى يقصي ألتوسير "الإنسان" كمفهوم نظري مركزي في الفلسفة الماركسية؟ أو بعبارة أخرى: ماذا تعني النزعة اللاانسانية  النظرية  للمادية التاريخية؟ ألا يمكن أن ينتهي هذا إلى القول بأن النظرية الماركسية المتصورة بهذا الشكل تنتهي إلى احتقار الناس وإلى شل صراعهم الثوري؟ وبعد ذلك ألا يجعل كل هذا النزعة اللاانسانية النظرية لدى ماركس في مقابل الإيديولوجيات ذات النزعة الإنسانية بما فيه تلك التي يمكن أن تعبر عن تمرد الجماهير ضد الاستغلال والاضطهاد؟
يجيب ألتوسير عن هذا التساؤل بالتأكيد على أن الموضوع الذي يجادل بشأنه أمر آخر مختلف تماما؛ وهو إنما يتعلق بالإدعاء النظري للتصور الإنساني بقدرته على "تفسير المجتمع والتاريخ انطلاقا من الماهية الإنسانية، ومن الذات الإنسانية الحرة، ذات الحاجيات، وذات العمل، وذات الرغبة، وذات الفعل الأخلاقي والسياسي."[21] وفي هذا السياق، يمكن فهم تأكيد ألتوسير على أن كارل ماركس "لم يستطع تأسيس علم التاريخ وكتاب رأس المال إلاّ بعد أن قطع تماما مع الادعاء النظري لكل نزعة إنسانية"[22].
ويفيد ألتوسير من خلال القراءة التي يقدمها لكتابات كارل ماركس وبخاصة كتاب "رأس المال" أن ماركس الناضج واللاإنساني يؤكد على[23]:
-  أن ما يحدد، في المقام الأخير، تشكيلة اجتماعية ما، وما يعطينا عنها معرفة، ليس هو شبح ماهية ما أو طبيعة إنسانية ما، وليس الإنسان، وليس حتى "الناس"، بل علاقة، أي علاقة الإنتاج التي تشكل وحدة مع القاعدة أي مع البنية التحتية.
-  وأن هذه العلاقة ليست علاقة بين الناس، أي ليست علاقة بين أشخاص، ليست لا علاقة بين الذوات، ولا علاقة سيكولوجية، ولا أنثروبولوجية، ولكنها علاقة مزدوجة: علاقة بين مجموعات من الناس تخص العلاقة بين مجموعات الناس والأشياء، أي تخص وسائل الإنتاج.
-  رفض اختزال العلاقات الاجتماعية إلى علاقات بين الناس، أو حتى إلى علاقات بين مجموعات من الناس؛ لأن معنى ذلك افتراض أن العلاقات الاجتماعية علاقات لا تسري إلا على أشخاص، بينما هي علاقات تشمل الأشياء، أي تشمل وسائل الإنتاج المستمدة من الطبيعة المادية. يقول ماركس: "إن علاقة الإنتاج هي علاقة التوزيع، فهي توزع الناس إلى طبقات، في نفس الوقت الذي تسند فيه وسائل الإنتاج إلى طبقة."
-  إن الطبقات تتولد من تصارع هذا التوزيع الذي هو في نفس الوقت إسناد، وبالطبع فإن الأفراد الإنسانيين أطراف فاعلة وبالتالي مؤثرة في هذه العلاقة كما لو أن الأمر يتعلق بعقد حر، لكن وقبل كل شيء، من حيث أنهم مأخوذون فيها، وليس كونهم مأخوذين فيها ناتجا عن كونهم فاعلين فيها كما هو الأمر في حالة عقد حر، بل على العكس، فإنهم فاعلون فيها لكونهم منفعلين بها.
-  إن ماركس عندما يعتبر الناس كدعائم لعلاقة أو كحاملين لوظيفة في عملية الإنتاج المحددة بعلاقة الإنتاج، لا يعاملهم كذلك كمنظر؛ بل إنه يعتبرهم كذلك لأن علاقة الإنتاج الرأسمالية تختزلهم إلى هذه الوظيفة البسيطة في البنية التحتية وفي الإنتاج، أي في الاستغلال. فالإنسان  في نمط الإنتاج الرأسمالي مجرد "حامل" لعلاقة الانتاج هذه. إنه مجرد "حامل وظائف" مجهول كليا، ويمكن تعويضه والإلقاء به إلى الشارع إذا كان عاملا، وبإمكانه أن يغتني أو يفلس إذا كان رأسماليا. إنه في كل الحالات خاضع لقانون علاقة من علاقات الإنتاج التي هي علاقة الاستغلال. إنه خاضع لقانون هذه العلاقة ولمفعولها.
إن النزعة اللاانسانية النظرية التي ينسبها ألتوسير إلى ماركس تتجلى، إذن، في رفض تأسيس أي تفسير للتشكيلة الاجتماعية وتاريخها انطلاقا من مفهوم الإنسان كذات أصلية لحاجياتها وأفكارها وأفعالها وصراعاتها. فماركس ينطلق، حسب قراءة ألتوسير، من العلة البنيوية التي تنتج إيديولوجيا بورجوازية تحافظ على وهم ضرورة الانطلاق من الإنسان؛ أي أنه ينطلق من التشكيلة الاقتصادية المعطاة، وبالضبط، من علاقة الإنتاج الرأسمالية ومن العلاقات التي تحددها هذه العلاقة في البنية الفوقية في المقام الأخير. وذلك من أجل التوصل إلى معرفة القوانين التي تتحكم في حياتهم وفي صراعاتهم الملموسة. وهو(ماركس) يبين في كل مرة أن هذه العلاقات تحدد وتطبع الناس، وتطبعهم في حياتهم الشخصية العينية، وأن الناس العينيين يتحكم فيهم نسق هذه العلاقات عبر منظومة صراع الطبقات. ويستشهد على ذلك بهذا النص الذي يقول فيه ماركس: "إن العيني هو تركيب لتحديدات متعددة، يمكننا أن نأخذ تعبيره من جديد ونقول: إن الناس العينيين محددون من طرف خلاصة التحديدات المتعددة من العلاقات التي هم مأخوذون فيها وأطراف فاعلة."[24]
إن هذه القراءة التي يقدمها ألتوسير لأعمال ماركس لم تكن قراءة بسيطة ولا بعيدة عن التطور الحاصل في الساحة العلمية وقتئذ . فالرجل، كما أشرنا سابقا، لم يكن بمنأى عن المناهج والمفاهيم العلمية السائدة في ذلك الوقت في العلوم الاجتماعية؛ بل إنه تأثره بها يبدوا جليا. ففكرة "ماركس الناضج  في مقابل ماركس الشاب" التي انطلق منها لقراءة أعمال ماركس وحياته هي في الأساس مستعارة من مفهوم القطيعة المعرفية لدى باشلار الذي يفترض وجود حقب علمية يمكن أن تخلق انقطاعات معرفية، كما أنه منهجه الأعراضي (symptomatique) في القراءة مأخوذة في الأصل من مفهوم القارئ الممتاز  المعتمد في علم اللغة البنيوي كأداة للتحليل ووسيلة لإعادة قراءة النص، والتقاط المواضع التي تتكشف عن أهمية خاصة، بالنسبة إلى المعرفة المحددة التي يملكها هذا القارئ. "وقد أدى ألتوسير نتيجة تعمقه في قراءة نصوص ماركس دور مثل هذا القارئ لتحرير الماركسية من القراءة العادية مثلما عبّر عن ذلك الأداء. وذهب إلى أن النظرية الماركسية التي تناقض نفسها على مستويات عدّة، وتحتوي ثغرات ومواضع صمت وغياب، يجب أن تُعاد قراءتها بطريقة أعراضية؛ ومن شأن هذه القراءة الجديدة أن تكشف عن الأبنية اللاواعية الخفية، عن طريق تفسير التحولات والتناقضات والأغلاط فتنتج هذه القراءة نصاً مختلفاً، نصاً تتكشف إشكاليته النظرية من خلال الأعراض التي سببت هذه الإشكاليات. وهكذا تُحل شفرة (النص الموضوعي)، أي كتابات ماركس وحياته على حد سواء."[25]
لقد كان من النتائج الطبيعية لهذا التأثر بالمناهج الحديثة خاصة المنهج البنيوي أن يعيد  ألتوسير النظر في الجدلين الماركسي والهيجلي وفق ما يتيحه هذا المنهج، ليس من حيث إن أحدهما معكوس الآخر، بل من حيث التغير الذي يطال طبيعة الجدل نفسه. فقد بات الرجل يتحدث عن بنية مهيمنة على الكلية ( الوحدة الشاملة) الاجتماعية بتناقضاتها العديدة، المعقدة، والتي تتحدد عند ماركس في الاقتصاد بتناقضاته الداخلية، بما يعني أنها وحدة بنيوية؛ فيما تتكون عند هيجل من كليات أي أنها وحدة مثالية.[26]
خلاصة القول أن ألتوسير الذي كان من أهم النقاد والفلاسفة الفرنسيين والمعروف بمحاولاته النظرية المتميزة الهادفة إلى إخضاع الماركسية لنسق المقاربة البنيوية، ومن ثم تخليصها من طابعها الإيديولوجي التعميمي، يعتقد أن من الفهوم الخاطئة للماركسية اعتبارها ذات نزعة إنسانية ذلك أن السمة المميزة لأعمال ماركس الناضج نزعة مضادة للإنسان والتاريخ؛ أي أن ماركس قد قطع معرفيا مع الفلسفة الإنسانية ومفاهيمها الإيديولوجية مثل:الإنسان والاغتراب، واستبدلها بمفاهيم جديدة كالتكوين الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية.[27] وهو يبرر تصوره هذا بكون ماركس لم ينطلق من الذات أو الفرد أو الماهية أو الإنسان، وإنما انطلق من نمط الانتاج وعلاقاته، أو من البنية الاجتماعية. فالفرد هو حصيلة العلاقات الاجتماعية. وليست الذات هي التي تصنع التاريخ بل الصراع الطبقي الذي يمثل شكلا من الصراع بين البنى والعلاقات الخارجة عن الإرادة الإنسانية الحرة والتاريخ في آخر الأمر هو تفاعل بين قوى وبين هياكل ونظم بنيوية قارة، وليس نتاجا للفاعلية الإنسانية. وبعبارة أخرى، فإن ألتوسير، كبنيوي ماركسي، يؤكد على أن علاقات الإنتاج الإجتماعى بما تحتمه من أشياء هي التي تحتم شكل المجتمع ومحتواه وتاريخه.
إن هذه القراءة التي قدمها ألتوسير لأعمال ماركس، وعلى الرغم من كونها قد استطاعت أن تخلص الماركسية من أوهام الايديولوجيا وضبابية المثالية، وأن تبرز الأطر العلمية والمنهجية التي تأسس عليها فكر ماركس في فترته الثانية، إلا أن الرجل لم يسلم رغم كل ذلك من انتقادات وجهها إليها ماركسيون آخرون. ويمكن عرض أهمها كما يلي[28]:
ü عدم دفاعه عن حرية الفرد، وتسويغه قمع الأنظمة الشيوعية لشعوبها وهو ما تجلى في ثلاثة أمور على الأقل؛ أولها: اعتباره التدخل السوفيتي في المجر وتشيكوسلوفاكيا إنقاذاً للثورة؛ وثانيها: تجنبه تأييد الثورة الطلابية في مايو 1968 إذعانا منه للتوجيهات السوفيتية؛ وثالثها: تجاهله النقد الموجّه للينين من أن ممارساته الفعلية أدت إلى ديكتاتورية الحزب والمكتب السياسي بدلاً من ديكتاتورية البروليتاريا.
ü يرى ريمون آرون أن سارتر أراد إقامة الماركسية على أساس من "فهم الوحدة الشاملة التاريخية، في كتابه نقد العقل الجدلي"، بينما أراد ألتوسير "أن يعزل النظرية (أو ممارسة النظرية) لكي يُظهر علمية (رأس المال)، وهي مهمة مستحيلة لفيلسوف لا يعرف الاقتصاد".
ü قسم ألتوسير مفاهيم ماركس عن الإنتاج إلى المادي والسياسي والإيديولوجي والنظري وبذا، بحسب أندريه جلوكسمان لا يحقق هذا التقسيم "اتحاد النظرية والممارسة بين الأنواع المختلفة للإنتاج، بل يحققها في كل نوع على حدة لا غير". وبذلك لا تعود النظرية مرتبطة بالممارسة، وهذا "ما يناقض المسلمة المركزية عند ماركس نفسه". ويقوِّض نظرية ألتوسير من الداخل.
عموما، ومهما تكن وجاهة الانتقادات الحادة التي وجهت لألتوسير خاصة من قبل الفلاسفة الإنسانيين، فإننا لا نستطيع أن ننكر القيمة المعرفية الكبرى للمقاربة الألتوسيرية، حيث  إنها قد أثرت الماركسية، وكشفت عن نواح مستورة فيها. ولا عجب فإن النظم المعرفية الكبرى هي التي تتيح مثل هذا الجدال لما تنطوي عليه من معالم الثراء والخصوبة والقابلية للتأويل وتعدد القراءات.
2. نظرية الصراع لدى رالف دارندوف.
يعتبر الحديث عن المدرسة "الصراعية" باعتبارها نظرية ماركسية خالصة، في الحقيقة، نوعا من "الاختزالية" والتعسف العلمي ذلك أن نظرية الصراع وإن ظلت مغلفة بالتصورات الماركسية عند مجموعة من المفكرين الماركسيين لاسيما رالف دارندوف؛ إلا أنها في الوقت ذاته تعبر عن محاولة لتجاوز المشاكل النظرية للبنيوية الوظيفية التي بدأت تفقد بريقها مع تزايد الهجوم عليها من وجوه عدة؛ فقد اتهمت بكونها محافظة من الناحية السياسية وعاجزة عن التعامل مع التغير الاجتماعي بسبب تركيزها على الأبنية الساكنة وقصورها عن التحليل الملائم للصراع الاجتماعي. وقد كان من  نتائج هذه الانتقادات بروز دراسات وأبحاث حاولت أن تتجاوز مشكلات الوظيفية من خلال دمج الاهتمام بالبناء مع الاهتمام بالصراع، ومن أبرز هذه المحاولات كتاب لويس كوزر حول وظائف الصراع الاجتماعي الذي حاول فيه دراسة الصراع الاجتماعي في إطار الرؤية الوظيفية البنائية للعالم.[29]
لقد تجلت المشكلة الأساسية لنظرية الصراع التي نشأت كمحاولة لتجاوز الوظيفية البنائية في كونها تفتقر إلى أساس هي أحوج ما تكون إليه وهو الأساس الماركسي؛ وهذا ما تم على يد عالم الاجتماع الألماني رالف دارندوف الذي تضلع في الماركسية وسعى لأن يجعل  من نظرية الصراع جزء لا يتجزأ من التراث الماركسي.
يعد كتاب "الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي" (1959) أهم وأشهر أعمال دارندوف وأكثرها تأثيرا في نظرية الصراع. ويستند تصوره السوسيولوجي حول الصراع إلى مفهوم السلطة كواقع اجتماعي؛ فهو يتناول الصراع الاجتماعي من خلال معاينته لعنصر السلطة في المجتمع. فدارندوف يعتقد أن المجتمع إنما يحافظ على النظام بواسطة ما يعرف بالضغوط القوية وقوة السلطة التي تفرضها بعض المواقع الاجتماعية في مجتمع ما على المواقع الأخرى. وهذا التوزيع التفاضلي للسلطة هو العامل الحاسم في نشوء وتبلور الصراعات الاجتماعية. وهنا يكمن البعد الماركسي لنظرية الرجل حول الصراع كنظرية تتحدث عن طبقات مهيمنة وأخرى مهيمن عليها. لكن ماذا تعني فكرة السلطة كواقع اجتماعي لدى دارندوف؟ وما هي أهم استنتاجاته السوسيولوجية في هذا الإطار؟
تحيل فكرة دارندوف عن السلطة على وجود مواقع اجتماعية في المجتمع تتمتع بأحكام ورؤى مختلفة للسلطة، وهذه المواقع الاجتماعية التي يشغلها بالطبع أفراد من المجتمع ويمارسون من خلالها أدوارهم من جهة هي التي تمتلك السلطة، ومن جهة ثانية فإن لهذه المواقع أحكاما وتصورات مختلفة للسلطة وبالتالي ثمة تعارض فيما بينها وهذا ما جعل دارندوف يهتم باستكشاف  هذه الصراعات التي تنشأ بين هذه المواقع وأين تكمن.[30]
بالنسبة لدارندوف، ينبغي البحث عن الأصل البنيوي للصراعات الاجتماعية في منظومة الأدوار الاجتماعية[31] التي تكشف عن مواقع الهيمنة ومواقع الخضوع. ولكي نفهم بنية سلطة مهيمنة ومهيمن عليها يجب أن نبحث عن طبيعة الأدوار الاجتماعية التي يضطلع بها كلا الفريقين. وعليه فإن المهمة الأولى عند دارندوف في صياغته لنظرية الصراع تتمثل بتحديد أدوار السلطة المختلفة في المجتمع .
وإذا أردنا تفصيل القول أكثر حول تصور دارندوف ونظريته ، فيمكن القول إنه إذا كان الرجل قد تأثر بالأفكار الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها كارل ماركس لاسيما الأفكار التي تقول بأن هناك صراعا طبقيا في المؤسسات الصناعية، إلا أنه لا يعتقد بأن هذا الصراع هو بين الطبقة العمالية وطبقة أرباب العمل كما اعتقد ماركس، ولا يعتقد كذلك بأن سبب الصراع بين العمال وأرباب العمل يرجع إلى عوامل مادية. "إن رالف يعتقد بأن الصراع في المؤسسات الصناعية يكون بين العمال والطبقة التكنوقراطية. ومثل هذا الصراع كما يعتقد دارندوف لا يتحدد بالمؤسسات الصناعية بل يكون في المؤسسات الإدارية ذات الطابع الحكومي وفي المؤسسات الصحية والعسكرية. إن الصراع في المؤسسات الإدارية الحكومية كما يرى دارندوف يكون بين أبناء الطبقة التكنوقراطية الذين هم خريجي الجامعات والكوادر العملية التي تحتل المراكز القيادية في المؤسسات الإدارية الحكومية وبين الكبة والموظفين الصغار. كما أن الصراع في المؤسسات العسكرية يكون بين الطبقة التكنوقراطية ونواب الضباط أو المراتب في القوات المسلحة.
"وفيما يتعلق بالصناعة يعتقد رالف دارندوف بأن الصراع لا يكون بين العمال ومالكي وسائل الانتاج كما اعتقد كارل ماركس بل إن الصراع يكون بين العمال والطبقة التكنوقراطية. علما بأن الطبقة التكنوقراطية لا تمتلك المشروع الصناعي بل تديره فقط لقاء رواتب معينة
كما أن سبب الصراع بين العمال والتكنوقراطيين كما يراه دارندوف ليس هو ماديا بل يرجع إلى احتكار التقنوقراطيين لأسباب القوة والنفوذ في المشروع الصناعي وعدم تمتع العمال بأية قوة او نفوذ في المصنع. وهذا هو سبب الصراع بين العمال والطبقة التكنوقراطية على حد قول دارندوف."[32]
خلاصة القول أنه إذا كان الصراع الطبقي في التصور الماركسي التقليدي يدور حول ملكية وسائل الانتاج فإن هذه العوامل ليست السبب الوحيد للصراع بالنسبة لدارندوف، بل إن ثمة علاقات هيمنة ذات أهمية تنتج صراعات اجتماعية غير علاقات الهيمنة التي تنتج عن علاقات الانتاج.  وعموما يمكن تلخيص محتوى نظرية الرجل  على النحو التالي:[33]
Ø يعتقد دارندوف أن كل مجتمع يتكون من مجموعتين يتحدد موقع كل منها بما تملكه من قوة بحيث تكون إحدى المجموعتين مهيمنة والأخرى مهيمنا عليها.
Ø كل مجموعة تكوِّن مصالح مشتركة تجعلها تقف موقف العدو من المجموعة الأخرى.
Ø في الوقت الذي تهتم فيه المجموعة المهيمنة بالمحافظة على الوضع بما يوفره من مواقع اجتماعية نافذة، فإن المجموعة المهيمَن عليها تعمل على تغيير الوضع لصالحها.
Ø هذا الصراع يشعر كل مجموعة بالوحدة والانتماء المشترك ويدفعها بالتالي لبلورة وسائل مادية وإيديولوجية وقيادية للدفاع عن مصالحها وبهذا ينتقل الصراع من الخفاء إلى البروز والعلن ويصبح صراعا مفتوحا.
Ø يتوقف التغير في المجتمع على قدرة المجموعات المهيمن عليها على إضعاف المجموعات المهيمنة وهذا يعني أن وظيفة الصراع تتحدد في كونه كوسيلة في التغير من جهة  وكضمان لحركيته واستمراره  من جهة ثانية ذلك أنه كلما تمكنت الفئات التي كانت في قاعدة الهرم الاجتماعي من أن تنتصب على قمة الهرم الاجتماعي كلما أدى ذلك لنشوء علاقات هيمنة جديدة وبالتالي صراع جديد.
وقبل أن نختم هذا العرض المختصر لنظرية الصراع عند دارندوف، يجدر بنا أن ننوه أنه على الرغم من التماسك الذي أظهرته هذه النظرية كنظرية عملت على تعميم مفهوم الصراع  الماركسي ليشمل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، إلا أنه يمكن إبداء ملاحظتين نقديتين على الأقل:
أ‌. لم تستطع النظرية رغم هذا التماسك النظري أن تنفك من ضغط المفهومات المستمدة من البنيوية الوظيفية خاصة مع تأكيد دارندوف على التوافق الاجتماعي إلى جانب الصراع الاجتماعي من جهة وتأكيده المستمر على وظيفة الصراع وهذا ما جعل البعض يعتقد أن هذه النظرية فشلت في الذهاب بعيدا في اتجاه النظرية الماركسية.[34]
ب‌. إن محاولة توظيف النظرية في تحليل النظام الأسرى والعلاقات الأسرية مثلا يظهر تحديا تبدو معه النظرية في حالة من التخبط ففي إظهارها للعلاقات الأسرية في المجتمع الرأسمالي على الأقل باعتبارها علاقات صراع حول النفوذ والهيمنة وربطها الاضطهاد الأسري بالاضطهاد الاجتماعي هو "عرض للمشكلة الاجتماعية دون تقديم حل بديل يعالج مشكلة الاضطهاد المزعوم. فإذا كان الصراع الطبقي مستمراً في جميع أطوار تطور المجتمع الإنساني، كما تزعم نظرية الصراع، فكيف تستطيع تلك النظرية تصوير شكل العلاقة الزوجية في كل مرحلة من مراحل الصراع الاجتماعي؟ فهل أن المرحلة التاريخية السابقة التي أباحت للزوج الرأسمالي اضطهاد زوجته البروليتارية، تبيح للزوجة الرأسمالية اضطهاد زوجها البروليتاري؟ وإذا كانت الثقافة الماركسية في مرحلة الصراع الاجتماعي تجيز للبروليتاريا سحق الطبقة الرأسمالية فهل يجوز سحق العائلة القائمة على أساس الفهم الرأسمالي؟ بل أين حدود التعامل، حسب نظرية الصراع، في العلاقات الخاصة بين الزوج والزوجة ؟ ومن الذي يحدد القانون الذي يسمح للزوجين بالاشتراك في الحياة الزوجية السعيدة دون ظلم واضطهاد ؟"[35]
وعموما يمكن القول أن نظرية الصراع ينبغي النظر إليها باعتبارها مرحلة في تطور النظرية الاجتماعية، استطاعت أن تضيف قيمة علمية للجهود المستمرة لبلورة نظرية اجتماعية معاصرة قادرة على التعاطي السوسيولوجي مع الواقع الاجتماعي المعاصر بما يطرحه من تعقيد كبير.
3. نظرية الفعل التواصلي ليورغن هابرماس:
يعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس أحد أبرز العلماء الذين استطاعوا أن يقدموا أسهاما متميزا في تناولهم للقضية الاجتماعية في القرن العشرين. ويعد في نظر مؤرخي العلوم الإنسانية الممثل الأبرز لمدرسة فرانكفورت النقدية على الرغم من بعض الاختلافات بينه وبين أتباع هذه المدرسة.[36] ويرى الدكتور عبد الله ساعف أنه لا يمكن تجاهل فيلسوف مركزي أسس للمرحلة المعاصرة مثل هابرماس وإنتاجه العلمي في مجال العلوم الاجتماعية، ليس فقط كأحد أعمدة مدرسة فرانكفورت النقدية، ولكن نظرا لغنى وتنوع إنتاجه المنفتح من جهة على مرجعية فلسفية قوية، ومن جهة أخرى لمواكبته للأسئلة المعقدة للإنسان المعاصر.[37]
وإذا كان هابرماس قد تحول نسبيا إلى ماكس فيبر بحثا عن مسارات فكرية بديلة لأفكار ماركس اعتقادا منه أن كثيرا من هذه الأفكار قد تجاوزها الزمن، إلا أنه يطلب المحافظة على عدد من الأصول التي أنتجها المفكرون الماركسيون. "فهو يرى أن لا بديل للرأسمالية؛ لأنها أثبتت قدرتها على توليد الثروة. غير أن الإشكالات التي حددها ماركس في الاقتصاد الرأسمالي قائمة حتى اليوم  مثل النزعة لخلق النكوص والأزمات الاقتصادية." [38] ومن هذا المنطلق يرى هابرماس  أنه لا بد من استعادة السيطرة على المسارات الاقتصادية بدل أن تصبح هي المتحكمة في الناس. والوسيلة في ذلك هو ما سماه "المجال العام" الذي تشكل الديمقراطية إطاره العام.
لقد ظل الهاجس الذي شغل هابرماس هو إنتاج نظرية سوسيولوجية  وليس معرفية قادرة على تقديم إجابة شافية عن السؤال الذي استأثر باهتمامه والمتعلق بكيفية تحقيق الاندماج الاجتماعي. هذا الاندماج الذي انطلق فيه من الحديث عن التفاعل الاجتماعي بين شخصين ليوسعه إلى مجتمع مصغر، فالمجتمع بالمعنى الواسع، قبل أن ينتقل في أعماله المتأخرة للحديث عن الاندماج الاجتماعي والسياسي بين المؤسسات الأوربية في ظل دستور واحد يسمح بإمكانية الاندماج الاجتماعي بين فعاليات المجتمع المدني، في ظل فضاء عمومي يتعدى الوطنية. ومن هنا دعوته إلى الاهتمام بكل ما هو مشترك من أجل خلق منظمات قادرة على التأثير في الفضاء العمومي خاصة في أوربا.[39]
وفي سعيه لبناء نظريته هاته حول الاندماج الاجتماعي، ركز هابرماس على ما يسمى الفاعلية التواصلية. وبعد أن راجع مختلف النظريات التي استطاع أن يستخلص منها  بعض الأفكار التي يمكن أن تساهم في بناء نظريته التواصلية، عمل وبكل جرأة على نقد كل النظريات السوسيولوجية التي لا تؤمن بإمكانية تحقيق التواصل والإجماع والتفاهم، كنظرية التبادل الاجتماعي، الوظيفية النسقية، والتفاعلية الرمزية والإثنومتودولوجية، متهما إياها بأنها تشترك في نقطتين أساسيتين: مقارباتها الأحادية الجانب من جهة وضعف مقاربتها النظرية من جهة ثانية. ويرجع السبب في انتقاده لهذه النظريات على ما يبدو إلى كون الهاجس الذي كان موجها له، كما أشرنا، كان هو دراسة كيف يمكن أن يكون النظام الاجتماعي ممكنا لتحقيق الاندماج الاجتماعي وهو ما لم تجب عنه هذه النظريات على حد رأيه.
وللإجابة عن هذا الإشكال تبين لهابرماس وجود منحيين اهتما بنظرية الفعل؛ أولهما النظرية السوسيولوجية للفعل، وثانيهما النظرية الفلسفية للفعل القائمة على فلسفة الوعي والتي تبقى، في نظره، غير قادرة على طرح تصور واضح وعملي للفعل الاجتماعي. وعليه فهو يتنصر للنظرية السوسيولوجية.  ويرى الرجل أن النظرية السوسيولوجية للفعل على الرغم من أنها تفترض ما تجعل منه النظرية الفلسفية للفعل موضوعا، إلا أنها لا يجب أن تنشغل بالقضايا الفلسفية المحضة  حتى تتمكن من تفسير الفعل الاجتماعي، وبالتالي مفهوم النظام الاجتماعي.[40] إن ما على السوسيولوجيا النقدية أن تدرسه هو "شبكات التفاعل داخل مجمع قائم على العلاقات التواصلية أي على وحدة  الذوات المتعارضة في طار التواصل"[41]
وينصب انتقاد هابرماس للنظريات الفلسفية على كونها لم تقدم رؤية واضحة للفعل الاجتماعي لأنها كانت سجينة التصور الفلسفي الأرسطي لمفهوم الفعل الغائي (الفعل الموجه بغاية). أما النظريات السوسيولوجية الأخرى فإنها برأيه "لم تنجح في تطوير مفهوم الفعل بحيث يكون التوافق يتأسس بالاعتماد على اللغة التي تلعب دور الربط بين الأفعال كما أنها لم تبين كيف أن اللغة تقوم بوظيفة الوسيط في التنشئة الاجتماعية."[42] إن هذه الملاحظات دفعت هابرماس إلى التركيز على اللغة في نظريته التواصلية من خلال مفهومي  الفعل التواصلي والعالم المعيش. فما الذي يعنيه بالفعل التواصلي؟ وأية وظائف له؟ وكيف يساهم في تحقيق الاندماج الاجتماعي؟
ينطلق هابرماس في تحديده لمفهوم للفعل التواصلي من رفضه لفلسفة الوعي التي تنظر إلى العلاقة بين الفعل واللغة كالعلاقة بين الذات والموضوع؛ ولذلك فهو يرى أن الفعل التواصلي ليس فعلا أداتيا، إنما هو فعل يرمي إلى الوصول إلى الفهم والتفاهم، وأي تفاهم لا يمكن أن يفرض فرضاً من قبل أي من المشاركين في عملية التواصل. وبالنسبة إليه، يمكن أن تفهم كل الأفعال سواء كانت لسانية أو غير لسانية كأنشطة موجهة نحو غايات. فبعض الأنشطة توجه نحو غايات التفاهم، أما البعض الآخر فيشكل على العكس من ذلك آليات للتأثير الممارس على الغير بغرض إثارة هذا السلوك أو ذاك. ففي الحالة الأولى تستخدم اللغة كأداة للاندماج الاجتماعي حيث البحث عن الإجماع أما في الحالة الثانية فإن اللغة تستعمل كوسيط أي أداة تسمح بتبليغ المعلومات.[43] يقول هابرماس: "نسمي فعلا أداتيا موجها نحو النجاح عندما نعتبره على شكل قواعد تقنية للفعل ونقيم درجة فاعليته بمدى التداخل في سياق حالة الأشياء والأحداث، كما نسمي فعلا استراتيجيا الفعل الموجه نحو النجاح، عندما نعتبره على شكل قواعد اختيار عقلاني ونقيم درجة فعاليته بالتأثير الممارس على قرارات الشريك العقلاني، فالأفعال الأداتية يمكن إرجاعها إلى تفاعلات اجتماعية، بينما تمثل الأفعال نفسها أفعالا اجتماعية. في مقابل هذه نسمي أفعالا تواصلية تلك التي تكون فيها مستويات الفعل بالنسبة للفاعلين المنتمين للعملية التواصلية غير مرتبطة بحاجيات أساسية وإنما مرتبطة بأفعال التفاهم."[44] فالفعل التواصلي لا يسعى للبحث عن الوسائل التي تمكنه من التأثير على الآخر بل  إنه يبحث عن كيفية الوصول إلى تفاهم ممكن واتفاق متبادل بين الأطراف المشاركة في العملية التواصلية دون أي ضغط.
لم يكتف هابرماس بتحديد أنماط الفعل الاجتماعي بل إنه قد طور مفاهيم محورية ضمن نظريته التواصلية مستفيدا في ذلك من المناقشات السوسيولوجية من جهة ومتأثرا بالمنعطف اللغوي الذي جعله يشتغل على موضوع اللغة وبالتالي ربطه بالأفعال الاجتماعية من جهة ثانية. ومن بين هذه المفاهيم المركزية نجد مفهوم "العالم المعيش" و التأثير والاتفاق.
تتحدد الغاية القصوى للفعل التواصلي في تحقيق التفاهم بين الأطراف المشاركة فيه . وهذا التفاهم لا يمكن أن يتم، حسب اعتقاد هابرماس، إلا على أساس اتفاق عقلاني. وهذا ما جعله نميز بين مفهومي الاتفاق والتأثير كميكانيزمين لتنظيم الفعل الاجتماعي. فلا يصح أن يكون السعي للتفاهم من أجل الوصول إلى اتفاق مع الطرف الآخر وفي نفس الوقت بهدف التأثير عليه.  فكلما كان هناك سعي للتأثير على الطرف الآخر كلما أدى ذلك إلى انتفاء الاتفاق وبالتالي فشل الفعل التواصلي. وفي هذا الصدد ينبه هابرماس إلى مستويين لهذا الفشل أولهما: فشل التفاهم المتبادل والانشقاق، وسوء الفهم، وثانيهما: فشل مشروع الفعل أي الإخفاق التام من جهة؛ ومن جهة ثانية يدعو إلى ضرورة استبعاد كافة الوسائل التي تهدف إلى التأثير في أي من أطراف الفعل التواصلي كيفما كانت حتى إنه دعا إلى استبعاد الكذب لأنه سوف لن يؤدي إلا إلى اتفاق مؤقت.
خلاصة القول في موضوع هذين المفهومين أنهما ميكانيزمان مختلفان ومتمايزان جوهريا؛ فإذا كان ميكانيزم الاتفاق ينضوي تحت مسمى الفعل التواصلي، فإن ميكانيزم التأثير يصنف تحت الفعل الاستراتيجي أو الأداتي. لكن ما هي وظيفة الفعل التواصلي؟
سبق أن أشرنا إلى أن غاية الفعل التواصلي عند هابرماس هو تحقيق التفاهم على أساس الاتفاق. فهذا التفاهم هو أساس المجتمع التواصلي الذي يسعى إليه هابرماس وهذا يعني محورية التفاهم في السعي للبحث عن معايير تحكم  الجماعة وتحقيق الاتفاق حول هذه المعايير التي تشكل قواعد للتواصل بين الذوات. إن الوظيفة الأساسية للتفاهم هي إذن "تنشيط وتحيين الاتفاق المعياري المحترم من طرف الجماعة، ومن ثمة فإن النشاط المنظم بواسطة معايير لا ينطبق على سلوك فاعل منعزل، بقدر ما ينطبق على أعضاء جماعة يوجه نشاطها بواسطة قيم مشتركة."[45] إن هذه الوظيفة المتمثلة في تحقيق الاتفاق بين الأطراف المكونة للمجتمع وبالتالي الاندماج الاجتماعي هي ذاتها الوظيفة التي يسعى إليها الفعل التواصلي. يقول هابرماس: "فمن وجهة نظر وظيفية للتفاهم، فالفعل التواصلي يعمل على نقل وتجديد المعرفة الثقافية، أي من وجهة نظر ربط الأفعال، فإنه يؤدي وظائف الاندماج الاجتماعي وخلق التضامن وأخيرا من حيث التنشئة الاجتماعية له وظيفة تشكيل الهويات الشخصية."[46]
إن هذا الفعل التواصلي ذي الوظيفة هاته  لا يرتبط باللغة كوسيلة لربط وتنظيم الأفعال الاجتماعية فقط . بل إن هابرماس في مقاربته للفعل الاجتماعي قد انفتح على ما سماه العالم العيش ممثلا في مكوناتها التي على أساسها يتم تحقيق الاندماج الاجتماعي وهي: الثقافة (أي الزاد المعرفي الذي يغترف منه المشاركون في الفعل التواصلي تأويلاتهم)؛ والمجتمع (أي الضوابط التي ينظم بواسطتها هؤلاء الفاعلون انتماءاتهم الاجتماعية ويدعمون تضامنهم)؛ والشخصية (القدرات المتعلقة بالكلام والفعل والانضمام إلى سيرورات التفاهم وتثبيت الهوية الخاصة). ويتمثل السبب في تأكيده على العالم المعيش في سعيه إلى تحقيق التفاهم الحقيقي كغاية للفعل التواصلي أكثر من مجرد تحقيق اتفاق سطحي. أي أنه يسعى لتحقيق الإجماع بين الأطراف المشاركة في الفعل التواصلي.
وقبل أن نتخم هذا العرض لنظرية الفعل التواصلي عند هابرماس، يجدر بنا أن نشير إلى أن تصوراته هاته ليس مجرد تصورات فلسفية تأملية بل إنها منسجمة بنظرته كعالم الاجتماع إلى الشأن السياسي الوطني والعالمي. فهو يعتقد أن هذا التفاهم وهذا الاتفاق الذي يؤسسه الفعل التواصلي هو المدخل إلى الديمقراطية. فهذه الأخير بالنسبة له "تتعلق بتأسيس تعايش وتواصل بين جميع المواقف والآراء والحساسيات التي تقدم نفسها أولا بشكل ذاتي ومقاومة للاندماج."[47]
وعلى الرغم من هذا الغنى  والتماسك الذي أبدته هذه النظرية إلا أنها لم تسلم من الانتقاد اللاذع من مجموعة من علماء الاجتماع. ويمكن إجمال أهم هذه الانتقادات كما يلي:
-  إذا كان هابرماس قد جعل من الإجماع الغاية النهائية للفعل التواصلي، فإن الفيلسوف الفرنسي جون فرنسوا ليوطار اعتبر أن هذا الإجماع ضرب من ضروب "الإرهاب" العقلاني لدى هابرماس ذلك أن الاختلاف يخلق الإبداع، وهو أقدر على الابتكار من الإجماع الذي يقتل الإبداع. ويصل نقد جون فرنسوا ليوطار لمقولة الإجماع الهابرماسي  حد إنكار وجود مثل هذا الإجماع حتى في القضايا العلمية  مستشهدا بأزمة الأسس التي عرفها العلم المعاصر بله في القضايا السياسية والاجتماعية.
-  إن هابرماس  لم يستطع أن يوضح كيف يمكن إخضاع نظريته للتطبيق. فهي نظرية يتوبية  أكثر مما هي نظرية قابلة للتحقيق على أرض الواقع. فإذا كان هابرماس استهدف صياغة نظرية نقدية للمجتمع تستند إلى عقل تواصلي يتحرك داخل معايير ذات مضامين عقلية وأخلاقية في الوقت نفسه ، فإن ألان تورين يرى أن مفهوم التواصل لدى الرجل قد "بقي محتفظا بشيء من المثالية  ذلك أن القول بمجتمع تواصلي عقلاني ذي مرجعية معيارية وأخلاقية  قول يبدو أنه ينتمي إلى اليوتوبية أكثر مما يستند إلى أساس واقعي."[48]
-  يرى نيكلاس لوهان أن التواصل لا يجب أن يبنى على مبادئ أنطولوجية، وعلى أن التواصل لا يهدف إلى الإجماع كما ذهب إلى ذلك هابرماس بل أن هدف التواصل هو التواصل ذاته الذي ينتج الإجماع كما الاختلاف. فالإجماع حسب لوهان لا يمكنه تجاوز عوامل الإزعاج والاضطراب في حين أنه بمساعدة التواصل يمكن أن نصل إلى فهم ما هو غير منتظر وغير مرغوب.[49]
قائمة المراجع والمصادر المعتمدة:

الكتب والكتب الإلكترونية:

-  أكرم حجازي، الموجز في النظريات الاجتماعية المعاصرة، دراسة منشورة في الانترنيت.

-  محمود عودة، أسس علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت (بدون تاريخ).

-  مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، قراءات معاصرة في نظرية علم الاجتماع، ترجمة: مصطفى خلف عبد الجواد، النسخة الإلكترونية.
المواقع والروابط الإلكترونية:
-  موقع الدكتور محمد سبيلا:
-  موقع أنفاس:
-  موقع اجتماعي:
-  موقع:
-  موقع:

[20] - لويس ألتوسير ، ماركس والنزعة اللاانسانية، ترجمة محمد سبيلا: http://www.mohamed-sabila.com

 

[1] - عبد الباسط عبد المعطي،م.س.ص: 10.
[2] - عبد الكريم غريب، المنهل التربوي، ص: 953.
[3] - عن هذا راجع : عبد الله ابراهيم ، علم الاجتماع.
[4] - أنتوني غيدينز، م.س.ص: 699.
[5] - عبد الباسط عبد المعطي،م.س.ص: 59.
[6] - أكرم حجازي، الموجز في النظريات الاجتماعية التقليدية والمعاصرة، دراسة منشورة في الشبكة العالمية للمعلومات.
[7] - أكرم حجازي،م.س. بتصرف.
[8] - أنتوني غيدينز ،م.س.ص: 702، بتصرف.
[9] - عبد الله إبراهيم، م.س.ص: 70.
[10] - نفسه.
[11] نقله عبد الله إبراهيم  في م. ن ص: 71.
[12] - أنتوني غيدينز،مس.ص: 71.
[13]- إحسان محمد الحسن، م.س. ص: 519-520. وعبد الباسط عبد المعطي،م.س. ص:68.
[14] - عبد الباسط عبد المعطي، م.س. ص: 69.
[15] - أنتوني غيدينز، م.س. ص: 69.
[16] - إحسان محمد الحسن، ص: 520-521.
[17] - محمود عودة،م.س.ص: 101.
[18] - محمود عودة،م.س.ص: 104.
[19] - نفسه، ص: 105.
[20] - لويس ألتوسير ، ماركس والنزعة اللاانسانية، ترجمة محمد سبيلا: www.mohamed-sabila.com
[21] - ألتوسير م.س.
[22] - نفسه.
[23] - نفسه، بتصرف.
[24] - نفسه.
[25] - سعد محمد رحيم، م.س.
[26] - نفسه.
[27] -anfasse.org/index.php?option=com_content&view=article&id=1495:2010-07-04-20-41-00&catid=36:2010-07-20-02-57-41&Itemid=590
[28] - سعد محمد رحيم، م.س. بتصرف.
[29] - قراءات معاصرة في نظرية علم الاجتماع، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، ترجمة: مصطفى خلف عبد الجواد، ص: 284-285.
[30] - أكرم حجازي، م.س.
[31] - نشير هنا إلى أن دارندوف يقيم فرقا واضحا بين الوظيفة التي تؤديها بنية اجتماعية والدور الاجتماعي الذي يلعبه من يحتله هذا موقعا اجتماعيا؛ فإذا كانت  السلطة بنية مركزية تؤدي وظيفة لا يمكن الاستغناء عليها فإن المتمتع بموقع سلطوي يلعب دورا مختلفا عن الوظيفة التي تؤديها السلطة. وإذا كانت السلطة تمثل حاجة اجتماعية كما ترى الوظيفية فإن الدور لا يمثل حاجة اجتماعية إنما يعبر عن موقع اجتماعي يلعبه فرد ما.
[32] - راجع الرابط:www.socialar.com/vb/showthread.php?t=4819
[33] - أكرم حجازي،م.س. بتصرف.
[34] - راجع مثلا: قراءات معاصرة في نظرية علم الاجتماع، م.س. ص:  285.
[35] -  راجع الرابط:www.socialar.com/vb/showthread.php?t=4819
[36] - محمد الأشهب، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، منشورات دفاتر سياسية، ص: 11.
[37] - عبد الله ساعف في تقديمه لكتاب الفلسفة والسياسة عند هابرماس، م.س. ص: 7.
[38] - أنتوني غيدينز، م.س. ص: 726.
[39] - محمد الأشهب، م.س. ص: 11- 12 بتصرف.
[40] - محمد الأشهب، م.س. ص: 15.
[41] - أرمان وميشيل ماطلار، التواصل في المعيش البومي ضمن: التواصل، نظريات ومقاربات، م.س. ص: 144.
[42] - محمد الأشهب، م.س.ص: 19.
[43] - ج. بورتوا –هـ. ديسمي، المقاربة السيكو- اجتماعية للتواصل، ضمن التواصل نظريات ومقاربات،م.س.ص 241.
[44] - محمد الأشهب، م.س. ص: 21، نقلا عن يورغن هابرماس في نظرية الفعل التواصلي.
[45] - نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل: في النظرية النقدية المعاصرة نموذج هابرماس، ص: 188.
[46] - هابرماس، م.س. ص: 30.
[47] - نقله عن ألان تورين محمد الأشهب، م.س.ص: 48.
[48] - محمد الأشهب، م. س. ص: 50.
[49] - نفسه، بتصرف.