السَعادين ـ قصة : عبد الفتاح المطلبي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

abstr-sinnnعيناهُ لا تنصاعان لإرادتهِ وكأنّ ما بينها وبينَ بائع الفاكهةِ والفاكهةِ وقفصِ السعادين الذي استقرّ مقابلَ الدكانِ على الرصيفِ خيوطاً لزجة ً ،تخيلها مصيدة ً لعنكبوتٍ أخفاهُ الوهمُ لكنهُ ظلّ متحفزاً لصيدِ ما استدرجَ من مخلوقاتٍ لمصيدتهِ ، عبثاً حاولَ أن يَحيدَ بنظرهِ عن التُفّاحِ وعن قفصِ السعادين ، فكرّ أنهُ لن يحظىَ كلّ يومٍ بفرصة ِمُراقبة ِسعادينَ عن كثبٍ، لكنهُ وهوَ يراقبُ السعادينَ شعرَ أنّ عينيّ صاحبِ الدكانِ تلتقطانهُ بخيوطِ نظراتهِا اللزجةِ كعنكبوتٍ أدمنَ مدّ تلكَ الخيوطِ في دروبِ الفرائسِ وهو يعرضُ المخلوقاتِ التي تشبهنا كثيراً على الرصيف، هي الخيوط ذاتها التي امتدت من المشهدِ و العنكبوت الخفي لازال يترصدُ ضحاياهُ ، حاولَ تخليصَ نظرهِ المشدود إلى ما يراه ولكن عبثا فكلما حاولَ تفاقمَ خيطُ العنكبوتِ الموهوم ملتفاً حول عينيهِ ليعجزهما عن الهروبِ إلى جهةٍ أخرى فيبدو للناظرِ رجلاً فضوليا يدفعُ بصرَهُ نحو المشهدِ بإلحاحٍ ، عينا صاحبِ الدكانِ تكفان عن متابعةِ سعادينهِ وتنشغلان بملاحقةِ الرجلِ الذي راحَ ينظرُ إليه ماسحاً بنظراتهِ أنواعَ التفاحِ الثلاثةِ ، الأخضرَ والأصفرَ والأحمرَ كابتاً في الوقت ذاته شهيته العارمة لالتهام بضعِ موزاتٍ ناضجاتٍ اصطفتْ واحدة فوق الأخرى بنسقٍ جميلٍ قد أجادتْ شجرةُ الموزِ صنعَه وكأنها تعمدتْ اصطيادَ شهيّتهِ الملتهبة جراء ميلٍ غريزي للموز وفيما هو يفكر كانت السعادين تتصرفُ على سجيتها في القفصِ الحديدي المتين، أنثى السعدان تتخذ مكاناً في أقصى القفص تمضغُ قشرة َموزٍ تاركة صغيريها يلهوان ويستعرضان قدرتهما على لفت انتباه المارة وهما يُكشران عن أنيابهما بابتسامةٍ عريضةٍ .


 أنثى السعدان منهمكةٌ  بأفكارها وهي تظنّ أن الوضعَ ليس عادلاً فبعدما كانت تسرح وتمرح في الغابة تأكل ماتشاء من موزها أصبحت حبيسة قفصٍ متين ترى الموز وتشمه ولا تحصل عليه وقد أحاطت بها غابةٌ من القضبان وبين الفينة ِوالأخرى تفتح فمها العريض وكأنها تصيح أي عذابٍ هذا الذي ألمّ بالسعادين ، تتلفت يمينا ويسارا وتصرُّ عينُها على أن ماتراه ليس أكثر من سعادين مثلها قد حالفها الحظ وارتدت ثياباً وتدبرت أمرها  فكانت خارج القفص وراحت تنظر إلى أشجار النبق على امتداد الرصيف المقابل و لا تتفهم أسباب امتناع ذوي الملابس مبتوري الذيول عن تسلق تلك الأشجار فتشعر بالدهشة ِ والخيبة منهم ، راقب الرجلُ أنثى السعدان بكل جوارحه وكأنه يحاورها بالنظرات والإشارات وحدّثَ نفسه قائلا: عجيبٌ شبه هذا الحيوان بنا ولو أكرمَهُ اللهُ بالقليلِ مما في رؤوسنا لكانتْ السعادين على الأرصفةِ تسيرُ وفي دوائر البلادِ وبرلمانها ولربما كنا نحن في الأقفاصِ ويحتمل أن تستطيع دمجنا بمجتمعها مجتثةً الأقفاص من جذورها انتصارا للحرية ، حريةَ الجميع ، سعادينَ وبشر ولكانت الأشجار تملأ الشوارع والساحات ولتبدل الهواء بآخر منعش لكثرة الأشجار وبينما كان الرجلُ قد ذهب مذهباً فلسفياً في مونولوجهِ المستمرّ  فكر صاحب الدكان أن هذا الذي ينظر إلى السعادين باهتمام بالغ ربما هو من المولعين بها وبلونها الأسمر المشوب ببياضٍ قليل وبعيونها السود الواسعةِ  ، ولربما يعد العدة لشرائها فإذا أراد  أن يشتري واحدا من الصغار سأقول له لابد من بيعها جميعا مع القفص إذ لا سعادين بلا أقفاص، كيفَ تكون السعادين بلا أقفاص؟، ألا ينطوي ذلك على مجازفة؟، هي عائلة، أمٌ وصغيراها ولا يرضيه أن يشتت عائلة جمعها قفص ثم إن الصغار بحاجة لأمهم ، وفي هذه الحال سيقتنع وسيشتريها بقفصها ومعها الكثير من الموز ، إذ أن رؤية السعدان في حديقة المنزل وهو يفوقنا بتقشيرِ الموزِ أمرٌ في غاية الروعة ذلك أننا مغرمون برؤية أي حيوان يتفوق علينا ببعض الأفعال! ونعدُّ ذلك شيئا استثنائياً! وتذكر كيف كان أطفال الحي يتجمهرون حول كلب ٍ من فصيل الإستطلاع الأمريكي تم تدريبه على كشف البارود وحين وصل صاحبُ الدكان لهذه النقطة من حديثهِ الطويلِ مع نفسهِ اقتطف موزتين وأعطى واحدة لأنثى السعدان وواحدة أخرى للسعدانين الصغيرين الذين راحا يتعاركان  من أجل الفوز بها لكنه لم يبخل بنظرات سريعة نحو الرجل الذي يراقب الفاكهة وقفص السعادين وقد بهرهُ بكرمه ولياقة سلوكه مع السعادين .  

  
أنهت أنثى السعدان التهام الموزة و ألقت بقشرها إلى صغيرها الذي لم يفز بالأخرى وراح الصغير يلحس ويقشط باطن القشر بأسنانه متلذذاً ثم رجعت إلى زاويتها وقد وضعت كفها ذات الشعر الكثيف على خدها وكأنها تفكر وعاد السعدانان الصغيران يلصقان وجهيهما بقضبان القفص وهما يبسمان للمارةِ ،بينما أمهما بدت مهمومة وكأنها أحست بأمرٍ جلل  .
أعدّ صاحبُ الدكان نفسَهُ لسيناريوهات عديده وفي اللحظة ذاتها راح الرجل يتنقل بنظره بين صاحب الدكان وسعادينه وربما ألقى نظرة خاطفة على الموز المنضد في عثوقه ولا زال راغبا بالتهام واحدةٍ ناضجةٍ مدركا في الوقت ذاته أنها رغبةُ السعادين أيضاً.


لم يكن الرجل الذي يراقب ولا صاحب الدكان معنيين بما تفكر به أنثى السعدان ولكن أغلب الظن أنها كانت تفكر بشيءٍ مهم في تلك اللحظة التي تراخت فيها الخيوط وهي تجمع الجميع تحت شبكتها ، لم يلاحظ أحدٌ من المارة ولا الرجل الذي يراقب ولا صاحب الدكان  وقوف سيارة التاكسي الصفراء بمحاذاة القفص الذي تحيز مكانه فوق الرصيف فهناك الكثير من السيارات الصفر تتوقف ثم تغادر دون أن يلفت ذلك انتباهاً بيدَ أن عائلة السعادين المحبوسة داخل القفص قد تنبهتْ لها و جُنّ جنونها وراحت تتصرف بغرابة وهي تزعق بأصوات عالية لم يألفها صاحبها من قبل وقد لفتت انتباه المارة الذين تجمهروا حول القفص لمشاهدة هستيريا السعادين المفاجئة مدفوعينَ بفضولٍ شديد، انبطحت السعادين فوق أرضية القفص واضعةً أكفـَها الكبيرة على رؤوسها وكأنها تحتمي من خطرٍ وشيكٍ جعل ذلك الناسَ جميعاً ينظرون إليها مستمتعين بحركاتها ، اهتزت خيوط الشبكة الوهمية التي تربط عيني الرجل بالمشهد وهو يراقب السعادين التي ضجّتْ بصراخها الهستيري ضاربةً قضبانَ القفص بشدة أرعبتهُ وفكر بالذي سيحصل لو أنها استطاعت تحطيم أقفاصها ؟ وسنحت له الفرصة أن يتخلص من تلك الشبكة بعدما حالت جمهرة المارة بينه وبين القفص مغيرا اتجاههُ إلى الشارع  الفرعي ، تاركا الجموع تتجمع حول القفص الذي لا زالت السعادين في داخله تتصرف بغرابة شديدة ،دلفَ الرجل إلى الشارعٍ الفرعي و في تلك اللحظة دوّى انفجار هائل، تسمر الرجل الذي ابتعد عن رصيف القفص بمكانه وحين زال ذهولُه رجع إلى مكانه الأول الذي كان يراقب فيه السعادين وصاحبها فوجدَ أن كلّ شيءٍ قد تغير بشدةٍ ، البشرُ لم يعد بشرا والسعادينُ لم تعد سعادينَ والتفاحُ لم يعد تفاحاً والموزُ لم يعد موزاً  والسياراتُ لم تعد سياراتٍ وحاول استعادة نفسه قبل تلك اللحظةِ فلم يفلح  ووجد أنه لم يعد كما كان قبل صوت الإنفجار وارتجّ المنظر في عينيه فكان هيكل السيارة المنفجرة أمامه كعنكبوت أسود تخرجُ من بين أرجله خيوطٌ من دُخان يكمن وسط هذه الفوضى منتظراً فرائسَ أخرى .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟