إشكالية المنهج في اللسانيات الحديثة - العربي اسليماني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا
أنفاس مـقـدمـة : تميزت الفترة  الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر وما بعد الحرب العالمية الثانية بتراكم كبير في مجال الدراسات اللغوية، واذا كان من الصعب تصنيف هذه الدراسات في خانات معينة ، انطلاقا من معايير محددة ، فانه يمكن أن نميز ، على الأقل ، بين مدرستين فيما يخص المناهج المعتمدة في دراسة وتحليل المواد اللغوية وما يرتبط بها من صيرورات ذهنية وعوامل فيزيولوجية ومؤثرات خارجية.
  في هذا الإطار تندرج محاولة عقد مقارنة بين اتجاهين يعتبران من اكبر الاتجاهات اللسانية الحديثة انتاجا واستهلاكا. ويتعلق الأمر بالمدرستين : البنيوية والتوليدية .
ما هي  اذن الأسس المعرفية والفلسفية لكل منهما ؟ ما هي منطلقاتهما المنهجية ؟ ما هي أساليب تحليلهما للظاهرة اللغوية ؟ وما هي أوجه التشابه والاختلاف بينهما ؟ هذه مجرد أسئلة نحاول الإجابة عنها ونحن نستهدف بالدرجة الأولى المتلقي العادي ،غير المتخصص ، الذي نعتبره في حاجة الى المعرفة اللسانية التمهيدية بطريقة بيداغوجية مبسطة.
1 – تحديدات أولية مفاهيمية
1 -1 : مفهوم المنهج : ان كلمة منهج مستمدة من الكلمة اليونانية (Meta-hodos) ؛ ومعناها الطريق أو النهج الذي يؤدي الى هدف ما. وفي اللغة العربية ،المنهج هو الطريق الواضح. ويبدو أن آرسطو هو أول من استعمل كلمة " منهج "، وأسسه على دعامتين : الأولى منطقية تبدأ بالمسلمات ثم تنتقل الى طبقات الاستنتاج المنطقى الصارم لتنتهي بالنتائج ؛ والثانية دعامة اجرائية تبدأ بالمشاهدة الدقيقة ، ثم تنتقل الى استنباط التعميمات في سلم تتصاعد درجاته حتى تصل الى المبادئ الأولية1 . ويعني هذا التصور الآرسطي أن الباحث يكتشف بالاستقراء ثم يؤسس معرفته في شكل استنتاج. وفي بداية العصر الحديث ظهرت نظريات متعددة في المنهج على يد كل من فرنسيس بيكون وروني ديكارت وبرتراند راسل وميل ستيوارت. يركز بيكون في مؤلفه ( الأورغانون الجديد ) على الاستقراء التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والمشاهدة ثم القيام بمختلف انواع التجارب ، خلافا لصاحب الاورعانون (ارسطو ) ، الذي ينطلق من معطيات نظرية. أما ديكارت فانه يركز على التحليل والتركيب. وحتى لا نغوض في اشكالية التعريف ونتطرق لإشكالية التطبيق في حقل الدراسة اللسانية، نقترح التعريف التالي للمنهج :
" المنهج هو مجموع العمليات العقلية والخطوات العملية التي يقوم بها الباحث يهدف الكشف عن الحقيقة او البرهنة عليها بطريقة واضحة وبديهية تجعل المتلقي يستوعب الخطاب دون أن يضطر الى تبنيه2 ". ويتضمن هذا التعريف الذي نقترحه الجانب العقلي والجانب العملي في الممارسة. وهذه الازدواجية تقودنا الى طرح الحديث عن منهجين هما :
1-2 : المنهج الاستقرائي : الاستقراء هو كل استدلال ينتقل فيه الباحث من الخاص الى العام، أو من الجزء الى الكل، أو من المحسوس الى المجرد 3.  ويعتمد الاستقراء على الوصف الذي يعني عند اللسانيين البنيويين " رصد ما نلاحظه من الأشياء، والوقائع والظواهر ، وما ندركه بينها من علاقات متبادلة، وتصنيفها وتصنيف خصائصها، وترتيبها واكتشاف الارتباط بينها، إنه كشف دلالات المعطيات الحسية بالاعتماد على الملاحظة والتجربة، ودراسة ما بينها من علاقات متبادلة.4
  ويتضمن الدليل الاستقرائي استنتاجا علميا يقوم على اساس الملاحظة والتجربة، فالملاحظة تقتضي في المنهج الاستقرائي أن يبقى الباحث أو الذات العارفة خارج الظاهرة اللغوية التي يدرسها ويكتفي بمشاهدتها كما تقع في الطبيعة أو كما هي واقعة طبيعية. وهكذا فإن الباحث الذي يطبق المنهج الاستقرائي ينطلق من الواقع ليصل الى النظرية.
1-3: المنهج الاستنباطي : الاستنباط عملية استدلالية تنتقل من العام الى الخاص، أو من الكل الى الجزء. والمنهج الاستنباطي منهج يقوم على التأمل والاستنتاج انطلاقا من أفكار وتصورات قبلية، ويختلف المنهج الاستنباطي عن المنهج الاستقرائي في كونه لا ينطلق مباشرة من ملاحظة المواد اللغوية ووصفها وصفا محايدا، ولكنه يسعى الى بناء نظريات يرى انها قادرة على تفسير العالم الواقعي، أي جميع لغات العالم.
1-4 :الأسس الفلسفية والمعرفية للمناهج المعتمدة : في العصر القديم ، تساءل الفلاسفة عن طبيعة ومصادر المعرفة البشرية. ومن هؤلاء الفلاسفة نذكر ارسطو وسقراط وأفلاطون وبعض الرواقيين.فافلاطون مثلا كتب عن سقراط وهو يحاور مينون العبد وبرهن على أن هذا المملوك الشاب يعرف مبادئ الحساب دون سابق تدريب ولا تجربة .فالمعرفة موجودة في ذهنه قبليا ، وما فعل سقراط هو مجرد ايقاظها من كمونها 5.
  وخلال عصر النهضة الاوربية، وابتداء من القرن 16، أفرزت اشكالية الثقافة البورجوازية فلسفة وتيارات فكرية ، استمرت من عصر الأنوار الى يومنا هذا ؛ وساهمت الى حد كبير في تأطير المناهج المطبقة في العلوم الاجتماعية واللسانية.
 وعموما يمكن أن نميز بين ثلاثة اتجاهات أساسية ترتبط باشكالية المنهج في اللسانيات الحديثة.
1-4-1 : الاتجاه العقلاني : ويمثله كل من ديكارت وليبنز وميشال بريال. وفي مجال اللسانيات يعد شوسكي وفودرو  و كاتز و الفاسي الفهري من أكبر المدافعين عن هذا الاتجاه.ويرى التيار العقلاني أن العقل البشري (la raison humaine) هو عقل فطري وقبلي (aprioriste)، أي انه يمتلك بالفطرة أفكارا ومعارف سابقة عن الاحساس والتجربة.وفي حقل الدراسات اللغوية يرى شومسكي ان اللغة تشكل جزءا لا يتجزأ من هذه المعارف الفطرية التي لا مجال لغض الطرف عنها أثناء الدراسة والتحليل اللغويين. وسنرى كيف وظفت اللسانيات التوليدية، ممثلة باحد روادها نعام تشومسكي، هذه الفلسفة في فهم وتفسير الظواهر اللغوية. ان المدرسة التوليدية تستعمل المنهج الاستنباطي في التحليل اللساني فتحلل اللغة عن طريق صياغة الفرضيات التي تفسر بها القضايا الممكن ملاحظتها وتدرس العلاقات القائمة بينها6.
1-4-2 : الاتجاه المادي : يمثله ولف ودافيد هيوم وجون لوك. يرى هذا الاتجاه أن المعرفة تصدر عن التجربة والملاحظة. كما أنها تنبثق من مسلمة العقل البعدي (postérioriste) التي تقول ان العقل البشري عبارة عن صفحة بيضاء تنطبع بآثار الاحساس والتجربة وسنوضح كيف وظفت اللسانيات البنيوية الفلسفة التجريبية والوضعية المنطقية لرودولف كارناب، ولماذا تنطلق من الواقع اللغوي الى النظرية اللسانية.( لقد اعتبرت الوضعية المنطقية السيميوطيقا فلسفة عامة للغة وقسمها كارناب الى التركيب syntaxe الذي يدرس بناء الجمل وتنظيم الكلمات ؛السيمانتيك  sémantique او الدلالة التي تدرس معاني الكلمات ثم البراغماتيك pragmatique الذي يدرس البناء والمعاني والاشخاص الذين يتحدثون هذه الكلمات 7.
1-4-3 الاتجاه التوفيقي : يمثله كانط (1724-1801) و كثيرون . فكانط هو أحد فلاسفة الأنوار العقلانيين، ما يتميز به هو الثورة التي أحدثها في المعرفة الانسانية حيث تجاوز الثنائية الديكارتية وعمل من أجل المصالحة (Transaction) بين الفطرية والامبريقية. إن المعرفة عند كانط تأتي من خلال عنصرين رئيسين هما الحساسية (La sensibilité) والفهم (L'entendement).  فقد بين أن  " العلوم الاجتماعية التي تعد واحدا منها لا تصل الى معرفة الاشياء والمواضيع التي تبغي دراستها وانما تصل فقط الى تمثلات حول هذه الاشياء"8 .
2- اللسانيات البنيوية والمنهج المادي
2-1 نشأة اللسانيات البنيوية :  قبل فرديناند دي سوسور (1857-1913) كانت دراسة اللغة تتم حسب مقاربات متعددة : فيلولوجية،وجمالية وتاريخية واجتماعية . الا ان نشر كتابه" دروس في اللسانيات العامة "سنة 1916 ، أحدث ثورة منهجية في علم اللسان .
  لقد تأثر سوسور بعدة مفكرين وباحثين في علم اللسان امثال دفيد ويتناي (1894- 1927 D, Whitner) ، ويودوان دي كورتناي (1929- 1845 Boudouin de courtenay)،وشارل سوندرز بيرس 1914-1839, ch s. Pierce.
   فقد أخذ منهم معارف كثيرة في علم وظائف الاصوات (phonologie) والنظام اللغوي والقانون اللغوي . ورغم أن الدراسات الصوتية والمنطقية الشكلية أعطت البحوث والاستقصاء في اللغة قيمة اضافية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فان سوسور يعد، بدون منازع، الأب الروحي للسانيات الحديثة والمعاصرة.
  لقد استعمل سوسور كلمة نسق ولم يستعمل كلمة بنية ، كما انه اهتم باللسانيات الداخلية( linguistiques internes. ) التي تدرس نسق اللغة وقواعدها الباطنية ، تاركا اللسانيات الخارجية   ،التي تدرس تطورlinguistiques externes) ) اللغات واللهجات و توزيعها الجغرافي وعلاقتها بالسياسة والمجتمع والثقافة ،للباحثين الذين يهتمون بذلك. وهكذا فان سوسور يعد أول من وضع اللبنة الأولى لظهور المنهج البنيوي، ذلك المنهج الذي ستتحدد معالمه الواضحة ومنطلقاته المعرفية في مؤتمر يراغ عام 1929 بمبادرة من رومان ياكويسون وكارشفسكي  Kascevsky وتروبتسكوي Troubetzkoy  وقد اعتبروه " منهجا علميا صالحا لاكتشاف قوانين " بنية النظم اللغوية وتطورها ".9
2-2  المنهج البنيوي والسلوكية أية علاقة ؟ تمثل السلوكية اتجاها جديدا في علم النفس المعاصر. فقد رأى السلوكيون أن تخلف علم النفس التقليدي يكمن في عدم قدرته على الوصول الى نتائج مهمة. كما أن ادواته المنهجية غير اجرائية اذا أردنا أن نصل الى الحقيقة. لقد تأثرت السلوكية بانجازات العلوم الرياضية والطبيعية والفيزيائية والكيميائية التي استطاعت أن تحقق، خلال القرن 19 القطيعة الابستمولوجية مع أمها الفلسفة، وتصبح كيانات مستقلة لها ابستمولوجيتها وديداكتيكها الخاصان بها.
  لقد تأسست المدرسة السلوكية على يد وطسون watson  الأمريكي في بداية القرن 20، ومن مبادئها :
* اعتبار الانسان شبيها بالآلة المعقدة.
* الاقتصار على دراسة السلوك الخارجي لأن الانسان علبة سوداء (Boite noire) لا نستطيع دراسة سلوكه الداخلي.
* رفض منهج التأمل الباطني Introspection الذي تزعمه كل من هيلموتز (Helmholtz) وفندت (wundt)وجمس (James) والذي يعني ملاحظة ما يجري في الشعور من خيرات حسية او عقلية او انفعالية وبالتالي العمل على وصفها وتحليلها وتأويلها10.
* انكار وجود قدرات و استعدادات فطرية اذ لا تعترف السلوكية بذكاء موروث ومعارف قبلية.
    -  و تعارض الدراسات السلوكية الدراسات العصبية والمعرفية التي كشفت عن وجود ما يسمى بالفينوتيب (phénotype)،11 التي تؤكد فطرية المعرفة و وجود بنيات ذهنية سابقة، ودور التجربة انما هو مجرد القدح أي استثارة هذه المعارف الفطرية التي تبدأ في التمظهر والتجلي وفق نظامها الخاص بها. يعني أن هناك عمليات غير فيزيائية ملموسة في سلوك الانسان بم فيها احاسيسه، وشعوره، ورغبته.
في هذا الاطار برز، الى جانب وطسون وسابير وسوسور، الأمريكي ليونارد بلومفيلد( Leonard , Boomfield 1887-1949)  الذي كان له قصب السبق في وضع الحجر الأساس في بناء النظرية البنيوية في علم اللسان البشري. واذا كان الحناش قد تحدث بدءا عن ثغرات كتابه  اللغة (langage) ، فان زكريا ركز على ايجابياته،وخصوصا ما يتعلق منها بالمبادئ المنهجية ( المبتدلوجية) التي اقترح ( بلومفيلد) تطبيقها في دراسة الظواهر اللغوية، حيث يطرح المنهج المادي بديلا للمناهج السابقة والمعاصرة.
2-3  التحليل اللساني حسب المنهج البنيوي :يذهب كل من جان بياجيه وليفي ستراوس وفرانسوا شاتلييه وكمال ابو ديب الى ان البنيوية منهج للبحث العلمي وليست مذهبا وان ما يميزها هو التزامها بمبادئ الدراسة العلمية. اما جورج كانغيلم فيشك في امكانية تاسيس منهج بنيوي12 . و تنطلق اللسانيات البنيوية من عدة مسلمات منهجية نلخصها فيما يلي :
* عدم الاهتمام بالمظاهر الواعية للغة ودراستها في آنيتها وتزامنها دراسة سانكرونية. لقد رأى سوسور أن اللغة شكل(forme) وليست جوهرا (substance) ،وأنها تشكل نظاما مغلقا قائم الذات، له قواعده الخاصة وروابطه الذاتية الداخلية.انها مجموعة من العناوين لاشياء موجودة في الخارج و/او الواقع . وهذا الواقع ليس منظما  ، فاللغة هي التي تنظمه 13. ان الشكل اللغوي هو سلسلة الاصوات و التموجات الصوتية بينما الجوهر فهو المعنى .انه داخلي وقيمة نفسية تتغير بتغير الاشخاص والمواقف .وبالتالي فهي غير قابلة للملاحظة والقياس  ولا لصرامة الدراسة العلمية14
 لقد انطلق  سوسور من  اعتباطية ( الدال والمدلول) ليصل إلى  ( أن اللغة شكل وليست جوهرا) ، إذ تكنسي كل كلمة دلاتها بحسب وضعها وتفاعلها مع الكلمات الأخرى ؛ فاللغة ليست جوهرا ، أي كلمات مستقلة بعضها عن البعض،  فكل وحدة لغوية - صوتية كانت أو معنوية- إلا وتتحدد قيمتها بالمحل الذي تحتله في النظام اللغوي.
* اخضاع المادة اللغوية لصرامة الدراسة العلمية من خلال ازاحة حقيقتها المعطاة في التجربة التاريخية او المجتمعية او التطورية،.
*  رفض التعامل مع الوقائع اللغوية كما لو أنها كيانات مستقلة. ان المواد والكائنات اللغوية ليس لها استقلال مادي، ولكنها في حاجة الى المفهمة عن طريق تمثل اللغة نسقا مبنيا على أساس قيم خلافية وعلاقات تضاد محايثة لها.
* اعتبار اللغة نسقا او نظاما مبنيا على أساس علاقات لغوية مباطنة.15
* اكتشاف قوانين علمية معطاة على صعيد الوصف والتجربة.
2-3-1 : خطوات المنهج البنيوي : قلنا بأن المنهج البنيوي منهج مادي يهتم بدراسة اللغة وقواعدها الداخلية ونظامها البنيوي. ويتضمن هذا المنهج الخطوات التالية :
2-3-1-1، ملاحظة المادة اللغوية : ان النظرية البنيوية نظرية استقرائية تجريبية تنطلق من الواقع اللغوي وتبدأ بملاحظته ملاحظة علمية موضوعية16. تتوخى الضبط والتحليل، ان اللسانيات البنيوية لسانيات وصفية يبدأ الباحث فيها بجمع المادة اللغوية ثم يصفها وصفا خارجيا، يقول بلومفيلد : " لكي يكون التحليل اللغوي تحليلا علميا ينبغي أن يكون قائما على الوصف " بعيدا عن التصور التجريدي والعمل الذهني والفكري17 .
2-3-1-2 : حدس المادة اللغوية : ان النظام اللغوي ثابت في كل اللغات. ولا تختلف المدارس اللسانية في هذه المقاربة النسقية تقريبا، ولكن الاختلاف يكمن في الطريقة التي يعالج بها كل اتجاه النسق اللغوي. فالمنهج البنيوي يركز أساسا على الجانب المادي والكلية والتفاعل والمدخلات والعمليات والمخرجات. ان هذا المنهج يبحث العلاقات التفاعلية بين عناصر النسق ثم يجزئها ثم يحلل ثم يركب، ويفعل هذا دون أن يفكر في ربط النص او الخطاب اللغوي بصاحبه او اطاره الزمكاني او الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي انتجته. فقراءة النصوص اذن قراءة مثولية محايثة (immanente ) وليست تأويلية18. ذلك ما نجده عند جاك لاكان (J. Lacan) خلافا لتلميذيه فليكس غواتاري (F. Guatary) وجيل دلوز (G. Deleuz) اللذين يتبنيان القراءة التاويلية (Herméneutique) وهي قراءة ترتد الى الفلسفة العقلانية و المنهج النوليدي .
2-3-1-3  صياغة الفرضيات : بعد ملاحظة الظاهرة اللغوية وحدسها يقوم الباحث اللساني بصياغة فرضية معينة انطلاقا من نظرية.
تمحيص الفرضيات اللغوية : بعد صياغة الفرضيات يقوم الباحث بفحصها للتأكد من صدقها أو عدم صدقها. فإذا تأكد من صحتها فإنه يستطيع أن يبني نظرية. وتكون هذه النظرية قد انبثقت من الجزء والخاص، أي من تطبيقها على الكل والعام أي جميع اللغات. أما إذا تأكد عدم صحتها فانه لا بد من التخلي عنها.
slimani1.jpg
خطاطة  رقم 1  توضح خطوات المنهج الاستقرائي في التحليل اللساني.

   وهكذا نلاحظ ان المنهج البنيوي منهج استقرائي ينطلق من مسلمة مفادها أن الكفاية اللغوية Compétence linguistique  تصدر في رأي البنيويين، عن عوامل غير فيزيولوجية، وبالتالي فان المعرفة اللغوية الاعتباطية الاتفاقية بين الأطراف الموجودة في وضعية تواصلية هي التي تحدد هذه الكفاية، وكما ان هذه الكفاية اللغوية باطنية غير قابلة للقياس والملاحظة العلمية فيجب أن نلتجئ الى الاداء اللغوي الذي يرتبط بالاستعمال الحقيقي والفعلي للغة. وهذا الأداء هو نطق صوتي لمواد لغوية مختلفة.
2-3- 2 مفهوم اللغة عند سوسور : يتحدث البنيويون بطبيعة الحال ، عن اللغة واللسان والكلام  والنحو والصرف والتركيب والتواصل . وسنحاول عرض بعض التعريفات التي نعدها ضر

* اللغة langue la :  يميز سوسور بين اللغة واللسان والكلام. " إن اللغة هي مجموعة من الاتفاقات الضرورية التي وضعها الهيكل الاجتماعي ليسمح باختيار او استخدام ملكة الكلام لدى الأفراد "19 . فهي إذن مجموعة من العلامات والرموز والقواعد المستعملة من طرف عشيرة ما بهدف التواصل( العربية،الفرنسية، الانجليزية ، الصينية ...). إنها الجزء الاجتماعي من اللسان langage ، إنها الجزء الخارج عن الفرد ، حيث لا يستطيع وحده خلقه أو تغييره. فاللغة توجد كاتفاق بين جميع أفراد المجتمع لدرجة أن ويتناي Whitney اعتبرها مؤسسة اجتماعية تشبه باقي المؤسسات. وتقع اللغة في نقطة التماس بين الصورة السمعية والمفهوم .
 ويعتبر البنيويون اللغة نظاما أو نسقا système يتكون من عناصر فاعلة ومتفاعلة في اطار كلية يحدد فيها كل عنصر بحسب علاقته الخلافية مع العناصر الاخرى حتى اذا طرأ تغيير على احد العناصر تغير النظام كله وربما تعطل .مثال :أ) ينجز الباحث دراسة ميدانية في موضوع البطالة .ب) الباحث دراسة في موضوع البطالة ينجز . اذن نلاحظ ان الجملة الاولى سليمة بينما الجملة  الثانية فهي غير سليمة رغم ان عناصر النظام هي نفسها ؛ فالذي تغير هو العلاقة مع النسق ،أي المحور الجدولي ) l’axe paradigmatique)
* اللسان langage le : هو ملكة أو قدرة عامة ( faculté générale )على التعبير بواسطة العلامات ؛ وهو ليس حصرا على اللغات الطبيعية ولكنه يطبع كل شكل من أشكال التواصل البشري. إن وظيفة اللسان ليست طبيعية فقط لأن جهازنا الصوتي ليس موضوعا لأداء وظيفة واحدة هي الكلام كما هو الشان بالنسبة إلى الرجلين مثلا. وخلافا للغة التي هي ذات طبيعة متجانسة، فإن اللسان ذو طبيعة غير متجانسة.
* الكلام  la parole : هو الانجاز أو الاستعمال الفردي للغة.
ايضا ،يميز علماء اللغة العرب بين اللغة والكلام ويقول احدهم بان " الكلام عمل واللغة حدود هذا العمل.والكلام سلوك واللغة معايير هذا السلوك ...الكلام نشاط واللغة قواعد هذا النشاط ...الكلام حركة واللغة نظام ...20  
وتتضمن دراسة اللسان جزأين هما 1) شق ضروري موضوعه هو اللغة التي هي اجتماعية ومستقلة عن الفرد 2) شق ثانوي: موضوعه هو الجزء الفردي للغة ، أي الكلام بما فيه التنغيم والتصويت. فهو إذن جزء سيكوفيزيولوجي.
العلامة أو الرمز المتباطي من ناحيتين:

* الدال والمدلول : بدون خوض في التفاصيل، نقول ، على حد تعبير دي سوسور، بأن لكل علامة (sème)    وجهين : الدال (Signifiant)  والمدلول (Signifié).، والعلاقة بينهما علاقة اعتباطية اتفاقية وليست طبيعية مادية. إن الدال عند دي سوسور هو الصورة السمعية التي تكونها الأصوات ، الملتقطة بواسطة الأذنين ، في دماغ المستمع خلال دورة الكلام ، إنها حقيقة نفسية و مادية  . أما المدلول ، فهو تلك الصورة الذهنية التي تشكلها نفس الأصوات في ذهن المستمع. الشيء الذي يجعل المفهوم يدل على مجموع الصفات المشتركة بين أفراد الجنس الواحد فيما يدل الما صدق على جميع أفراد الجنس الواحد مثال : الكائن مفهوم يدل على شمول المعنى المجرد وعلى الصفات المشتركة التي هي الكينونة . ما صدق هذا المفهوم هو الانسان والحيوان والجماد . وكلما اضفنا صفة للمفهوم حذفنا فردا من الماصدق مثال الكائن الحي = الانسان والنبات . وقد عبر المنظق الارسطي القديم عن هذه العلاقة الطردية هكذا : ضيق المفهوم يلزم عنه اتساع الماصدق .
* الدلالة : الدلالة عند دي سوسور مجرد " علامة " تتحقق من تآلف الدال والمدلول.وقد ميزت مدرسة النقد الجديد بين المعنىsens الذي هو من وضع صاحب النص والدلالة signification التي هي من وضع القارئ والمتلقي.
* المورفو تركيب : ( morphosyntaxe)  " ميزت الدراسات القديمة بين الصرف والتركيب على أساس ان الصرف يعطي الشكل،و يهتم بدراسة الزوائد واللواحق والصيغ والأوزان بينما يعطي التركيب الوظيفة، أي أنه يهتم بدراسة تركيب الكلمات وانتظامها وتداخلها داخل الجملة الواحدة "21 . ولما جاءت البنيوية لم تعد لهذا التمييز مسوغات منهجية. و ظهر مفهوم جديد الا و هو المورفو تركيب الذي يعني الدراسة الوصفية لقواعد تتداخل فيها المورفيمات اوالمونيمات لتؤلف وحدات لغوية كبرى. وفي هذا الصدد نقترح تعريف المصطلحات التالية:
* الجذر lexème : هو المادة الأولى الني تشكل الأصل. والجذر ثلاثي في اللغة العربية. ومنه تنطلق المعاجم والقواميس العربية باستثناء لسان العرب لابن منظور في طبعة صادر. إن الأفعال : استدخل وتداخل وتدخل ترجع الى الجذر دخل22.
* المـورفـيم morphème :ويسمى صرفة كذلك، وهو مرتبط بالشكل الا أنه يؤثر على المعنى والدلالة. دخل – دخلــوا او دخلـــتـم  الاستدخال
* المونـيـم monème : هو" الكلمة " وتساوي الجذر + الـمورفيـم.
* الـفـونـيم phonème : أصغر وحدة صوتية. وليست لها دلالة في اللغة العربية اذا كانت منعزلة. فحرف ك مثلا له دلالة في مـونـيـم  كتب ودلالة مغايرة في مونيم اكرم.
* القيم الخلافية : valeurs distinctives : إن حرف ل في السلام ليس هو حرف ل في الصلاة من الناحية الصوتية النطقية. (الحناش). وهناك قيم خلافية أخرى  .
2-3-3 مفهوم اللغة عند بلومفليد : تعد اللغة بالنسبة ليلومفليد سلوكا فيزيولوجيا إزاء مثيرات خارجية. ولتوضيح هذا الافتراض يقدم لنا المثال التالي :
كان جاك وجيل يتمشيان في حديقة، وبينما هما كذلك رأت جيل تفاحة ناضجة على شجرة طويلة؛ وبسبب هذا المثير الخارجي بدأت تحرك حنجرتها ولسانها وشفتيها، الشيء الذي جعل جاك يثار فيتسلق الشجرة ثم يقطف التفاحة لجيل 23 . ان التحليل اللساني البنيوي لهذه الواقعة هو كالتالي :
أ – ان التفاحة ورؤية جيل لها حدث فيزيولوجي خارجي سابق لعملية النطق والكلام وبالتالي فهو مثير عملي stimulus وواقع موضوعي مادي ينطلق منه المنهج البنيوي خلال عملية التحليل اللساني.
ب- العملية الكلامية لجيل هي استجابة لغوية réponse لهذا المثير المتمثل في تحريك الحنجرة والشفتين واللسان.
ج- هذه الاستجابة اللغوية لجيل اصبحت مثيرا لغويا لجاك .
د- تسلق جاك للشجرة وجني التفاحة هو استجابة عملية وقد رأينا أن بلومفيلد تأثر كثيرا بالسلوكية  فاعتبر كل نطق صوتي استجابة لاثارة خارجية محيطة، وليس له أية علاقة توليدية مع ما يعتمل في الدماغ البشري.
   وقد طبق هذا المنهج البنيوي على اللغة الفرنسية من طرف العديد من الباحثين 24 .كما طبق على اللغة العربية من طرف كمال ابو ديب سواء في "جدلية الخفاء والتجلي في الشعر العربي " او في الشعرية "
3) اللسانيات التوليدية والمنهج العقلي
3-1  النشــاة : في حمأة الصراع بين الاتجاهين الفرنكفوني والانجلوسكسوني، وفي مناخ ثقافي مأزوم بمخلفات الحرب العالمية الثانية وما أفرزته من وجودية وظاهراتية وشخصانية وانسية ومادية ماركسية ونزعات لا علموية وايديلوجيات متضاربة،في هذه الظروف الساخنة ، صدرت ثلاثة كتب تهم علم اللسان : الأول لبلومفليد تحت عنوان " اللغة "، والثاني لسنكير تحت عنوان " السلوك اللغوي " سنة 1957.، ثم كتاب شومسكي " البنى التركيبية " structures syntaxiques سنة 1957. ويعد هذا الكتاب الأخير نقطة تحول في الدراسلت اللسانية على الاطلاق رغم ما كتبه هاريس زليغ Harris zellig ورومان جاكويسون Jakobsun Roman  وموريس هال Halle Morris
  لقد احدث تشومسكي بكتابه هذا ثورة عالمية في اللسانيات المعاصرة. ففي هذا المؤلف يتحدث عن " النظرية اللسانية التي يجب ان تحلل مقدرة المتكلم على ان ينتج الجمل التي لم يسمعها من قبل وعلى ان يتفهمها. وذلك انطلاقا من قواعد ضمنية تمكنه من توليد الجمل وتحويلها توليدا وتحويلا لا متناهيين25 .
  - وقد مرت هذه اللسانيات الجديدة ( التوليدية التحويلية)  ( Génératives et Transformationnelles)بعدة مراحل يمكن تلخيصها فيما يلي :
أ-مرحلة المباني التركيبية سنة 1957
ب-مرحلة وجوه النظرية النحوية سنة 1965
ج-مرحلة الاعمال التي أنجزها باحثون ذهنيون امثال كاتز  Katz و فودور Fodor، والتي تندرج ضمن " علم الدلالة التوليدي" وإذا كان سوسور الأب الروحي للبنيوية، فإن تشومسكي يعد الأب الروحي للتوليدية.
د – مرحلة الاعمال والنماذج الحالية لتشومسكي والتي تميزت بمراجعة هذه الذات العارفة واعادة النظر في نماذجه الاولى ؛ وقد لمينا شخصيا نزوعه الى التصالح مع البنيوية والاتجاهات التكوينية والتجريبية من خلال المناقشات التي جمعت لسانيين ذوي شهرة عالمية26 ، وعلى راسهم جان بياجيه .كما ان امكانية الحديث عن الاثر المنهجي لغاليلي على نظرية تشومسكي امكانية واردة .
3-2 مفهوم اللغة عند التوليديين : ترى المدرسة التوليدية ان اللغة هي مجموعة من الجمل . وهذه الجمل تصنف الى. فئة الجمل المنفية وفئة الجمل المبنية للمجهول وفئة الجمل المثبتة. ويرتبط بعض هذه الجمل بالبعض الآخر. يقول تشومسكي .
<< من الآن فصاعدا نعتبر ان اللغة كناية عن مجموعة ( متناهية وغير متناهية) من الجمل، كل جملة منها طولها محدود ومكونة من مجموعة متناهية من العناصر >>27 . فاللغة في رأيه " ظاهرة بالغة التعقيد، ودراستها تقتضي بناء نظرية بامكانها أن تفسر القضايا اللغوية 28. ان نقطة الاختلاف بين تشومسكي وسوسور هي ان الأول يحلل اللغة انطلاقا من مسلمة انها وسيلة للتواصل او التعبير بينما يحللها ويفسرها الثاني انطلاقا من مسلمة أنها مجموعة جمل كل جملة منها تحتوي على شكل صوتي وعلى تفسير دلالي ذاتي محايث لها. فالأول يتحدث عن اللغة باعتبارها شكلا قبل كل شيء بينما يعطي الثاني الأسبقية للجوهر والبنية العميقة دون ان يهمل البنية السطحية ، أي المعنى الظاهر للغة.فالمهم في اللغة حسب المنهج العقلي ليس هو جانبها المادي البنيوي ولكنه قدرتها على التوليد والانتاج الجملي. فقد تأثر التوليديون كثيرا بديكارت وغيره من العقلانيين وتبنوا مقولات الابداع اللغوي والسلوك الداخلي وما يعتمل من قدرة وطاقات داخل الدماغ او العقل البشري29. لقد الف تشومسكي كتاب : اللسانيات الديكارتية عام 1966 ، و فيه تاثر كثيرا بديكارت وفون همبولت   Von Homboldt   اللذين يظهر مفهوم الكفاية عندهما بوضوح .
ان اللغة عملية توليدية فعالة في الذهن البشري قادرة على الخلق والابداع من خلال قانون نحوي عام يشمل كافة اللغات البشرية.هذه العملية اللغوية تتكون من 3 عناصر بنيوية هي :
أ) العنصر النحوي : ودوره مزدوج : تنظيمي حيث ينتج معان نحوية منظمة ؛وتوليدي لانه يولد عددا من الجمل النحوية.
مثال : << يشرح الاستاذ الدرس، اليوم، بطريقة جيدة .>>
التنظيم : حيث لا نقول ك<< شرح الدرس اليوم الأستاذ بطريقة جيدة >>
التوليد :<< اليوم، يشرح الاستاذ الدرس بطريقة جيدة >>  << يشرح الاستاذ اليوم الدرس بطريقة جيدة >> << الدرس يشرح من قبل الاستاذ بطريقة جيدة >> << ان شرح الاستاذ للدرس شرح جيد اليوم.>>
<<  الدرس شرحه الاستاذ >>
ب)العنصر التحويلي : أي قدرتنا على تحويل الجملة الواحدة الى جملة شرطية او تعجبية او استفهامية او منطقية. مثلا : <<  شرح الاستاذ الدرس>> . <<  هل شرح الاستاذ الدرس ؟>>   << اذا شرح الاستاذ الدرس فان التلاميذ يفهمون>> ...ونجد عند تشومسكي ما يسميه بالارتباط البنياني الذي يرتبط به اجراء التحويل مثلا :  أ) <<  قرأ الرجل الكتاب>> نحولها الى ب) << الكتاب قرأه الرجل >>.فالجملة الثانية حولت من الجملة الاولى بواسطة اجراء تحويل نقل الركن الاسمي الى موقع الابتداء .وهذا التحويل يتناول الركن الاسمي الذي يقع على يسار الفعل فينقله الى موضع الابتداء تاركا ضميرا عائدا اليه في الموضع الذي كان يشغله الركن الاسمي .
ج) العنصر التركيبي : وظيفته هي انتاج جمل سليمة سواء أكانت منطوقة أم مكتوبة.
ويقدم مازن الوعر مثالا لصياغة رياضية وعملية توليدية للجملة التالية.
The book could have been written by chomsky     يمكن ان يكون الكتاب قد كتب من طرف تشومسكي
slimani2.jpg
خطاطة رقم 2 
3-3 دراسة النحو عند التوليديين : قلنا بان البنيويين اهتموا بالجانب التواصلي في دراسة اللغة. الا أن التوليديين يركزون على البنية العميقة والجانب الضمني، والملاحظ أن تشومسكي مثلا يتحدث عن العمل  والعامل والمعمول والرتبة أي عن الفاعل والمفعول والنظام ، ويقول بأن الجملة يمكن ان تكون سليمة من حيث النحوية او القواعدية grammaticalité  التي تصف ، بطريقة ملائمة ،وضع ما هو مقبول في نحو ما وما هو غير مقبول .  وهي غير صحيحة من الناحية المنطقية المقبوليةacceptabilité . ونلاحظ ان تشومسكي ، في نموذجه الاول 1957، يعطى الأسبقية للنحوية و يقرنها بالكفاية اللسانية على حساب المقبولية التي يقرنها بالانجاز30 ، لكنه عاد في نموذج 1965 ونماذج تالية فاهتم أيضا بالمقبولية.
   يرى تشومسكي انه لا بد من نظرية لممارسة التحليل اللساني. وهذه النظرية تتكون من النحو التوليدي التحويلي الكلي اذ يعتبر النظرية النحوية نظرية علمية يمكن تطبيقها على جميع اللغات الطبيعية. فالنحو اذن " نظام من القواعد والمبادئ " والمبادئ المحددة لخصائص الجمل الشكلية والدلالية حيث يستعمل في تفاعله مع مجموعة من الميكانيزمات الذهنية من اجل فهم لغة ما والتحدث بها (...) فالنحو العالمي نظام من المبادئ والقواعد والشروط، أي انه عبارة عن عناصر وخصائص مشتركة بالنسبة لسائر لغات العالم31.
و نظرا لتأثر تشومسكي بالنظريات الفيزيائية ( غاليلي) خاصة والعلمية عامة ،فإنه يقيم تشابها بين خطوات النظرية الفيزيائية وخطوات النظرية النحوية . ففي الفيزياء تبنى النظرية على ما يلي :
- عدد من الملاحظات سواء اكانت طبيعية ام موضوعية ام تتبعية ام تلقائية 
  - الربط والتركيب بين هذه الظاهرة الملحوظة.
- التنبؤ بظاهرة جديدة.
ويرى انه بإمكان الباحث اللساني ان يطبق في حقله هذه الخطوات كما يلي :
- ملاحظة عدد محدد من النطق الصوتي
- تمييز ما هو نحوي وما هو غير نحوي
- شرح الظاهرة اللغوية بطريقة مبسطة
     ولتوضيح هذه الخطوات نقول بأن الباحث يميز بين ما هو نحوي وما هو غي نحوي انطلاقا من القانون العام الذي يحدد الطرائق السليمة لبنية الوحدات اللغوية وصياغتها. وهذا لا يعني ان تشومسكي يتجاهل الدور الذي تلعبه الدلالة والتداول.
3-4  خطوات المنهج التوليدي : تنطلق اللسانيات التوليدية من مسلمة وهي ان تفسير الظاهرة اللغوية تفسيرا لسانيا يقتضي الانطلاق من نظرية مبنية بطريقة علمية ثم الانتقال الى الواقع الذي نقوم بشرحه وتفسيره وفق مبادئ هذه النظرية، خلافا للمنهج البنيوي المادي السلوكي الذي ينطلق من الواقع نحو النظرية كما أسلفنا . فلكي يحلل الباحث اللساني الظاهرة اللغوية فإنه ملزم – كما يرى تشومسكي – بالاقتراب من المتكلم واستكناه قدرته الكلامية التي تشتغل داخل الذهن  البشري. ويمكن تلخيص خطوات المنهج التوليدي فيما يلي :
3-4- 1  وضع فرضية لغوية : انطلاقا من البحث العلمي في مجال اللسانيات ، وانطلاقا من نظرية علمية واضحة المعالم والمحددات والعناصر حيث يقوم الباحث بوضع فرضية البحث والتحليل .
3-4-2  تمحيص الفرضية : في خطوة ثانية يقوم الباحث بتطبيق الفرضية اللغوية على بعض المواد اللغوية. لأنه ينطلق دائما من العام الى الخاص ومن الكل الى الجزء خلافا لمن يعتمد المنهج الاستقرائي.
3-4-3  اعادة صياغة الفرضية اللغوية :عندما تدعو الحاجة الى اعادة النظر في الفرضيات من اجل جعلها اكثر مطابقة وملاءمة للاهداف المتوخاة.
 3-4-4  تثبيت الفرضية اللغوية : عندما نتأكد من ملاءمة الفرضية للمواد اللغوية نطرحها للتخصيص ونسحبها على جميع الحالات والظواهر اللغوية .
slimani3.jpg
    وفي هذا الاطار فإن تشومسكي يطرح النحو الكلي (grammaire universelle) ويرى ان الرتبة فاعل – فعل – ( مفعول) التي نجدها في اللغة الانجليزية صالحة للتطبيق على جميع لغات العالم الطبيعية.وينطلق في كلامه هذا من فرضية اننا ننحدر من نوع واحد،وبالتالي يوجد بيننا جميعا اتحاد وليس تغيرات.وهذا ما يشبه الحالة البدائية السابقة عن التجربة.  ونفس الاتجاه والمنهج يطبقه الفاسي الفهري على اللغة العربية اذ يقول بأنها تملك رتبتين هما : أ ) فعل-فاعل-(مفعول) مثال:<< يشرح الاستاذ الدرس >>؛ ب) <<  الاستاذ يشرح الدرس>>  او <<  الدرس شرحه الاستاذ>> او <<  الاستاذ طلبت منه شرح الدرس>> او<<  المجتهد نوه به الاستاذ>> . وهناك من يرى ان اللغة العربية لا تملك الا رتبة واحدة هي : فعل – فاعل – ( مفعول) انها رتبة اصلية سائدة تحكم كل عربية تليدة .و في حالة  رتبة ثانية مثل :  فاعل – فعل – ( مفعول) ،او مفعول – فعل – ضمير عائد على المفعول – فاعل : الدرس شرحه الاستاذ  فان  هذا الفاعل " لا يتقدم ولا يصعد من داخل المركب الفعلي الى مكان متقدم على الفعل في مخصص التطابق32 "،  واذا وجدنا اسما متقدما في الجملة الثانية : الدرس يشرحه الاستاذ ؛ كما نجد في القرآن الكريم رهبانية ابتدعوها – في حالة رتبة ثانية - ، يحتل الاسم المتقدم في المركب الفعلي موقع الموضع)  ( Tوليس موقع الفاعل، مثله في ذلك مثل الاسم المتقدم . وهذا ما قال به الفاسي الفهري (1981 و 1985). ايضا نجد نفس الاختلاف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة من حيث اعتبار الاسم المتقدم مبتدءا او فاعل33 . ولكن اذا كانت الجملة خالية من مفعول به وتقدم المركب الاسمي ،فان المتقدم يعد فاعلا لا موضعا في راي الفاسي 1993 ،وراي مدرسة الكوفة الذين يجيزون تقديم الفاعل خلافا لمدرسة البصرة .
   خــــــاتــمـة :لقد حاولنا في هذه الدراسة ان نقارن بين مدرستين من حيث المنهج المعتمد في الدراسة اللغوية؛ وحصرنا المحاولة في اللسانيات المعاصرة . وفي نفس السياق نسجل الملاحظات التالية :
-إن الدراسات اللسانيات جد متشبعة ، وبالتالي يكون تصنيفنا لها الى بنيوية وتوزيعية ووظيفية وتوليدية تصنيفا إجرائيا نسعى من ورائه الى جعل المتلقي العادي يكتسب بعض المعارف في تخصص يتميز بقدرته الاختراقية ، فالنظريات اللسانية تفرض نفسها حاليا على جميع الباحثين وفي كل التخصصات والعلوم.
-إن الثنائية الحدية : استقراء / استنباط ، مادي/ عقلي، ذاتي/ موضوعي وخاص/ عام تعتبر في رأينا ثنائية زائفة. وذلك لأنه لا وجود لمعايير ثابتة ومحددة تمكن من رسم حدود انطولوجية وابستمولوجية بين الذات والموضوع فيما يخص انتاج المعرفة وبحث الظواهر والمواد اللغوية . وهذا ما نستشفه من كلام تشومسكي عندما اجاب عن سؤال حول المنهج قائلا : " إنه ليس لي مناهج اطلاقا، ومنهج البحث الوحيد الذي اتبعه هو أن أبذل طاقتي في النظر في مشكلة صعبة معينة ، وان احاول أن أجد بعض الأفكار عما يمكن ان يكون تفسيرا لها 34"
-إن ممارسة النقد على العديد من نظريات العلم المعاصرة. تكشف زيف الثنائية استقراء/ استنباط35 وذلك لعدم امكانية فك التداخل الحاصل بين الذات العارفة الباحثة والمادة اللغوية موضوع المعرفة. ولذلك نجد تشومسكي يقول بالقدح الذي تمارسه التجربة على المعرفة الفطرية.كما أنه يوظف مناهج الفيزياء الغاليلية36.وعموما ، هذه مجرد محاولة بيداغوجية لكنها مؤسسة على مرجعية. 
          انـتـهـى.
**********
الهوامش:
1  ) فخري، ماجد، ارسطو، المعلم الأول، ص 145-155 ، الأهلية للنشر والتوزيع ، بيروت ، 1977 ، عدد الصفحات 182
2 ) العربي ، اسليماني، مناهج البحث في الجغرافيا ، مقاربة ابستمولوجية ، مركز تكوين المفتشين ، الرباط ، 1997.
3 ) محمد ، الحناش ، البنيوية في اللسانيات ، ص 127-128 ، دار الرشاد ، الحديثة ، البيضاء ، 1980 ، عدد الصفحات 422
4 ) عبد الله غزلان ، اللسانيات وتعليم اللغة العربية وتعلمها ، سلسلة ندوات منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية ، الرباط ، رقم 14 ص 77 عدد الصفحات 184.
5  ) نعام ،   تشومسكي ، اللغة ومشكلات المعرفة ، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني ، ص 16 ، توبقال ، 1990 عدد الصفحات 170.
6  ) زكريا ، ميشال ، الألسنة التوليدية والتجويلية وقواعد اللغة العربية . ( النظرية الألسنية )، ص 96 ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 1981 عدد الصفحات 180.
7 ) زكريا ، ابراهيم ، دراسات في الفلسفة المعاصرة ج 1 ، ص 194 – 299 دار مصر للطباعة عدد الصفحات 576.
8 ) محمد ، وقيدي ، ما هي الاستمولوجيا ؟ ، ص 155 ، مكتبة المعارف ، 1987 عدد الصفحات 446.
9) Canguilhem ,G , Etudes d’histoire et de philosophie des sciences p 37 à 50 Vrin ,1994 paris 430 pages   وكذلك
9 ) زكريا ، ابراهيم ، مشكلة البنية ، سلسلة مشكلات فلسفية رقم 8 ص ص 43 – 44 ، دار مصر للطباعة عدد الصفحات 238.
10 ) أحمد ، عزت راجح ، أصول علم النفس ، ص 42 – 62 – 63 ، المكتب المصري ، مزيدة منقحة ، عدد الصفحات 649. انظر كذلك  Hervé, Barreau , l’épistémologie , p 109 , Q.s.j ? , PUF, 1992 Paris ,127 pages
11  ( Cf :  Piaget, J, et chomsky, Noam, Théories du langage, Théories de l’apprentissage . Le débat entre Jean  Piaget et Noam Chomsky , 1979 le Seuil 545 pages
) زكريا ، ابراهيم ، مشكلات البنية ، مرجع سابق ص 21- 22
13 (Ferdinand de Saussure, Cours de Linguistique Général , p 16 ,Payot,Paris 1981   
14 ) محمد ، الحناش ، مرجع سابق ص ص 141 – 152.
15 ) محمد الأطلسي ، بنيوية ليفي ستراوس ، الاتحاد الاشتراكي 28 شتنبر 1980 ص ص 5 - 6
16 ) هناك أنواع أخرى من الملاحظات أنظر عزت راجح م س من 44- 50 وكذلك
17 ) Léonard,  Bloomfield, Langage, pp 9 –10, New york 1957.
18 ) محمد ، الحناش ، مرجع سابق ص ص 39 – 339.
19 ) De Saussure, Ferdinant, op, cit, pp 25 - 419
20 ) حسان ، تمام ، اللغة العربية ، معناها ومبناها ، ص 32 ، مطبعة النجاح الجديدة ، البيضاء ، عدد الصفحات 273.
21 ) محمد ، الحناش ، مرجع سابق ،ص 44
22 ) هناك من يميز ، المعجم من القاموس أنظر الحناش مرجع سابق ص  31- 32  وكذلك عيد القادر الفاسي الفهري المعجم العربي نماذج تحليلية جديدة ، دار توبقال للنشر 1999 ، وكذلك المعجمة والتوسيط نظرات جديدة في قضايا اللغة العربية المركز الثقافي العربي 1997 عدد ص 111
23 ( Léonard, J, Bloomfield, op, cit, pp. 22 - 23
24 ) Dubois, J, Grammaire structurale du Français, noms et prénoms, Larousse , 1965, p 195 du même auteur, GSF, le verbe, 1967 224 pages. GSF, ( la phrase et les transformations ) 1969, 192 pages.
25 ) زكريا ، ميشال ، مرجع سابق ص 12.
26 ( Piaget, J et Noam Chomsky, opt, cit.
27 ) زكريا ، ميشال ، مرحع سابق ص 91.
28 ) نفس المرجع ، ص 92.
29 ) يميز تشومسكي، بين الدماغ لذي يلصق به ما هو مادي، والعقل الذي يلصق به ما هو فكري.
30 ) Hymes, Dell, H , Vers la compétence de communication, pp 82 – 130 –131 , Hatier-Crédif  paris 1984 ,223 pages
31 ) محمد سبيلا، وعبد السلام ، بنعبد العالي، اللغة ، دفاتر تربوية ع 5 ص 42 دار توبقال للنشر 1994. عدد الصفحات 103.
32 ) عبد الله ، غزلان ، اللسانيات المقارنة م س ص 32 منشورات كلية الآداب رقم 51، الرباط ، مطبعة النجاح الجديدة ، الببضاء ، 1996 ، عدد الصفحات 382.
33 ) محمد ، الرحالي ، ملاحظات عن الرتبة والاعراب ص 31 –57 ، اللسانيات المقارنة واللغات في المغرب ، منشورات كلية الآداب ، الرباط ، رقم 51 ، السنة 1996
34 ) اللغة ومشكلات المعرفة ، مرحع سابق ، ص ص 161 – 162.
35 ) شالمدز، آلان ، نظريات العلم ، ترجمة : الحسين سحبان ، وفؤاد الصفا ، دار توبقال للنشر ، البيضاء ، 1991. عدد الصفحات 169.
36 ) لقد تأثر تشومسكي  بديكارت الذي تأثر بمعاصره غاليلي . فديكارت ربط بين الهندسة التحليلية والفيزياء والجبر،   وغاليلي ادخل الرياضيات في الفيزياء حيث  وظف المسافة في سقوط الاجسام والرياضيات في قياسها . وقد كتب البعض عن النموذج الغاليلي عند تشومسكي انظر الفاسي الفهري وكذلك مقالا لحافيظ اسماعيلي علوي وامحمد الملاخ  في مجلة فكر ونقد العدد  30 / 2000 ص 29 –32
*****
المراجع غير الواردة في الهوامش
1 - احمد ، المتوكل ،مؤلفاته .
2 – احمد ، بدر ، اصول البحث العلمي ومناهجه ، وكالة المطبوعات ، عدد ص 236               
3  – احسان ، محمد الحسن ، الاسس العلمية لمناهج البحث الاجتماعي،دار الطلبعة بيروت عدد ص 160
4 – عبد القادر ، الفاسي الفهري ، مؤلفاته .
5 – نعام، تشومسكي ، البنى النحوية ، ترجمة د بؤيل يوسف عزيز ، مراجعة: مجيد السمائطة مطبعة النجاح الجديدة 1987 عددص 160
6 – Christian , Baylo et Xavier, Migno , la communication ,Nathan1991,400 pages
7 – Dubois J et al , Dictionnaire de linguistique et des sciences du langage ,1994  Laroosse 515 pages
8 – Ducrot , Oswold et Tzvetan Todorov ,  Dictionnaire encycyclopédique des sciences du langage
1972 le Seuil 481 pages
9 – Greimas , A, J , Sémantique Structurale , 1966 , Larousse 262 pages
10 – Jacob , Pierre ,  l’empirisme logique , ses antécédents , ses critiques ,1980 , Minuit, 307 pages
11- Mounin G,  Histoire de linguistique : des origines au XX siècle , 1967 puf  paris, 231 pages
12 -   Mounin G,  Introduction à la Sémiologie , 1970 , , Minuit,  Paris 253 pages
13- Noam Chomsky et Morris Halle , Principes de phonologie générative , 1968 , le seuil ,
 14 –Oléron , Pierre , le raisonnement,QSJ , 1977 puf  paris 126 pages
15- Perrot , J, la linguistique QSJ pue 1993 ,paris 128 pages  



 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟