"غواية القراءة": بحثا عن المشترك الثقافي.. ـ سعيد الشقروني

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse88989    كيف نصل إلى المعنى الذي يحتفي بالمعنى ويختفي خلف الحروف؟ وكيف  نتأكد  من أن هذا المعنى دون غيره  هو ما تغياه الكاتب؟  بلغة مغايرة: ما الأداة المسعفة على الحكم على فلاح هذا الكتاب أو غيره في إيصال مضمونه باعتباره المشروع الأسمى –المضمر أحيانا- لأي مغامرة كتابة؟؟
         ربما، أو أكيد، هذا ما حاولت المناهج النقدية الإجابة عليه باختلاف التيارات والتوجهات الأدبية. وأكيد أن محاولة البحث عن جواب مقنع لهذا السؤال أو توقعه –مع استحضارنا أن الحكم النقدي يظل دائما محاصرا بطوق التنسيب- هو ما جعل النقد  متمتعا بالخصوبة الكافية لإنجاب تجارب نقدية متنوعة ومختلفة باختلاف رؤى أصحابها ورصيدهم الثقافي.
       ليس هناك على ما يظهر "أي خلاف" بين أجناس الأدب وأنواعه وأنماطه، مادامت تستثمر الكلمة باعتبارها الثابت الذي يصب في كل القوالب المتحولة والقادرة على احتضان الشعور والأحاسيس رغم اختلاف الوسائل والأدوات.

القراءة فك لطلاسم الحروف، وحل لرموزها، وأثناء هذه العملية يتشكل المعنى، فيتدفق سيلا قرائيا، ويعمد القارئ إلى تجميع معطياته والبحث عن دلالاته. وعند اقتحامه لعالم القراءة، يجد القارئ نفسه في خضم عملية إغرائية، حتى إذا استأنس الغواية وولج غمارها، وجد نفسه أمام متاهة تعددت اتجاهاتها ومساراتها. فيكون عليه أن يخوض مغامرة البحث عن مسارات الدخول والخروج من تلك المتاهة، استكشافا للعالم المقروء وتتبعا لمعانيه، وتركيبا لدلالاته.
القراءة مغامرة محفوفة بالمخاطر، صعبة الطريق، وعرة المسالك. تتطلب من القارئ جرأة المواجهة، وعزيمة المغامرة، وصبر الطريق، وحنكة الاجتياز.
ولأن القراءة فعل ذاتي بامتياز كما يقول فانسان جون، فإنها تغدو غواية تأسر القارئ في حبائلها، وتُحكم عليه خيوطها، وتغلق دونه الأبواب، فإذا هَمَ بها صدت عنه، وتمنعت وفرَّت أمامه وأتعبته، فيكون عليه الدخول في مغامرة الرصد والتتبع والتقمص والمراودة وتغيير المسالك؛ حتى إذا استتب له الأمر أحس بلذة لا توصف: هي لذة القراءة التي تأتي بعد مشقة وعنت.
 إن لمؤلِف "غواية القراءة"(1) هبابا في زمام مطيته تخف مع جذبه جهام الكتابة وثقلها، ولكم علمت مدى تلفعه بإزارها، وتدثره بأثوابها، إلا أنه كثيرا ما أحجم عن أن يزف إلى عروسة  من عرائسها، وهو العارف بجمالها والمراود لأبكارها عند إبكارها. وها هو بعد طول إدلاج، ثبت الخطى وأمسك بالسراج، في رحلة برء من الإرتاج، أو هذا ما حدثنا به مقدم الكتاب الباحث مولاي علي السليماني.
لقد أعلن مصطفى لفضيلي من خلال هذا السفر اقترانه بزمرة من النصوص في زمن حرم فيه التعدد، وكَثُر فيه اتخاذ الأخذان طلبا للتجديد والتجدد، فما اكتفى بالنظرة العجلى والمس الخفيف، بل طلب الولد منها بأسلوب لطيف -وهي الخصبة الودود، وهو القلم  الولود- من خلال معاشرة أمسكها فيها بمعروف؛  فألفيناه يحرك إحساسنا باللغة ويزيدنا بها وَلَها. فكان له ما كان من ذرية ورثت ملك القراءة، لما كان له من غواية اللغة وفحولة الكتابة.
يحس قارئ الكتاب بفتنة الكلمة وإغرائها، فيشعر بالإمتاع الذي منبته الإبداع، وتتحرك لديه داعية الإقبال والإعجاب طلبا لتلك النصوص التي مازال بينها وبين القارئ حجاب.
إن الكتابة حول الكتابة محفوفة بالعقم والتكلس، وجالبة للنفور ومدعاة للتملص، إذا لم يكن الكاتب من أهل التخصص، ففيها يتوارى الإمتاع شيئا فشيئا لصالح الإنفاع، إلا أن ما قدمه الدكتور مصطفى للنصوص التي اشتغل عليها زادها بهاء، وألبسها من الحسن رداء، وصب زيتا في قناديلها فتوهجت نورا وضياء.
فبالإضافة إلى تقديم –على وزن تقدير- عاشق ومعبر للباحث المغربي مولاي علي السليماني، اعتنى  لفضيلي الناقد والقارئ بالمتطلبات الأكاديمية المطلوبة  وهو يمشي على استحياء وبحذر ودراية  تامين في رحلة يوليوسية تروم الكشف عن مواقع الإمتاع والمؤانسة في المتون، حيث مرر مِشْرَاطه على أديم  "في محراب الشعر"(2) للشاعر اسماعيلي علوي مولاي هاشم، معتبرا إياه رفضا للحاضر، وسفرا في الماضي بحثا عن فروسية يمسك الشاعر بزمامها، فيعجز الواقع عن استيعابها لأنها أكبر منه، فتتفلت هاربة، ويقتفي الشاعر أثرها اقتفاء الفارس لطريدته، وتعلو حشرجاته، ويشتد نفسه، وهو في مطاردة لا تكاد تنتهي حلقاتها، تارة يقصد العلم وأخرى الدين وثالثة المرأة، إذ وجد الشاعر لاهثا في أغلب لحظاته؛ ولا غرابة في الأمر ما دام "المحراب" في عمومه أرقا وقلقا وسؤالا وهما وحلما، "يتبدى في كل كلمة وفي كل صورة وفي كل قصيدة.
"في هفوة الليل أول أسفاري"(3) للشاعر محمد جعفر، ديوان فيه سفر للروح بحثا عن طمأنينتها وعن الدفء أمام ضغط الواقع، تتدثر بأسماء أخرى ما هي إلا تجليات لرغبة دفينة، وربما تعتبر الصحراء ملاذا من ملاذات الخلاص، لعل هذا ما جعل صاحب الغواية يجد في بعض مقاطع الديوان إرشادات طريق يوجهها الشاعر/الشيخ لقارئه/مريده، تحدد المسار وعلامات الطريق، وينصحه بالتوجه (فول: وعلاقتها بقوله تعالى "فول وجهك شطر المسجد") صوب الجنوب (الصحراء) أرض الأنبياء والنبوءات، حيث الجريد والنخل(علامة الصبر والجلد)، وبوح الصباح(بشائر الصبح) (4).
       قراءة  لفضيلي لديوان "خلاصات على وتر الغيب"(5) لعبد الكريم شياحني جعلته يعتقد أن الشاعر في عالمه الشعري، كان نشوانا بإيقاع الأحلام، فاختلطت عليه الرؤى، لأنه ساعتها لم يكن واعيا، وشرط الوعي عامل أساس في تحديد الأفق الفكري للمثقف، فاختلطت عليه الإيقونات: الإنجيل/ القرآن/ التعمد/ النار المقدسة/صفوف من العمائم في صلاتك... غير أن قصيدة "وطأة الغياب" قد تشفع لهذا الجنوح الرؤيوي. الأكثر من ذلك اعتبر لفضيلي رحلة الشاعر الشعرية، رحلة وعي يريد كتابة سيرة إنسان يبحث عن خلاصه وصفائه، فيمارس لعبة القراءة ومراودة اللغة عن نفسها علها تبوح بأسرارها، فترسم معالم عالم يوجد في مخيلته، فيوقظ فيه نزق وشغف طفل يسكنه يريد التخلص منه (وأقطع حبلي السري بجرأة توأم..) (6)، ومن كل ما يشده إلى الأنثى. لكنه لا يستطيع لأن تلك الأنثى تصير طفلة، غيابا، قصيدة تأسر الشاعر وتملك عليه ناصيته.
السرد التراثي الشفاهي بتافيلالت حاضر بدوره  في المؤلف من خلال كتاب "التراث الشفاهي بتافيلالت: الأنماط والمكونات"(7)، الذي أشرف عليه كل من الباحثين سعيد كريمي    وموحى صواك، اللذان استطاعا أن يميطا اللثام عن التنوع الثقافي الشفهي والفني بالمغرب. ويتوخى كتابهما الحفاظ على التراث الشفهي والثقافة اللامادية لمنطقة تافيلالت، وتعزيز الهوية والتنوع الثقافي المغربي؛ إنه اغتراف من بحر المخيلة الشعبية والخيال الشعبي،      وكشف عن الذات الجماعية وإنارة لكواليسها.
واعتبر باحثنا "سفر الروح"(8) لسعيد كريمي قصة تعالج واقعا في حالة انتقالية بين مجتمع تقليدي يعيش تداعياته، وآخر يحاول أن يكون حداثيا يبحث عن ذاته. وبذلك تكون القصة قد وفقت في طرح إشكال الحداثة وما يفرزه من قضايا في الثقافة العربية، ولم تقدم له جوابا أو أجوبة إنما قدمت احتمالا وتركت للمتلقي احتمالاته الخاصة.
وتظل الكتابة عند الناقد مولاي علي سليماني صاحب كتاب "الشعار، دراسة في الدلالة واللغة والأسلوب"(9) تجسيدا للفكر وعقلا له، وعبرها يشخص الكاتب مضامينه، فتخرج الحروف لتؤلف كلمات تتجاور مشكلة فقرات، وتنضام الفقرات فتعطينا نصوصا تحمل مضمونا كان هدف الكاتب من الكتابة. وهو ما يعني أن ذاتية الكاتب تدخلت في العملية تؤلف بين الكلمات والألفاظ حتى تؤدي المعنى المطلوب نصا كان أو قصيدة أو قصة، يقول الجرجاني:"فالألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف، ويُعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب..."(10). وهذا أمر لا يتحقق لكل الناس، ومهارة لا تتوفر عند الكل، يقول الجرجاني أيضا:"إن المعاني كالجواهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه، ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة ويكون في ذلك من أهل المعرفة، كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له"(11).
فإذا كانت الكتابة بهذه الحال، فإن الكتابة على الكتابة، والكلام على الكلام من الصعوبة بمكان، لأنهما عمليتان تتطلبان من الدارس الاشتغال على واجهتين، ربما هذا جعل "الشعار: دراسة في الدلالة واللغة والأسلوب" من طينة تلك المؤلفات التي تدخلك في لعبة كر وفر محاولا الإمساك بزمامها، وتتبادلان طريقة المراوغة. وهو ما قد يتعب المتلقي فيأتيه منقادا مُستسلما مُراودا له، عَلَه يسمح له باقتحام مجاهله، وربما هذا ما وقع لصاحب الغواية حيث أعيته الوسيلة ليهتدي إلى خطة مفادها الزحف على متنه من خلال الواجهة اللغوية، مقتصرا في الدراسة على ما له علاقة بالكاتب ومؤجلا دراسة النصوص المختارة إلى حين.
إن "غواية القراءة" رغبة عاشقة وعالمة وراغبة في إيصال  قيم وأفكار طالما وجدت طريقها في المتون التي اشتغل عليها الناقد، والتي تظل في تقديري  في حاجة متجددة إلى القراءة مرات ومرات. هي قراءة يحميها القصد في الانتقاء والوعي النقدي في الاشتغال، ناهيك عما أضفته لغة لفضيلي النقدية المُبتعدة عن المغالاة والمبالغة في اقتناص المفاهيم النقدية الطنانة والرنانة، مُنشئا بذلك لغة نقدية في المتناول النقدي والثقافي المناسب لإدراك طلابنا وعشاق اللغة العربية والقراءة. 
لقد جمعت مائدة هذا الكتاب بين منظوم الكلام ومنثوره، باكورة أعمال زمرة من الأدباء والدارسين ينتمون إلى مغرب الهامش، ويؤرقهم قلق السؤال والبحث عن مغرب الأفضل، وتحلق بهم أجنحة الأحلام بحثا عن الواقع الممكن، محاولة منهم الهروب من شرنقة الواقع الكائن.

الهوامش:

1-    مصطفى لفضيلي،غواية القراءة، مطبعة: الرشيدية كرافيك، الطبعة الأولى 2014.
2-    في محراب الشعر، ديوان للشاعر اسماعيلي علوي مولاي هاشم، صدرت طبعته الأولى سنة 2001 عن مطبعة دار الهدف بميدلت.
3-    في هفوة الليل أول أسفاري، محمد جعفر، مطبعة نت ماروك، الرباط، الطبعة الأولى ماي 2011
4-    نفسه، 43
5-    خلاصات على وتر الغيب، عبد الكريم شياحني، مطبعة ميداكراف، الرشيدية، ط الأولى 2011.
6-    نفسه،ص: 70
7-    التراث الشفاهي بتافيلالت: الأنماط والمكونات، تحت إشراف د.سعيد كريمي          و ذ.موحى صواك، نشر اتحاد كتاب المغرب، ط الأولى: 2008
8-    سفر الروح، سعيد كريمي، منشورات اتحاد كتاب المغرب الرشيدية، مطبعة الطوبريس طنجة، ط1.
9-    الشعار، دراسة في الدلالة واللغة والأسلوب: الدكتور مولاي علي سليماني، مطبعة سجلماسة مكناس، الطبعة الأولى، 2011.
10-    أسرار البلاغة، تحقيق: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة،(د.ط)، 1404هـ1984م، .ص:31.
11-    أسرار البلاغة: 141.