فدريكو غارسيا لوركا: شاعر اغتالته الحرب فخلده شعره ـ قراءة في مرثيته لإغناسيو سانشيز ميخياس- ذ.محمد معطلا

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

LORCA ".... كان نابغة وفكها، كونيا وريفيا...
كان خلاصة أعمار إسبانيا وعهودها،
صفوة الازدهار الشعبي: نتاجا عربيا
أندلسيا، ينير ويفوح من أيكة ياسمين على
مسرح إسبانيا: كان كل هذا... يا ويلتي
لقد اختفى ذلك المسرح فأواه، وآه.."
   " بابلو نيرودا "
تــــوطئـــة:
من المسلم به الآن في العديد من الدراسات النقدية اعتبار الأدب (العمل الأدبي) نتاج مجتمع وبيئة وظروف اجتماعية معينة أو نتاج فرد يغير بدوره في الأخير فردا من المجتمع ونسيجه الثقافي والفكري… وما يعتمل فيه من إرهاصات وتطلعات وأحلام ، وأن دور الأدب هو رصد وتصوير هذه التطلعات داخل مجتمع الكاتب.
وبوجه أو آخر لا يمكننا فصل الأدب عن واقعة الاجتماعي وعن كاتبه وظروفه من هنا سنسم أنفسنا استعاريا بالجنود وسنمارس نوعا من التعذيب والاعتقال للنص الأدبي وللمحيط الذي نشأ فيه وظروف إنتاجه وسنستنطقه. ونكرهه إكراها جميلا للكشف عن التجليات الاجتماعية فيه.
وإذا كان أبو تمام عند البعض جلادا يعذب اللغة (وربما هذا ينطبق على كل الأدباء الحقيقيين)، فإنني هنا سأمارس نوعا من العنف الجميل على نص لوركا "مرثية إغناسيو سانشيز ميخياس" من موقعى كقارئ – وربما هذا سيطال أيضا شخصية وظروف حياة لوركا بقدر ما تضيء لي غوامض القصيدة وربطها بالواقع الاجتماعي - إنه بتعبير آخر عنف مبرر ومشروع أقل شيء باعتبار القصد من الدراسة. وهو الوقوف على التجربة الواقعية الاجتماعية التي يعالجها لوركا في هذه القصيدة واستكشاف دلالات وأبعاد النضال فيها.

من هنا ومما سيأتي فورقة البحث (القراءة) هاته ستقارب النص الشعري اللوركوي (المرثية) من خلال أربع نقاط أساسية، تكون أولاها هي التعريف بلوركا وظروف القصيدة، أما ثانيتها فهي الوقوف على المتن الشعري في القصيدة وقراءته واستجلاء أبعاد النضال فيه. لنقف في النقطة الثالثة على بعض مقومات العالم الشعري اللوركوي من خلال المرثية وكيف يتفاعل ليشيد معالم شعرية باذخة كالمرثية. وفي آخر نقاط هذه الورقة سنقف سريعا عند التناص الشعري بين لوركا وبعض شعراء الحداثة العرب. وبعدها نختم الورقة بخلاصات عامة.
أما من حيث المنهج المعتمد في هذه الورقة فالموضوع وعناصره يفرضان أو يستدعيان عدم التقيد بمنهج واحد لذا سكون منهجي ملامح من الاجتماعي والموضوعاتي، والشعري البنيوي.
المحور I: التعريف بلوركا الشاعر وظروف القصيدة:
-    فيديريكو فاميا لوركا: التعريف:    (Federico Garcia. Lorca):
فدريكو غارسيا لوكا (5 يونيو 1898م - 1936) شاعر إسباني معاصر، إضافة إلى ذلك كان رساما وعازف بيانو ومؤلفا موسيقيا، كان أحد أفراد ما عرف بجيل 27 – اغتيل من قبل القوى الفاشية وهو في 38 من عمره في بدايات الحرب الأهلية الاسبانية يعده البعض أحد أهم أدباء القرن العشرين وبالأخص في اسبانيا.
نشأته:
ولد من أبوين إسبانيين ب "فونيتي باكيروس" وهي قرية تبعد عن غرناطة، غرناطته، ب 20 كيلومترا كان والده فلاحا مزارعا وأمه مدرسة، أخذت على عاتقها تعليمه النطق والكلام لأنه وجد فيهما صعوبة في أول حياته، لم يستطع المشي حتى الرابعة من عمره لمرض أصابه عقب الولادة، وكان من عدم استطاعته مشاركة الصغار ألعابهم أن نمت قواه التخيلية وأحاسيسه، فراح يعبر عن نفسه بصنع عالم خاص به من المسرح ومسرح العرائس، ويسقط على دماه شخصيات خدم الأسرة المسنين وإخوته الصغار.
-    اشترى مسرحا صغيرا مما إدخره من نقود وهو صغير وراح يكتب مسرحياته الخاصة ويعرضها في مسرحه ودماه، وهذا جعله شغوفا بالمسرح وكاتبا متألقا له في كبره.
-    تشبع بالأغاني والحكايا والثقافة الشعبية وتمثلها وأعاد خلقها يقول عنه "جيلر مودي تورا" في هذا، إنه يعني هذه الحكايا ويحلم بها ويعيد كشفها، وبكلمة واحدة يحيلها إلى شعر.
-    تلقى تعليمه بقريته ثم بألميريا ليدرس المرحلة الثانوية بغرناطة، لم يظهر إهتماما كبيرا بالدراسة الأكاديمية، فكان همه الأكبر متصبا على القراءة الحرة وكتابة الأشعار إلى جانب العزف على البيانو، مما أغضب منه أساتذته وكانت هذه حالته حتى في الجامعة إغفال الدراسة الجامعية والاهتمام بالمطالعة الحرة، والجلوس إلى المقهى واستماع حكايا الناس وأخبارهم وأفكارهم وهنا أكد الصحفي ج. م غانيدو في مقالة له لأساتذة لوركا في الجامعة، مكانة لوركا الأدبية في المستقبل، وأنهم سيدرسون شعره من فوق منابرهم الجامعية يوما ما.
-    شارك في الرحلات الاستكشافية والاستطلاعية لطلبة جامعته بإشراف أساتذتهم وكان من نتائجها كتابة "انطباعات ومشاهد" صدر بغرناطة سنة 1918.
كانت بداياته المسرحية سنة 1920 فاشلة لكنه لم يستسلم فكتب مسرحيات أطبقت شهرتها الآفاق وعرضت في إسبانيا وبعض الدول الأوربية الأخرى منها: "ماريا نابينيدا" و"عرس الدم" و"بيت بيرناردا ألبا".
وكان متألقا في الشعر منذ بداياته "كتاب القصائد" سنة 1921 عكس المسرح، حيث بشر هذا الديوان بميلاد شاعر جديد بقول سالازار عن هذا الديوان: "فيه تتجلى تلك الشفافية في الصور وتنوعها، والبساطة في الأسلوب وعفويته، وبعد الرؤى، وغنى في المعنى... إلى جانب نفس وجداني صادق مع إيقاع شبيه بأغاني القرويات والغجر".
ومع هذا الديوان وما تلاه فتحت الأفاق للوركا في المقاهي والمنتديات وانهالت عليه الدعوات ليلقى محاضرات ويشارك في أمسيات شعرية. وقد كان نشيطا في إطار متواز في الشعر وفي المسرح وتواقا للحرية والانفتاح والسفر.
كان لوركا محبوبا عند كل معاصريه من الأدباء والموسيقيين والنقاد لأنه يمتاز بروح النكتة وطرافة الشخصية وخفة الظل قال عنه رافاييل ألبرتي: "كان لوركا يتدفق بشحنة من الدقة الكهربائية والفتنة، ويلف مستمعيه بجو أخاذ من السحر، فيأسرهم حين يتحدث أو ينشد الشعر أو يرتجل مشهدا مسرحيا أو يغني أو يعزف على البيانو".
ويقول عنه الشاعر بيدرو ساليناس: "لقد كان العيد والبهجة، يشع علينا وليس لنا إلا أن نتجه".
سافر إلى الكثير من الدول أهمها أمريكا حيث كتب عن هذه التجربة ديوانه الشعري "شاعر في نيويورك" فكان طالبا وحاضر قليلا في جامعة كولوميا، وهنا أرعبته الحضارة المادية الأمريكية وأخذه الحنين إلى الهدوء وسحر الأندلس غرناطة ووداعتها فعاد سريعا إلى غرناطة ليستعيد توازنه النفسي والروحي ويعانق سحر الطبيعة التي ألفها وكبر فيها... ويستمر في إبداعاته الشعرية والمسرحية.
شملت زياراته أيضا الأرجنتين والبرازيل وكوبا وفرنسا فربط علاقات مع بعض الشعراء هناك أهمهم صديقه الحميم بابلو نيرودا.
أما لوركا الشاعر فهو شاعر الأساطير والبساطة في آن معا، شعره في جوهره رمزي، خلف مظهره الفولكلوري والشعبي، بساطة في الأسلوب ويعد في الرؤى، أعماله تكشف عن مأساة كائن معذب فلوركا دوما يعارض غريزيا وبصفته الإنسانية تقاليد المجتمع الهشة، كان شاعرا حالما مجددا سابقا لعصره، أستاذ لمن جاء بعده، جرأة في كشف الواقع واقتدار مهول في الآلة الشعرية والتقاط البسيط والشعبي وتطويعه لعبر عن أشد وأعمق القضايا الإنسانية.
اغتالته الديكتاتورية الفاشية في إحدى ضواحي غرناطة سنة 1936، وكان الليل شاهدا عليهم والقمر فانظم إليهم الموت وترك شباكه مشرعا، فرثاه نيرودا بقصيدة غاضبة أشد الغضب. نقم فيها على كل شيء فقد كان موته المفاجئ وهو في تلك السن وفي أوج عطائه (عقد 4) برمية أصابت نصالها منه الصميم قال عنه نيرودا: "إن الذين أرادوا بإطلاقهم النار عليه أن يصيبوا قلب شعبه لم يخطئوا الاختيار" وبهذه الحادثة أضاعت إسبانيا شاعرها الفذ وضيعت منه الأدب وحرمت نفسها نتاجا يزيدها شهرة في فسيفساء الأدب العالمي.
-    ظروف القصيدة:
-    يقول صبري حافظ في مقال له ضمن مجلة الكلمة العدد 2009.28، مرثية لوركا في رثاء صديقه مصارع الثيران الإسباني إغناسيو سانشيز ميخياس استحوذت بمناخها التعزيمي التنويمي الحزين على قطاع واسع من حساسية القرن العشرين.
-    يقول ج.ل. جيلي هذه القصيدة هي إحدى أفضل القصائد في الأدب الإسباني المعاصر:
ذات صيف من عام 1934 كان شاعرنا لوركا يضع لمساته الأخيرة في مسرحيته الجديدة: "يرما" متنقلا من موضع لآخر مع مسرح "لا باراكا" وحين كان المسرح يقدم عروضه في مدينة سنتندير في شمال إسبانيا، يصله النبأ الفاجع بإصابة صديقه الحميم "إغناسيو سانشيز مخياس" مصارع الثيران العظيم في حلبة المصارعة في مدريد يوم 11 أغسطس، فيتأثر لوركا أيما أثر بهذا الحادث الذي أودى بحياة صديقه ويجد نفسه مرة أخرى وجها لوجه أمام الموضوع الذي ما فتئ يناوشه، طيلة حياته ألا وهو موضوع الموت. فانتهى مسار الصديق إغناسيو بالموت كما كان ينهي لوركا حياة أبطاله المسرحيين بالموت خاصة في "عرس الدم" و"يرما"، و"بيت بيرناردا ألبا"، حيث الموت يخيم على إبداع لوركا ويجتزئ لنفسه مساحة شاسعة في الخيال والرؤى والترميزات الشعرية لديه.
ولد اغناسو في 1891 وتوفي في 1934 كان من المصارعين الكبار، وكان مهتما بالآداب والفلامينكو كان صديقا للعديد من الأدباء وكتب مسرحيته أيضا.
في مصارعته الأخيرة للثور حاول أن يقف بعدما سقط من على الثور فاستدار هذا الأخير فجأة وغرز أحد قرنيه في فخده وقذفه على الأرض وعندما سحب الثور كان إغناسيو مدرجا في دمائه يتشربها رمل الحلبة فأصيب بالغنغرينا، ليموت في اليوم الموالي، وهذا ما صوره لوركا في القصيدة في جو كله رمزية وحزن وهذا ما سنقف عنده في المحور الموالي.
المحور II- المرثية وتجليات النضال قراءة في المتن الشعري:
لا نخفيك عزيزي القارئ أننا نشتغل على نص شعري مترجم عن لغته الإسبانية الأصل إلى لغة أخرى بثقافتها ووجدانيتها وحمولتها الثراتية والنفسية مما يجعل الدلالات الأصلية للقصيدة قلقة متوترة وتصلنا بصورة ممسوخة لأن كل ترجمة هي خيانة للنص الأصلي حسب المثل الإيطالي وإذا كان المترجم مارس عنفا وتعذيبا للنص اللوركوي لحظة نقله للعربية فإني هنا مدعو إلى أن أمارس عنفا مزدوجا هو عنف في الدرجة الأولى حول النص المترجم العربي. وفي بعده الثاني هو عنف آخر جميل عن النص اللوركوي الأصلي. ونأمل أن نوفق في هذه القراءة المجازفة وسنتهم في كلامنا دائما لوركا وليس المترجم فليغفر لي الشاعر والقارئ الكريم.
في البداية نجد لوركا قد قسم قصيدته إلى أربعة أقسام أو مقطوعات شعرية طويلة صدر كل منها بعنوان فرعي يحمل دلالة قوية حول المضامين المعالجة في كل مقطوعة حيث نجد هذه العناوين بالتتابع الكرونو خطي أو كتابي هي: "الجنيات الموت" و"الدم المنثال" ثم "الجسد المسجى" وأخيرا "الروح الغائبة".
فالعنوان الأول يحمل دلالة تناقضية شعريا ودلالايا، فالجن معروف بنزقه وروحه الشيطانية وسعيه للخلود (قصة إبليس "إنك من المنظرين") والمرتبط أيضا بالهارب والمتأبي على الحصر أو الانقياد أي صعوبة وصول الموت إليه وهو هنا دلالة على المصارع للثور الشبيه بالجن والذي يصارع الثور/ الموت في مشهد كرنفالي حافل حيث لعبة الصراع بين المصارع الماتادور والثور لابد أن تنتهي بحدث الموت إما أن يقتل المصارع الثور أو العكس. فهذه لحظة بهجة احتفالية في الحالة الأولى خاصة إذا لم يعذب المصارع الثور في قتله، وتكون لحظة حزن ومأساة وغم وصمت ثقيل جاثم على الصدور إذا ما قتل الثور الماتادور (المصارع) وضرج في دمه وانطلق يجري في الساحة دون نظام، ساعتها يخيم الصمت الذي يهدئ حتى حركة الثور وهذا ما وقع لإغناسيو ميخياس، في القصيدة اللوركوية.
ولينقل لوركا فداحة هذا المشهد ومأساويته عمد إلى تكرار عبارة "الخامسة عند الأصيل" تكرارا إيقاعيا ودلاليا أيضا يوشك وحده أن يستولي على نصف أسطر المقطع الأول من القصيدة حتى إن لوركا ليريد أن يجعل مشهد الشمس ولون الشفق الدامي في هذه الساعة متطابقا مع الفاجعة ومع كل الأشياء، فنجح بهذا في نقل تفاصيل موت إغناسيو يقول:
في الخامسة عند الأصيل.
كانت تمام الخامسة عند الأصيل.
جاء صبي بالغطاء الأبيض
في الخامسة عند الأصيل
أعدت ضمة زيزفون...
لا شيء غير الموت والموت وحده.
بهذا جعلت القصيدة الخامسة عند الأصيل نغمة قرارها ونهاية حياة البطل المصارع بل وحلول الفاجعة وأحالتها إلى لحظة كونية تتظافر فيها مجموعات الصمت والروائح والدخان وكل الموجودات من ماء وهواء وحيوان وبشر ونغمات من أجل رسم تفاصيلها، حيث يغرز الثور قرنه في فخد إغناسيو فيرديه قتيلا، وملئت الحلبة برائحة اليود، وعششت بذور الموت في جرح المصارع، فجاء الكفن على عجلات أي استشعار نهاية اغناسيو رغم أنه لازال على قيد الحياة بمجرد ما حمل على سرير المستعجلات، وتلف إغناسيو برودة الموت الشبيهة بالثلج، فتبدو أكثر تجليات الموت في الغرفة الاستشفائية المصبوغة بالحزن والغم، ومرض الغنغرينا الذي أصاب المصارع ولن يتركه إلا إذا أرداه قتيلا وهذا ما كان فعلا حيث توفي إغناسيو متأثرا بجراحه في اليوم الموالي من الحادثة.
إننا نفاجأ في المقطع الثاني من القصيدة (الدم المنثال) أي المسال حيث يتغير إيقاع القصيدة وبناءاتها الدلالية وكأن الشاعر يرفض الموت بتكراره لعبارة أخرى هنا هي "لا أريد أن أراه"
لا أريد أن أراه...
قل للقمر أن يأتي
لأني لا أريد أن أرى دم
إغناسيو فوق الرمل
لا أريد أن أراه...
وهنا تتناسل الصور الغجرية في انسياب داخل هذا المقطع، صور لوركا المتوهجة شعرا، عن القمر المفتوح على مصراعيه (بادر الضوء) وخيول من السحب الساكنة وذكريات مضمخة بعطر الياسمين، وبياض هو بياض الموت لا الياسمين والحلبة المسيجة بالصفصاف التي افترض أن تكون شاهدة على تألق إغناسيو هاهي شاهدة على الفجيعة والموت له، وتأتي أبقار العالم القديم لتلعق الدم المراق على الرمل وتحيل الموت إلى حجر في نوع من استعادة الثيران الإلهية في الأساطير القديمة، وهي متكررة في المقطع، ويدخل إغناسيو الحلبة حاملا لموته على كتفه أو قل حياته مشاكلا لسيزيف في حمل صخرته أوبرومثييوس، يدخل إغناسيو ساعيا إلى الفجر، فجر التألق وكتابة تاريخ حافل بالانتصارات على الثيران وعلى الموت والبقاء في الحياة حيث الضوء والفجر، لكن الأفق هذه المرة انسد دون فجره المرتجى، جاء إغناسيو باحثا عن جسده الجميل الفائض حيوية ونشاطا فلم يجد غير دمه، باحثا عن ثقته بنفسه والسعي لتوكيدها وإعلانها لكل الملأ فلم يجد سوى حلمه المرتبك. لهذا كان ثقل الفجيعة على الشاعر أكثر من أن يحتمل، ولذا صاح لا أريد أن أراه.
لن يرى الجسد المسجى لأنه لم يعرفه إلا جسدا مترعا بالحياة، لم يكن ثمة أمير في إشبيلية يقرن به، ولم يكن ثمة سيف يعادل سيفه ولا قلب في نقاء قلبه وصدقه، ولا ابتسامة مترعة بالذكاء، والتوقد مثل ابتسامته، وبهذه الطريقة يحيل لوركا الدم المراق إلى حياة تنهض في وجه الموت المرفوض.
وهنا ينقل لوركا الحادث في طابعه الواقعي إلى طابع رمزي أسطوري حيث الصراع مع الثور هو صراع ضد الموت وإثبات للحياة للمصارع الجدير بها، فالمصارع يرمز للحياة, والثور يرمز للموت, والمصارع يرمز للوجود, والثور يرمز للعدم والغياب, والصراع بينهما قائم معلق بهزيمة أحدهما، فالمصارع متحد لإكراهات الموت ساع إلى الحياة ويريد نقل شجاعته في المواجهة إلى الجمهور بإلهابه حماسهم وزرع روح المغامرة ليدهم، إن هذا الصراع شبيه بصراع سيزيف من أجل البقاء والحياة في محاولاته دون سأم ولا كلل في رفع الصخرة على ظهره إلى الجبل السامق في السماء.
إن هذا البعد والتصوير التراجيدي المضمخ بالروح الميثولوجية الباذخة للشخصية البشرية المجابهة للصعاب، نجده بين ثنايا القصيدة، وهو بلا شك يبرز اقتدارية لوركا الجبارة على توظيف الأسطورة والرموز القديمة والثقافة الشخصية حتى في مآسيه ومراثيه كقوله واصفا روعة إغناسيو:
كان هواء روما أندلسية
يوشي رأسه بالذهب
حيث كانت بسمته عنبر
الفطنة والذكاء
ما أعظمه مصارعا في الحلبة
ما أطيبه فلاحا على الجبل...
ما أرقه مع السنابل...
ما أشده على الماهاميز...
ما أكثر حنوه على المدى...
ما أروعه في المهرجان...
ما أبرعه بآخر
باندريلات العتمة
كالأسطورة التي تحكي عن كون الأرض محمولة على قرني ثور ينقلها من قرن إلى قرن ونتيجة لذلك تحدث التحولات الطبيعية.
وثيران غنيساندو
بعضها موت وبعضها صخر
تخور مثل قرنين من السنين
منهكين من وطء الأرض
لقد تحول إغناسيو في القصيدة اللوركوية هاته إلى أسطورة فجائعية تصور الصراع الأبدي، فكان موته هزة عنيفة لذات الشاعر فجرت بداخله هذا الإحساس بالموت ودفعته للعودة إليه والتفكير فيه ومناقشة صوره وطبيعته كقضية جوهرية في الوجود الإنساني، إذا كان الإنسان مجابها بسلطة وجبروت الموت ومحكوم عليه به فلماذا يحيا؟ ولما يتعب نفسه؟ ومادام الإنسان متيقن بقصر حياته، وضرورة موته، ألا يجدر به أن يخلد ذكره في الحياة بما هو جميل حتى يستعيض به عن الغياب الجسدي المرتقب بالموت؟ إذا كان الموت قدرنا، أليس جذيرا بنا أن نضع لهذه الروح ما يجعلها تنعم في العلياء كما صور لوركا روح صديقه إغناسيو؟ (إمض، إغناسيو .انس الخوار اللاهب، ثم حلق انعم بالراحة حتى البحر يموت...).
هنا نلمس نوعا من الاقتناع لدى لوركا بحتمية الموت فيقرها في المشهد –المقطع- الثالث "الجسد المسجى" حيث انتصر الموت أخيرا ومات الفارس, فيرى لوركا ما لا يراه غيره عندما يتأمل حجر القبر:
الصخر جبهة تئن عليها الأحلام
بلا مسارب ملتوية ولا سرو مقرور.
الصخر كتف تحمل الزمن.
بأشجار دموع وأشرطة وكواكب.
فصخرة القبر لم تكن شيئا, لكن ما أن حملت إسم إغناسيو حتى صارت كائنا أسطوريا أيضا، يرى فيها الشاعر الكون، وحركته وحركة الزمن فهي تحمل الزمن الذي يتعبه ويقلقه مثل الموت. فأحلامنا في الحياة يسير منها ذلك الذي يتحقق وكثيرها تكسر بصخرة الموت فتئن كالمريضة فوق هذه الصخرة.
وفي هذا المقطع يصور لوركا تعارض ما يريده (حياة إغناسيو) مع الواقع الذي يفرض نفسه (موته) فيجسد الموت في صورة متعددة ثقيلة باردة، ورغم امتلاء هذا المقطع بطقوس المشهد الجنائزي وإكتمالية فصول ما بعد الموت، وتجليات الحزن الجمعي كعزاء لتخفيف وطأة الموت، فإن الشاعر يقارن بين حالتين متناقضتين في الطبيعة والزمن لجسد إغناسيو جسده في الحياة الممتلئ نشاطا، المترع بالحيوية وجسده الآن الهامد الساكن الميت المسجى الذي يستحيل إلى جزء من عناصر الطبيعة ويمتزج بثقل الدخان ويموت كما يموت البحر، فلوركا هنا يخاطب صديقه وكأنه حي لكن في مجال وعالم آخر طالبا منه التسامي والعلو، ويطمئنه بأن أعظم الكائنات تموت كالبحر، لذا فلا تقلق يا إغناسيو فكلنا إلى زوال ولا شيء يبقى على حاله، مؤكدا على مرارة الفقد لديه وأن فجيعته أكثر من أن توصف وأن كل عبقريته في الإبداع لا تكفى لرثاء إغناسيو رثاء يليق به وبشخصيته وترفع ذكره في السماء، ونحن هنا نطمئن فقيدنا لوركا بأننا من أقاصي الأرض وقد بلغتنا مأساته في صديقه وها نحن نواسيه بدراسة مرثيته هاته التي لولاها لكان إغناسيو نسيا منسيا.
في المقطع الأخير نجد عنوانه (الروح الغائبة) وهي في تقابل ضدي مع عنوان المقطع الثالث (الجسد المسجى/ الحاضر) فالموت يفصل الاثنين حيث يأخذ الروح بعيدا ويغيبها ويترك لنا الجسد لنبكيه ويكون شاهدا على مقدار بكائنا للفقيد وكيف شيعناه إلى مثواه الأخير.
والجهل بالشيء صنو لغيابه لذا استهل لوركا المقطع بجمل نفي كثيرة تؤكد غياب إغناسيو وأنه غير معروف، كناية على كونه مات صغيرا ولم يصل بعد إلى كل أحلامه وطموحاته:
لا الثور يعرفك ولا شجرة التين
ولا الجياد ولا نمل دارك
لا الطفل يعرفك ولا الأصيل
لأنك مت إلى الأبد...
ولا ذكراك الصامتة تعرفك.
هذه التكرارات اللغوية والأسلوبية والإيقاعية تجسد في شكل جديد لفداحة الموت حيث تتكشف العديد من رؤى لوركا للموت وموقف الشعر والشاعر منه:
سيأتي الخريف بأبواق المحار
وعنب الضباب وضفائر التلال
ولكن لن يرغب أحد في رؤية عينيك
لأنك مت إلى الأبد...
إن هذا الإقرار بالواقع الأليم والموت كحقيقة بعد محاولات بائسة من لوركا لاستعادة إغناسيو يضعنا أمام أسطورة جلجامش الملحمية وبحثه المحموم عن سبل الخلود وفشل كل محاولاته في استعادة صديقه إنكيدو هنا اكتشف حقيقة الموت ليؤكدها بتكراراته  في التعابير:
انكيدو مات
صديقي انكيدو مات
ولسان حال جلجامش يقول "ابك يا جلجامش واذرف الدمعات لأن الآلهة التي آثرت نفسها بالخلود حكمت علينا بالممات"، ولا يبعد عن هذا بكثير حال لوركا في معرض حديثه عن وفاة صديقه إغناسيو.
وهذا التكرار للموت في كل المراثي الإنسانية وخاصة التي هي قيد الدراسة يوحي بحجم القلق الذي يؤرق الكائن الإنساني اتجاه هذه المواضيع الجوهرية في وجوده، من هنا يؤكد لوركا غياب صديقه وأن لا أحد سيعرفه أو يذكره لا الثور ولا النمل ولا الشجر ولا الفرس ولا الطفل ولا الصخر ولا لباسه الحريري، ولا الذاكرة... لأنه مات للأبد. وهنا نلاحظ الاقتدارية الشعرية للوركا وآلياتها الخلاقة في جمع الكثير من المتنافرات حتى البسيطة وجعلها قادرة على التعبير عن أجل المعاني في الحياة البشرية، مثلا النمل على بساطة وهو المعايش للإنسان ولإغناسيو في داره والمساكن له يوميا لن يعرفه ولن يذكره، وهو ألصق به من غيره... هذا الالتقاط للبسيط واليومي وتوظيفه وإعادة خلقه شعريا هو ما حبا للقصيدة قسمات جمالية تنسجم وعمق المشهد المأساوي فيها، وتبرز شعرية لوركا، المازجة بين الرؤيوي الرمزي الأسطوري والتراثي التاريخي والشعبي في كيان واحد بخيال شعري خلاب هو إحدى روائع لوركا الشعرية.
ليختم لوركا مرثيته الملحمية التراجيدية بأنه لن ينسى إغناسيو لحظة نسيه الكل لأنهم لم يخبروه ويعرفوه كما عرفه هو ولهذا فهو سيغنيه دائما, ذاكرا أعماله وجلاله ونبله ومرحه البطولي وذكاءه, ولعل في هذا الخلود الحقيقي للإنسان ما يعوض عن فقده وموته، وهنا يراهن الشاعر على صعوبة واستحالة أن تنجب إسبانيا أندلسيا مثل إغناسيو بنقائه وغناه، ولعلنا هنا نقلب الفكرة قليلا ونجعلها شهادة لوفاة لوركا نفسه واعترافا منه بأن إسبانيا لن تنجب شاعرا فذا خلاقا مثله، ولحد الساعة ما رأينا لوركا جديدا يقوم بديلا عن لروكا القتيل الفقيد.
بهذا تعتبر المرثية ملحمة إنسانية من أجمل المراثي بطبيعة تعاملها مع الموت ونضال الإنسان من أجل الحياة الفدة المتألقة وطبيعة تصويرها للموت.
فالشاعر لم يبك وإنما انتقل إلى فلسفة كونية وجودية فلسفة الموت والحياة، والصراع الأبدي بينهما، ونضال الإنسان من أجل البقاء.
المحور III- استخلاص مقومات العالم الشعري للوركا من خلال المرثية:
من خلال تطوافنا في عالم المرثية وقراءتنا لمستحثاتها (القطع الأثرية القيمة, ونقصد المعالم الأدبية) الأدبية والتاريخية والأسطورية والجمالية، وكيف تصور القصيدة الصراع الأزلي والتراجيدي للإنسان مع الموت من أجل البقاء، وكيف يبحث الإنسان لمعرفة حقيقة الموت... وكيف أن البطل المصارع للثور في المرجعية التراثية التاريخية للإسبان هو مجسد لذاك الصراع مع الموت وإثبات للذات وقدراتها في الجرأة والشجاعة... إلخ، فإننا هنا سنشير وبعجالة إلى مقومات العالم الشعري للوركا كما تبدت وتراءت لنا في المرثية من خلال قراءتنا المتواضعة لها حيث نجد أهم هذه المقومات هي:
    اللغة: في هذه النقطة أرى أنني سأتحدث عن لغة ما هي لغة لوركا الأصلية وإنما هي لغة المترجم وهي ظل أو صورة ممسوخة عن اللغة الأصلية وفي هذا سأكون ساذجا ومبتذلا لهذا فاللغة عند لوركا لا نقاربها إلا إذا كنا مستلهمين للغة الأسبانية اللغة الأصل للقصيدة. وإن كان النقاد أشاروا إلى شفافية اللغة عند لوركا وبراءتها الطفولية، وبساطة الكلمات والأسلوب، فإنني من هذا المنبر ومما تقدم غير مدعو لمقاربتها، وأرى أني صاحب حق وغير ملوم في ذلك.
    استعمال الرمز والأسطورة: حيث نجد لوركا يتكئ على الرموز الأسطورية ويستلهمها في شعره ويؤثث بها قصائده ويجعلها نسغ صوره الشعرية، حيث إن جوهر الشعر هو الصورة، وهي أداة الشاعر لاستبطان العالم وتشريحه واحتضان التجربة الذاتية والفكرية الرؤيوية للشاعر ونقلها للقارئ، ففي هذه القصيدة نجد أسطورة سيزيف أو بروميثيوس وكذلك أسطورة ثيران غيساندو والثور الأسطوري الحامل للأرض على قرنه، وهناك رموزا كثيرة كالقمر/ البحر/ الصخر/ النهر/ ... إلخ.
    استحضار عوالم الطبيعة وإشراكها في بناء دلالية القصيدة ونقل وتصوير تجربة الشاعر وهذا راجع إلى نشأة لوركا في أحضان الطبيعة وعشقه العميق لسحرها، ولا ننسى عودته هاربا مهرولا من نيويورك المدينة الإسفلتية حيث البنايات الضخمة تلتهم آدمية وإنسانية الإنسان، فرجع هاربا إلى مسقط رأسه وإلى مدينته غرناطة المحبوبة الجميلة حيث سحر الطبيعة وجمالها والشاعر يعيش مزهوا في ذلك.
    ونلاحظ أيضا تركيز لوركا على الألوان وتوظيفها بقوة في شعره خاصة هنا اللون الأسود والأحمر والأبيض وكلها ألوان ربطها في القصيدة بعالم الموت ودلالاته وموكبه الجنائزي وما يرافقه من طقوس قاتمة الحزن عند الإنسان المنكوب.
    الاستفادة من التراث والثقافة الشعبية الإسبانية ومشاهدها وأيضا تشبعه بالثقافة العربية وبقاياها في إسبانيا من أيام الأمويين وتوظيفها للتعبير عن أدق المعاني الشعرية جلالا وجوهرية في حياة الإنسان.
    الحضور القوي لتيمة القلق والتوتر والحيرة عند لوركا في شعره وانزعاجه من الموت والروح المأساوية والمعاناة حاضرة كثيرا في شعره (الموت، الدموع، الحزن) رغم أنه كان شاعرا مناضلا من أجل الحرية والحياة وإثبات الذات... إلخ.
    تنويع الأساليب اللغوية ما بين الخبر والإنشاء الذي نجد فيه النداء والاستفهام والتعجب، والأمر والنهي إلخ، ثم نجد أساليب أخرى كالنفي "لا أريد أن أراه". والتفسير هذا التنوع يكشف عن نواة القلق والتوتر عند الشاعر اتجاه المواضيع التي يعيشها الإنسان وتشغل جوهر تفكيره، وتشكل أس وجوده، وهي تكشف في بعد آخر عن بحث الشاعر المحموم عن حقيقة الموت والسعي لتفسيره، وعبر هذه الأساليب يسعى لوركا إلى نقل هذا التوتر والقلق للقارئ، أو بالأحرى خلقه لديه ودفعه للانشغال بمثل هذه المواضيع، وأن ينقل له هذا القلق الوجودي الذي يعيشه الشاعر نفسه.
المحور IV- لوركا والشعراء الحداثيين والتناص الشعري:
إذا استقرأنا تاريخ الأدب والأدباء فإننا نجد شعراء يأبى التاريخ أن ينساهم لأنهم خلدوا آثارهم وذكرهم من ذهب على صحاف من ألماس في كتاب التاريخ، فيعاد إنتاج سيرتهم وحياتهم ومعالم من أدبهم بعد موتهم وبشكل مستمر مع الأجيال مثل المتنبي، وديك الجن، والمعري وجبران في العربية، وأمثال لوتريامون ورامبو في الفرنسية، ولوركا في الإسبانية... إلخ. والسبب يعود إلى غنى حياتهم وإبداعهم واكتنافهما بالأسرار ما يجعلهما موضوعا للأسئلة المفتوحة والاكتشاف المستمر.
وحسبنا لوركا والأندلس تقيدا بالموضوع، فالمؤلفون المهتمون بتفاعل الثقافة الأندلسية وتأثيرها في الأدبين العربي والإسلامي، قديما وحاضرا، مازالوا يتناولون أدب الأندلس، باحثين فيه عن مذاق خاص لا يجدونه في أدب المغرب والمشرق واستدعاء النماذج الأندلسية في الأدب الحديث كثير جدا( ).
حيث يظهر لنا لوركا قتيل الفاشيست الكتائب الإسبان سنة 1936، في مطلع الحرب الأهلية الإسبانية, لوركا صاحب القبر المجهول... يظهر لنا بدوره من خلال سيرته وأشعاره وموته الفاجع شخصا قابلا للاكتشاف ومن هذا المنطق ومنطق توظيف لروكا وإبداعه لتأثيث وبناء الشعر العربي في بعض قصائده نجد مجموعة من الشعراء استفادوا من شعر لوركا أو حياته ووظفوا ذلك في شعرهم أهمهم محمود درويش، والسياب وعبد الوهاب البياتي، وسعدي يوسف، ومحمد القيسي، ومحمد عفيفي مطر، في ديوانه "معلقة دخان القصيدة" حيث يبني عفيفي مطر قصائده الشعرية انطلاقا من مبدأ الحوارية أو التناص بالمفهوم الباختيني، واعتبارها آلية الخلق والإبداع عبر تحاور الشاعر المتأخر مع شعراء آخرين إما أن يكونوا له معاصرين أو قدامى، بل إن عفيفي مطر يقر بهذا ويعتبره من مفاتيح الكتابة الشعرية لديه، وهو هنا يستحضر لنا قصائد للوركا ومعالم من حياته ويوظفها شعريا في قصيدتي هذا الديوان حيث يؤكد باختين أن طريق النص إلى معناه طريق محفوف بالجدل النصي والتفاعل التناصي بتلك الحوارية الدائمة بين النصوص.
يبدأ ديوان مطر ب "معلقة ماتادور الأبد" والماتادور هو مصارع الثيران، ويوضح لنا عفيفي دلالية القصيدة بعنوان فرعي هو "في مئوية لوركا" ويشير في ذلك إلى قصيدته المرثية قيد الدراسة في الهامش، حيث "سقوط المصارع في الخامسة عند الأصيل ووقوف ساعة الكون عند الخامسة، هو ضربات الموعد المقطوع لتكرار سقوط المصارع الذي يلاحقه مصرعه مند أول الوجود الإنساني في هذه المنطقة من العالم وإلى الأبد" عفيفي مطر.
فقد أراد مطر إلفات نظر قارئه إلى إيقاف لوركا لساعة الزمن الكوني عند لحظة سقوط صديقه الحميم في صراعه للثور / الطبيعة/ اللاعقل الجامح/ القوة الغاشمة، إلا أن هذا الموت الفردي عند لوركا يقابله موت جماعي تبدى في عدة صور مع التاريخ، ويمكن أن نلفت النظر إلى أن أية قراءة لقصيدة (معلقة ماتادور الأبد) دون قراءة مرثية لوركا ستكون قراءة سطحية لا تبلغ المقصود وسيفوت صاحبها الشيء الكثير في الفهم.
فقصيدة عفيفي مطر قسمت إلى أربع مقاطع كما المرثية، يستحضر فيها مطر الموت الجماعي بدل الموت الفردي عند لوركا، يقول:
أم هو الكون يسيل
يتمطى في هيولاه دوي كدوي العصف
قبل الخامسة
ساعة الكون على الحافة (ص 10 من الديوان)
وإذا عدنا مثلا إلى درويش فإننا نجد الكثير من الإشارات في شعره إلى الأندلس ومدريد وغرناطة ولوركا، خاصة قصيدته التي عنوانها لوركا، وكأن درويشا هنا يتنبأ بالذي سيقع في لبنان ساعات كتابته لهذه القصيدة فأفرغ فيها تفاصيل نبوءته واختلط فيها الماضي الجميل العريق بالمستقبل المظلم الأسود حينا والأحمر دما أحيانا نأخذ منها مثلا هذا المقطع إذ يقول درويش:
عفو زهر الدم يا لوركا وشمس في يديك
وصليب يرتدي نار قصيدة
أجمل الفرسان في الليل يحجون إليك
بشهيد وشهيدة
هكذا الشاعر زلزال وإعصار مياه
ورياح إن زأر
يهمس الشارع للشارع قد مرت خطاه
فتطاير يا حجر
حيث كل الفرسان/ الشعراء يحجون إلى لوركا وهو يتكلم عن شاعر قتيل من خلال أجواء دينية مسيحية (الصليب) والتراتيل ثم يذكر الإله والموسيقى والحج والشهادة والصلاة والأقمار طقوس كنسية معروفة في البلدان المسيحية وكذلك كان لوركا.
ثم إننا نجد حادث مقتل لوركا هو الذي تم التعاطي معه شعريا بشكل كبير نظرا لرمزيته في الفداء وأنه تعرض للظلم وارتباطه بالنضال والثورة والتغير، فحضور هذا الحديث كبير لدى الشعراء العرب وخاصة الذين ذكرنا نضيف إلى ذلك قصيدة السياب في ديوانه (أنشودة المطر) والتي عنوانها (غارسيا لوركا) وهنا في قصيدة السياب لن نجد ذاك التناص اللغوي أو المعجمي مع قصائد لوركا فلا يذكر السياب لا لوركا ولا الأندلس ولا غرناطة ولا مدريد... إلخ بل يحدثنا عن إبحاره في عالمه الشعري موظفا رمز كولمبوس، البحار المكتشف، مما يجعل القارئ يستصعب ربط هذه القصيدة بتجربة لوركا.
وكذلك الأمر في قصيدة "مراثي لوركا" لعبد الوهاب البياتي التي يستحضر فيها مصارعة الثيران والموت والمواجهة الدامية التراجيدية بين الخير والشر/ الموت والحياة، موظفا أسطورة جلجامش وموت صديقه إنكيدو باعتداء الخنزير البري ثم كيف استأثرت الآلهة بالحياة لينتقل إلى مشهد المصارعة وذكر غرناطة الليمون والزيتون إلى آخره.
عموما إن المجال يضيق عن حصر وتدقيق هذه التقاطعات الشعرية في الإطار التناصي الحواري ما بين الشعراء العرب وحياة وإبداع لوركا واكتفينا بالإلماعة إليها هنا لإبراز مدى تأثير لوركا على من حوله وعلى كل الشعراء رغم حياته القصيرة التي لم يبلغ به حلمه فيها مداه، هذا لأنه كان شاعرا باذخا فاتحا لأرض جديدة من الإبداع سبق إليها كل معاصريه، وكان كل من جاء بعده عالة عليه على الأقل في أرض إسبانيا.
-     خلاصات عامة: 
                                                        ".... كان نابغة وفكها، كونيا وريفيا...
                                                      كان خلاصة أعمار إسبانيا وعهودها،
                                                      صفوة الازدهار الشعبي: نتاجا عربيا
                                                       أندلسيا، ينير ويفوح من أيكة ياسمين على
                                                       مسرح إسبانيا: كان كل هذا... يا ويلتي
                                                        لقد اختفى ذلك المسرح فأواه، وآه.."
                                                                       " بابلو نيرودا "
            هكذا ومن خلال الفقرات السابقة نخلص إلى كون غارسيا لوركا من الشعراء الانسانيين المرموقين في الساحة الأدبية العالمية والذين استطاعوا أن يخلدوا أسماءهم وذكرهم في ذاكرة القارئ بأدب وشعر يتألق عذوبة ورقة وصفاء, أدب يمزج بين البساطة والرمزية بتصيد اليومي والمألوف وشعرنته وجعله متعاليا عن الزمان والمكان وبهذا يصير رمزا ويكتنز دلالات تجعل منه إنسانيا كونيا يعبر عن أشد القضايا الانسانية توهجا وقلقا ويعانقها, تلك القضايا التي تقض مضجع الانسان وتفرض عليه التفكير فيها كالحياة والموت, الحب والكراهية, السعادة والشقاء, الحرية والعدالة, ... وقصيدة لوركا في رثاء صديقه إغناسيو من هذا النوع من الشعر الرمزي والكوني والملامس لحياة الانسان وعلاقته بالموت والحياة ونظرته لكل منهما وصراعه من أجل الحياة والشاعر لوركا من هذه الطينة ومن هذا العيار من الأدباء والشعراء الذين فاءت ظلالهم على كل أنواع الأدب وعلى كل البقاع في العالم.
           لقد مزج لوركا في هذه القصيدة بين الواقعي والرمزي الأسطوري واليومي البسيط، وصاغ كل هذا بلغة متألقة، شفافة وغامضة في نفس الوقت راوحت بين الانسيابية والوضوح حينا والرمزية والغموض أحيانا أخرى، بهذه المعاني واللغة بنى الشاعر هذه القصيدة المرثية التي ترصد تجربة وجودية قلقة للشاعر لحظة يجابهه الموت وجها لوجه وقد أخذ منه أعز أصدقائه في أوج عطائه فبكاه الشاعر والجمهور والمدينة والقصيدة في واحدة فريدة غراء من أجمل ما كتب لوركا من قصائد. ملؤها المرارة وعمق الإحساس بالفقد ومخابرة جبروت الموت الذي يترك الانسان حزينا كسيرا فيقاس مقدار حزنه بمقدار الدمع تارة والبكاء وبشق الثياب والنحيب أخرى وبالكلمة العميقة والآسرة والقصيدة الفريدة الوجودية الرؤياوية الكونية تارة أخرى وهذا ما اختاره لوركا في معالجته موضوعة الموت والفقد مبرزا الصراع والمغالبة الأبديين للإنسان مع الموت، فكان متألقا ومقتدرا، وكان بها حقيقا وجديرا. فلما يصل الحال بالشاعر الرؤياوي الحقيقي أن يستبق الزمن ويرسم طريقة موته شعرا فيرضخ الواقع أمام هذه الرؤيا الكاسرة ويأتي مطابقا لرؤية الشاعر كيفية موته، لا يسعنا والحالة هاته إن كنا منصفين إلا أن نركع إجلالا لهذا الشاعر وتبجيله. فقد صدق لما وصف موته وهو حي في شعره لما قال:
عرفت أني قد قتلت
فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس
فتحوا البراميل والخزانات
استباحوا ثلاثة هياكل ليلبسوا أسنانها الذهب
لم يجدوني
أتراهم لن يجدوني أبدا
نعم لم يجدوني أبدا
مخيفة هي تلك النبوءة عند الشاعر لما تصل هذا الحد، وهذا المستوى من الفجائعية، فهذه هي الطريقة التي مات بها لوركا ولم يعثر عليه إلى الآن فلم يبكه إلا الغياب أكثر من غيره، ويبكيه أيضا الآن الأدب الذي ضاع منه واحد من الرواد الفاتحين فبكته رقعته في خريطة الأدب أيضا.
        في الأخير لا يسعني إلا أن أشيد بعظمة الشاعر الذي يرى مالا يراه غيره يقرؤهم ولا يستطيعون قراءته فيقرؤون في أدبه ذواتهم وتلك قمة الإبداع لذا فإني أطلب الغفران من القصيد في تقصيري معه واجتراحي لبعض معانيه.
      

لائحة المراجع المعتمدة في العرض:

1.    " مختارات من شعر لوركا" ترجمة عدنان بغجاتي- سلسلة روائع الأدب العربي- دار دمشق للطباعة والتوزيع.
2.    " فيديريكو غارسيا لوركا: الأعمال الشعرية الكاملة" – المجلد الأول- ترجمة وتقديم محمود علي مكي – المجلس الأعلى للثقافة – ط 1 – سنة 1998.
3.     " شاعر في نيويورك"-  ف.غ. لوركا- ترجمة ماهر البوطي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – سنة 1996.
4.    " قصيدة الغناء العميق وأغان غجرية" - ديوان  ف.غ. لوركا – ترجمة سعد صائب – دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة.
5.     " ظلال وأصداء أندلسية في الأدب المعاصر" - د. إبراهيم خليل – منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق  سنة 2000م.
6.    " قراءات في الشعر العالمي" – بهيجة مصري إدلبي – دار عبد المنعم ناشرون – حلب 2005.
7.    " وداعا ... أكبر سعراء مصر" - مقال من مجلة " الكلمة" ع 28 – سنة 2009م.
8.     " أرض التاريخ... أرض القصيدة مقاربة لقصيدة ( عبور الوادي الكبير) لسعدي يوسف" – مقال للأستاذ بنعيسى بوحمالة.
9.    " تجربتي الشعرية" – عبد الوهاب البياتي.
10.     مقالات أخرى من مواقع إلكترونية متفرقة.