الاقتراب من الجسد ابتعاد من الجنة : قراءة في قصة :" المؤخرة " لغادة الصنهاجي ـ د. المصطفى سلام

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse1234     شكلت القصة القصيرة جدا في الآونة الأخيرة زخما إبداعيا مهما ، مغريا بالكتابة من جهة و بالقراءة من جهة ثانية ، لكن ليست كل النصوص تغري بالقراءة أو بالإبداع ؛ و هذا ديدن الأنواع الفنية مثل الشعر و الرواية و المسرح ، إذ هناك نصوص شعرية و روائية تقتل القارئ مللا و سأما  ...لكن، هناك نصوص تشدك إليها شدا و تغريك إغراء، فتقرأ و تعاود القراءة. و هذا لم يكن من نصيب جميع كتاب القصة القصيرة جدا و لا من نصيب جميع النصوص القصصية، و من بين تلك التي شكلت متنا لمقاربة نقدية ستنشر لاحقا، نص: "المؤخرة "، فماذا يحمل من معاني و دلالات ؟    
في المتن : 
    " تبعها الجميع بمن فيهم ذاك الذي يدعي الورع ، ركزوا جيدا حتى لا تزيغ أعينهم عن تفاصيل الرقصة ، انتهى عرضها و ضاع عرضهم . "  
من العنوان إلى النص : 
 
     يشكل العنوان عتبة من عتبات الولوج إلى عوالم النص الدلالية . إنه يشبه الثريا التي تضيء عتمات النص و تنير دهاليزه ، كما أنه يمثل الطعم الذي يغري القارئ بركوب مغامرة القراءة ، و قد جاء عنوان النص اسما معرفا يحمل دلالات :                                                                              
 

مؤخرة مؤنث مؤخر ، و الآخر من أسماء الله تعالى فهو المقدم و المؤخر ، أي الذي يؤخر الأشياء أو الأمور فيضعها في موضعها ، و ما يستحق التقديم يقدم و ما يستحق التأخير يؤخر . و مؤخر كل شيء خلاف مقدمه. كما أن من دلالات هذا اللفظ : العجيزة ، حيث أعجاز الأمور أواخرها ، و عَجُز الشيء آخره .و عجيزة المرأة عجزها أي مؤخرتها . و عجزت المرأة عجزا عظمت مؤخرتها .قال الشاعر : هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً تَمَّتْ   /////   فليس يُرَى في خَلْقِها أَوَدُ . 
 والعِجازَة والإِعْجازَة: ما تُعَظِّم به المرأة عجيزتها وهي شيء شبيه بالوسادة تشده المرأَة على عَجُزِها لِتُحْسَبَ أَنها عَجْزاءُ. و قد جاء العنوان محفوفا بلفيف من المدلولات ، حيث يمكن للقارئ أن يملأ  فراغاته بما عن له من معاني ، و يؤول مضمراته ، فقد تكون المؤخرة نعتا أو خبرا لمحذوف ، أو كناية عن امرأة ، أو نقيض المقدمة من كل أمر أو شيء .... هذه التأويلات يؤكدها النص أو ينفيها ، و هذا ما يؤكد العالقة الوطيدة بين النص و العنوان .

من البناء السردي إلى التأويل الدلالي :

      للنص القصصي القصير خصوصيته في الإخراج السردي ، حيث يبنى وفق حبكة سردية خاصة ، أهمها الاختزال و الاقتصار على حدث مركزي يكون مدار السرد في النص ، هذا الحدث يشكل مشهدا أو عالم الحكاية ككل ، و بالعودة إلى النص موضوع التحليل ، نلاحظ أنه يتمحور حول حدث متابعة راقصة في رقصتها و التركيز على جسدها في احتفاليته الفنية ، لكن المفارقة ليس في من يرقص و لا كيف يرقص ؟ و لكن في من يتابع الرقصة ، و من أي خلفية معرفية و ثقافية تمت المتابعة ؟ فهناك من يرفض الرقص و يعتبره خروجا عن الفضيلة و مروقا من الدين و إتباعا للهوى .... و هناك من يتابع الرقصة بخلفية ثقافية ترى في الرقص فنا من الفنون الإنسانية التي تحمل رسالة ما، و هي احتفاء بالجسد و قيمته و فلسفته. إنه مظهر من مظاهر الجمالية للجسد . و النص يسلط الضوء على المتابع و ليس على الراقصة. إن الرقص كفن من الفنون مثله مثل المسرح أو الرسم أو الغناء.... لكن له خصوصياته الفنية و الجمالية . و تختلف المواقف من الفن باختلاف المرجعية الثقافية و الفكرية  لا سيما الاعتقادية ، خاصة المرجعية الدينية التي كثيرا ما تضع حدودا و ضوابط للفن ، و تحصره بغايات و أهداف ..... في النص متابع خاص للرقصة ، إنه من يدعي الورع ، أي المتدين بصفة مبالغ فيها ، حيث من كانت ثقافته دينية تقوم على ادعاء الورع و التقوى ، و بالتالي الابتعاد عن الرقص و فضاءات و تبعاته  من انفعالات خاصة  ، يجب عليه أن لا يتابع رقصة راقصة في مرقص أو حفل ، لأن ذلك يتناقض مع دعواه أو زعمه .

مدارات النص الدلالية :                                  
يتمفصل النص من حيث البنية الدلالية إلى أربعة تمفصلات :                                           
الورع تدبير مقدس للجسد :                                                                              
       يمثل المقدس في بعده الديني تدبيرا للجسد ، أي سياسة مجموعة من الإجراءات و التدابير التي من شأنها التحكم في الجسد الإنساني ، فهناك المباح منه و غير المباح ، هناك العورة منه و ما ليس بعورة ، ما يرى منه و ما لا يرى . و لعل الجسد الذي كثرت الإجراءات التنظيمية لوجوده هو جسد المرأة في الثقافة الإسلامية . و يتضح ذلك من خلال ضبط حركاته و سكناته ، مظهره الخارجي و شكله الهندسي ، ما يحجب منه و ما لا يحجب .... و لذلك مبررات مستقاة من تأويل لآيات و أحاديث و تفسيرات لفقهاء...و يتجلى هذا التدبير كثيرا في مواقف الفقهاء الدينية من عمل المرأة و شروطهم لذلك، و كيفية ظهور المرأة في الخارج، و طريقة مشيتها و زينتها و تلفظها.... و يبرز أكثر ذلك التدبير في الممارسة الفنية ، حيث الغناء و الرقص و الموسيقى فنون خاضعة لإجراءات و ضوابط  عندما يتعلق الأمر بالمرأة . و النص يتناول كيف أن المتابعين للراقصة متنوعي المشارب، منهم من لا يرفض الرقص، و منهم من يدعي الورع، دون أن يحدد أين تم ذلك، قد يكون في مسرح أو مرقص، أو على شاشة، لكن أن يتابع رافض للرقص و مصنف له  ضمن علامات الجاهلية و طرائق الشيطان ، ومبعد عن طريق الهدى و الإيمان ، ذلك هو مكمن المفارقة التي تتجلى في سحر الرقصة و هشاشة التقوى و ضعف التدين ...أمام قوة الغريزة و فورة الرغبة و فتنة الجسد الأنثوي .
الرقص تدبير دنيوي للجسد :                                                                                
    للرقص أصول أنتربولوجية و دينية و أسطورية ، قبل أن يصبح فنا من الفنون ، إنه مظهر احتفالي ، قد يكون فرديا أو جماعيا ، يقترن بطقوس دنيوية أو دينية ، يحمل معاني قدسية أو أسطورية . عبارة عن حركات و تمايلات  بين ارتفاع و انخفاض . للرقص مدارس و اتجاهات ، كما له أنصار و معارضون ، و من أشهر معارضيه المحافظون ، و من أكثر مؤيديه المتنورون الحداثيون ، يعتبرونه مظهرا من مظاهر الحداثة و التنوير .و في الرقص احتفال بالجسد في مختلف أبعاده ، حيث يظهر طاقاته و جمالية حركاته ، انسجاما مع الموسيقى أو تناغما مع الغناء و الشدو . كما أن مبعث للغرائز من مرقدها، و مخرج للرغبات من مدفنها.لكن ليس غريبا أن ينشد من يدعي الورع لفتنة الجسد الراقص، و خاصة لفتنة بعض مواطنه مثل الخاصرة أو الوسط أو اليدين أو المؤخرة... و قد ركز النص على فتنة مؤخرة الراقصة لمن يدعي الورع و يزعم التقوى . و السبب في ذلك أن الورع لا يلغي الاستجابة لفتنة الجسد ، بل يعطلها أو يكبتها فقط ، و بالتالي لا يلغي الخاصية الإنسانية التي تتفاعل مع كل ما يغري أو يفتن . و من يتابع الرقص و يستمتع بما فيه من متعة و جمالية يستجيب لبعده الإنساني و لا يلغيه أو يعطله بدعوى الفتنة و الغواية .
الرغبة بين العَرْض و العِرْض :                                                                              
    بين العَرض والعِرض تنافر دلالي ، فالعَرض خلاف الطول ، و هو الظهور و التقديم و الحضور ، كما  أنه يفيد معاني أخرى ما يعرض للإنسان من هموم و أشغال . و إذا انتقلنا إلى العِرْض فهو الحسب و النفس ، نقول عرض الرجل حسبه و نسبه ، و خليقته المحمودة ، أي ما يمدح به أو يذم .أي جانبه الذي يحب أن يصونه و يحامي أو يدافع  عنه أن ينتقص أو يثلب . و له دلالات أخرى مثل البدن و الرائحة، أي كل موضع يُعْرق من الجسد فهو عِرض. و بالعودة إلى النص نلاحظ أن نواته السردية تأسست على التنافر بين العرض و العرض من جهة، و على الترادف بين العرض و البدن من جهة ثانية. كيف ذلك ؟ الرقص عرض للجسد ، و إظهار لحركاته و سكناته ، لانخفاضه و ارتفاعه ، لدورانه و خببه ، لليونته و حيويته ، لما يخرج منه من عرق و رائحة . الشيء الذي يجعل المتابعة و الانشداد إليه أكثر تركيزا و انتباها . و نظرا لخصوصيته، و لطبيعة الرسائل التي يبعث بها، تنبعث الرغبة في التفاعل مع هذا الجسد أو امتلاكه. و من بين أكثر الرغبات انبعاثا الرغبة الجنسية. و هذا أمر طبيعي، ليس خروجا عن الفطرة أو السجية ، بل هو انفعال طبيعي. و غير الطبيعي هو شكل الاستجابة و صيغة تحقيق الرغبة . إن الرغبة تتحرك من خلال مؤثرات كثيرة أهما الحواس و الخيال و استعادة خبرات إنسانية في نفس السياق عبر الذاكرة. في القصة موضوع التحليل ، الرقصة عرض لوضعيات جسدية ، تثير رغبات كمينة ، تتطلب الاستجابة وفق المخطط التالي :
1 – إثارة
2 – توثر
3 – استجابة
4 – ارتواء أو إشباع ....
   بهذا الترتيب، كان العرض أو الرقصة و كان ميلاد الرغبة . أما الاستجابة فحال بينها في الظاهر الورع كمانع أو معيق ، و ساعدها الخيال و الذاكرة أو خبرة المتابعين للرقصة في الاستجابة لمثل هذه الرغبات المنبعثة .
المؤخرة نقطة التماس بين المباح و المحرم :                                                              
   من خلال النظر في بنية الإخراج السردي للنص : العَرض و انبعاث الرغبة ( المتابعة مع التركيز كي لا تزيغ العين ) و المآل أو المصير ، نستنتج أن المؤخرة ، العنصر الاحتفالي في المشهد ، و نقطة الثقل في الرقصة ، تمثل نقطة التماس بين المباح و المحرم ، بين المسموح به و المكروه . إن المؤخرة في الرقصة هي موطن انبعاث الرغبات المكبوتة ، من خلال حركتها و شكلها و ليونتها ، تأسر عين المشاهد أو المتابع . و في هذه اللحظة من الانشداد و الانبهار يسرح الخيال و تنشط الذاكرة في استرجاع خبرات إنسانية تتعلق بأشكال الاستجابة لمثل هذه الرغبات. مثلما تؤثر أعضاء أخرى في الجسد الأنثوي و هو يعرض مفاتنه . 
   إن متابعة الرقصة في هذا النص، ليست جريمة أو جنحة، بل هي نشاط إنساني و تعبير عن التفاعل الإيجابي مع فن من الفنون الإنسانية. لكن الزاوية التي ننظر منها إلى الفن هي التي تحدد: هل متابعة العرض و مشاهدته حرام أم حلال ؟ و نلاحظ أن السارد هنا سلط الضوء على متابع و مشاهد خاص للرقصة، أي على من يدعي الورع. و هنا مكمن المفارقة في النص، حيث الورع هو الكف عن المحارم و التحرج منها و قد استعير الورع للكف عن المباح و الحلال أيضا. و في الثقافة الدينية الإسلامية ، الرقص من الأفعال و الممارسات المحرمة ، فليس مباح النظر إلى جسد الراقصة و الاستمتاع بمفاتنه و غواياته . و من يفعل ذلك فهو قليل الورع ضعيف التقوى . و المتابعة بهذه الصورة تشي عن ضعف الوازع الديني . حيث المفروض في هذه الوضعية أو الحالة عدم المتابعة ، مادام الأمر ليس فيه إكراه أو إجبار ، بمعنى ليس فيه حالة المضطر الذي تباح له بعض المحظورات .  لكن حقيقة الوضع الإنساني تكمن في الاستجابة لطبيعته، أي لرغباته التي تنبعث و تستثار لديه  بصورة طبيعية أيضا دون نفاق أو ادعاء، لأن واقع التدين أو الممارسة الدينية ترفض الازدواجية في الموقف و الرؤية و السلوك. و النص كشف بهذه الصورة عن نموذج إنساني يدعي الورع و قد سقط ضحية فتنة الجسد الأنثوي الراقص ، و بالأحرى نتيجة فتنة المؤخرة التي استهوته و هيمنت على حواسه حد الهوس . و النتيجة انتهى عرض الراقصة و انتهى عِرْض المشاهد المتدين .

 تركيب و خلاصة :
   يكشف النص عن مخزونه الدلالي الثر و الغني ، من خلال لعبة التأويل التي يمارسها القارئ على بنياته و مكوناته أو علاماته النصية و السردية . و النص رغم قصره أو تناهيه في القصر ، يحمل بين طياته معاني و دلالات غنية ، و هذا ديدن عدد من النصوص القصصية التي تفاعلنا معها و اقتربنا من عوالمها الدلالية . طبعا ، لازالت القصة القصيرة جدا تتطلب قراءات  و مقاربات نقدية للكشف عن عوالمها الدلالية و بنياتها الجمالية و آفاق توقعات القراء معها . و ما أنجزناه من قراءة لهذا النص ، ليس تجفيفا له و تفريغا لمخزونه الدلالي ، بل لازال يحبل بأكثر من معنى في انتظار تفاعلات أخرى من قراء آخرين .