حكايات "شوقي" على ألسنة الحيوان والطير ـ د. ناصر أحمد سنه

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

بعد أربعين متفرقات ما بين السياسة والتاريخ والاجتماع، تقابلك "خصوصيات" الجزء الرابع من الشوقيات. هذه "الخصوصيات" تضم ستة وسبعين قصيدة، خصّ منها "أحمد شوقي" الحيوان والطير، وغيرهما، بثلاثة وخمسين "حكاية شعرية". حكايات ـ تستوحي نمط قصص كليلة ودمنة، وقصص "لافونتين" ـ نظمها "شوقي" بأسلوب تستشف منه جوانب "الحكمة، والخبرة، والتوظيف الرمزي للتأديب والتهذيب". كما يكتسي ـ أحياناًـ بمسحة "طريفة، سّاخرة، ضاحكة".
لقد حظي "الثعلب" (بنصيب الأسد)، فكان أكثر الحيوان ذكراً في قصصه (9 قصائد). ذلك أن أمير الشعراء "شوقي" (1868-1932م) يراه (وأمثاله ممن ينتهجون نهجه من البشر) رمزاً للخبث والمكر والخديعة. تلي الثعلب "الحمار" (6 قصائد)، ثم "الأسد، والكلب، والشاة" (5 حكايات لكل). ومن الطير كان للديك/ الدجاج، في "حكايات "شوقي" (3 عناوين)، أما "الغراب، والحمام، والعصافير" (قصيدتان لكل)، بينما ذُكرت "النملة" في ثلاثة حكايات (أحمد شوقي: الشوقيات، الجزء الرابع، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، 1983م). ومُبيناً الغاية من وراء هذه القصص يقول "شوقي" في مقدمة قصيدة "الصياد والعصفورة":
حكــاية الصيـــاد والعصفوره صـارت لبعض الزاهدين صوره
مـــا هَزءُوا فيهــــا بمستحقَّ ولا أرادوا أوليــــاء الحَـــــــــق

مـــا كلُّ أهل الزهد أهلُ الله كـــم لاعـــــبٍ في الزاهــــدين لاه
جعلتهــا شعراً لتلفت الفِطن واشعـــــر للحكمــة مُذ كان وطن
وخــير مـــا يُنْظَمُ للأديــب مــا نطقتــــــه ألســـنُ التجـريـــــــب.
ومن " ألسن التجريب".. كانت حكاية "الثعلب والديك" ربما الأكثر شهرة في هذا المضمار. حكاية "حكيمة" حفظها ـ شعراًـ الصغار، ووعوا ـ معناها ـ وهم كبار، يقول " شوقي" في مطلعها:‏
برز الثعـــــــلب يوما  في شعــــــار الواعظــــــــــــينا.
فمشى في الأرض يهـــذي ويســـب المــــــــــــاكرينا.
ويقول: الحـــــــمد لله  إلـــــــــه العــــــالـمــــــــــــينا.
يا عــــــــــباد الله توبوا فهو كهــــــــــف التـــــائبينا.
وازهدوا في الطير إن الـعيش عيش الزاهـــدينــــــا.
واطلبوا الديـــك يؤذن  لصـــلاة الصــــــــــــبح فينــا.
فأتى الديك رســــــول  من إمــــــــــام النــــاســــكينا.
عرض الأمر عليــــــه وهـــــو يرجـــــــو أن يلينـــا.
فأجـــــاب الديـك عذرا  يا أضـــل المهـــــتدينــــــــــا.
بلـــــغ الثعلب عنـــي عن جـــــــدودي الصالحـــــينا.
عن ذوي التيجان ممن  دخــــــل البطــــــــن اللعينــا.
إنهم قــــــــــالوا وخير القــــــول قــول العــــــارفينا.
" مـــخطـــئ من ظن يومــــا  أن للثعــــــــلب ديـــنا"!.
ولعل الطريقه الغالبة علی حكايات "أمير الشعراء" هي أن يصرّح بمغزی المثل، ويصوغه في بيت يجعله في الختام. ويوفق إلی الإجادة فيكون أروع بيت في الحكاية. فمن خلال تظاهر "أبي الحصين" بالتوبة عن أكل لحم الطير.. أعطي شاعرنا الكبير إشارات استفهام، وعلامات تعجب. فهو يحذر من تصديق العدو، والانسياق وراء مزاعمه وأكاذيبه، ومحاولته تغيير جلده رغبة "نهش لحم الديك". ونري "الثعلب" يكرر المحاولة الخادعة / الماكرة:
أَتى نبيَّ الله يوماً ثعلبُ فقـــــال: يا مولايَ، إني مذنـــــــــبْ
قد سوَّدتْ صحيفتي الذنــــــوبُ وإن وجدْتُ شافعاً أَتـــــــوب
فاسألْ إلهي عفوهُ الجليلا لتائــــــبٍ قد جاءهُ ذليـــــــــــــــلا
وإنني وإن أسأتُ السيرا عمـــــــلتُ شرَّا، وعملتُ خيـــــرا
فقد أتاني ذاتَ يومٍ أرنبُ يرتَــــــعُ تحتَ منزلي ويَلعَـــــــــبُ
ولم يكن مراقِبٌ هُنالكا لكنَّــــــني تَركتُهُ معْ ذلكـــــــــــــــــا
إذ عفتُ في افتراسهِ الدناءهْ فلم يصلهُ من يدي مســــــاءهْ
وكان في المجلس ذاكَ الأرنبُ يسمعُ ما يبدي هناكَ الثعلبُ
فقال لمَّا انقطعَ الحـــــديثُ: قد كان ذاكَ الزهدُ يا خبيـــــــث
وأنت بينَ الموتِ والحياة ِمن تُخــــــمة ٍ أَلقتْك في الفلاة ِ!
بينما يبرز ـ بمكره المعهودـ يلقي خطبة تأبين في "ولي عهد الأسد": لما دعا داعي أبى الأشبال مبشراً بأول الأنجال. سعت سباع الأرض والسماء وانعقد المجلس للهناء. وصدر المرسوم بالأمان في الأرض للقاصي بها والداني. فضاق بالذيول صحن الدار من كل ذي صوف وذي منقار حتى إذا استكملت الجمعيه نادى منادي الليث في المعيه. هل من خطيب محسن خبير يدعو بطول العمر للأمير؟. فنهض الفيل المشير السامي وقال ما يليق بالمقام. ثم تلاه الثعلب السفير ينشد، حتى قيل: ذا جرير. واندفع القرد مدير الكاس فقيل: أحسنت أبا نواس!. وأومأ الحمار بالعقيره يريد أن يشرف العشيره. فقال: باسم خالق الشعير وباعث العصا إلى الحمير..!. فأزعج الصوت ولي العهد فمات من رعدته في المهد. فحمل القوم على الحمار بجملة الأنياب والأظفار. وانتدب الثعلب للتأبين فقال في التعريض بالمسكين: لا جعل الله له قراراَ، عاش حماراً ومضى حماراً!.
فعلي الجانب الآخر نري الحمار الغبي المخدوع/ قبيح الصوت دائماً. وهذا لا يخصّ قصص "شوقي"  أو الأدب العربي فحسب بل في اغلب لغات العالم نسجت حول «الحمار» مداعبات كثيرة ونكات، بل وشتائم. ومن هذه المداعبات قصة "الحمار في السفينة": سقط الحمارُ من السفينة في الدُجي فبـــكي الرفاق لفقده، وترحمَّوُا.
حتي إذا طلـــع النهار أتت به نحـــوالسفينــــة مـــــــــــــــوجة تتقدّمُ.
قالت: خــذُوهُ كما أتاني سالماً لم أبتلعـــــــهُ، لأنــــه لا يُهضــــــــــم.
واستخدام "طرافة السخرية" شائع في هذه القصص كما يبدو جلياً في قصيدة«الأسد والثعلب والعِجل"، ومطلعها:
نظـــر الليث إلی عجـــلٍ سمين  كـــان بالقــرب علی غيط أمين.
فاشتهت من لحمه نفسُ الرئيس  وكــذا الأنفس يُصيبها النفيس.
قــال للثعلب : يــــا ذالاحتيال رأسك المحبوب أوذاك الغــــــزال.
فــدعا بالسعـــد والعُمر الطويل ومضي في الحال للأمر الجليل.
كما يسخر "شوقي" من المغرورين- مشبهاً إياهم برمزهم العتيق "الطاووس". فقد جاء يوماً إلى "سليمان" عليه السلام، فقام أمامه يعرض لجمال ريشه، يظهره طوراً، ويخفيه أحياناً. ولم يتردد في أن يعلن بأنه استوفى آيات الحسن "سلطان جميع الطيور".. شكلاً، ولوناً وبهاءً ورشاقة. فلماذا لا يوهب أيضاً حُسن الصوت وطلاوته؟!.
فحسن الصوت قد أمسى‏  نصيبي منه حرمانا‏. فيمـــــا تّيمت أفئدة‏  ولا أســـــــــــــكرت آذانا. وهذي الطير أحقرها‏  يزيد الصب أشجانــــــا‏. وتهتز الملوك له‏  إذا ما هـــز عيدانــــــــــــا‏؟.
فماذا قال له النبي سليـــمان؟‏. لقد ذكره ـ بحكمة الله تعالي في خلقه، وليس له أن يغترَ أو يتكبر:‏
فقال له سُليــــــمان لقد كان الذي كانا. تعالت حكمة الباري وجلّ صنيعه شانا. لقد صغرت يا مغرور نُعمي الله كفرانا
ومُلك الطير لم تحفل به، كبراً وطغيانا. فلو أصبحت ذا صوت لما كلمت إنسانا.
وهاهو الهدهد يعتذر عن "خرس ألمّ بالبلابل"، لأن "بوم الشئوم رباها:
أنبئت أن سليمان الزمان ومن أصبى الطيور، فناجته، وناجاهـــا
أعطى بلابله يوماً –يؤدبها لحرمة عنده- للبوم يرعاهـــــــــــــــا
واشتاق يوماً من الأيام رؤيتها فأقبلت وهي أعصى الطير أفواها
أصابهـــا العي، حتى لا اقتدار لها بأن تثبت نبي الله شكواهـــــــا
فنال سيـــــــدها من دائها غضب وود لو أنه بالذبح داواهـــــــــا
فجاءه الهدهـــــد المعهود معتذراً عنها، يقول لمولاه ومولاهـــا:
بلابل الله لم تخرس، ولا ولدت خرساً، ولكن بوم الشئوم رباهــا.
بينما الحكمة البادية من قصيدة "سليمان والهدهد": إن للظالم صَدْراً يشتكي من غير عله.
وقفَ الهُدْهُدُ في با بِ سليمانَ بذلِّهْ قال: يا مولايَ، كن لي عشتي صارت مملَّه. متُّ من حَبَّة ِ بُرٍّ أحدثتْ في الصدر غُلَّه. لا مياهُ النيلِ ترويـها، ولا أَمواهُ دِجْله. وإذا دامت قليلا قتلتْني شرَّ قِتْلَه. فأشار السيد العالي إلى من كان حوله:  قد جنى الهدهدُ ذنباً وأتى في اللؤوم فعله. تِلك نارُ الإثمِ في الصَّدرِ، وذي الشكوى تَعِلَّه. ما أرى الحبة إلا سُرِقت من بيتِ نمله. إن للظالم صَدْراً يشتكي من غير عله.
ويحكي "شوقي" أن نبي الله سليمان عليه السلام أرسل حمامة بثلاث رسائل إلي حكامه. وكان بها إكرام شديد للحمامة، ولكنها فتحت الرسائل وخانت الأمانة: كان ابن داود يقرب في مجالسه حمامـــــــة. خدمته عمرا مثلما قد شاء صدقا واستقامة. فمضت إلي عماله يوما تبلغهم سلامــــه. والكتب تحت جناحها كتبت لها فيها الكرامة. فأرادت الحمقاء تعرف من رسائله مرامه. عمدت لأولها وكان إلي خليفته (برامة). فرأته بأمر فيه عامله بتاج للحمامه. ويقول وفوها الرعاية في الرحيل والإقامة. ويشير في الثاني بأن تعطي رياضاً في تهامة. وأتت لثالثها ولم تستحي أن فضت ختامه. فرأته يأمر أن تكون لها علي الطير الزعامة. فبكت لذلك تندما هيهات لا تجدي الندامة!. وأتت نبي الله وهي تقول : يارب السلامة!. قالت: فقدت الكتب ـ يا مولايـ في أرض اليمامة.... لتسرُّعي لمّا اتاني الباز يدفعمي أمامه!. فأجاب " بل جئت الذي تقوم له القيامه. لكن كفاك عقوبة من خَان خانته الكرامة!.
بينما في "أمة الأرانب والفيل" يقدم "أنموذجاً" يُحتذي ـ في المجال الإجتماعي والسياسي ـ في كيفية المشورة، وتبادل الرأي، وإعلاء صوت العقل والحكمة والخبرة:
يــحكون أن أمــــــــــة الأرانـبِ قد أخذت من الثرى بجـــــــانب
وابتهجت بالوطـــــــــــن الكريم وموئـــــــل العيال والحريـــــم
فاختاره الفيــــــل له طريقـــــــــــ،ا ممزقاً أصحابنا تمزيقـــــــا
وكان فيهم أرنب لبيــــــــــــب أذهب جـُلّ صوفه التــــــــجريب
نادى بهم: يا معشر الأرانب من عالم، وشاعر، وكاتــــــــــب
اتحدوا ضد العــــــــــــدو الجـــــــــــافي فالاتحاد قوة الضعاف
فأقبلوا مستصوبيـــــــــــــن رايه وعقدوا للاجتماع رايــــــــــه
وانتخبوا من بينهم ثلاثه لا هــــــــــــرماً راعوا، ولا حــــداثه
بل نظروا إلى كمــــــــال العقال واعتبروا في ذاك سن الفضل
فنهض الأول للخطــــــــــاب فقال: إن الرأي ذا الصــــــــواب
أن تترك الأرض لذى الخرطوم كـي نستريح من أذى الغَشوم
فصــــــاحت الأرانب الغوالي: هذا أضر من أبــــــــي الأهوال
ووثب الثـــــــاني فقال: إني أعهــــــــــد في الثعلب شيخ الفن
فلندعه يمـــــــــــدنا بحكمتـــــه ويأخذ اثنين جـــــــزاء خدمته
فقيـــــــــــل: لا يــــا صاحب السمو لا يدفع العدو بالعــــــــــدو
وانتدب الثالث للـــكلام فقال: يــــــــــــا معشر الأقــــــــــــــوام
اجتمعوا؛ فالاجتماع قـــوة ثم احفروا على الطريق هــــــــــوه
يهوي إليها الفيل في مروره فنستريح الدهر من شــــــــروره
ثم يقول الجيـــــــلُ بعد الجيل قد أكل الأرنب عقل الفيـــــــــــل
فاستصوبوا مقاله، واستحسنوا وعملوا من فورهم، فأحسنوا
وهـــــــلك الفيـــــــل الرفيع الشان فأمست الأمة في أمـــــان
وأقبلت لصاحــــــــب التدبير ساعيــــــــة بالتاج والسريـــــر
فقال: مهلاً يا بن،،،،ي الأوطان إن محــــــــلي للمحل الثاني
فصاحب الصوت القوي الغالب من قد دعا: يا معشر الأرانب.
لقد نهج "شوقي" نهج "ابن المقفع" من حيث المضمون. ففي "حِكايته" عن "الكلبِ معَ الحمامَة" مثال لحسن التعاون: "حِكاية الكلبِ معَ الحمامَه، تشهدُ للجِنسَيْنِ بالكرامَهْ. يقالُ: كان الكلبُ ذاتَ يومِ بينَ الرياضِ غارقاً في النَّوم. فجاءَ من ورائه الثعبانُ مُنتفِخاً كأَنه الشيطانُ. وهمَّ أن يغدرَ بالأمينِ فرقَّتِ الورْقاءُ لِلمِسكينِ. ونزلتْ توَّا تغيثُ الكلبا ونقرتهُ نقرة ً، فهبَّا. فحمدَ اللهَ على السلامهْ وحَفِظ الجميلَ للحمامَهْ. إذ مَرَّ ما مرّ من الزمانِ ثم أتى المالكُ للبستانِ. فسَبَقَ الكلب لتلك الشجرَهْ ليُنْذر الطيرَ كما قد أَنذرَهْ. واتخذ النبحَ له علامهْ ففهمتْ حديثهُ الحمامهْ. وأَقلعتْ في الحالِ للخلاصِ فسَلِمتْ من طائِرِ الرَّصاصِ. هذا هو المعروفُ بأهل الفطنْ. الناسُ بالناسِ، ومَن يُعِن يُعَنْ!.

صور متقابلة
وفي صورة رائعة تعرض للتباهي بالسمن/ الغني، علي الهزال/ الفقر يحكي علي لسان "نعجتين": كان لبعضِ الناسِ نعجتان وكانتا في الغيْطِ ترعيانِ إحداهما سمينة ٌ، والثانِيهْ عِظامها منَ الهُزالِ باديَه فكانتِ الأولى تباهي بالسمنْ وقولهم بأنها ذات الثمنْ وتَدَّعي أَن لها مقدارا وأنها تستوقفُ الأبصارا فتصبرُ الأختُ على الإذلالِ حاملة ً مَرارة َ الإدلال حتى أتى الجزَّارُ ذاتَ يوم وقلبَ النعجة َ دون القومِ فقال لِلمالِكِ: أَشْترِيها ونقدَ الكيسَ النفيسَ فيها فانطلقتْ من فورِها لأُختِها وهْيَ تَشكُّ في صلاح بختِها تقولُ: يا أُختاهُ خبِّرِيني هل تعرِفينَ حاملَ السِّكين؟ قالت: دعيني وهزالي والزمنَ وكلِّمِي الجزّارَ يا ذاتَ الثَّمَنْ! لكلِّ حال حلوها ومرُّها ما أَدَبُ النعجة ِ إلا صبرُها.
وفي مقارنة بين "فأر الغيط وفأر البيت": يقال: كانت فأرة الغيطان تتيه بابنيها على الفيران! قد سمت الأكبر نور الغيط وعلمته المشي فوق الخيط. فعرف الغياض والمروجا وأتقن الدخول والخروجا. وصار في الحرفة كالآباء وعاش كالفلاح في هناء. وأتعب الصغير قلب الأم بالكبر، فاختارت بما تسمى. فقال سميني بنور القصر لأنني –يا أم- فأر العصر. إني أرى ما لم ير الشقيق فلي طريق، وله طريق. لأدخلن الدار بعد الدار وثباً من الرف إلى الكرار. لعلني إن ثبتت أقدامي ونلت –يا كل المنى- مرامي. آتيكما بما أرى في البيت من عسل، أو جبنة، أو زيت. فعطفت على الصغير أمه وأقبلت من وجدها تضمه. تقول: إني –يا قتيل القوت- أخشى عليك ظلمة البيوت. كان أبوك قد رأى الفلاحا في أن تكون مثله فلاحا. فاعمل بما أوصي ترح جناني أو لا، فسر في ذمة الرحمن. فاستضحك الفأر، وهز الكتفا وقال: من قال بذا قد خرفا. ثم مضى لما عليه صمما وعاهد الأم على أن تكتما. فكان يأتي كل يوم جمعه وجبنة في فمه، أو شمعه. حتى مضى الشهر، وجاء الشهر وعرف اللص، وشاع الأمر. فجاء يوماً أمه مضطربا فسألته: أين خلي الذنبا؟. فقال: ليس بالفقيد من عجب في الشهد قد غاص، وفي الشهد ذهب. وجاءها ثانية في خجل منها يدارى فقد إحدى الأرجل. فقال: رف لم أصبه عالي صيرني أعرج في المعالي. وكان في الثالثه ابن الفاره قد أخلف العادة في الزياره. فاشتغل القلب عليه، واشتعل وسارت الأم له على عجل. فصادفته في الطريق ملقى قد سحقت منه العظام سحقا. فناحت الأم، وصاحت: واها‍! إن المعالي قتلت فتاها!.
صفوة القول: لا شك أن الحكاية على ألسنة الحيوان والطير أدب عالمي عريق. فعنها قرضت أشعار، ونسجت أمثال، وسجلت مأثورات، ورويت حكايات، وأطقلت خرافات الخ. ودلائل هذه وتلك واضحة في حكايات "فاليروس بابريوس"، والحكيم "إيسوب"، و"بيدبا" الفليلسوف، و"كريلوف"، و"لافونتين". ولعل "شوقي"ـ  إضافة إلى نهله من المأثور العربي ـ قد تأثر  في نسج "حكاياته" بـ"لافونتين". وتبقي حكايات "شوقي" رائعة.. شكلاً ومضموناً. لغة شعرية راقية، وأسلوباً وصوراً متميزة، و"توظيفاً رمزياً" للحيوان والطير واضحاً باهراً. توظيف يأتي من باب "الإسقاط" (الذاتي/ الجمعي)، والتعزيز بالموروث الشعبي/ الفكاهي/ الساخر، ولإثبات الكفاءة والمقدرة وسعة الاطلاع. لقد جاءت سهلة النظم، غنية المعني تحمل في طيّات أبياتها إيماءات ذات مغزی. إنها تقطر بالحكمة، والعظة والعبرة من خلاصة الحياة، وعمق المعاناة، وعصارة التجربة.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟