ثقافة الولاء بدل ثقافة الأداء: رواية صخرة طانيوس لأمين معلوف نموذجا ـ عبد القادر ملوك

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

 tanious-amine-maaloufتقع أحداث رواية أمين معلوف "صخرة طانيوس" في مكان قصي من الكرة الأرضية، مكان لا قيمة له، في زمن الرواية، إلا بما تصنعه به أحداثه.  فـ"كفريبدا" تلك المقاطعة الصغيرة المنزوية في ركن من جبل في جنوب لبنان، على صغر حجم جغرافيتها و صعوبة تضاريسها، أريدَ لها أن تكون مرآة عاكسة لعقلية تحكمت، و لازالت في بعض مظاهرها، في نمط العلاقات السائدة بين أفرادها؛ إنها عقلية الولاء التي تقوم على التبعية و المكانة و الحظوة... فالثواب و المنفعة لا يقومان على الانجاز و الأداء بل على مقدار الولاء و الحظوة. و طبعا إذا حظرت هذه غابت أخرى غيرها كالأداء و الانجاز و الكفاءة و استقلالية الذات و غاب معها أخذ المبادرة في التخطيط لصناعة المستقبل لأن هذا الأخير ملك لشيخ المقاطعة و زعيمها الذي وحده مخول له التفكير و التخطيط، أما البقية الباقية فحظها من الحياة مرهون بدرجة طأطأة الرأس و بحرارة لثم الأيادي.

في رواية أمين معلوف هذه، تبرز شخصية الشيخ فرنسيس في بداية الأحداث و في قلبها كما في نهايتها، أو لنقل أن مجمل الأحداث التي تقع في المقاطعة التي يوجد على رأسها، مهما كانت درجة حجمها، عظيمة أو تافهة، لابد أن تنتهي عنده. أما رعاياه، و نحن نسميهم كذلك لأن العصبية باعتبارها نظام مغلق يقوم على التقاليد و القيم و العادات تقبل، كما يقول أركون، الرعايا و ترفض استقلالهم كي يصبحوا مواطنين، حرصا منها على نوع من الثبات و الاستقرار الذي يخدم مصلحة أبناء الشيخ و حفدته و يبقي وضعا قائما يجعل الفرد يتساءل بل و يختار بين الرضوخ الأعمى مقابل الحماية و الرعاية و أخذ الحظ من الغنيمة، و هذا حال السواد الأعظم من أبناء كفريبدا في تعاملهم مع شيخهم، و بين الانطلاق الحر الذي يصنع ذاتا و تاريخا مع دفع الثمن، استبعادا و سحبا للحماية و منعا للحقوق، و هذه وضعية اكتوى بلظاها ناذر البغال، و ذاق مرارة طعمها قبل أن يراجع نفسه و يستغل وضعا بعينه تلين فيه القلوب و ترق له المشاعر ( وفاة زوجة الشيخ) لكي يقدم فروض الولاء من جديد و يظفر بيد الشيخ تقبيلا و لثما.
هناك مسلمة بل و قاعدة تسري داخل جسد كفريبدا تتمثل في انصياع الجميع و رضوخهم اللامشروط في الحرب كما في السلم، في الأفراح كما في الأتراح، و بصفة عامة في كل ما يرتبط بشؤون الحياة داخل الكفر. أما الاستثناء و الشذوذ، في انقلاب سافر عن منظومة الإنسان المواطن كما "نسمع بها اليوم"، فيتجلى في خروج البعض عن الطاعة، بل في مجرد التفكير في أخذ زمام المبادرة في مسألة حتى و لو بدت تافهة، دون مراجعة كبير القوم و صاحب الحل و العقد. استثناء قد يكلف صاحبه غاليا. و هو وضع و للغرابة يلازم العرب عبر مراحل تاريخهم إلى يوم الناس هذا حتى غدا قاعدة و صار نقيضه استثناء. من هذا المنطلق سنحاول أن نقف قليلا عند الحالات التي كسرت الطوق في كفريبدا، الحالات التي رأت في الإذعان و الخضوع سوء انسجام مع الطبيعة البشرية التي بطبعها تأبى القيود، واقفين عند الفاتورة التي تكون قد دفعتها ثمنا لاندفاع و جسارة غير معهودتين:


جريس: كان يشغل وظائف متعددة، كاتب، كبير خدم، أمين خزانة، أمين سر. باختصار كان عين السيد على كل أحوال المقاطعة، و كان الولاء الأعمى لسيده أعظم شيمه، تقول الرواية "كان سيده يبعث في نفسه الهلع، فقد كان يرتجف في حضرته أكثر من أحقر الفلاحين و يلبي كل نزواته. و قد يحصل أن يملي عليه الشيخ كتابا إلى الأمير، ثم يمد له قدمه، بعد حين، ليساعده على خلع حذائه، فلا يبدي جريس ممانعة على الإطلاق". لكن توالي الأحداث و تسارعها قد يقلب الحمل الوديع إلى قاتل، ذلك ما حصل لجريس هذا، حتى أن القبيلة لم تصدق، بل هو ذاته لم يصدق أنه تجرأ على الاعتراض على كلام الشيخ حين ارتبط الأمر بظلم وقع على "ابنه" طانيوس، و الأدهى من ذلك أنه ارتكب ما هو أشنع: قتل البطريرك عمدا بعدما تبين له ضلوعه في الحيف الذي نزل بطانيوس. شجاعة كهذه و جرأة بهذا الشكل، لم تكن لتمر على صاحبنا مرور الكرام، و قد سبق أن قلنا عاليه بأن شق عصا الطاعة، له ثمن حتما سيؤديه صاحبه، و الثمن الذي دفعه جريس كان هو فراره و عزلته خارج الديار، و بعده إعدامه شنقا. لكنه و رغم ذلك، و قبله، استطاع استعادة مكانته و شرفه، و استعاد بجريمته حياته بل و تمكن لأول مرة من انتزاع كلمة أبي من فم ابنه طانيوس منذ سبعة عشر عاما.
الشيخة: بنت الأكابر التي تزوجها شيخ كفريبدا، و التي بعدما طال صمتها و صبرها على نزوات الشيخ و أفعاله المشينة، تجرأت على مغادرة الكفر نحو الجرد العالي (موطن أهلها)، كان عقابها على فعلتها هذه مختلفا، فهي بنت أكابر، الإهمال و التجاهل حتى ماتت بحسرتها و بفعل مرارة ما سمعت و ما عرفت، مما لم تطقه أعصابها.
روكز: وكيل القصر السابق الذي شغل جريس وظيفته منذ حوالي خمسة عشر سنة. اتهمه الشيخ باختلاس قيمة المحصول، و هي مجرد حجة اختلقها الشيخ لتحقير معاونه السابق و الحؤول دون عودته إلى كفريبدا. أما السبب الحقيقي للخلاف بين الرجلين، حسب ما سمعه طانيوس همسا في مدرسة الضيعة، أن السيد حاول إغواء زوجة روكز الذي قرر مغادرة القصر صونا لشرفه.


روكز هذا تمرد على سيده، و لم يقبل أن يطيعه في ما يتعلق بكرامته و عرضه، إن صحت رواية أهل الكفر، و هذه تحسب له، كما يحسب له أيضا وعيه بضرورة التخلص من حالة الخضوع و الإذعان هذه، لنستمع إليه مخاطبا طانيوس حينما زاره هذا الأخير ذات مرة في بيته " لا يمكن أن يكون جل طموحك تقبيل يد ابن الشيخ كل صباح كما يقبل أبوك يد الشيخ". لكن عيبه أنه استبدل ولاء (الشيخ) بولاء أفضع (الباشوات و الضباط و الأمير)، فكانت نهايته جثة مرمية في إسطبل بدون رأس.
ناذر البغال: البائع الجوال المطرود من القصر منذ أربع سنوات. و السبب في ذلك أنه ارتكب في نظر سيده "الشيخ" وقاحة خطرة، فقد كان من زوار القصر الدائمين، و ينتزع الإعجاب بحديثه و سعة علمه. خاصمه الشيخ بسبب الثورة الفرنسية، إذ كان البغال معجبا أشد الإعجاب بهذه الثورة و بالمقابل كان الشيخ يرى فيها مجرد فظاعة و ضلال عابر لحسن الحظ.  تكراره لافتتانه و إعجابه بهذه الثورة أمام الشيخ و على مسامع الناس سبب في طرده، لئلا يخوض مرة أخرى في مواضيع تم حظرها من طرف السيد. الاستثناء الذي يشكله البغال في ما يرتبط بالطاعة، يتمثل في ما كان يضمره في قرارة نفسه، بل و يتجرأ أحيانا على الصدح به في حضرة من يراهم أهلا للثقة كطانيوس مثلا " اللعنة على هذه الحياة القذرة يجب أن تقبل الأيادي للحفاظ على لقمة العيش".
الشيخ: كان سيد كفريبدا، يفعل ما يريد، يثيب و يعاقب حسبما يراه هو لائقا، و لا يستطيع أي فرد أن يتجرأ على الاعتراض على قراراته و لو حتى همسا، كونهم يعلمون بطشه و قهره، حتى لو كانت نزواته تسيء إلى كرامتهم و عرضهم، لننظر إلى هذا الموقف من بعض الأهالي فهو كاف لإدراك حجم الإذعان و الرضوخ " كان أقارب الرجل الذي انهالت عليه الصفعة (فقد كان الشيخ يسوي الخلاف أحيانا، بالصفعات إذا هي أبت أن تسوى بالكلام) يأتون لزيارة الشيخ، فيتحلقون في مجلسه صامتين كما في العزاء ثم يعلن أحدهم أنه لا يجب الشعور بالاهانة، فمن ذا الذي لم يصفعه والده من قبل؟"


و طبعا هي عبارات لا تعدو كونها ضربا من التزلف و التقرب من الشيخ أكثر فأكثر، و رغبة في محو الشعور القاتم بالاهانة، رغم أنه لم يعد قاتما بفعل العادة و التعود.
و الشيوخ (الأسياد) كانوا على وعي تام بما يفعلون، و بنمط المعاملة الذي من شأنه إطالة الطاعة لمدة أطول، أو الدفع في اتجاه اعتبارها جزءا من كيان الأفراد المنتمين للضيعة. لذلك تراهم (الأسياد) حين يتجاذبون أطراف الحديث بعيدا عن آذان رعيتهم، يتردد في كلامهم قول شعبي:"يجب أن يكون لكل فلاح صفعة قرب عنقه" و يريدون بذلك أن الفلاح يجب أن يعيش دائما في رهبة و خنوع.


نهاية الشيخ لم تكن الاسوء، فهو بعد المحن التي حلت به بفعل المؤامرات و الدسائس، لم يفقد إلا ولده رعد و بصره. و يصور لنا أمين معلوف، حالة الفرح و الابتهاج التي استحوذت على الرعية حين سماعهم بمقدم شيخهم و عودته سالما من محنته في السجن. هل نقول أن الأهالي ألفوا الولاء للشيخ و ألفوا الخنوع و تقبيل الأيادي؟ في هذا جزء من الصواب لكن ما لا يلزمنا تجاهله، أنهم بعدما ذاقوا تسيد روكز عليهم لفترة، صاروا يؤمنون بأنه إذا كان و لابد من الطاعة فهي لمن يعرفون أهون منها لمن يجهلون تقول الرواية:"إن الأهالي كان يخالجهم الشعور بأن الشيخ ملك لهم، و أنه يتصرف حسب رغباتهم و مخاوفهم و سورات غضبهم، و إن أخضعهم لرغباته و مخاوفه و سورات غضبه."
طانيوس: هو بطل الرواية، و لهذا أخرنا الحديث عنه، حياته تحفل بالتناقضات، فهو ابن جريس و لم يدر طول حياته هل هو كذلك فعلا، و ابن لميا التي فتنت الكفر بجمالها حتى قيل أن الشيخ ربما يكون الوالد الحقيقي لابنها. حياته شابتها أحداث، بعضها هو صانعها و بعضها الآخر صنع بالصدفة أو لنقل بمشيئة إلهية؛ أما ما كان هو صاحبه، و ما تجلت فيه ذاته و وارتسمت فيه سلطة قراراته، فهما حدثان اثنان: الأول رغبته الجامحة في الاستمرار في مدرسة الضيعة، التي كانت أمله الوحيد بالغد و فرحته اليتيمة التي لا يعيش إلا لأجلها، و لذلك عندما أريد الحؤول بينه و بينها انقطع عن الطعام و الشراب حتى كادت نفَسه تفارقه لولا أن تمت الاستجابة لمطلبه في اللحظات الأخيرة. و لهذه المدرسة تأثيرات جمة ستطاله حينما تطلبه و تستدعيه الأحداث. أما الحدث الثاني فيرتبط بتعلقه بأسما و خيانة أبيها له و ما ترتب عنه من أحداث ستودي بحياة والده جريس كما أسلفنا، و ستدفع به هو خارج الكفر إلى مدينة لم تدُر أبدا بخلده و إلى لقاء امرأة لا سابق عهد له بها، لا تعرف لغته و لا يعرف هو لغتها، ثم تواليا ستدفعه الأحداث إلى أن يتمكن بدون إرادته من طرد أمير الجبل و نفيه إلى الخارج. أحداث و بطولات ستتسارع وتيرتها لتجعل من طانيوس في النهاية شيخ الكفر للحظات معدودة، قبل أن يعود سيد الكفر الأول "الشيخ فرنسيس" ليتم تسجيل اختفاء طانيوس نهائيا من الكفر و عن عيون من يعرفه و لتبقى الصخرة التي جلس عليها مفكرا و متأملا كعادته، آخر عهده بالكفر و بأصحابه، لتتحول حياته الواقعية إلى أسطورة تتحاكى بها الأجيال تلو الأجيال.


عود على بدء، لم يكن غرضنا من تقليب صفحات رواية صخرة طانيوس هو إعادة سرد وقائعها، فهذا أمر لا تغني عنه إلا قراءة الرواية ذاتها. بل كنا نرمي إلى تبين نموذج لأخلاق الطاعة و الولاء جسدته الرواية بشكل واضح و جلي في كفر صغير هو كفريبدا. و نحن لا نفشي سرا إذا قلنا أنه و إن فترت حدة أخلاق الطاعة هذه في عالمنا العربي، بفعل المواثيق الدولية و غيرها، فإنها حتما لم تمَّح، بل كانت و لازالت نموذجا للعلاقة "الطبيعية" التي تسري بين الراعي و الرعية في أنظمتنا العربية، علاقة تتمظهر في ذلك الحصار الذي يضرب على الأفراد و الجماعات و يراقب حركاتهم و سكناتهم، تماما كما كان يفعل شيخ الكفر، لتصبح أولوية أصحاب الشأن تتمثل في شعار "الولاء قبل الأداء"، مما يزج بالفرد في حالة من النكوص و الاكتفاء بتلبية حاجاته المعيشية و طلب السلامة، و الإمساك عن أي نوع من المبادرة الفردية لما قد يترتب عليها، مؤمنا في قرارة نفسه بأن مواطنته ذاتها هي نوع من المنة التي يمن بها عليه، تماما كما اعتقد أهل كفريبدا بأن اليد التي يقبلون هي منة من الشيخ عليهم تطلعهم على رضاه عنهم و تؤشر على عمق ولائهم و خضوعهم.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟