"دموع باخوس*" وتجديد الخطاب الروائي : جماليات محفل البطل ودلالته ـ زهير اسليماني**

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

9306لاشك أن الأثر الجمالي، هو قيمة القيم التي يريد العمل الفني بلوغها. ورغم ما يكتنف اللحظة الجمالية من غموض، على مستوى التحديد والتعريف والتوطين، فإن القارئ –بكل أنواعه- يعيش هذه اللحظة، وهو يتذوق، بأكثر من حاسة، لذة النص. إنها لذة لا يعرف –هو نفسه- ماهيتها ولا مصدرها، وإنما يدرك منها، تداعياتها وامتداداتها و"رعشاتها"..
ولعل إحداث الأثر الجمالي، وخلق اللحظة الجمالية، لدى متلقي العمل الروائي، يرتبط بشكل أو بآخر، بمستويين من الانتقاء: انتقاء العناصر والمكونات السردية، وانتقاء طرائق "تسريد" هذه العناصر والمكونات. ذلك أن الجدة والأصالة والجمالية، ماهي إلا حاصل "تجديد مزدوج"، حيث لا يكفي تسريد وقائع بشكل جديد لتكون الرواية جديدة، كما لا يكفل انتقاء محتوى جديد وتسريده، أن تتسم هذه الرواية بالجدة.
تلكم، كانت المقدمتان اللتان سننطلق منهما، لسبر أغوار مغامرة رواية "دموع باخوس" الجمالية، للمغربي "محمد أمنصور" القاص والروائي والجامعي، بحثا عن بؤرة الجمال ومركز الجدة فيها. ولإن كانت عناصرها الجمالية متعددة، وكان كل عنصر فيها لا تستوفيه مثل هذه الورقة، فإن ورقتنا هاته، ستنصب على استقصاء أصقاع الرواية بالتوقف عند مكون البطل، وتقصي طبيعته وحقيقته، وأسس التجديد فيه، شكلا ومحتوى. ومن ثم مصدر الفيض الجمالي والكم الانفعالي الذي يثيره عند المتلقي.

لقد ظلت مقولة البطل من المقولات الرئيسية، في الأدبيات الروائية الكلاسيكية، نقدا وإبداعا. كما ظلت الرواية الكلاسيكية تقدم البطل كوعاء للقيم، وخزان للأخلاق، وميثاق للمثل.. وإذا كان هذا حال البطل، في الرواية الكلاسيكية، فإن الرواية الجديدة، دأبت إلى كسر هذا الوعاء، وتمزيق هذا الميثاق، بل إنها ذهبت أبعد من ذلك، إلى حدود تكسير وحدة البطل نفسها. ذلك ما نجد أبهى تجلياته في رواية "دموع باخوس"، التي مزقت ميثاق الكتابة المألوف، في الطريقة والحقيقة.
فإذا كان البطل يقوم على الوحدة النفسية والاجتماعية، فإننا لا نجده في رواية "دموع باخوس". وإذا كان البطل يقوم على الانسجام الداخلي والخارجي، فهو ما لا نلفيه في الرواية. وإذا كان البطل هو من يقوم بفعل تراجيدي وينتهي نهاية مأساوية، فهو –كذلك- ما لا نعثر عليه فيها. أما إذا كان البطل يتحدد، كمًا، من خلال كثافة الحضور، والهيمنة على السرد، وكيفا،  من حيث الأدوار التي يقوم بها، والقيم التي يبشر بها، فهو ما نجده حاضرا في هذه الرواية، ولكن من خلال "أنور" و"علاء" و"روزالي" و"باخوس". فمن البطل إذن في رواية دموع باخوس؟ هل هو واحد منهم فقط، وهو ما يعني تقليص وبخس الرواية جماليتها وجدتها؟ أم هو باخوس التمثال الرخامي المسروق، وهو ما يعني موت الإنسان وتعويضه بالأشياء؟ أم هم جميعا، مما يعني أننا بصدد روايات وليست رواية، أو بصدد ملحمة "هوميرية"، أو بصدد شكل كتابة طارئة واختبارية؟
من هنا، تنبع أهمية المغامرة الجمالية لهذه الرواية، ومن بين المستويات الأخرى على هذا المستوى. وتسقط القارئ في مأزق القراءة المتشوقة، التي تسابق خيوط السرد نحو النهاية، نحو تثبيت الدلالات والقيم(عبر تحديد البطل أساسا)، فلا تنتهي عند شيء.. والمتشككة التي ما إن تنتهي إلى شيء، حتى يأخذها صدى الشك إلى أشياء أخرى.. فتنطلق من جديد، وفي كل اتجاه..
يتحدد أنور في الرواية، كشخصية ذات مضمون فكري، بشحنة انفعالية انتقامية، ماتزال تتشبث بالثأر لدم والده والضحايا من أهل قريته، بسبب القمع الذي طال أهله، جراء سرقة تمثال باخوس، مما زلزل كيانه ونفسيته، "هذا الزلزال رجني ومن فرط ما زلزلني أسكنني في الانتقام، الثأر لدم أبي المقتول صار هدف حياتي الوحيد.."(ص17)، حيث إن هذا المضمون، هو ما سيدفعه لمتابعة الدراسة في فرنسا، وولوج تخصص التاريخ والاركيولوجيا، ليس من أجل العلم والمعرفة فقط، بل من أجل إجراء تحقيق بوليسي عن سرقة تمثال باخوس، وفضح المستور وكشف الحقيقة. وهو ما لم يتأت له في نهاية المطاف، بعدما اكتشف حقيقة المغرب الجديد، الذي عاد إليه، فألفى المنادي ينادي فيه: "الطي أيها المواطنون الأعزاء، طيان: الأول يدخل في باب ثني الخلائق عن الاستمرار في معك الكلام عن الماضي والمقابر المجهولة، ومن قتل من إلى ما لا نهاية. والثاني: باب الضميس، ضميس الكارطا أو الضواسا لا فرق، فكلاهما سواء. ثم نجيبو دورة كاملين الله يرحم الوالدين. ونشوفو للكدام. نكولو هادي هي المصالحة. كولو معاي كاملين: هادي هي المصالحة. قرقبوا عليها سوارت الربح.."(ص20) حيث ظل ممزقا بين الوفاء لعهد الانتقام الذي قطعه على نفسه، وبين الاستفادة من سياسة الطي، مشطورا بين المبدأ وبين الواقع..
ويتحدد علاء، هو الآخر، كشخصية ذات مضمون نفسي، بشحنة انفعالية انتشائية، تتشبث بالحياة، في كل لحظة وثانية، كرد فعل على مرضه الوراثي الذي يعجل بوفاته، وهو ما يدفعه لمواجهة هذا المصير بالسخرية، والعربدة والجنس.. يحكي أنور عن علاء: "ألم تقل لي ذات يوم.. إذا كان قدر هذه الأسرة المريضة أن يموت أبناؤها في عز شبابهم فلماذا لا أعيش أنا قوة الشباب، أفجر رغبات رجل متوحش ينام في أعماقي، أشعل حرائق الملذات في كل لحظات عمري الباقي فأجعل من نهاراتي وليالي صحوا أبديا مشعا لا تطفئ لهيبه الا الشهقة القاتلة"(ص127) وهو الآخر مهتم بتمثال باخوس المسروق، وما جاوره من أحداث ووقائع، ويسعى لتأليف رواية عنه، في سباق مع موته، لإتمام ما بدأ من فصول(فصلين) روايته "منزل البهلوان".
بينما تتحد روزالي أو فدوى بن حلام كجسد. فحضورها في الرواية لا يتحدد إلا من خلال السمات والأوصاف الجسدية، أو ما تثيره في الشخصيات من مشاعر الاشتهاء، "وأنا أبكي حيرني هذا الجسد من رخام، أربكني هذا الوجه من نور، فما عدت (..) أأكون وقعت في سحر هذا الوجه الملائكي.."(ص65)، لدرجة تصير فيها نظير باخوس المفتقد، "اشرأبت بعنقها نحو سقف الصالون، فبدت من جديد تمثالا رخاميا أو رومانيا قادما إلي من آلاف السنين.."(ص235) وهي تؤمن بأن وجودها قائم في جسدها، وأن كينونتها في عريها، "وحده العري يجعلك ترى الجسد يبتسم.. فإذا كانت الموناليزا تسحر العالم بابتسامتها، فأنا موقنة أن النظر إلى جسدي لحظة العري يمنح العين لذة أعظم من تلك التي تمنحها الابتسامة اليوناردية.."(ص290)، وهي التي تكفلت بحمل الملف الرمادي(مشروع الرواية) ونقله من علاء إلى أنور..
ويبقى باخوس، "شخصية" عصية على التحديد، بل حتى القول إنه شخصية من شخصيات الرواية فيه مغامرة.. لكنه يمسك بكل خيوط السرد، وتجمعه بكل الشخصيات والأحداث، ذاكرة وعلاقات، وهو عابر للتاريخ والجغرافيا، وهو كائن في النفس(علاء) والعقل(أنور) والجسد(روزالي) .. بل إنه ممتد في الرواية من صفحاتها الأولى إلى صفحاتها الأخيرة.. أليس هو من أوعز إلى أنور الذهاب إلى فرنسا ليصبح دكتورا في التاريخ والأركيويولوجيا؟ أليس تأثرا به عاش علاء حياة سكر ومجون وعربدة وسخر ما تبقى من عمره ليكتب عنه رواية؟ أليس هو ما يبيح لروزالي العري، ويحرض فيها الطبيعة الأصلية؟ أليس هو إذن من حفز مسارات السرد، ودشن أفعال الشخصيات، وربط الصلات والعلاقات؟ فماذا لو لم يكن أنور قد نذر حياته لكشف حقيقة سرقة باخوس؟ وماذا لو لم يكن علاء على علم بهذه الواقعة، والرغبة في جعلها عملا روائيا تاما؟ وماذا لو أن روزالي لم تكن على علم برغبة علاء هاته(الرواية وإتمامها) وعلى أن لديه صديق يدعى أنور، لديه علم بأحداث الرواية، وعلم بالكتابة الروائية؟ الحصيلة أنه ما كانت لتكتب الرواية.
إذن، يتضح الحضور القوي لباخوس على مستوى الشخصيات، والفضاءات، وكذلك الأحداث والعلاقات، مما يجعله فعلا "إله" هذه الرواية. فعلى مستوى شخصية أنور هو الذي حركها نحو الدراسة والمعرفة والوفاء لعهد الانتقام وكذا الوفاء لعهد علاء صديقه القديم. وعلى مستوى علاء فهو الذي أوعز له حياة المجون، وأفعمه بنفسية "ليبيدية"، وأيقظ فيه الروائي النائم بداخله.. وبالنسبة لروزالي، فهو الذي بنى نفسيتها، وفكرها وشخصيتها، فجعلها امرأة باخية تومن بالعري وطقوسه وبالجسد وهويته، امرأة متحررة من كل مضافات الثقافة دون أن تكون مبتذلة أو رخيصة.. حيث إنها على طول مقاطع الرواية ووقائعها، لم تقع في محظور لا مع علاء ولا مع انور ولا مع الآخرين.. هي امرأة مفتوحة كما نهاية الرواية..
وعليه، ألا يكون "باخوس" هو بطل الرواية؟ أمامنا شخصيات آدمية عدة تتواتر سردا ومسرودا، على طول الرواية.. فمثلا لولا روزالي لأغلق الملف. فهي حاملة "ذريعة البوح" الروائي، كما أنها هي شيطان الكتابة، فلقاء أنور بها مرة أخرى مشروط بأن يكون أتم رواية علاء، مع أن أنور قبل نسبيا فكرة الطي وانخرط فيها، وهو ما يعني أن نار الثأر بدت تخبو في صدره. لكن لولا عب كل من أنور وعلاء من مياه باخوس، وانتصابهم لحراسة معبده وطقوسه، هل كانت لتعني لهم روزالي شيئا؟ بل هل كانا لينظرا إليها هاته النظرة الباخية، الطقسية، الحيوية؟ بمعنى أن "باخوس" كان حاضرا -خفية وجلاء- على مستوى الرواية ومستوياتها.
وهنا تكمن جمالية وجدة الرواية، فهي لا تقدم البطل الآدمي، الظاهر والمرجعي. بل تسعى إلى تحطيمه وتشظيته. وتجعل القارئ يلملم من الشظايا وجهه الممكن أو المفترض، فيتطابق مع بعضها أو كلها، مما يجعل هذا القارئ مشاركا أو مساهما في بناء الرواية، بما توافر له من بلاغة على التخييل وقدرة على التأويل.. فبطل الرواية ليس كلا واحدا، بل هو فلسفة علاء الانتشائية اللحظية في مواجهة عدمية المستقبل، وجري أنور وراء الذاكرة لتكسير أسوار الحاضر، وسعي روزالي أن تكون نفسها خارج دائرة ما حدد لها في الماضي، ودنيوية باخوس المحجوبة القائمة في الانسان، والممتدة في الزمان.. أي تضافر وتصارع الهووي والفكري والجسدي، الذي ينقل الانسان من بعده الباخوسي التمثالي، إلى بعده الباخوسي الواقعي، فطورا  يغلب على علاء العقل الحكيم بالمعرفة، وطورا الجسد المحموم بالشهوة، وطورا الكأس المترنح بالسكر، وهو نفس الشيء مع أنور، الذي يظهر بقبعة المفكر والعقلاني تارة، ويخضع لخطاب الجسد الفوار تارة، ويسقط في قرارة الكأس صريع الشرب تارة، ونفس الشيء مع روزالي التي  تحتفي بالجسد والمطابقة مع ذاتها حينا، وتسوغ أفعالها بالعقل والبرهان حينا، وتغوص في لذة الويسكي حينا. فهذه الحالات والخطابات هي حالات الانسان عموما، الذي يظل يترنح بين شهوة الجسد ومنطق العقل وأخلاقيات الروح، بين الديني والدنيوي، بين المقدس والمدنس، بين الظاهر والمبطن، بين الروح والجسد، بين المطلق والنسبي.. وهي الخطابات التي يتداولها الانسان في حياته، وتتنازعه إلى مماته.. حاول الروائي اقتطاعها من حيوات شخصياته، لتشكيل "بطله"، المكون من أجساد مختلفة، حاملة لنفس السمات، مع بروز سمة مميزة من بينها في كل شخصية على حدة. وهو ما يحطم مقولة البطل، الفحل، الأوحد، الموحد، لصالح "بطل" متشطي، إنه بطل يعربد ويضاجع ويموت، بطل يبكي ويخضع لمغريات المال السياسي والجسد، ويخطئ في حق صديقه، ويشتهي صديقته.. إنه بطل يتعرى، له جسد وله كيان، يشرع نوافذ المحجوب، ويفتق أشرعة المحظور، إنه بطل يترح للموت، ويفرح للحياة، ويخضع للمغريات.. إنه بطل يمزقه الحنين، يكسره اليومي، يشطره خطاب الروح وخطاب الجسد.. يتوزع بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، إنه بطل شوبنهاوري تارة، وكانطي تارة أخرى، ونتشوي تارة ثالثة، ذلك هو البطل في رواية باخوس "كائن بلا وجه ولا كيان" أو بكيانات ووجوه متنوعة.. إنه باخوس المحجوب والمسروق والمنتفي والمحظور، إنه السعادة المسروقة من الانسان، فسرقة باخوس هي سرقة سعادة الانسان(المغربي والكوني..) بعد تحطيمه نفسيا وفكريا ووجوديا، بالخطابات الأخلاقية والثقافية والسياسية والأيديولوجية.. ودموع باخوس هي دموع هذا الانسان على ما سرق منه.. والبطل الروائي، هو الانسان(المغربي والكوني) المتعايش مع أزمة اليقين، وإكراهات الواقع، وعنف السلطة وإغراءاتها، وغواية الجسد، والترنح بين الرغبة في اقتراف المحظور والامتثال للأخلاق. إنه الإنسان المتشظي، المكسر، الممزق.. ويقاوم، ويتعلم، ويحيا وينشط، ويتجمل، ويتعرى.. رغم عنف الواقع وموت الانسان، ورغم سرقة باخوس منه، سيبقى "باخيا".. وهو مستوى بالغ من مستويات التجديد في الرواية، تجلى في تحطيم مقولة البطل ووحدته وهويته، وإعادة بنائه(شكلا ومحتوى) من شظاياه المتساقطة على أرض الواقع.. مما خلق فيضا جماليا دافقا، يغمر كل الحواس، ويجعل القارئ يترنح دوخة، تحت وقع كأس الفن، وسلسبيل الابداع..  

* محمد أمنصور، دموع باخوس، منشورات الموجة، 2010، المغرب.
** زهير اسليماني/ المغرب، باحث في الجماليات وتحليل اخطاب.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟