قراءة في كتاب "ثورة اللغة الشعرية" لجوليا كريستيفا ـ نعيمة البخاري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

   julia-kristeva يشكل كتاب "ثورة اللغة الشعرية" مصدرا هاما للوقوف على مسار الاتجاه السيميائي عند الناقدة أو ما اصطلحت على تسميته بالتحليل الدلاليLa symanalyse. .فبعد كتابها "نص الرواية”Le texte du Romanالذي يمثل أطروحتها للحصول على الدكتوراه سنة 1967 تحت إشراف لوسيان غولدمانLucien Goldman  وبعد نشرها لمجموعة من المقالات التي جمعتها في كتابها "التحليل الدلالي" الذي يمكن اعتباره الثمرة الأولى لمشروعها السيميائي المتميز، تصدر هذا الكتاب سنة 1974 لتقدم موقفها النظري والتحليلي بشكل أكثر توسعا، من هذا المشروع الكبير.
       يرسم كتاب "ثورة اللغة الشعرية" اتجاها متميزا في مسار النقد السيميائي باعتباره أصبح مع جوليا كريستيفا علما ونمطا فكريا يعيد تقويم ذاته وموضوعه وينتقد نماذجه باستمرار، وينفتح على مجالات أخرى من البحث . وهذا ما يجعل من التحليل الدلالي نموذجا من التفكير الذي بإمكانه أن يتلاءم مع نفسه ومع كل الاتجاهات الأخرى التي يستعين بها دون أن يسقطه ذلك في فخ التحول إلى مذهب. « إن الممارسة السيميائية تنقض تلك النظرية الغائية لعلم خاضع لمذهب فلسفي ، وبالتالي معد هو بالذات ليصير مذهبا بدون أن يسمى مذهبا. إن ميدان السيميائيات كميدان لإعداد النماذج والنظريات، هو محل اعتراض واعتراض ذاتي:"حلقة " لا تنغلق  بدايتها تلتقي نهايتها، إنها تدفعها، تقلبها وتنفتح على خطاب آخر، يعني على موضوع آخر وعلى منهج آخر» ([1]).
      

تقول جوليا كريستيفا: »إن الخطاب كما نفهمه في هذا الكتاب "ثورة اللغة الشعرية" يأخذ على عاتقه مهمة فهم وتعيين هذه الوظيفة الشعرية التي تكسر وتعيد بناء الإرغامة الاجتماعية. ومن البديهي أن مثل هذه المهمة تتطلب أن نغير الجهاز النقدي المفاهيمي التقليدي، ما دامت مناهج التفكير الكلا سيكي تميز لحظة الاستقرار داخل الممارسات وليس لحظة الأزمة« ([2]). هذا يعني أنها ستبلور شكلا من القطيعة مع اللغات النقدية السيميائية السائدة لتؤسس منهجها على قاعدة سيميائية الشكل اللغوي. هذه الثورة التي عملت جوليا كريستيفا على إعلانها  داخل الاتجاه السيميولوجي في فرنسا على الخصوص، شكلت نقلة في التركيبة البنيوية، في النصف الأخير من الستينات. هكذا أدخلت النقد الفرنسي الجديد في مرحلة جديدة من البحث العلمي بفتح ثغرة داخل النقد البنيوي بهدف خلق نوع من الدينامية التاريخية داخله ، والخروج من انغلاق النص وتوسيع فضاء اشتغاله، بخلق شكل من الحوار بينه وبين النصوص وبالتالي إعطاء أهمية للذات المكبوتة مع البنيوية. هكذا عملت على تحديد مجال اشتغالها، حتى تتمكن من صياغة رؤية شمولية للنص تكون مبنينة وتحررية، بعد بنيوية وظيفية، علمية و/أو نقد علمية، نظرية وإجرائية ومحايثة وخارجية في نفس الوقت.
       لقد اهتمت جوليا كريستيفا بتطوير مجال اشتغال الأدب أو النص  وهذا ما أعطى لأبحاثها بعدا منهجيا جديدا، حيث أصبح النص فضاء لتحولات ايبستمولوجية واجتماعية وسياسية."إنه لم يعد يتعارض مع الفعل الدال(فمعركة المفهوم والصورة لم تعد موجودة الآن) وبعيدا عن أن يتساوى معه أو يدعي تعويضه، يحدد مجاله خارج العلم وعبر الإيديولوجيا، كتلسينmise-en-langue  للكتابة العلمية » ([3]).
       إن هذه الممارسة الدالة لن تنتج بوضوح إلا من  داخل اللغة، إ نها تريد أن تمنح للنص فرادته وحقه في أن يكون خطابا، بما أنه «  خاضع لتوجه مزدوج : نحو النسق الدال الذي ينتج ضمنه(لسان ولغة مرحلة ومجتمع محددين) ونحو السيرورة الاجتماعية التي ينتج  فيها كخطاب. ويشتغل كلا السجلان مستقلا، قابلا للا نفصال ، داخل ممارسات قاصرة وغير ناضجة، حيث لا يمس تغيير النسق الدال التمثيل الإيديولوجي الذي يمثله، وقد يتصلا ن داخل النصوص التي تسم بميسمها الكتل التاريخية. »([4])
       إن كلمة "ثورة"التي نجدها في عنوان هذا الكتاب لا تستعملها الكاتبة جزافا. فهذه الكلمة تعني عندها» حالة روحية لا يمكن أن نتصور حياة بدونها، لهذا يجب أن نثور لكي نحيا. فالثورة موقف يتسم بالحيطة والحذر وبالتساؤل المستمر، إنها العودة إلى الذات وطرح الأسئلة«… ([5]). إن تغيير الأشكال الاجتماعية والإيديولوجية والسياسية، يكمن في رأيها في محاربة أشكال الخطاب السلطوي ، واللغة الشعرية يمكن أن توفر هذا التغيير عبر اللغة، وعلى الخصوص عبر اللغة الشعرية، بإعادة النظر في القوانين التي تتحكم في الخطابات السائدة، وإعطاء أرضية جديدة عبر المعنى وعبر النظام الرمزي.
      هكذا يمكننا القول إن موقع كتاب "ثورة اللغة الشعرية" يشهد من جهة على توجه جديد في مجال النقد السيميائي إن لم نقل انفتاحا  يغنيه ويخرجه من انغلا ق النص الذي سجنه فيه الإرث البنيوى الشكلا ني، وعلى المكانة المتميزة التي تحتلها الكاتبة في ورشة النقد السيميائي الأوروبي الذي يعرف تطورا مستمرا يشمل كل العناصر المساهمة في عملية توليد المعنى داخل النص الأدبي. سيسمح لنا التوغل داخل محتويات هذا الكتاب بتوضيح هذا الاشتغال الدال المميز للغة كممارسة والرهان الذي تدخله الذات داخل المجتمع، والتنظيم الجديد" للسيميائي " داخل النظام "الرمزي". بتعبير أوضح كيف يتشكل التحليل الدلالي مع جوليا كريستيفا كمشروع نقدي علمي وكحقل يفكر في قوانين فعل التدليل حتى لا يبقى محصورا داخل منطق اللغة التواصلية التي تغيب الذات. هذا الفضاء الدلالي لن يتحقق دون استدعاء لمناهج أخرى فلسفية نفسية ومنطقية وهذا ما سنعمل على إبرازه فيما سيأتي من فصول هذا البحث.
‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‍
‍‍‍‍‍‍‍‍الكتـاب وفصولــه
       إن كتاب" ثورة اللغة الشعرية" يحتوي على ثلاثة فصول وخاتمة، بعد مقدمة، تحاول عبرها الناقدة طرح الهاجس الذي يسكنها، الذي يتمثل في بناء سيميائيات تحليلية. يمكن اعتبار الفصل الأول فصلا نظريا في حين أن الفصل الثاني والثالث هما تطبيقات لهذا التحليل على نماذج من الشعر الفرنسي ممثلة في الشاعرين س . مالارمي  S.Mallarmé ود وكاس لوتريامونD.Lautréamont وهما من رواد الشعر الحر الأوائل وطليعي نهاية القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى أن الفصل الثالث يضع الإطار السياسي والاقتصادي الذي أفرز هذه النصوص ومساهمته في تنظيم إجراء النص. وبتعبير أوضح، إنه يحدد "إيديولوجيم "Ideologéme النص بإعطائه خيوطه التاريخية والاجتماعية.
     تفترض جوليا كريستيفا أنه من الممكن إدراك ممارسة دالة تنتج داخل اللغة، وتحقق انفجارا صوتيا ومعجميا وتركيبيا داخل اللسان ، وفي نفس الوقت تنفتح على نمط الإنتاج الرأسمالي نظرا لمستوى التطور الذي بلغه. ويكون هدف هذه الممارسة إعطاء أرضية مادية إن لم نقل نظرية دلالية من الذات ومن جدليتها المادية واللغوية. وهذا يعني أن هذا الانفتاح سيطرح علينا فكرة إيجاد خارج لهذه الممارسة باعتبارها كانت منغلقة وتدرس في إطار محدد. لكن يجب الإشارة إلى أن تحقق هذه الممارسة الدالة يفترض إيجاد جهاز وتوجه معين، يستعين بمجموعة من المفاهيم المستعارة من حقول معرفية مختلفة نذكر منها على الخصوص ، التحليل النفسي كما هو عند فرويد وفي تطوراته مع لاكان، والتيار الماركسي في محاولة لتحديد مظاهر هذه النظرية التحليلية المعقلنة لإجراء الدلالية كما تمارسه النصوص والفلسفة الأوروبية في توجهاتها الحديثة.
      تشير جوليا كريستيفا إلى أن هذه الممارسة هي ظاهرة جديدة تشهد على وجود أزمة اجتماعية واقتصادية وبالتالي وإيديولوجية. وهذا ليس بغريب لأن مثل هذه الأزمة تفرض تغيير أنماط الإنتاج وإحداث تصنيفات خطابية جديدة  كلما تطلب الأمر ذلك. انطلاقا من هذا الطرح المنهجي ، الذي يقوم أساسا على تفجير للذات ولحدودها الإيديولوجية، تطرح الكاتبة مجموعة من الأسئلة:
1- يكشف لنا الانفجار النقدي أن تغييرات وضعية الذات تكون خاضعة للتغييرات اللغوية، من خلال علاقتها داخل المجموعات الخطابية وبالأجسام والمواضيع والآخر. وتشكل اللغة إحدى وسائل التعبير عن إجراء فعل التدليل الذي يحتضن الجسد والخارج المادي واللغة. إذن كيف تتمفصل هذه المراحل الثلاثة؟ وماهي العلاقة التي تربط فيما بينهم داخل هذه الممارسة الدلالية؟
         2- هذا الانفجار يكشف عن التطور الذي وصل إليه نمط الإنتاج الرأسمالي بفضل تطور وسائل الإنتاج عبر العلوم والتقنيات المتحضرة، وبهذا أصبح  في غنى عن المعايير اللغوية والإيديولوجية. إذن يمكن أن تتمظهر على شكل فن، هذا الإجراء الذي يشكل الأساس المنتج للتشكلات الدلالية والذاتية والإيديولوجية. وبتعبير آخر أصبح من الممكن التعبير عن هذه الممارسة  وسط هذا التغيير الذي عرفته كل هذه الأجهزة المذكورة ومن تفاعلا تها اندماجها داخل الحقل الاجتماعي. وهذا يقود جوليا كريستيفا إلى التساؤل حول مقياس هذا الإدماج، وماهي الشروط التي يصبح داخلها ضروريا ومراقبا، ممنوعا وهامشيا؟
         3- إن تاريخ الأنظمة الدالة يشهد على بروز ظواهر تكون قابلة لأن تدمج داخل الأنظمة الدالة أو تبعد عنها، والتي تدل على إجراء فعل التدليل. تذكر جوليا كريستيفا ببعض هذه النماذج كالكرنفال أو لشعر، التي تعين حدود هذا الخطاب المقيد اجتماعيا، وكبته. إذن في أية فترة تاريخية يتطلب التبادل الاجتماعي تمظهرا لإجراء فعل التدليل؟ وما هي الشروط التي تساهم بها النزعة الباطنية في نقل حدود الممارسة الدالة  لكي تتلاءم مع هذا الانتقال، بل مع الثورة الاجتماعية -الاقتصادية، وبأية شروط تبقى تشجيعا مهذبا لنظام يستغلها ليتوسع ويستمر؟
       تحيلنا هذه المجموعة من التساؤلات المطروحة، على ذلك الخطاب الذي يشكل ممارسة تجمع بين العلاقات اللاواعية والذاتية والاجتماعية البانية والمدمرة التي تعيد البناء، يعني في حالة من العنف الإيجابي. إن هذا الموضوع – الممارسة، بل هذا العنف الإيجابي هو الأد ب، وتخصصه جوليا كريستيفا أكثر فتقول:"النص Le texte "  ؛ بطرحها لهذا المصطلح المركزي فهي تحدد مجال اشتغالها وتبعدنا عن الخطاب وعن الفن. وهكذا يمكن أن نقارن هذا الاشتغال الدلالي بالثورة السياسية.
      إذن هذه الأسئلة التي تطرح،  تقصد الأفق السياسي الذي هي غير منفصلة عنه رغم وجود اتجاهات معارضة. هذا الإجراء المتنافر الذي يمارس على النصوص هو ماتسميه الكاتبة " فعل التدليل". إنه ممارسة للبنينة وللهدم ولتجاوز حده الذاتي والاجتماعي، حيث تشير أن القوى البيولوجية تكون مسيرة اجتماعيا ومنظمة بحيث تنتج  فائضا بالنسبة للأجهزة الاجتماعية من جهة. كذلك قد أصبح هذا الاشتغال الغريزي ممارسة بالتقائه بسنن التواصل اللساني والاجتماعي، وبهذا اللقاء التواصلي يصبح متعة وثورة.
       هكذا تقدم جوليا كريستيفا لكتابها، محاولة رسم الخطوط العريضة لهذا الطرح الذي يتوافق مع الممارسة النصية الراهنة ومع السيميائيات في تصوراتها المعاصرة، في محاولة منها للإمساك عبر اللسان بما هو غريب عن عاداته.
       إنها تهدف إلى الاندماج في بناء نظرية معرفية مادية، ولتحقيقها تستعين باتجاهات رياضية ومنطقية ولسانية ونفسانية وماركسية وغيرها التي نترك المجال للبحث للكشف عنها.
        تخصص جوليا كريستيفا الفصل الأول من هذا الكتاب، لتحديد أشكال هذه الممارسة داخل النص. وهكذا تميز بين ماتسميه "السيميائيLe Semiotique" والرمزيLe symbolique" وفي نقطة أولى. و تميز "السلبية" في نقطة ثانية ، وتعرف بـ"المتنافر" في نقطة ثالثة. وتنهيه بنقطة رابعة تعنونها بـ"الممارسة" .
        في هذا الفصل تحاول الناقدة أن تعرف بمجموعة من المصطلحات المركزية كالنص والممارسة الدالة والتناص والنص الظاهر والنص المولد وفعل التدليل ، وتبين كيف يتماسك هذا النسيج النصي لتشكل فلسفة للمعنى وللنص إن جاز هذا التعبير. ومن جانب آخر تصرح باستفادتها من اتجاهات لسانية وفلسفية ومنطقية لأجل خلق انسجام  بين عناصر النص وللإحاطة بجميع العناصر التي من الممكن أن تساعد على  الكشف على ا لمعنى داخل النص.
      في إطار تمييزها بين السيميائي والرمزي ، تعمل جوليا كريستيفا على تحديد إجراء " فعل التدليل"La signifiance ، لأنهما لاينفصلان داخله. وتساهم هذه الثنائية اللامنفصلة في تشكيل اللغة كممارسة، مع انعدام مصطلح جدلي كفعل التدليل باعتباره إجراء للذات  يمنع تمفصل الاشتغال التركيب- دلالي للغة، وبالتالي تفعيل الممارسة الدلالية. فاللغة تمتلك بنيات عميقة تحكمها مجموعة من العلاقات المنطقية التحويلية التي تساهم في تمفصل مقولات دلالية ومنطقية وبين - تواصلية، تنتج المعنى من جهة ومقولات لسانية داخل تاريخ اللسان من جهة أخرى . وهذا الفعل التحريكي الذي يشغله هذا الإجراء التدليلي يجعل” اللسانيات تنفتح على مقولات منطقية وعبرها تفتح بابا لطالما ظنت أنها تنفلت منه وهو مجال الفلسفة” ([6]).
      تؤكد جوليا كريستيفا، على أن الأبحاث اللسانية الحديثة بعملها على توضيح الاشتغال الدال انطلاقا من ذات التلفظ التي تخلق بنية عميقة داخل الممارسة الدلالية، وهي الذات الفينومينولوجية ، تساهم في هذا الانفتاح الدلالي وتقدم لنا الدلالة كإنتاج إيديولوجي. وهذا يطرح السؤال حول الخارج - لساني في اللغة، أو عن "الخارجية" في اللغة، التي تكون دائما جدلية. ويدل ذلك على أن جوليا كريستيفا تريد أن تخلق نوعا من الديناميكية داخل الشكلية اللغوية، تكون مرتبطة بخارجية ذات نظام نفسي- بدني ، من الممكن أن يتشكل من مادة أو جسد مقسم، حسب علاقات "الأنا" بأقطاب المثلث العائلي. وتستعير الكاتبة مصطلحا من الفلسفة الأفلاطونية لتستعين به على تحقيق هذا التحريك أو التفعيل داخل إجراء فعل التدليل، وهو" الحمولة التوليدية"La chora. « إن الأمر يتعلق بما يشير إليه التحليل النفسي كمسلمة بالانفعال العصبي والتنظيم المبنين للنزوات وكذلك السيرورات المسمات أولية، التي تنقل وتكثف القوى وتسجيلاتها» ([7]). إن جسد من سيمثل فيما بعد الذات سيمثل - ذات التلفظ يخضع لمجموعة من الإرغامات الذاتية والخارجية داخل البنية العائلية من جهة وداخل البنية الاجتماعية من جهة أخرى.
        « هكذا تمفصل النزوات كشحنات "فاعلة" وفي نفس الوقت كسمات "نفسية" ما نسميه الحمولة التوليدية:إنها كلية لاتعبيرية مكونة من هذه الغرائز، وتوقفاتها في قدرة على التحريك منظمة مثلما هي مقلقة» ([8]). وهذه القدرة الفاعلة التي تسعى جوليا كريستيفا إلى ترسيخها داخل الخطاب ، داخل النص ستستعير لها تنظيما جديدا. وتصرح بذلك حين تقول:” يجب علينا أن نعيد إعطاء قدرة التحريك هذه أنظمتها الحركية والصوتية (…) على سجل الجسد المشترك، لأجل أن نخرجها من الأنطولوجيا ومن عدم التشكل الذي يسجنها فيها أفلاطون، بإخفاءه على مايبدو في إيقاع ديمقريطس”([9]). وهذه الحمولة التوليدية تمركزها داخل الجسد المسمطق، الذي يمثل الأنطولوجيا الجنسية الطفولية، يعني أنه مصب لكل ما هو مرغوب فيه من قبل الطفل خاصة القضيب الأبوي. وهذا يعني أنها سوف تشتغل عبر جسد الأم-المرأة ومعها وطبعا داخل إجراء فعل التدليل. إذن هذه الحمولة التوليدية تتخذ مكان الذات، يعني الذات كإجراء، وهي ليست دالا لكنها تساهم في تكوين الدال. كذلك تساعد نظرية التحليل النفسي خاصة عند فرويد ولا كان في توضيح هذا الفضاء التوليدي ، المنظم لإجراء فعل التدليل، كما أنها تشكل شبكة من الغرائز التي من الممكن أن نقرأها عبر الأسس الغريزية للفونيمات.” إن الوظائف التي تنظم الحمولة التوليدية السيميائية يمكنها أن تجد إضاءة توليدية صحيحة، فقط داخل نظرية للذات، التي لاتختزلها في ذات للإدراك، لكنها تفتح من خلالها مشهدا آخر من الوظائف القبل - رمزية. إن النظرية الكلاينية(نسبة إلى ميلاني كلاين)التي طورت موافق فرويد حول الغريزة ستقودنا لوقت وجيز داخل هذا المسار… إن  الأمر يتعلق بالوظائف السيميائية القبل - أوديبية لتفريغات القوة التي تربط وتوجه الجسد في علاقته مع أمه”([10]). إذن هذا الاشتغال الذي تسعى جوليا كريستيفا إلى إقامته سيكون متميزا عن الاشتغال الرمزي الذي يقوم على اللغة باعتبارها نظاما من العلامات، فهو ينظم هذا الفضاء السيميائي من خلال عمليات مادية تقف وراء اشتغال الخطاب.
      تلعب السيرورات الأولية، يعني سيرورة النقل والتكثيف، دورا أساسيا في تنظيم السيميائي، ومن الضروري أن نضيف لها العلاقات التي تربط  بين المواضيع والذوات، كما تلاحظ أن العلاقات المتداخلة بين ماهو نفسي وما هو بدني  تكون قادرة على أن توضح السيميائي باعتباره« يكون صيغة سابقة زمنيا على العلامة وعرضية على التركيب وعلى الدلالة، إنها تقوم على الانفعالات وسماتها ، وتمثل تمفصلا مؤقتا وإيقاعا لاتعبيريا([11])».              
      لن تتحقق هذه السيرورات والعلاقات، إلا بفضل منطق الحلم كما طرحته النظرية الفرويدية، داخل بعض الممارسات الدالة كالنص، وهي ضرورية لاكتساب اللغة. وتصل جوليا كريستيفا إلى فرضية مفادها أن بعض النتائج الصادرة عن هذه العلاقات تشكل فرضية سيميائية تشكل الأسس الفطرية للوظيفة الرمزية التي يساهم في تكوينها السنن البيولوجي أو الذاكرة. إذن يظهر الرمزي » وبالتالي التركيب وكل مقولاتية اللسانية كنتاج اجتماعي، من علاقة لأخرى، عبر الارغامات الموضوعية المكونة من الاختلافات البيولوجية، وغيرها الجنسية، ومن بين البنيات الاجتماعية المعطاة ماديا وتاريخيا« ([12]).
       من هذا المنظور النفساني ، تميز ج. كريستيفا بين السيميائي والرمزي على غرار التمييز اللاكاني ، الرمزي/ الخيالي، محاولة ربط هذه الممارسة الدالة، التي هي النص، بنظرية الذات كما نفهمها عند لاكان، يعني ذات الرغبة. ومن هنا تعمل  على تأسيس سيميائيات محايثة ومتعالية نفس الوقت، ولهذا تستعين بمناهج أخرى تضمن لها تحقيق هذا الانفتاح على ماهو خارجي. واستدعاء الفينومينولوجيا كان هدفه تمييزالمعنى الهوسيرلي عن السيميائي، لأن المعنى عندهوسرلHusserl يشكل نواة للموضوع القصدي للفكر، وهو موجود مسبقا. وهذا يقود إلى طرح وضع الذات المتعالية. وتلاحظ جوليا كريستيفا أن المقولات المنطقية أوأفعال الفكر والمعنى سنجدها في النحو التوليدي ، كمقولات دلالية أومقولات منطقية تبين العلاقات الترابطية داخل الخطاب. وستتناول من جانب آخر المعنى كما هو عند يالمسليفHjlemslev الذي يرى أن المعنى يتخد أشكالا مختلفة داخل مختلف الألسن، وحيث أن الوظيفة السيميائية، هي التي تحدد المعنى التشاكلي، ويصبح المعنى بتدخلها ممكنا. ويطرح المعنى مع يالمسليف عبر الشكل والمادة، والمحتوى والتعبير، ولهذا فهو معنى لوعي نظري. وهذه الوظائف السيميائية للمحتوى والتعبير تعود بنا إلى الفينومينولوجيا، فهي تتشكل بين معنى مطروح ومفترض وبين تلفظه اللساني.” ففي النطاق الذي تكون فيه السيميولوجية اليامسليفية تواجه اللغة، تلتقي الحقول الدلالية(شكل المحتوى ، مادة المحتوى) التي تسمح بقرابة مع مواضيع الفكر وأفعال الفكر الهوسيرلية، بالتعبير الذي يصبح بالنسبة للنظرية الإرغامة الثانية المكونة للمعنى”([13]).
      إن توظيف هذه المقولات المنطقية واللسانية هو ما سيساعد على وصف - نقدي لساني، ويسمح بإدراك الاشتغال قبل -العلامة الداخلي للغة، و يستقل ليخلق أنظمة جديدة دلالية. وهكذا يتأسس داخل اللغة موضوع جديد. إنه السيميائي، « يظهر لنا أنه من الضروري أن نميز نظام العلامة عن الأنظمة الأخرى الدلالية، وأن لا نعتبر العلامة  اللسانية(أو التفرعات التي يمكن أن نستنتجها: إنه التعبير والمحتوى إلخ)، إلا كمرحلة لإجراء فعل التدليل، المختلفة نوعيا عن الأخرى، أو المنتجة بواسطة موقف ذات للإدراك»([14]).إذن تخصص جوليا.كريستيفا موضوع اللغة وتميزها كنظام تحكمه مجموعة من العلاقات المنطقية واللسانية التي تؤسس المعنى.
      تلاحظ الكاتبة أن اشتغال الكتابة عند جاك دريداJ.Derrida الذي وظفه في نقده للفينومينولوجيا، يشير إلى السيميائي كما تطرحه، كما تلاحظ أيضا أنه من الضروري أن نميز السيميائي، يعني الغرائز وتمفصلاتها عن مجال الدلالة، فهو يشكل مجالا خاصا بالفرضية وبالحكم، يعني مجالا للمفاهيم وللمعنى. وهذا التنسيق الذي تقوم به الفينومينولوجيا يتمظهر كقطيعة داخل إجراء فعل التدليل. ويؤسس شكلا من التطابق بين الذا ت ومواضيعها. وهذه المرحلة تسميها "المرحلة النظرية"La phase téthique. وسيعطي هذا التوظيف مفهوما فلسفيا للعلامة، يطابق مفهوم الفرضية، لأن هذه المرحلة النظرية التي نعينها لإجراء فعل التدليل تشكل بنية عميقة للتلفظ ، للدلالة وللفرضية، » فلا توجد هناك علامة ليست نظرية، وكل علامة هي مسبقا فرضية في توالد، تسند الدال إلى الموضوع عبر "رابطة" التي تستعمل وظيفة المدلول«([15]). وتعود جولياكريستيفا إلى التحليل النفسي دائما حيث تؤكد أن هذه النظرية التحليلية تبدو قادرة على طرح سؤال العلامة وإجراء إنتاجيتها مادامت الدلالة النظرية تشكل« مرحلة إنتاجية داخل بعض الشروط المحددة عند إجراء فعل التدليل ، لأنها تكون الذات دون أن تختزل إلى إجراءها مادامت عتبة للغة؛ وهذا السلوك لن يكون لا اختزالا للذات إلى الذا ت المتعالية أو إنكارا للمرحلة النظرية المؤسسة للدلالة ([16]) ». وتربط  الكاتبة هذه اللحظة النظرية بتاريخ اللاوعي، حيث ستنظم  الدلالة داخل إجراء فعل التدليل في مرحلة المرآة Le stade de miroir  وعند اكتشاف الخصاءLa castration، حيث يرى لاكان أن عدم النضج الفيزيولوجي، هو الذي يحد د كل وضعية ثانية إضافة إلى الصورة الأصلية كمنفصلة. فصورة المرآة تمثل النموذج الأصلي بالنسبة لعالم الأشياء. ويشكل التعلق بالأم تحولا في العلاقة لتصبح علاقة رمزية بالآخر، وهذه القطيعة مع الأم يعني القطيعة دال/ مدلول تساهم في إنتاج الدلالة. وينتج هذا التحول في العلاقة داخل اللغة من داخل الحقل الاجتماعي ومفروض من قبله. إذن المرحلة النظرية هي شرط لتوفر الدلالة. وتتزامن مرحلة المرآة مع فترة التعرف على الذات، لهذا يمكن اعتبار مرحلة تعلم اللغة، بل اكتسابها” كمواجهة حادة درامية بين هذه الوضعية -الانفصال -التطابق وبين قدرة التحرك للحمولة السيميائية. يعمل الانفصال عن جسد الأم ، اللعبFort-Da -  والشرجية   L’analité والشفوية كـ"سلبية"مستمرة  تهدم الصورة الهواميةL’ imago والموضوع المنعزل كليا لتيسر تمفصل الشبكة السيميائية التي ستكون ضرورية فيما بعد داخل نظام اللغة حيث تكون تقريبا مدمجة بما أنها دال» ([17]). ويأتي الخصاء ليمحو هذا الانفصال عن جسد الأم، وتصبح الذات دالة وفي مواجهة مع الآخر. وتصبح الأم مع الصورة المرآوية، يعني الصورة الهوامية في المرآة أي المدلول والإجراء السيميائي أي الدال ، هي الملبية لكل الرغبات والإرضاءات المتخيلة ، فهي  تمثل القضيب. وهكذا تصبح الوظيفة القضيبية وظيفة رمزية، فتعرف الذات وانفصالها وتماثلها داخل الرمزي ، بنقل القدرة المحركة للسيميائي داخل الرمزي، وبهذا “ ينتهي تشكل هذه المرحلة النظرية التي تطرح التوسع بين الدال والمدلول كانفتاح اتجاه كل رغبة ، ولكن اتجاه كل فعل، وكذلك حتى على اللذة التي تتجاوزها([18])”. يولي هذا المسار المرآوي اهتماما للدال ويسمح  بإدخال القطيعة الدال/ المدلول ويسمح لها بإنتاج الدلالة. وهذا يقودنا إلى القول إن القطيعة دال/ مدلول تستنتج من الحقل الاجتماعي.» إن الأمر يتعلق بالتعلق بالأم ،المنقطع لأجل أن يحول إلى علاقة رمزية بالآخر؛ وتشكل الآخر يكون ضروريا لأجل التواصل مع الآخر، بحيث أن القطيعة دال/ مدلول؛ تصبح مرادفة للتصديق الاجتماعي: إنها الرقابة الأولى ذات الطابع الاجتماعي([19])«. هكذا تشتغل هذه المرحلة كشرط لإنتاج الدلالة، فهي تبين لنا بوضوح كيف يتشكل الرمزي كجزء من السيميائي و كيف يشكل دال/ مدلول انقسامهما، وكيف أن توظيف السيميائي داخل فرضية اللغة وعبر الصورة المرآوية ينتج جهازا جديدا، يمكن أن يميز النص كممارسة دالة.
      إذن كيف يتمفصل السيميائي والرمزي داخل إجراء فعل التدليل؟ كيف تتحدد الدلالة انطلاقا من وضعية الدال؟ كيف يتحقق هذا التوزيع السيميائي داخل اللغة الشعرية؟ هذا ما تحاول الإجابة عنه الكاتبة بدخول عوالم اجتماعية وفلسفية وسياسية تشكل أساسا لتحقيق هذه اللحظة النظرية. وهذا يدل على أن الاشتغال السيميائي هنا، يجب أن ندركه كممارسة دالة، يعني وصفا سيميائيا يتموقع من خلال علاقته بالذات وبالتلفظ ومع الحقيقة الموجودة ومع الايديولوجيا. بتعبير أوضح، لا ينتج هذا الاشتغال السيميائي، لأجل متطلبات نظرية، بل إنه وضع مسبقا ليعيد بناء اللحظة النظرية بتصريح بيولوجي من الغرائز، ويكون دائما اجتماعيا وتاريخيا.
      إذا سلمنا مع الكاتبة، أن هذه الممارسة تشكل حقلا للتحويل لمختلف الأنظمة الدالة ، فهذا يعني أن موقعها وموضوعها لا يمكن أن نجدهما وحيدين، لكنهما دائما متفجران وينتجان تعددا للمعاني ونعرف أن عمليتا النقل والتكثيف التي يشير إليهما فرويد كأساسيتين في بناء الحلم داخل اللاوعي، تضيف لهما  نسقا آخر، وهو التجاوز من نسق من العلامات إلى آخر، وتتحقق العمليتان داخله باقترانهما وينتج تحول لوضعية النظري  وبتشكيل نسق جديد. هذا النسق الدال ينتج داخل نفس المادة الدالة. إن مصطلح التناص يشير إلى هذا التحويل من نسق للعلامات إلى آخر. وهكذا تميز الكاتبة مصطلحها، على أنه عملية تحويل منتجة. وتوضح أكثر فتتحدث عما يسميه فرويد " قابلية التصوير"، وهذه العملية تتمثل في أن أفكار الحلم تتعرض لعملية انتقاء وتحويل تمكننا من أن نمثل بالصور البصرية. وهذه الفاعلية تختلف عن عملية النقل، وهي تتحقق بما يسميه فرويد "الإزاحة". وتشكل تمفصلا نوعيا لأجل خلق نسق جديد. ويتمثل هذا التحويل  في المحاكاة الشعرية. تميز الكاتبة بين ماتسميه النص الظاهر والنص المولد داخل هذه الممارسة السيميائية، وهي ترى أن كل كتابة تتوالد وفق هذا التقسيم ، مع وجود بعض العقبات الاجتماعية والاقتصادية التي تعمل على توقيف اشتغال فعل التدليل. فالنص الظاهر« هو بنية﴿يمكن أن نولدها بمفهوم النحو التوليدي)  تخضع لقوانين التواصل، وتفترض ذات للتلفظ ومرسلا إليه([20])». أما النص المولد فيقتضي استخلاصه من نص ما، من ذلك التراكم، والتكرارات للفونيمات وداخل الجهاز الصوتي والنبر والإيقاع، كذلك الأمر داخل تنظيم حقول الفعل الدلالية والمقولاتية. وهذا يعني أن نستنتج تنقل الطاقة الغريزية المكتشفة داخل الجهاز الصواتي.« إذن سيكون النص المولد النقل الوحيد للطاقات الغريزية المنظمة للفضاء حيث لا تكون الذات وحدة منغلقة، ستتوقف لتوقع الرمزي، بل حيث تتوالد مثلما هي كإجراء للانفعال وللسمات تحت إرغامة البنية البيولوجية الاجتماعية([21])».
       تتحقق داخل نمط للإنتاج الرأسمالي، هذه الممارسة وهذه اللانهائية لفعل التدليل. إذا كان جاك لاكان قد ميز بين أربعة أنواع من الخطاب التي تتوزع مجتمعنا: خطابات الهيستيري والجامعي ، والمحاضر والمحلل، ستطرح جوليا كريستيفا على غرار هذا التمييز، تمييزا يتقاطع مع بعض جوانب هذا التقسيم اللاكاني. وهكذا نميز بين الممارسات الدالة التالية: السرد، واللغة الواصفة، والتأمل والنص - الممارسة.
      يتمفصل السرد  في شكل ثنائيات غريزية، يعني أنه يتشكل كبنية ثنائية، وداخل هذا النسق يمكن أن ندخل الرواية والأسطورة والملحمة والمسرح. في حين نجد أن« يمكن أن اللغة الواصفة، تجمع إجراء فعل التدليل، بإفراغه من الحمولة السلبية، بإخضاعها السلبية لإيجابية وباختزالها الثنائية الغريزية إلى الوضعية([22])». ويقتصر التأمل على خطاب دال يمكن أن نجده في أجناس مثل الدين والفلسفة، فهو يعمل على إعادة بناءها بالاستعانة بالتحليل، ويعمل على التشابه الصوتي وعلى أساليب قديمة مستعارة من ممارسات نصية قديمة. أما النص« فهو يختلف جذريا  عما نسميه التقليد التأملي: إن الثنايئة الغريزية تتكون من مصطلحين اثنين متعارضين، واللذين يبرزان بالتناوب، داخل إيقاع بدون انغلاق([23])». تجتاز الغرائز الجسد مثلما تجتاز التشكيل الطبيعي الاجتماعي السائد. إذن النص حسب جوليا كريستيفا يدخلنا في دائرة من الغرائز تتجاوز كل فرضية قابلة لأن تعطي معنى. وتوظف السلبية هنا لتوجه واقعا معطى لتوجهه صوب الآخر، ولتخلق فيه نوعا من الدينامية التي تجعله في حركة مستمرة مع وجوب وجود نسق اجتماعي متحرك. ويصبح الجسد الإنساني داخل هذا التوزيع السيميائي إجراء وكلية اجتماعية. وهذا يعني أن النص سيكون  منتجا مما هو دال ومما هو اجتماعي، وستشتغل الذات هي الأخرى كإجراء وتكشف عن تلك الغرائز التي تجوب الجسد وتكشفها. وهذا يتم طبعا تحت النظام الاجتماعي.
     يبدو لنا أننا حاولنا أن نطرح هذه الفرضية في هذا الفصل، وقد نكون قد أغفلنا بعض ما جاء فيه لأنه في رأينا لا يكمن الإحاطة بكل  شيء نظرا لفكر جوليا كريستيفا الشاسع .
     أما الفصل الثاني فمنذ البداية تصرح جوليا كريستيفا أنها سوف تعمل على أربعة مستويات للتحليل ستوزعها على نموذجين من الشعراء الطليعة الفرنسيين وهما ستيفان مالارمي وإيزيدور. دوكاس لوتريامون، تشكل الجهاز السيميائي للنص . تنتظم  كالتالي : المستوى الشكل - صواتي والمستوى التركيبي، والمستوى التحويلي والمستوى السياقي. وهذا الاشتغال للجهاز السيميائي ستمارسه على أعمال الشاعرين. وستحلل أشعار مالارمي على المستووين الأولين، في حين تحلل أشعار لوتريامون على المستووين التاليين. وهذا لاشتغال الدلالي يتحدد على مستوى بنية اللغة الشعرية وخصوصيتها، الإيقاعية  والتركيبية والتحويلية عند جوليا كريستيفا.
      يمكن أن نقسم الفصل الثالث إلى ثلاثة مراحل نظرية تحاول جوليا كريستيفا عبرها إعادة تنظيم النص داخل إطاره الاجتماعي والتاريخي والسياسي والثقاقي والإيديولوجي . وهذه المراحل هي على التوالي:
                       1- المرحلة الاجتماعية- السياسية
                       2- المرحلة الفكرية الايديولوجية
                       3- المرحلة الأسطورية المتخيلة
       في المرحلة الأولى يتم تحديد الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية التي ميزت الفترة التي أثرت على الشاعرين والتي شكلت دافعا وكونا ثقافيا قادرا على إمداد النص بأبعاد متعددة ومكثفة. ونجد أن الأحداث السياسية والتاريخية التي عرفتها أوروبا وخصوصا فرنسا كانت غنية بحيث ساهمت كثيرا في بناء الفكر الغربي خلال القرن التاسع عشر. وتشكل المرحلة الفكرية الإيديولوجية رافدا هاما لبناء فكر الشاعر. وتبدو على مستوى امتلاكه القدرة على صياغة رؤية فكرية حول المجتمع وحول التيارات السائدة في الفترة التي عاصرها. وفي المرحلة الأسطورية المتخيلة، تذهب الكاتبة، إلى تفكيك بعض الأساطير وخصوصا المرتبطة بالدين وبالإيديولوجية لإعادة صياغتها وإضفاء الطابع الأسطوري على الواقع. وهكذا يمنح هذا البعد الأسطوري المتخيل المجال لتحليل وتركيب التاريخ والإيديولوجيا في علاقتهما بالواقع. وهذه المراحل لا يمكن التعرف عليها إلا من داخل النص. ويجب أن لا ننسى جانب التفاعل النفسي الذي تدرسه، و يحرك الشاعر ويجعله يشكل المكونات الدلالية التركيبية والإيقاعية داخل النص. وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذا الفصل الأخير يبرز هكذا مجال اشتغال التناص عند الكاتبة حيث نصادف خطابات متعددة منها الخطاب الإيديولوجي والخطاب الاجتماعي والخطاب التاريخي والخطاب الديني والخطاب الثقافي والخطاب الشعري. هذه الخطابات تشكل نسق الدلالي وبنينته.
      تخلص الكاتبة بعد هذه الفصول الثلاثة إلى خاتمة،"إدراك متفجر" كما أسمتها، حيث تشرح فيها كيف أنها حاولت أن تعطي وصفا سيميائيا للغة الشعرية قصد تحديد خاصياتها داخل النصوص في نهاية القرن التاسع عشر. وكيف كشفت على ما يسميه فرويد غريزة الموت، التي تكون في أساس الفاعلية الدالة، تحركها كقوة داخل اللغة لأجل كل ممارسة سيميائية. وهكذا ينفرد النص بوضعية إنتاج المتعة بإدخال هذا التوظيف الغريزي داخل الإدراك. ويصبح اللغة الوحيدة القابلة للتدليل عليها، بإعادة الإنتاج. ويبقى أن هذا النص  يشكل خطابا يشتغل بالانفعالات الغريزية داخل المحفل الرمزي-اللساني، بإدماجه داخل الجهاز الاجتماعي.
      ومن وجهة نظر جوليا كريستيفيا، لقد كان للتحول الذي عرفته نهاية القرن  التاسع عشر، وعلى الخصوص داخل النسق الاجتماعي الرأسمالي الذي يعرف توسعا نقديا هائلا، أثره على اللغة الشعرية سمح بإيجاد هذا التغيير السيميائي كذلك وجعلها تخرق ذلك الثابث في العروض وفي التركيب وفي معانيها ومنحها فرصة الانفتاح والإنتاج والتوليد المتجدد.
        إن الأطروحة النظرية التي يقوم عليها فكر جوليا كريستيفا تظهر بشكل جلي في كتابها"ثورة اللغة الشعرية"، فهي تطرح ضمنه نظرية جديدة لسيرورة إنتاج المعنى داخل اللغة عبر ثنائية السيميائي والرمزي. إن الأمر يتعلق بخلق نموذج حيث لا يكون المعنى دائما معطى، بل هو تلك الدينامية التي هي "فعل التدليل". وهذا يعني أن ندرك النص كجهاز لتاريخ اللسان والممارسات الدالة التي نكون قادرين على معرفتها، أو كمجموعة من المشاهد الرمزية التي تحيلنا رمزيتها إلى إنتاج الدلالة التي تتمظهر على سطح النص. وهذا يعني أننا سنشتغل على المستوى الأعمق للغة.
      يمكن أن نعتبر كتاب "ثورة اللغة الشعرية" الأساس الذي انطلقت منه الكاتبة لطرح التحليل السيميائي، وهي ما تزال تصرح بذلك برغم كتباتها المتعددة والوازنة في مجال السيميائيات والرواية، وأنه من أهم المصادر التي يمكن أن نقف عندها في مجال التنظير السيميائي.
 
 
 
 
 
 
 


 
[1] ـ      Julia Kristeva Polylogue Editions du seuil. 1977, p 519                        
[2] - المرجع السابق . نفس الصفحة.
    Julia Kristeva, Recherche pour une Semanalyse Editions de Seuil,1969, p17   .[3] ـ     
[4] - نفسه. ص. 21
[5] ـ حوار مع جوليا كريستيفا نشر في العلم الثقافي السبي 26 ماي 2001، وهذا النص مأخوذ عن مجلة:
عدد 356 يوليوز غشت 1977 ص140 والحوار من إنجاز الصحفي فاليري كولا مارد والترجمة العربية لمحمد الشنكيطيMagazine litteraire  
[6] Julia Kristeva. La  révolution de langage poétique Edition de Seuil, 1974, p20.  
[7] ـ نفسه ص 18
[8] ـ نفسه ص23
[9] ـ المرجع السابق. نفس الصفحة.
[10] ـ نفسه ص 24
[11] ـ       14 . Polylogue.p. Julia Kristeva   
[12] ـ  Julia Kristeva.La  révolution de language poétique.p29      .
[13] ـ  نفسه ص. 38
[14] ـ  نفسه ص. 39
[15] ـ نفسه ص. 43
[16] - المرجع السابق.  نفس الصفحة
[17] ـ نفسه ص. 44
- نفسه ص.45[18]
[19] ـ نفسه ص. 46
[20] ـ نفسه ص.84
[21] ـ نفسه ص 83
[22] ـ نفسه ص 89.
[23] ـ المرجع السابق. نفس الصفحة

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟