قصيدة النثر أو الحساسية الجديدة: نحو خطاب إنساني كوني ـ عز الدين بوركة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

image4456778ظل الكلام المنثور من اللغة، النثر ذلك الكلام المسترسل، غير ذا قيمة تُذكر أمام الكلام الموزون والمقفى عند العرب، الشعر، لقرون خلت، بل لا يُعتبر العارفُ عارفاً (فيلسوفاً كان أو رجل دين...) عند شعوب الضاد، قديما، إن لم تكن له مَقدرة في نَظمْ الشعر ووزنه حسب البحور المعروفة والمحددة، كأن هذه البحور شيء مقدس مثلها مثل الكتاب المنزّل والحديث الموحى. لهذا عرفت القصيدة العربية عند انعطافها إلى شكلها الأول من الحداثة، مع نازك الملائكة (التي سَمّت هذه القصيدة "بالمعاصرة") وبدر شاكر السياب.. وغيرهما من شعراء قصيدة التفعيلة.. مواجهة عنيفة من مدارس أدبية تبنّت الدفاع عن القصيدة الأم (مدرسة الديوان المتأثرة بالرومانسية الإنجليزية، الإحيائيين... مثالا). مواجهة لم تستمر أكثر من ثلاثة عقود من الشدّ والجذب، والعراك الأدبي الثقافي. إلى وقت بداية ميل –واعتراف- بعض الأصوات المضادة للخطاب الداعي لهذه التجربة وتبنيه.

هذه التجربة التي ستشكل قفزة نوعية نحو التطويرية التي تعرفها القصيدة العربية في وقتنا الحالي. غير أن هذه المواجهة لم تكن أعنف بقدر العنف الذي عرفته قصيدة النثر. التي سبق واحتلت في أدب [الغربي] كأدب فرنسا مكانها الطبيعي حيث تمثل أقوى وجه للثورة الشعرية التي انفجرت منذ قرن 1. قبل تبنيه من شعراء جدد عرب متحمسين لها.
 القصيدة النثر العربية التي تأثر روادها بالقصيدة الغربية المتحررة بشكل كلي وكامل من القافية والتقطيع الداخلي للبيت الشعري والمقاطع الشعرية. تبنت أصوات جديدة خطاب التأصيل والتنظير لها. عبر أسماء شعرية ومثقفة، واجهت بشكل دفاعي صلد عن هذه القصيدة الحديثة، مُتبنية للقطيعة الكلية مع القصيدة البَحرية (المُجبرة بالإنكتاب داخل قانون البحر الشعري)، والمُلزمة بإتباع قواعد صارمة، عافٍ عنها التطور والتحديث، في كتابة القصيدة. مما يعدّ حسب هذه الأصوات، كما كان لها التنظير لذلك في منبرها الأول "مجلة الشعر"، حدّ للحرية التي دعت لها المفاهيم الجديدة التي عرفها العالم في جلّ ساحاته الثقافية، كالسريالية في الفن التشكيلي. والبوب والجاز في الموسيقى. واللامعقول في المسرح مع صامويل بكيت والبير كامي.... وغيرها من الساحات والميادين الثقافية.
 
حاول انسي الحاج وأدونيس... الدفاع والتنظير لهذه القصيدة بكونها الشكل الأكثر حداثي للشعر العربي، عبر مجلة الشعر.. منفيين وقاطعين مع ذلك المفهوم العتيق الرائي للقصيدة أنها ذلك الكلام الموزون المقفى الذي تتخلله موسيقى داخلية. وعبر خلق لجوائز في الشعر ونشر دواوين لشعراء يتبنون هذا الخطاب الشعري الجديد. مثل محمد الماغوط الذي نشرت له المجلة أول دواوينه (حزن في ضوء القمر) وأول الدواوين التي ستنشرها المجلة. وعبر نصوص تأصيلية ونقدية من نقاد انتصروا لها من بداياتها (أسد زروق، خالدة سعيد، أنسي الحاج، يوسف الخال...) غير كل هذا، وفي العشرين سنة الأولى لظهور هذه القصيدة (إلى حدود السبعينيات مع النقاد الجدد في المغرب الذين اصلوا ونظروا لها أمثال محمد بنيس ) اعْتُبرت ضرباً من اللعب باللغة واحتقار لها، وخاصة نتاجا لتلك الصورة التي تركها لفظة "قصيدة النثر"، التي يُحيل، شقّها الثاني، اللاوعي الثقافي العربي لذلك التحقير المسبق والقديم لكل ما هو منثور من اللغة.. إلى أن عرفت هذه القصيدة شكلا جديداً من التنظير العالِم الذي استفاد من سابقيه. مع ثلة من النقاد الجدد (أواسط السبعينات وأوائل الثمانينيات ) الذين كثفوا من خطاباتهم التنظيرية. التي انتصرت لهذه القصيدة بشكل من الأشكال. غير أن هذا الانتصار لم يجعل من بعض الأصوات الشعرية الكبيرة تتبناها كشكل لقصيدتها، إلا أنها كانت تراها وتتحدث عنها عبر نغمة صوت محافظة. (مثل محمود درويش، ويوسف الخال الذي يمكن اعتباره من مهيئي لمفهوم قصيدة النثر، وإنْ  سيتبنى موقفا متحفظا من كل الشعر الحديث، الذي يراه يخالف لعموده الشعري.). هنا نسأل ألا يكون هذا التحفظ والصمت في المجابهة قد يجعل من قصيدة النثر لا تتطور وتحتكر الخطاب الشعري كأنها شكل من أشكال الحقيقة في قول الشعر.؟ ودونها ليس بشعر؟..
غير أن البعض يجيبنا أن هذه القصيدة بالفعل عرفت تطورا ملحوظا من سنوات التسعينيات من القرن الماضي. متجهة لخطاب حديث لم تعرفه القصيدة العربية في كل تطوراتها. يسمى اليوم بالقصيدة اليومي أو الحساسية الجديدة. هذه الحساسية التي تنتمي لحداثة الوضوح. عكس سالفيتها التي تنتمي لحداثة الغموض. هذا الغموض الذي عرفته كان رهين الخطاب واللغة الغامضين، التي كانت تعري هذه القصيدة في شكلها الأول سنوات الخمسينات والستينيات، وهي في حالة مخاض عسير نحو خلق لنفسها متسعا معرفيا وتنظيريا. وأيضاً حملها للخطابات: السريالي والانطباعي والفوضاوي، والفطري. التي كانت تحاول مسح وتجاوز ملامح الدمار الذي خلقته الحروب ( العالمية الأولى والثانية) والمعارك الإنسانية الدامية، نتاجاً لتبنيها لقرون للخطاب المحدد والدغمائي، الظانّ والمٌعتقد أنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة.
هذا الاتجاه –الخطاب الحديث-، المؤمن بالنسبية في العالَم والوضوح، أدّ بقصيدة النثر، بعد مرورها بمعارك ثقافية وفكرية، إلى حساسيتها الجديدة الواضحة الخطاب والمنتمية لليومي، والإنساني. هذه القصيدة الوليدة حقوق الإنسان. والدعوة للكونية في الفكر. عالمية الإنسان بلا حدود.
قصيدة النثر أو الحساسية الجديدة خطاب نحو كونية وإنسانية الكائن الإنساني. كائن لا ينتمي لحود جغرافية. كهذه القصيدة الحديثة اللامنتمية لحدود القافية والعروض. والتقطيع والبحور.
-----
1-    انسي الحاج: مقدمة ديوان "لن"

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟