في البحث عن مواطن الائتلاف والاختلاف بين الفكرين الإسلامي والعلماني ـ د.مخلص السبتي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

mokhlisse-sebtiنستهدف هنا ثلاثة أهداف أساسية:
1.   توظيف الخبرة الإنسانية لخدمة الفكر الإسلامي.
2.   توظيف الفكر الإسلامي لخدمة الفكر الإنساني) باللغة التي يفهمها(
3.   محاولة المساهمة في نزع الصراع المحتدم (على المستويات الفكرية والسياسية...) بين فئتين عظيمتين من المسلمين،فئة العلمانيين ،وفئة الإسلاميين .

ينطلق البحث من فرضية مفادها أن داء تقمص القداسة الذي أصاب المسيحية وعصف بالكنيسة هو نفسه الذي أصاب التاريخ الإسلامي وعصف بمركز الخلافة وبأغلب الفرق الإسلامي عبر التاريخ من مثل الخوارج وما تلاهم من فرق متشعبة كالعلوية والمنصورية والخطابية...إلخ.
ما مدى صحة هذا الطرح؟ وهل يمكن مقاربته بالأحاديث الإستشرافية للنبي عليه الصلاة والسلام (لتتبعن سنة من كان قبلكم...)[1] و (أن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة)[2]؟

في البداية ينبغي التأكيد على أن فهم أهداف العلمانية ومراميها يقتضي فهم الواقع الذي جاءت العلمانية في أوربا لمجابهته، ونحن نزعم أنه نفس الواقع الذي جابهته الكثير من نصوص القرآن والسنة وتصرفات الخلفاء الراشدين، واقع اتسع بإدعاء العصمة والقداسة عبر آليتين اثنتين:

عصمة وقداسة الراهب أو الإمام أو الولي القطب.
عصمة وقداسة الرأي ما دام صادرا عن مستند من نص ديني ولو لم يتم النظر إلى الشخص في ذاته على أنه مقدس أو معصوم.([3])
إشكال في الغرب

تضرب العلمانية بجذورها الأولى إلى عمق الدين المسيحي إذ لم يأت عيسى عليه السلام بهدف تأسيس دولة أو تبليغ شريعة([4]) بل أتى للدعوة إلى نبذ الوثنية ولنشر التوحيد مع تصحيح القيم الأخلاقية والدعوة للمحبة والسلام.
فكانت رسالة عيسى إذن رسالة روحية مكملة للدولة والشريعة غير معادية لهما، وفي الوقت ذاته كانت تعمل على التمييز المستمر ما بين دولة قيصر ودعوة عيسى حتى لا تختلط الدعوة المقدسة وبالدولة المدنسة (profane)

ومع مرور العهود أنتجت الدعوة مؤسسة قوية لها أموال طائلة وإقطاعات شاسعة وملشيات مسلحة وهي الكنيسة التي سيطرت سيطرة كاملة ومطلقة على الدولة وملوكها وساستها وأخضعت المجتمع لنظام صارم يبجل الروح ويغلي المصالح الدنيوية والمادية ويقف في وجه تطور العلوم والمعارف غير الدينية.
وبذلك شكلت حركة العلم والدين القانون، وأصبحت الكنيسة هي المتحكمة في الأنفس والأرواح عبر رهبانها وقسيسها، حتى أن إيمان المسيحي لم يكن لصبح إلا بالمرور عبر وصاية الراهب التي تفرض قسرا على الأتباع، وهي تشبه وصاية الآباء على أنبائهم القاصرين، ومن يبحث في دلالات ومرجعيات المصطلحات الكنيسة المستعملة من أب وابن، وأحيانا أخت وأخ يدرك عمق الهوة الفاصلة بين رجل الدين ولو كان في أسفل السلم الهرمي للكنيسة ورجل الدنيا العادي.

فرجال الدين والرهبان إذن هم الوسطاء الذين ليس منهم بد لكي يكون الإنسان مؤمنا، وهم المتحكمون في إيمان المؤمن منذ أيامه الأولى عبر التعميد إلى نهاية حياته عبر مباركته أو طرده من الملكوت مرورا بإمكانية تبشيره أيام حياته بمغفرة الذنوب أو متابعته بالتفتيش عن آراءه ومعتقداته وتطهيره بالتعذيب والإحراق بالنار، إذا كان "مجدفا" مخالفا لآراء الكنيسة المقدسة.
على أن مصدر الانحراف الذي بدأ بفترة قصيرة من بعد عيسى عليه السلام لم يكن في ذات الدين ولا حتى في وجود الإكليروس الديني، بل في حرص هذا الإكليروس على استملاك الدين والدنيا استملاكا نهائيا واحتكار معرفتهما احتكارا مطلقا ومشروعا والصدور في ذلك عن طريق مقدس لا يقبل المراجعة أو المحاسبة إذ هم الرهبان المتحكمون باسم الله والمترجمون لإرادته، وأي مخالفة لهم اعتبرت مخالفة لإرادة الله وتوجيهاته.

وقد أثرت هاته الفلسفة الإطلاقية العرفاتية على:

1.   مصادر الدين ونصوصه:

فأقرت المجامع الكنسية أناجيل وأقصت أخرى من دون أي سند علمي أو توثيقي وحرمت ترجمة الكتب المقدسة من اللاتينية إلى غيرها من اللغات الأوربية إمعانا في احتكار الدين ووسائل معرفته.

2.   الإبداع الفكري والعلمي:
إذ تبينت الكنيسة الآراء الأرسطية وأضفت عليها من القداسة والرهبة ما جعلت مخالفها كفارا هراطقة، ولذلك قتلت العلماء واضطهدتهم وأحرقت المفكرين والمخالفين.

3.   التعايش الاجتماعي:
حيث تم اضطهاد المخالفين من اليهود والمسلمين وأتباع المذاهب المسيحية المخالفة، وتم خطر التعامل التجاري معهم وطردهم من وظائفهم وإخضاعهم للمبادئ الكنيسة بالقوة والسعي المحكم إلى تغيير أسمائهم وأديانهم بالإكراه.

ومن جهة أخرى أدى تحالف الكنيسة مع الإقطاعيين إلى استضعاف فئات واسعة من العبيد وصغار التجار والحرفيين وغصب أموالهم وأعراضهم... إلخ فانتفى بذلك التعايش الاجتماعي بين المذاهب المسيحية وبينها وبين الأقليات الدينية التي تعيش بينها

4.   النظام السياسي:
صاغ رجال الكنيسة النظرية النيوقراطية وهي ما يعرف بالحكم بالحق الإلهي المقدس، وبمقتضى ذلك صار الحاكم يحكم الشعب بتوجيه من الإرادة الإلهية، وبذلك لم يكن لشخص أو هيئة أن يعارض الحاكم لأنه هو المجسد لإرادة الله، وهو الذي يحكم باسم الله ونيابة عنه، وأعلى معارضة للحاكم، تسقط في الكفر وتوجب لصاحبها اللعن والإخراج من الملكوت.

ولم يكن رجال الدولة من أمراء ونبلاء وغيرهم أن يتقبلوا بيسر تحكم رجال الدين فيهم، بل انخرطوا في صراعات طويلة أدت في الأخير إلى انتصار رجال الدولة "العلمانيين" على رجال الدين "اللاهوتيين"، ولم يكن الأمر رفض للدين من جانب العلمانيين، بل كان الجميع ينتهي بقوة وبتعصب إلى الدين المسيحي، فالعلمانية لم تكن استبدالهم لثقافة دينية بثقافة أخرى لا دينية([5])بل محاولة للرجوع بالمسيحية إلى سالف عهدها

ومن هنا نفهم كيف أن العلمانية تحولت إلى مصدر للقيم الإنسانية الثابتة في الثقافة الغربية بما أنها شرط للقضاء على الظلم والاستبداد وتحرير للعقل وترشيد للعمل الإنساني، وأصبحت فلسفة عامة توجه الوعي الاجتماعي والسياسي وجهته العقلانية العلمية وتبعده عن التصورات الخرافية التي تعيق فهم الحياة وتطويرها؛ إنها في المرجعية الغربية ليست فقط النقيض المواجه للنيوقراطية المستبدة بل أيضا المواجه لتحريف الدين والتزيد فيه، فهي لم يكن لها من مبرر في المجتمعات الأوربية لولا ذلك السلطان القاهر الذي أله الرهبان ومنحهم الحديث باسم الله ونيابة عنه وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿اتخذوا أحبارهم  ورهبانهم أربابا من دون الله﴾. ([6])

إشكال الشرق

ظهرت الحاجة إلى التمييز بين حكم  الله في الشيء وحكم الإنسان منذ فترة مبكرة، حيث نزل القرآن في العهد المكي داعيا إلى عدم الحديث باسم الله ونيابة عنه في غير ما شرع أو أخبر عنه فأن حدث شيء من هذا فهو كذب وافتراء به إليه: ﴿إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم، ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون﴾([7])

فبعدما بين الله عز وجل هنا ما حرم على المسلمين دعاهم إلى عدم التزيد عليه بالتشريع نيابة عنه فإن حدث هذا كان كذبا وافتراء عليه.

كما أننا لنجد الرسول صلى الله عليه وسلم ليميز بين حكمه الخاص الذي يصيب  ويخطئ وحكم الله عز وجل المطلق فيقول: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار".([8])

ويقول في حديث تأبير النخل: "إن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله، قلن أكذب على الله"([9])
والرسول ليرى أصحابه على اعتبار هذا الفارق فحينما أمر بريدة على سرية نهاه أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال له: "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك. ([10])

لكمن سنة الله لا بد أن تتم، ولا بد أن يأخذ التاريخ مجراه فتنطبق على المسلمين سنة الله في الذين خلوا من قبل: "لتتبعن سنة من كان قبلكم حذو القدة بالقدة"([11]) فيقدسوا آراء شيوخهم وأئمتهم، وهنا نذكر الشيعة وما تفرع عنها كالخوارج والعلوية والمنصورية والخطابية والإسماعلية والباطنية والرافضة.... ثم بعد ذلك البابية والبهائية والقاديانية..... إلخ.

وقد اتفقت الشيعة الإمامية على إضفاء القداسة على الإمام، فهم يجعلون من الإمامة ركنا سادسا إلى جانب أركان الإسلام الخمس، والإمامة عندهم نظام ديني سماوي يقوم على عصمة الإمام وأنه مختار من الله، وأن طاعة الأئمة فرض كطاعة الرسل وأن التسليم بهم شرط الإيمان. ([12])

أما في العالم السني فالمتأمل في تجربة الطرق الصوفية ليلحظ نشوء منهج جديد منذ فترة مبكرة من تاريخ التصوف هو منهج "الحقيقة" الذي زاحم منهج الشريعة أحيانا وأقصاه في معظم الأحيان.

وهذا المنهج يقوم على مبادئ الذوق والإلهام مما مكن كثيرا من شيوخ الطرق من الإدعاء أنهم على صلة مباشرة بالله، وبذلك أصبحت إلهامات الشيخ وأحلامه هي مصادر العلوم والمعارف الدنيوية والأخروية ومن شيوخ الطرق من كان يدعي أنه يتلقي برسول الله صلى الله عليه وسلم  يقظة لا مناما فيخبره ويأمره وينهاه، خذ من ذلك الشيخ أبو العباس التيجاني الذي قال: "أخبرني الرسول صلى الله عليه وسلم  قائلا : بعزة ربي يوم الاثنين ويوم الجمعة لم أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب، معي سبعة أملاك، وكل من رآك في اليومين تكتب الملائكة اسمه على ورقة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة...

وكان التيجاني يقول: من ترك ورده وأخذ وردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنفية التيجانية، فلا خوف عليه ولا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات، أما من أخذ وردنا وتركه فأنه يحل به البلاء دنيا وأخرى ولا يموت إلا كافرا قطعا، وبذلك أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم  يقظة لا مناما"([13])

ولقد أصاب هذا المنهج الإلهامي الصوفي نجاحا في أغلب مناطق العالم الإسلامي وتطرو لكي يشكل لنفسه بناء فلسفيا متكاملا يقوم على إلغاء العقل وإحلال "الذوق" مكانه.

وبذلك يصبح "الذوق" هو نقطة بداية المريد والمتعلم والذي يرتقي في المقامات حتى يصبح هو "الله"، وحينما يرتفع به ذوقه إلى هذا "المقام" نجده لا يتردد في إعلانه على الناس في مجالسهم ومنتدياتهم بصيغ تتفاوت بحسب الظروف والمناسبات، فمرة يفهمهم أنه "مافي الجبة إلا هو"، ومرة يصبح بكلام لا لبس فيه "أنا الله".

بهاته الوسيلة منح الشيوخ والأولياء والأقطاب والآغوات لأنفسهم سلطانا روحيا مهيمنا بحيث لم يكن يصح أن يظل المؤمن بغير شيخ، ف"من لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان" وهذا الشيخ هو الذي يمنح للمريد "الإذن" في ذكر ربه ويربي روحه ويرعاها، لهذا يتحتم أن يكون المريد بين يدي شيخه "كالميت بين يدي غاسله، لأنه هو الأدرى بروحه وما يصلحه ودينه وما يستقيم به".

فالشيخ بذلك هو صاحب السلطان الروحي الذي لا يستقيم إيمان المؤمن بدونه ولا يصح سيره إلى الله إلا على نهجه وتحت وصايته، بل إنه كثيرا ما استمرت وصاية الشيخ وسيطرته على الأتباع حى بعد موته، فيقدس قبره ويعظم وتشد إليه الرحال وتقام له المواسم ويرجى في المهمات والملمات....

وهكذا أصبح الأئمة والشيوخ والأقطاب متحكمون في الناس باسم الله، وأي مخالفة لهم تعد مخالفة لأصول الدين وثوابت العقيدة ومن الطبيعي أن تحاول هاته الفلسفة الإطلاقية العرفانية التأثير على:

1.   مصادر الدين ونصوصه:
قادت الصراعات السياسية الشيعة إلى أن يصرحوا بأن القرآن قد أصابه الزيادة والنقصان، وهكذا نجدهم يرون عن أحد أئمتهم: لو قرء القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين" وعن أبي جعفر "عليه السلام" قال: "لولا أنه زيد في كتاب الله ونقص ما خفى حقنا على ذي حجي"([14])

ومما تزعم الشيعة أنه أسقط من القرآن آية "وجعلنا عليا صهرك، زعموا أنها أسقطت من سورة "ألم نشرح" مكية، وإنما كان صهره الوحيد بمكة العاص بن الربيع الأموي.

وكان من الأئمة من يحتج بظاهر القرآن على باطن أهوائهم ولا يخفى بعد ذلك صنيع الذين وضعوا الحديث لبيان فضائل أئمتهم أو لترجيح آرائهم على غيرها. ([15])

2.   النظام السياسي
يحدثنا التاريخ أن محنة خلق القرآن إنما كان سببها الاقتناع برأي اجتهادي على أنه هو الحق وإقصاء الآراء الأخرى بصفتها باطلا يجب التقرب إلى الله بمحاربة أصحابه والتضييق عليهم وهكذا اعتبر المأمون الإمام أحمد من أهل الجهالة والضلال عن الدين والتوحيد. ([16])

هذا النسق المأموني لم يكن شاذا خلال تاريخ الخلافة، بل نقيضه هو الشاذ الذي لا يقاس عليه، حتى أن برهان غنيون ليقول عن حق:

كان السلطان مسؤولا أمام الله، ومن يكون مسؤولا أمام الله لا يمكن أن يكون مسؤولا أمام العبد أو أن يقبل السؤال أمام الرعية حتى كادت مخالفة السلطان تتحول مهما كان ظلمه أو كفره إلى مخالفة الدين، وفي هذه الحالة ليس أمام الناس من وسيلة لمقاومة الظلم إلا الإرجاء  والدعاء على الملوك أو لهم... فبديل ذلك .... كما قال بعض الفقهاء الفتنة المدمرة، وهذا هو الذي جعل الأدبيات السياسية الإسلامية بصفة عامة أقرب إلى فلسفة النصيحة منها إلى العلم السياسي الحقيقي".([17])

3.   التعايش الاجتماعي:
من الواضح أن إدعاء احتكار الحقيقة كان لا ويزال السبب في تمزيق وحدة المجتمعات وضياع قواسمها المشتركة، وهكذا يحدثنا التاريخ عن صراعات دامية وقعت بين العامة من أتباع الشافعية والحنفية أوبين الحنابلة والشافعية أو بين السنة والشيعة... ويذكر التاريخ أن الحرب بين الدولة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية قد دامت زهاء 200 سنة مما تسبب في تفكك المجتمعات الإسلامية وضياع الثقة بين فئاتها حتى أنه في نهاية القرن الماضي كانت العديد من المساجد لها أربع محارب لكل مذهب محراب خاص به.

4.   الإبداع العلمي والفكري:
واضح إذن أن كل الانحرافات السابقة سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو على مستوى العلوم الشرعية قد ألقت بظلالها على العقل المسلم فنشأت لديه ثنائية متقابلة (دين/دنيا) فطالب الدين لا يكون إلا زاهدا في الدين... كما تم حث الناس على الخمول باعتباره من لوازم التوكل وتمت محاربة الشرع والعقل بالدعوة إلى وجوب أن يكون مصدر المعرفة هو الذوق، فهو الحقيقة المطلقة، أما الشرع فإنما هو لعوام الناس لا لخاصتهم ويلائم المبتدئين لا الراسخين وأما العقل فحجاب كثيف مانع من التعرف إلى الحقيقة ولذلك تأولوا قول الله عز وجل (اذهب إلى فرعون إنه طغى) قالوا فرعون هو العقل.

وبهذه الطرق بدأ الناس يبدعون فيما أمر الشرع التوقف عنده ويتوقفون عما أمر الشرع الإجتهاد فيه، ففشا الجمود وللانحطاط أرجاء العالم الإسلامي.

مقارنة
واضح إذن أن الواقع الذي جابهته العلمانية في أوربا هو نفس الواقع الذي جابهته الكثير من نصوص القرآن والسنة وتصرفات الخلفاء الراشدين واقع اتسم بادعاء العفة والقداسة عبر تقديس الراهب أو الإمام أو الولي القطب أو عبر تقديس الرأي ما دام صادرا عن مستند ديني قويا كان أو ضعيفا في دلالته، واقع اتسم كذلك ببناء هرمي ديني غير دنيوي من دون أي مستند من وحي أو تبليغ؛ فللكنيسة بناؤها الهرمي الذي يقوم على الأخت والأخ والراهب والباب والقديس... إلخ وللطريقة بناؤها القائم على المريد فالمقدم فالشيخ فالقطب فالغوث، ولم تشذ الشيعة  عن السنة فكان منها: شيخ الإسلام وحجة الإسلام وحجة الله، والإمام العصوم... إلخ... والبهائية لها بناؤها كذلك المكون من الباب وباب الباب وبهاء الله، والقدوس.... إلخ.([18])

إنه الانحراف نفسه وقع في أوربا فكانت عبودية الإنسان لرجال الدين ووقع في العالم الإسلامي فكانت عبوديته للأئمة والخلفاء وللأقطاب والأولياء، وهذا سر نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال:

"تركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"، والقرآن الكريم يوضح سنن من كان قبلنا فيخبر عنهم أنهم ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله﴾،([19]) ولذلك فمن دعائم توحيد الكلمة بين سائر أهل الكتاب:" اليهود والنصارى والمسلمون" ألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا اشهدوا بأن مسلمون﴾([20])

إن النتيجة واحدة بين هؤلاء وهؤلاء وهي السقوط في تأليه الإنسان بإضفاء القداسة على شخصه أو رأيه مع ما يستتبع ذلك من احتكار للحقيقة وتبرير للتسلط والظلم والمحج من كلام الله وتبرير للانحراف وسفك الدماء بالجهاد أو مواجهة الهرطقة والزندقة مما يحول الحياة الاجتماعية والسياسية إلى مرجل دائم الغليان بالصراعات الحادة التي لا تكاد تنتهي بعض فصولها إلا لكي تبدأ أخرى، ويحول الحياة الدينية والعلمية إلى طقوس ومراسيم فارغة وتلاوات وتراتيل غامضة تكرر وتعاد من دون النظر في محتواها ولا التفكير في توثيقها فتنضب ينابيع الإبداع وتتجمد العقول وتخمل الهمم.

ولقد رأينا في التاريخ الغربي أن العلمانية شكلت أداة إجرائية حاسمة لتصحيح الانحراف وأن لم تكن شاملة ولا كلية أما في التاريخ الإسلامي فكانت المعركة فيه سجالا، حينا ينتصر اتجاه العقل والعلم الدين وأحيانا ينهزم، وكان الانهزام بسبب غياب حل إجرائي يترجم الفلسفة الأصولية في التفرقة والتمييز إلى واقع عملي؛ فكان العمل الفكري والسياسي سواء داخل أو خارج السلطة يتحرك في غالب أمره خارج إطار هذا التمييز ونذرت-وأحيانا انعدمت- استدراكات تماثل أو تقارب استدراكات الخباب بن المنذر وأبي ياسر عمر ومالك.... ([21])

ولا يسعنا القول ونحن نصل إلى مواطن الاختلاف بين الفكرين الإسلامي والعلماني إلا أن نقرر أمرين اثنين نرى أنهما في غاية الأهمية:
لم يحمل دعاة العلمانية في العالم الإسلامي هم تبيئتها وإخضاعها لعقيدة الأمة ورغباتها ومتطلبات واقعها، ولهذا السبب أتت العلمانية محملة بملابسات وحيثيات واقع غير واقعها وبثنائيات غير تنائياتها، ثنائيات مبنية على التقابل والتنافر بين الدين والدنيا، والدين والعلم... إلخ، فصارت بذلك ملازمة للإختراق الثقافي والتقريب.

لم تخرج العلمانية عن سنة التطور، فأصابها ما يصيب جميع الأديان والفلسفات من ضروب الغلو والتطرف؛ وأصبح اللاديني يتخذها ذريعة لإقصاء الدين عن الدولة والمجتمع وأضحت بذلك نظرية نفي الدين مضارة للدين تتخذ لنفسها صبغة الإطلاقية والثبات، وبعبارة أخرى أصبحت "ثيوقراطية مضادة" لا تمثل رغبات عموم الناس بقدر ما تمثل أهواء ومعالج فئات ضيقة احتكرت الحديث عن الدين واعتبرت أهواءها في ذلك مطلقة لا تقبل المراجعة.

وليس من شك عندنا أن هذا الغلو لا يقتضي منا نفض أيدينا من الفكر العلماني بأجمعه إذ لو دعونا إلى ذلك لكانت دعوة الداعين إلى تجاوز الأديان مجتمعة -لأن الكثير من أفرادها مغالون متنطعون-  محقة وصادقة والأمر غير ذلك.

إذن فيجب أن تتفرع فئات من العلماء ورجال الفكر من كل الأديان والاتجاهات لتجديد تراث الإنسانية وتنقيته من شوائب الغلو التنطع وإدامة فاعليته من أجل خير الدين والدنيا.


[1] :أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام باب 15 ومسلم 2669 والترمذي 1180
[2] : أخرجه أبو داود في كتاب السنة باب شرح السنة رقم 4596 وابن ماجة في سننه في كتاب الفتن الباب السابع عشر رقم 3991
([3] )  قد تتعدد الآراء المستخلصة من النص، إلى حد التناقض أحيانا، من دون أن يكون أي منها مقدس أو مطلق، وإنما تنحصر القداسة في ذات النص وفي عبارته لا في الانطباعات التي تحصل حوله
([4] )  نجد في إنجيل متى منسوبا إلى قول عيسى " لا تظنوا أني جئت لأنسخ الشريعة أو أقوال الأنبياء، أنا جئت لا لأنسخها، بل لأكملها، أقول لكم الحق، ما دامت السماء في الأرض موجودة فلن يسقط من الشريعة حرف واحد ونقطة واحدة بل يتم كل شيء " إنجيل متى إصحاح 17-18
([5])  برهان غليون – نقد السياسة – الدولة والدين ص355
([6])  سورة النحل  الآية: 115-116
([7])  سورة آل عمران الاية63
([8])  رواه مالك وأحمد والشيخان عن أم سلمة
([9])  رواه أحمد وابن ماجة من حديث طلحة
([10])  أخرجه مسلم في كتاب الجهاد وأبو داود في كتاب الجهاد
([11])  أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام باب 15
([12])  انظر ص 115-116 الشيعة، المهدي، الدروز، د.عبد المنعم النمر وانظر ص 29 من كتاب المخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب
([13])  الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية، د.تقي الدين الهلالي ص 11-25
([14])  تفسير الصافي للفيض الكاشافي ج1 ص 37
([15])  محب الدين الخطيب ، الخطوط العريضة ص15
([16])  برهان غليون نقد السياسة ص 614-615
([17])  انظر نظرية الملخص ص 63/ عبد المنعم النمر
([18])  البهائية محيي الدين الخطيب 180
([19])  سورة التوبة الآية 31
([20])  سورة آل عمران الآية 63
([21])  الأول سأل  الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين أنزل الجند: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم فيه أو نتأخر؟ أم هو الرأي والمكيدة والحرب؟ والثاني أكد أن خليفة رسول الله وليس خليفة لله والثالث رفض أن يكتب الكاتب بين يديه (هذا ما أرى الله عمر)، والرابع رفض أن يفرض على الناس موطؤة.....

*الدكتور مخلص السبتي
أستاذ الفكر والحضارة
جامعة الحسن الثاني الدار البيضاء - المغرب

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟