أن تكون عالما في دولة الاستبداد...الكواكبي صورة معبرة عن علاقة المثقف بالطاغية ـ عبد القادر ملوك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

275926-e1347669495726من غرائب الصدف أو لنقل من غرائب صنائع ولاة الأمر المستبدين، أن يلقى المرء حتفه من الداء الذي حذر منه و ظل يدعو إلى استئصال شأفته، إنه داء متابعة الحكام المستبدين لرجالات العلم و مطاردتهم أينما حلوا و ارتحلوا،  لا لجرم ارتكبوه و استحقوا بموجبه العقاب، و لا لقول تلفظوا به و لم يلاق هوى لدى الحاكم، و لا لمكتوب دبجوه و حمل في ثناياه ما يدينهم و يزج بهم في مهاوي التهلكة، بل فقط لأنهم تجرؤوا على تنوير العوام و توضيح الخير لهم و فضح الشر. و هذا لعمري أشد إيلاما على المستبد و أكثر فتكا بسلطته من غيره، كيف لا و "أخوف ما يخافه المستبدون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة أو أن يعرفوا النفس و عزها، و الشرف و عظمته، و الحقوق و كيف تحفظ، و الظلم و كيف يرفع، و الإنسانية و ما هي وظائفها، و الرحمة و ما هي لذاتها". الكواكبي ألف كتابه العمدة "طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد" و هو يمني النفس أن يرفع عن العوام جهلهم الذي هو مكمن دائهم و ما يعيشونه من ذل و هوان، لأنهم إذا جهلوا خافوا و إذا خافوا استسلموا. و الاستسلام أكثر ما يرغب فيه حاكم مستبد يرفل في النعيم حين يرفلون في البؤس و يسعد حين يتعسون. لأنه يدرك أنه لا "استعباد و لا اعتساف إلا مادامت الرعية حمقاء تخبط في ضلامة جهل و تيه و عماء.

على هذا كان الاستعباد و العلم، يقول الكواكبي، يتجاذبان العوام دون هوادة، يسعى العلماء الذين ينبتون في الغالب في مضايق صخور الاستبداد جهدهم في تنوير العقول و يجتهد المستبد في إطفاء نورها  إدراكا منه أن خضوع العوام و خنوعهم إنما مرده إلى الخوف الناتج عن الجهل، فإذا ارتفع هذا الأخير "تنور العقل و زال الخوف و أصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، و عند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال."
و الحال أن ما انتهى إليه الكواكبي من تحليل يعكسه واقع حال بلداننا العربية، حتى و إن تعامل صاحب "الطبائع" مع هذه الظاهرة من موقف يكاد يكون محايدا و استنكف عن ذكر أسماء بعينها أو الإشارة إلى حاكم باسمه، يقول متخذا الحيطة و الحذر : " و أنا لا أقصد في مباحثي ظالما بعينه و لا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستعباد و ما يقضيه و يمضيه على ذويه..." قلت أن ما خلص إليه من تحليل نلفيه حاضرا داخل بلداننا العربية، إذ ظل العلماء و رجالات التنوير مطاردين منبوذين، لا يسمع لهم صوت إلا همسا و اختلاسا، و لا يخرج كتاب أو مقال بأقلامهم إلا و تتم مصادرته و يتم تشميع دار النشر المسؤولة. لهذا ظلوا في الغالب يرتحلون من مكان إلى مكان و يكتبون كتاباتهم غير ممهورة بأسمائهم، أو يلجؤون إلى استخدام أسماء مستعارة تموه عن هوياتهم الحقيقية فتبقيهم أحياء إلى حين، و هم مدركون أن مهمتهم تفوق مهمة الجنود في ساحات الوغى، فكلماتهم أقوى من طلقات الرصاص، إذا ما قدر لها أن تصل إلى العوام و تفعل فعلها فيهم صيَّرتهم قوة لا تصد و لا ترد لا يجد الحاكم معها سوى الفرار إن تأتى له ذلك أو الموت تحت الأقدام. و هذه النتائج هي التي تدفع المستبد إلى الخشية من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه، "لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم، و خوفهم ناشئ عن جهل، و خوفه عن عجز حقيقي فيه، و خوفهم عن وهم التخاذل فقط، و خوفه على فقد حياته و سلطانه و خوفهم على لقيمات من النبات و على وطن يألفون غيره في أيام، و خوفه على كل شيء تحت سماء ملكه، و خوفهم على حياة تعيسة فقط." و هذا الأمر لكي تدركه الرعية عليها أن تخرج من حالة الشعور بالنقص التي لازمتها بفعل التجهيل الطويل و من وضع الخصاء الفكري الذي جعلها تميل إلى العجز و الاستكانة و الاستسلام لواقع الحال. و لن يتم لها هذا الخروج إلا على يديها أولا بالإقبال على العلم و المداومة عليه، ثم على أيدي الفئات المثقفة المتنورة التي يلزمها إخراج الأفراد من حالة اليتم و القصور الذي تعيشه، لأنهم، كما يقول عنهم الراحل عابد الجابري "الذين يحملون آراء خاصة بهم حول الإنسان و المجتمع، و يقفون موقف الاحتجاج و التنديد إزاء ما يتعرض له الأفراد و الجماعات من ظلم و عسف من طرف السلطات، أيا كانت، سياسية أو دينية."
خلاصة القول في ما أراد الكواكبي قوله حول العلاقة بين الاستبداد و العلم، أنها أبدا لم تكن علاقة ود و تآخي اللهم إلا إذا كان المقصود بالعلماء فئة المتملقين و الطامعين في لقيمات من موائد المستبد، أما غيرهم من العلماء الراشدين و المرشدين فإنهم يظلون في شد و جذب مع الطغمة الحاكمة المستبدة، و السبب كما قلنا عاليه تباعد الأهداف و تناقضها، و هي أهداف في المجمل تتمحور حول الرعية، التي هي من جهة  قوة المستبد و سنده مادامت في حالة جهل يورثها الخوف المستديم الذي لا تقوى منه فكاكا بمفردها، و هي من جهة أخرى اليد التي تبطش بالمستبد و تسقطه من عليائه إذا استحكم منها علم العلماء و تخلصت من خوفها و كسرت قيودها.
ربما لا نحتاج إلى تأكيد انه ما من مجتمع تقدم و بلغ شأوا كبيرا في مختلف المجالات و تبوأ مكانة جليلة بين الدول إلا و كان للعلماء و رجالات الفكر فيه حظوة كبيرة و منزلة عظيمة بالنظر لجليل أعمالهم و دورهم الكبير في رفع ثوب الجهل و الغباوة عن الرعية و إلباسها ثوب العلم و تنوير عقولها، و بالمقابل ما من مجتمع أفلس أفراده و تقهقر وضعه و حلت به الفاقة و لبس ثوب الذل و الهوان بين الدول إلا و تجد أن الفئة المتنورة فيه قد لحقها العسف و شملها التضييق و طوردت في كل مكان حتى ينتهي بها الحال، في أحسن الأحوال، إلى بلدان أخرى تقدر قيمتها و تسعد بزادها. و الكواكبي مافتئ يذكِّر بهذا الجفاء في العلاقة بين العلماء و المستبد و الذي ينتهي بمطاردة العلماء و الفتك بهم، كما أسلفنا القول، مشددا على أن "السعيد منهم [ يقصد من فئة العلماء] من يتمكن من مهاجرة دياره" لأنه حين تضيق الأوطان بأصحابها لا يجد هؤلاء غير بلاد الغربة وطنا لهم يتنسمون داخله هواء الحرية من جديد و  يقون أنفسهم و أبدانهم من التهلكة. و رغم أن صاحب الطبائع قد تمكن من الظفر بالنعمة الأولى خارج وطنه الأصل، أقصد نعمة الحرية، حيث تمكن من تدبيج كتابه هذا الموغل في التحرش بالمستبد و الكشف عن عوراته، فإن النعمة الثانية، نعمة حفظ النفس من الموت الذي يتربص بكل من تجرأ و رفع عقيرته بكل ما يسيء للحاكم المستبد، لم يتأت له الظفر بها لوقت طويل، إذ رغم هجرته الوطن، سوريا، و الإقامة بمصر  التي لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني، طالته يد الاستبداد بعد أن دست له  سما في فنجان القهوة، ليفارق الحياة بعدها في عام 1902م، و يكون موته صورة معبرة عن علاقة الاستبداد بالعلم التي لا يشفع فيها للعالم ادعاء الحياد في معالجته للاستبداد ما دامت صفة العالم لوحدها تهمة عقابها الموت في قاموس الاستبداد.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟