ذباب العقل الحافي ـ قصة : ياسين كمالي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse55555حين انتهى عبد القادر من التهام البيضة الرابعة شعر بالشك  ، لكنه اكتفى بغسل فمه و دعك أسنانه بالسواك ، ثم ارتدى فوقيته السوداء ، و لم ينس أن يتطيب بالمسك كعادته .  و قبل أن ينتعل الصندل ارتفع صوت فرقعة ممزوجة بأزيز طويل  ، فتملكه شك جارف ، لكن أنفه لم يفلح في رصد أية رائحة مريبة ، و تساءل إن كانت كل الفرقعات لها رائحة ، و حتى يغلق الباب على الشيطان قرر تجديد الوضوء.

    مضى إلى المسجد تحت شمس ظهيرة صيفية ،  و كان عقله محشوا بشكوك تقتحم النوافذ دون استئذان ،  أخذ يداعب لحيته الكثيفة ، و يفكر في هذه المشكلة التي ما فتئت تنغص عليه حياته منذ شهور . لام علماء الأمة  لأنهم لم يهتموا لأمرها بالشكل الذي يليق ، و إن كانوا قد بذلوا جهدا عظيما في تأليف موسوعات فقهية حول الغازات المعوية . خطرت له فكرة مفاجئة : « ماذا لو تم اختراع جهاز علمي للتحقق من صلاحية الوضوء ، و إذا تسرب شيء من الفجوة الخبيثة بدأ الجهاز في الاستغفار ».  راقته الفكرة لكنه أدرك سريعا سخافتها فارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء ، و لم يلحظ تلك النظرات الساخرة في عيون التلاميذ القادمين من الثانوية ، كانوا في مثل سنه تقريبا ، لكن لحيته الكثيفة جعلته يبدو أكبر منهم بأعوام .


    كانت أصوات الباعة تتعالى قبالة المسجد ، مختلطة بنهيق حمار يجر عربة للخضر. مشى عبد القادر وسط الزحام ، محاولا بكل حرص و حذر ألا يلامس أجساد النساء . انتبه من شروده عبر سؤال روتيني عن سعر البيض ، ثم أسرع الخطى دون انتظار الرد كأنه ندم على السؤال . و زاغ بصره لما رأى تلك المرأة الواقفة قبالة عربة الخيار ، و انزلقت نظراته تلقائيا عبر جلبابها الصيفي إلى فتحة الصدر ، فأبعد وجهه في اتجاه آخر لاعنا أم إبليس ، لكن خياله المنفلت ظل متشبثا بالصورة لبعض الوقت ، فانتفخ شيء ما و نبض .

    وقف مترددا عاجزا عن اجتياز العتبة ، ظنونه المتلاطمة جعلته يتصلب في مكانه كنخلة حجازية هرمة ، فربما وقع تسرب و لم ينتبه إليه ، ظل يحملق في الفراغ تائها بين احتمالات شتى ، و بدلا من الدخول قرر أن يجدد الوضوء و يصبر على الابتلاء كما ينبغي لرجل مؤمن ..

     بدا له المرحاض محشوا بضجيج يتصدع له الرأس، أما الرائحة العفنة فجعلته يشعر بالغثيان .  سلم على إخوانه في الجماعة و استعار من أحدهم قطعة مسك ، و قبل أن يلصقها على أنفه أخذ يصرخ بقرف :
-     « افتحوا النوافذ ..صبوا الماء يا عباد الله » .
    فقام له رجل عجوز و رد باستنكار:
-    « عيبنا واحد يا بولحية .. أم أنك لا تأكل النعمة  و لا يخرج من تحتك شيء !؟ » .
    توترت الأعصاب و مد العجوز قبضته ، فصاح الإخوان محذرين ، عندئذ تدخل الناس لمنع اندلاع الغزوة و عاتبوا عبد القادر على نحو ودي ،  و طالبوه بتقبيل رأس العجوز  ، فأوشك أن يستجيب ، لكنه تراجع حين رأى عبوسا على وجوه الإخوان .

    لم يكن في وسعه أن يتحمل الحرارة و لا الذباب الذي بدا معربدا في المكان ، راحت تظهر عليه أمارات الانزعاج من الازدحام و الصراع على الدور ، و من لزوجة المخاط على الأرضية المبللة . أدرك أن معدته سوف تصرخ كالبالوعة إذا لم يخرج إلى الهواء ، و لم يجد حلا سوى الرجوع إلى البيت و هو لا يكف عن البصق ... سوف يتوضأ بعد الاستنجاء مرتلا سورة الناس كعادته ، ثم يتطيب بالمسك محاولا دون جدوى أن يفر من هواجسه المتناسلة  .

    كان ينظر إلى الصف بعين ساخطة ، و بدا كأن شيئا ما غير مضبوط ، و قبل أن يستدير الإمام أخذ عبد القادر ينهر الذي عن يمينه  و يطالبه بتسوية قدميه على نحو أكثر دقة ، ثم لاحظ أن في الصف الأمامي فجوة تكفي لعبور فأر  كامل ، و بدافع من حرصه على تطبيق السنة ، تجشأ  و أرغم الرجلين على الالتصاق منعا لمرور الشيطان ، لكن أحدهما اعترض بشدة وبدا كأنه يريد العراك ، فلم يجد عبد القادر بدا من الانحشار بينهما عنوة ، و لم يكترث لتلك التكشيرة الساخطة في وجه الرجل الذي انسحب مغمغما إلى الصف الخلفي .

    رغم الصمت المطبق لم يستطع أن يخشع في قراءة الفاتحة ، أرهقته هواجسه الذبابية ، و راحت تتقافز في ذهنه على نحو اجتراري فأوشك أن يدنو من إفلات اللجام ، و هكذا ظل يتجشأ مرارا و يتساءل إن كان قد فعلها في الطريق إلى المسجد دون أن يشعر ، و بحركة متكررة كان يقبض عضلات الحوض على سبيل الاحتياط .      لما وضع جبهته على الأرض داهمته رائحة جوارب عفنة ، و تطفلت على مخيلته صورة المرأة ، فاستعاذ بالله من الشيطان ثم استغفر ، وكاد أن يبكي لكنه تماسك ، و حتى يفر من الذباب المتسكع في ذهنه ، أخرج منديلا ورقيا و نشف العرق ...

      سرعان ما أحس بشيء يزحف عبر أمعائه ببطء ، ليصل أخيرا إلى حافة المنفذ و يشرع في الطرق بإلحاح شديد ، شعر به على وشك الانفلات ، فأطبق عضلات الحوض بقوة ، و قال لنفسه مشجعا : « لابد من الصمود » ، لكن الحظ عاكسه حين هم بالركوع ، و استطاع أن يسمع الفرقعة و يشم الرائحة عن يقين ، وهذا الأمر جعله يشعر بالندم على التهام تلك الكمية من البيض المسلوق ، و بعد أن أطلق زفرة بركانية عميقة استدار فجأة و أخذ يشق الصفوف.

    على الجدار الخارجي أسند ظهره و تهاوى ببطء ، اعتراه إحساس بالإنهاك وقلة الحيلة ، و تأكد له بالجزم أن الشيطان يحاول فتنته في دينه. ما لبث أن استيقظ شيء ما في أعماقه ، و في نظراته الزائغة أوشكت أن تهب العاصفة. استفزته النساء بثيابهن الملتصقة على أجسادهن الدسمة و هن واقفات قبالة عربات الخضر ، واحدة تمسك بجزرة و أخرى بخيارة ،  و بلغ غيظه نقطة الانفجار حين وقعت عيناه على  بائع البيض ، فانتفض قائما بشكل مباغت و هجم على العربة مثلما يفعل ثور الكوريدا ، هرول البائع مذعورا وتركه يلقي بالبيض على الفراغ صوب كائن خفي لا يراه سواه  ، و دون أن يدري  أخذت تفلت من لسانه شتائم فظة فتضاعفت عصبيته ، و أيقن أنه صار دمية بلاستكية تحركها خيوط خفية . في تلك اللحظة كان بإمكانه أن يرى إخوانه يخرجون من المسجد مهرولين.

    بدوا غاضبين جدا ، تسلحوا بالعصي و الحجارة ثم تحلقوا حوله وأعينهم تفتش في كل الاتجاهات عن شيء مجهول ،   سأله كبيرهم : « أين العدو ؟ » ، عندئذ أحس عبد القادر بالقهر و برغبة في البكاء ، فأشار بسبابته إلى صدره و قال بصوت مرتجف : « إنه هنا يا إخواني .. » ، تبادلوا نظرات خالية من الدهشة  قبل أن يأخذوه إلى الداخل ،  بدا شارد الذهن حين مددوه على الأرض ،  و داهمته حالة تشبه النعاس ، عيناه تائهتان في زمكان آخر ، كأنه يرى ما لا يراه إلا كائن ناهق . شرع كبيرهم في تلاوة سورة الجن بصوت حشاش سابق ، بينما كان أحدهم يحاول إخراج العدو بعصا غليظة ، و راح العالم يتلاشى شيئا فشيئا.

    غدت الرؤية ضبابية و تحولت الصورة إلى شظايا متراقصة ، و بعد هنيهة  ، كانت الراية السوداء مستلمة لمغازلة ريح وحشية ، سيوف تداعب الرقاب ، و دماء تسيل على الرمال ،  تعالت الصيحات بالتكبير ، ثم تبدل المشهد في ومضة خاطفة كأن الزمن لم يكن إلا كذبة دنيوية . من بين الأشجار أطلت صبية لم تر الدنيا مثيلا لجسدها البض ، و من فوق الأغصان تدلت رمانتان شهيتان أسالتا اللعاب في جوف الفم الظمآن . ارتمت الصبية في نهر خمري فارتمى خلفها كذئب صائم ، عندئذ فرت الدماء من كل تضاريس الجسد لتحط رحالها في ذروة الجبل الشاهق .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟