الشعر النسوي العربي بين التقليد والإبداع ـ جعفر كمال

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasse8888نتناول الشاعرة ناهضة ستار في: إحكام إنفتاح البنية الداخلية  على ماهية الصوت:
تقدمة
    يمارس الصوت وسائط طيفية تخلق سريرة نوعية في تمويل التخيل الذهني  Phantasia، يمكن الاستدلال عليه من سياق الجملة الوصلية، التي تَتَصَّيرْ بها الألفاظ بأناقة زخرفية سلسة، يناجيها خيال الإجْمَال المخصب من رهصة جاذبة، تلك الرهصة التي تمتد لإثارة الحس المزدوج من مبتدأ الإحاطة بأجزاء الشعر الملبية لسريان ترنيمات النبض الصوتي، وقوة الإرادة الإجمالية في المعيون الإبداعي، حيث يُسبَغ النص الصوتي مفاءات توليدية تتجلى فيها الانفعالات الحاسة، وهذا يُخَتَمُ بالإْلهَام عند الشاعر \ الشاعرة، بخاصية تقوم على تمويل طرافة نظم الكلام المستنبط من الملفوظ العادي، إلى الملفوظ الإيقاعي، على اعتباره إنتاج المؤهل الذهني، المُكَوَنُ من معرفة متقدمة لجمالية كائنة في طبيعة الحروف الصوتية من تمكين تحصيل الجوابات الفنية تنسيق مجتنى تالياتها، وكأنما حالها يعمق ويجسد الشعور باتجاه شكل مختلف يَهِبُ النفس التمتع الخالص، وذلك بواسطة التصوَّر النوعي في شفافية التدوير السياقي، فيكون الكلام جارياً في نظمه مجرى النسيم، تتساقى من فيه خصوصية لا تظهر فيها الكلفة والإنفعال الشديد، فيكون مكروهاً. تلك الخاصية التي أشتغلتْ عليها النظم الشعرية بكل أجناسها، وهي إمّا أن تكون مجسدة في الشعور الإرادي عند الشاعرة، أو إنها إعجاز يفيء بمحاكاته التنويرية على  المُحَصَل الذهني، وهذا لا يتم إلاّ في حال تهيئة المتقابلات في الصورة الشعورية التي يستولدها الخيال لحظة الكتابة، تلك التي تتصف بالثراء الفكري التنوعي والغزارة والندرة والتفوق، المتمثلة بالنشاط الذي يبثه الصوت في هكذا تخصيص، نتلمسه باحساسنا المشاعري، لأنه يُفاعل التناغمية في محاكاة هي ألطف وأدق منبضات التثوير الحسي، الذي يترك تأثيره على النفس المتلقية بوارد محبب.

   فنقول النص الناجح هو الذي يفاعل اتصاله مع المتلقي فترة زمنية، ربما تطول أو تقصر،  ومن بين الشعراء والشاعرات العرب من المعاصرين ممن احسنوا التصرف بهذه المحاكاة الشعرية، أستطيع أن أشير إلى ذروة المتعة العليا في تطريز هذا الائتلاف وهم: سعدي يوسف، د.بشرى البستاني، خالدة خليل، أنسي الحاج، سميح القاسم، ناهضة ستار، كاظم الحجاج، حسن عبدالله، وعبدالله علي الأقزم.  
    وهؤلاء الشعراء ذوو الأختصاص في تفنين موسقة الإيقاع الصوتي بجمالياته المحترفة، لسوف أتناولهم بدراسات تُشَخَّصُ مُتَزَوِّد مرجعية الشاعر وأسلوبيته، لأنهم تفاوتوا في تصريع الكلام الإيقاعي، وتغايروا في مُذوَّق الأدوات التي تختص بمقاييس التناسج المعنوي دون علقة تذكر، ضمن مناجاة محسوس تنافس الفصاحة، حيث لا انقطاع في سريان النبض المنساب بصحةٍ طيبة، هو ما يستدعي مني الأهتمام في مفارق فروع الصوت والصورة والتقائها. فمن جهة أن المتلقي ينظر في الاختلاف بين نص ونص، وبين شاعر قائل لهذا النص أو ذاك، على اعتبار المنطوق الذاتوي، والمفهوم، والإيماء، والإشارة، والاستدلال، والترميز. لا على اساس نوعية الجنس البشري. ولأن الشعر زائر مجهول ليس له وقت محدود لا في الزمان ولا في المكان، ومع هذا التفاؤل وجدتني أشير بالإيضاح إلى أني غير مُسَرٍ وتجربتي النقدية بما يكفي من المعلن في كآبة بعض النقودات العربية ذات الأسلوب الأكاديمي المتشابه بعينه.
    وما أطرحه هنا يمثلُ الأقرب إلى النسبة في استقلاليتي المُحدِثةِ، وما أبَيّنَهُ من علم يوقظ بماهيتهِ المختلفة كائناً نقدياً جديداً، هو: علم الصوت الجمالي الذي بانَ أثرهُ في التمثيل المستقل الذي بينته في دراسات سابقة، وما زلتُ أشتغلُ على مستنده الواضح في الايضاح الذي يماهي الجملة الشعرية الحدسية المركبة، بمعالجات وفحص الرؤى والأفكار المثبتة في: منطقة التمثيل في مهارات الصوت، نظراً لأهمية هذا التغيير الجذري الذي أعمل على أن أجعل من اتجاهي النقدي يؤسس لمشروع نافع تتحد فيه الإحاطة والإجمَالُ، حيث تتفاعل وتنتفع من طابعه الخاص أجيال معاصرة، وأخرى آتية، حرصاً منا على أن نعاين تحولات المَاهيَّة الأعْتِبَارِيَّة البَصَرية المُتصرِّفَة بمحصلات شيوع الإدراك، وإجمال الشواهد، والتنبيه الحيوي في معالجة التأسيس الصوتي للحرف، وأثره الواضح في منبهات الرؤية المفتوحة على إبانة يُسَنِّى لها لزوم التثبيت، فتقوم على إيراد إدغام الإرهاص التنويري، الذي يترتب عليه إضاءة حوارات الوعي التحولي في الذهن، لتأسيس محاصلة نقدية جامعة لأحكامها، تشكل تحولاً يساهمُ في تطور الإدراك البياني للمتفاعلات الممولة للنقد، يُبنى على أساسه الجناس النوعي الذي يساهم في حوارية أسلوبية التغيير الجذري في ميزان النقودات التي أفتقرت إلى:
أولا: تحليل دلالة التضمين الشرطي المتأصل في الذاتوية المشخصة بمعالجة الصورة الكلية.  
ثانياً: التصريف في أبنية الإيقاع الأسلوبي في أسلوبية النص.
ثالثاً: الكشف عن نبض ماهية مكنونات الصوت، من اليقين الذهني الذي تستحصله المحسوسات  باتصالها بالمرهص المتواتر.
ورابعاً: الإرشاد التطوري في معالجات الشاعرية للبنية الداخلية، وتناصها الوظيفي مع المتشابهات من ذات الجنس، أي متلاقيات المُجْتَنَى التنويري في الأَبْصَارِ اللاَّمحة.
    وعلى اساس هذه الوسائط من مفهوم التجريبيات، التي تحقق المبتغى النقدي المتقدم على سلفه، وجدتني أقدم الحكم على اليقين المعزز بثقافتي الخاصة، التي لم تستند إلى تجارب نقدية أختصَ بها أهل السلف والمعاصرة. وفي مساري النقدي الجدلي تجدني متجهاً ببصيرتي إلى المؤثرات المختلفة بشروقها الوظيفي، الجامعة لعلومها اللغوية والرياضية، مبيناً قدرات كل شاعرة على النحو الذي فيه أبحثُ عن مكانات تطورها عبر معالجاتي التالية:
    أولا: مقدار ماهية إدراك السعة الجمالية في محاكاة الشاعرية في المناطق الحسية.
    ثانياً: جريان ألفاظ النص على السمع بالشفافية المجازية التي تزيد الكلام ألقاً مفهوماً.
    ثالثاً: مقدار تلاقح المعاني البليغة بجماليتها.
    ومن واقع اهتمامي أكون قد حاورت كل سياق على سياقه في شكلانيته ومضمونيته التي تتحد في الإحساس والتصويب، من استجابة ماهية بالقبض على أن تحقق أبعاد الرصانة المفترضة، أن تضفي على القيمة الشعرية ميزتها التنويعية الموزونة بميزان يوازي بين الأنا الشاعرة، أو أنا الذات المثقفة، على أن تكون الشاعرة المعنية منفتحةً على سياقات توليدية المطاوعة الفنية بكمها النوعي، من منظور ضَبط القواعد اللغوية بخافق أجْذَى قيامهُ، حيث تتلاقى فيه ملامح الدهشة، والإيقاع، وتتميم الرؤية الفاحصة للمتخيل النوعي، عبر أصول تتبنى أدوات تُنْضَج من فيها مخيلة الشاعرة، على مناطق أوسع، تسعى إلى تجاوز المعاصرة بأسلوبية أكثر دقة، دون قطع في نقص المعنى التأملي الفكري كالكناية، والاستعارة، والتشبيه، تلك العلوم التي تحدد قيمة التعابير المدهشة في بنية الصورة الصوتية.
    وقد أمضيت زمناً طويلاً منذ أن أعلنت عن اهتمامي برصد الشاعرة المحترفة باتزان جمالياتها الشعرية، المعمول بها في كتابي "الشعر النسوي العربي بين التقليد والإبداع". أدرس المذهب الحسن بصوته عند الشاعرة، متجهاً نحو مفاهيم خاصة تجعلني أختار شاعرية المختلف فيها عن غيرها، وأنوء بمقداري أبعد من النظر عن تلكَ المقلدة التي جمعت الترويج الكاذب لها وللناس.
الشاعرة ناهضة ستار
    لا يخفى على كبار الشعراء العرب، ومصاف المكتبة العربية اسم الشاعرة ناهضة ستار، وما تكنزه معجزات الشاعرة من موارد استقلاليتها المتمثلة في الشعر، وهو جواب طلوع متخيلات الذات العارفة، حيث امتازت بها دواوينها الشعرية المحمولة على الوقع الأيجابي التطوري، من لدن استقلاليتها الحاصلة في اِستخدامها الألفاظ المعبرة عن أكثر من معنى في ملمسها الفني، وجعله قابلاً نوعياً بمؤثراته على القارئ العام، والناقد الخاص، وميزتها في خصوصيتها إنها استحصلت إلهامها من جماليات تداولية القصيدة الزمنية المتحولة، التي حققت فيها تجربة فردية بتعاملها الشعوري مع أحداث الوقع الزمكاني، ومقاربة التَّفضيل الإيقاعي المشتق من حوار التصاورية الحسية، وتميزها إنها مازجت استقراء الذات الواقعية، بذاتوية الميتافيزيقا بالمقايسة، وبهذا المحصل النوعي أسست ملاقحة عرفانية عالية الإحْسَاس، من إيقاعٍ حدد قيمتهُ إنهُ بسطَ المحسنات اللفظية بواسطة رد الفصاحة على الأصل، وذلك بالقبض على سريان الحقائق النابضة في خصوصية النص العرفاني، المؤكد لمعاينة التتميم الشعوري عبر تنمية التقدير اللغوي من لدن خصوصيته، التي هي بالأسَاس مفتوحة على اشتراطات تفننت بالبلاغة، وتواصلت بالحوارية الفنية، وهنا لا أقصد البلاغة التي تمحور روحية اللفظة، إنما البلاغة المركبة في الإضافة التقنية، وذلك من حيث تطابق المحتوى الذي يجعل الجملة الفنية تطلق معانيها عبر محصلات المضمون المنسجم بتساقيه مع الجملة التي قبلها، والتي بعدها، لكي يُبَين جوابات الكلي من السياق الجزئي، حيث يَنْصَبُ المعنى المجازي بتنسيق علوي وسفلي من لدن كبريائه المتجانس بوحدة عضوية، تتجلى فيها الأبعاد الفنية من لزوم مصبها الذهني، وهذا يؤخذ على قياسين:
أولهما: يعرف على جهة الحبكة العارفة بالضرورة الشعرية.
وثانيهما: وعي الجوابات المشتملة على بسط المفاهيم الإنسانية في النظم الشعرية.  
    ومما أتى في هذا الصنف من مأتى ذكاء هو أدبٌ مفنَّن، أبَانَ تحقيق الكلية في المتوازي المنطقي المتقن، بتشبيه الوعي المعرفي على اعتباره فكر ورؤية، لأن الشاعرية هنا ومن خلال هذه النمطية الوجدانية، أَعْيَنَتْ منطقها من خلال جمع خيوط الأفكار المتفاعلة مع انسجام الذات الشاعرة، عبر مساق المحاور المتصلة بالحدث النوعي، حيث تتشكل المحاصلة القيمية لديها من نمط يؤثر في تمثيل مستوى تداعيات وعيَّها المتقدم بميزته المتقنة للحدث، المتواصل منذ بدأ تاريخها الشعري المتفاعل بخبر شأو الذات. حتى نجاعة مهمتها في توسيع وضم الصورة المفاخرة بشاعريتها بعضها إلى بعض، ونعني اللون المتجسد في مكنون التفاعل بإيقاظ المختلف عليه، فكان حصاد البيان عندها اشبه بتثوير بلاغة اللسانيات في حَدْ المنطق الذي يثبت شمائل أسلوبيتها، وفي وصف علم اللسانيات قال البلغاء: "اللسان أداةٌ يظهر بها حُسن البيان، وظاهرٌ يُخبر عن الضمير، وشاهدٌ ينبئك عن غائب، وواعظ ينهى عن القبيح، ومُزَيِّن يدعو إلى الحَسَنِ، وزارع يحرث المودَّة، وحاصد يحصد الضَّغينة، ومُلْهٍ يُونِقُ الأسماع*" وإذا احتسبنا أن الشاعرة جعلت ذاتها تتناص مع المقدارية البلاغية عند الأوائل كمرتكزٍ لمفاهيمها فهذا دليل سعة معارفها، وهو حسن لا خلط فيه، إذن فما كان ما تميزت به ناهضة ستار حقق تقديرها المجانس للمعاصرة المحصنة بمقاديرها، وذلك ما وصل لنا بواسطة المنشور في بعض الصحافة الورقية، ومن خلال المواقع الألكترونية، وأغلبها شكلت الفيصل والمزيَّة في صِيَغْ التنوير، وخاصة في عبور شاعريتها الفائقة، إلى حيث مسوغ قدرتها العارفة على أن الإدراك هو الصفة المضمنة لمفهومية المتوجه النقدي المحترف.
    الحقيقة أنا لا أقوم برسم تمهيدي للمدح، أو نشر أفكار لم تنبثق من الحقائق، والتجارب، والمنشور السمعي والبصري، بل من خلال مسعى نظريتي النقدية التي توضح علم الصوت الجمالي في المساحة اللفظية التي تعتني بمركزية الإيقاع التوليدي للمجانسة الحسية، عند الشاعرة التي تمتلك القدرة النوعية على النظم الذي يحبب القارئ بالنص، ومنها أحاور الاضافة المميزة لهذه الشاعرة أو تلك كل على حسب قدرتها الإبداعية، في إضفاء محصلات الاستثناء النوعي الذي يميزها، لاناقش المتلاقحات الوظيفية المطلوب تبنيها معالجة غريزة الرهصة الشعرية التي تحقق الجدية والعمق ألاّ وهي:
أولا: التضاعف
وثانياً: الرصانة
وثالثاً: التجميل
    هذا لأنني وجدت ناهضة ستار تدخل مناطق التمثيلات الشعورية، فَيُحْكَمْ نصها بوحدانية التصويب المعنوي، واصالة تعتني بإدراك يفي بالغرض لأدوات صفَاء غرضها التخيلي بالابتعاد عن الهذر وعمى المعاني، والشعر عندها أجوده علومه، حيث إنها أغنت منظومتها الشعرية بنواحٍ ألمَحَتْ سمات الغايات الإنسانية، من معيار ينتظم بمؤشر المعادلة الرياضية وهي:
- الطرح، والقسمة
    أقول هذا كون الشعر بنيّ على أسس المعادلة الحسابية، فالشاعرية هي من تعيد خيال الباطن لتقوم بتقسيم تشكيلاته، وتقديم وتأخير حروفه، وطرد بعضها، وتتميم بعضها الآخر بالاشباه والنظائر، ثم طرحه للعلن المسموع بتوليف التَّكَافُؤ القيمي في متقاربات النص، لأن الألفاظ المبنية على زيادة وعي مهارات الفكر، هي من تجمع المداليل من لدن الجوابات المؤدية إلى توضيح المعاني كلا حسب سياقها الخاص، يقول النفري: "المعيون ما وجدت عينه جهرة، فهو معيون معلوم، والمعلوم الذي لا تراه العيون هو معلوم لا معيون*" فالطريقة هي نظرية تعتمد الطرح والقسمة، ومؤداها:
أولها: الوصف، والتشبيه.
وثانيها: السياقات، والأجناس.
وثالثها: المحاور، والبديهية.
    أمَّا سوء التأليف: فيُقابَل بالرداءة الحاصلة في فساد الذوق، وكثرة المضايق والسفساف، ويباس الطعم، وظن المؤلف بالمطلق العظيم، لأن الجهد قاصر، والخيال ضامر،، والهذر بما لا ينفع وافر، خال من المعاني المولَّدة، فيكون الكاتب وكأنه المرتدي غير لباسه.
    وأمّا حسن التأليف: فهو يعلي من شأن الديباجة في  الشاعرية، ويزيد من رونق المعنى براعة تسبغ عليها المحمود في غاياته، وتتحدُ من فيها طبائع غنية، أبعدها قيمة وفحوى، واقربها مبنى لايُمَلْه القارئ، وفي هذا يقول البحتري:
والشعر لمحٌ تكفي إشَارَتَهُ  -  وليسَ بالهَذْر طُوِّلَتْ خُطَبُهْ*
ويقول الفرزدق:
وَالشَّيْبُ يَنْهَضُ في الشَّبَابِ كأنَّه  -  لَيْلٌ يَصِيحُ بِجَانِبَيْهِ نَهارُ* 
    وأقول ما أن قرأت الشاعرة ناهضة ستار فإذا بي افاجئ بجودة غرابة الصنع بدعائم الإبداع الفطري التفوقي، الذي ميَّزَ الشاعرة بحساب الأصل المفلق المترع بالاصالة، وهي تعبر عن فصاحة اللسان بنصوص اختلفت سماتها بجديتها المبتكرة. يقول محمد بن الجهم البرمكي: "أولُ الفكرة آخر العمل، وأولُ العمل آخر الفكرة.*" ولأن ناهضة تواصلت حكمتها الشعرية بصورتها الحسية، فقد ناشدت اليقين الحاضر في الذات الشاعرة، من مبدأ التحول الأدبي المغاير، الذي اِستقى ملذات مائه من ميزة الشعر العربي الجاهلي بهذه الخاصية، وخاصة في مقدار أن تخضع الصورة الشعرية للتأويل، ومن ثم ما حصل على تنويع المتاق المُجَدي من لدن ثقافتها الخاصة المستجابة إلى الثقافات العربية والأوروبية، ولي أن استرشد هنا بقول عنترة بن شداد وهو يجانس علم التأويل في المعنى المنشود بين الحالتين بمقدار المقابلة، ويفصل المقصود، على أن لا يتحد المتضادين في تأويل واحد، إلاّ في حالات نادرة منها "الماء والهواء" فالعلم بينهما واحد كما يبنه العلم بجواب المنفعة الصحية للجسد، ولو تفحصنا قول عنترا لوجدنا هذه الخاصية الممولة بحكمتهِ واضحة في قوله:  
فَـازْوَرَّ مِنْ وَقْـعِ القَنا بِلِبانِـهِ   
    وشَـكَا إِلَىَّ بِعَبْـرَةٍ وَتَحَمْحُـمِ
لو كانَ يَدْرِي مَا المُحاوَرَةُ اشْتَكَى   
    وَلَـكانَ لو عَلِمْ الكَلامَ مُكَلِّمِـي
    
    وبهذا فعنتر بن شداد بَعدَ أن أخذ يجالس سادة القوم، لم ينكر عبوديته في حياته الماضية، وحبذا لو أنَّ محدثهُ يعترف أن الفارس هذا كان عبداً يرعى الأبل عند أبيه وعمه، ولذلك كان شعرة بنحوٍ ما يتفاخر بالفروسية ولا يقترب كثيرا من الشخصية، وتلك المجانسة التي تخضع الشاعرية لتأويل مقصدها، فنقول شعره كثيره احسنه، وهو ما أعتمده عنتر بن شداد في منازلاته الشعرية، ألاَّ وهو الثنائية التي تقاسمت ب  "تشبيه شيئين بشيئين" كما عبر عن هذا الجرجاني في دلائل الإعجاز.
    والشاعرة ناهضة تروم اِتجاه الجناس على القسمة والطباق، فيكون إدخال المعاني في النص على وجهين:
   - في الوجه الأول: يكون المعنى وارداً على جهة إجادة الإبتكار الذاتي.
   - وفي الوجه الثاني: يكون المعنى مدمجاً بالتفطن الخفي.
    وتحليلي هو تفعيل يدل على تفسير المنظور بواقعه، أي أن الشاعرة تحتسب التغيير بالمهارة الثنائية المختلفة فيما تعلم، وما تريده من الآخر أن يعلم مكانة الإبانة  في قولها، من باب علياء الكلام الوارد في خصوصيتها التي حققها سقفها المختلف، تاركة بصمتها المؤثرة على الوسط الأدبي المعاصر عالمياً، حتى إنها تفوقت على أولئك الذين حصلوا على الشهرة من انتماءاتهم الحزبية، ومع ذلك فقد حازت على استقلاليتها بتكريم ذاتي من ثقافة نصها، وأنا هنا أتكلم عن قدرة الشاعرة المؤثرة في المُتَسَنّمِ الثقافي، وذلك في اِعْتِلاؤُهَا سُلَم التَّصْرِيْف حيث أفعلت صيرورة المبنى بخصوصية تمثلت بها.
    حتى دعتني مهارتها الأفصح والأوضح أن استشرف من كُلَمِها مكنونات إبداعية تمحورت عبر مراحل التأمل الحسي في مبناها الشعري، فَشِعرَها تَصَوَّفَ فَتَصوَّر فيه التطواف الفني، آتياً بدعوة نفسانية تستولد المزاوجة النحوية افقياً وعمودياً، بتحصيل نوعي ميزها بوحدانية تشخيصها المتقدم، فقد حقق لها الالتزام في المفاهيم المنضبطة بقواعد صارمة، أي إنها حافظت على أعمالها بالحزم على مادتها الخام، حيث أقامت البرهان على طبائع فنونها الشعرية بقياس التوارد الفكري المعلن في النص، والذي يقوم على ثلاثة مدارك تربط بعضها ببعض وهي:
أولاً: الثقافة المتنوعة التي يتلقاه القارئ من جوابات سياق النص.
ثانياً: توالد خفقان الرهص التنويري بما يظهره الصوت من سرائر منفتحة كأجنحة تسمو بها المعاني.
ثالثاً: الظفر بالدراية المعنوية في مواقع يبلغها استحسان قياس التدوار بفصاحة لا يظمأ عليها معنى، ولا يجف فيها ريع، ومستقاه مباهج الصوت.
    إذن هو المقياس المؤتلف في مهارات مُذْكى تنمية الإبداع، وهو المحصن التفاعلي المُحَقّق  بالتَّضْمِين المتخيل، وكأن شعرها أشبه بحركة التنفس من الباطن إلى الخارج بتنظيم دقيق المتعة، فجاءت الرشاقة الأسلوبية تحصد دلالات واسعة التأمل المفتوح على فضاءات واسعة التألق، برؤيتها الجامحة إلى ما وراء التكوين العقلي، ذلك المفهوم الذي لم يتوفر عند الكثير من الشاعرات العربيات. فهي وفي هذا المبغى وجدتها تقف على ناصيتها هي، بمعنى إنها شكلت رؤيتها المنفتحة على ذاتها في حالتها الشعرية، وقد تميزت تلك الخاصية في نصوصها فأصبح لها شأوَاً تفردت بهِ عن غيرها. تلك المفاصلة وضعت رؤية واضحة نشأت وترعرعت من أصول أدواتها الخالصة، التي أبانت إتساع هموم الأزمات الإنسانية والعاطفية، المحاكية لتغيِيرات أحوال المجتمع من حال إلى حال، ولي أن استرشد بقول الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف قوله: " الإنسان المبدع هو الإنسان الذي يحاور ذاتية المجتمع بتفاعل ذاته الخالصة*" بمعنى ما من إنسان تميز إلاّ وهو نطفة تتفاعل حسيَّتها من بدءها حتى نهايتها. وتلك حقيقة اثيرت في الوسط الأدبي، خاصة بعد أن أصبحت المواقع تحتفل بالقلة النوعية، وبالكثرة الزائدة غير النافعة خاصة شاعرات التقليد، حيث تجد الانقطاع واضح في الكلمة الواحدة في نصوصهن، فكأنما أصبح الشعر عندهن طبخة غريبة، لا حساب ولا مفهومية فيها للصنعة، فهو خال من التوصيف، والاستعارة، وصحة السبك، حيث أن المشاكلة عندهن في ضعف الدقة والتحصيل الحقيقي للشاعرية، وفي حساباتي ورأي بعض الأصدقاء، إني على نهجي أبين في الباب الثاني من كتابي هذا، الذي خصصت له البحث عن شاعرات التقليد، حيث يبرز كماً هائلاً ممن ليس لديهن علاقة بالأدب ولا باللغة، اللاتي غفلن فن التأديب، واخفقن في متناول المعرفة، وخاصة المتشاعرات المرفهات بكثرة فضائح المداحين لهن. اللاتي يمثلن النسبة الأعلى غفلة في وطننا العربي الفحولي.
    ومن خلال هذا الإدراك المعني بالتماثل بين منظومة ناهضة الشعرية وثقافة الذات، سوف أتناول المحمول التقني والفني واللغوي من مفاهيمها هي، لأبين مقصودية التناغم الصوتي لمحاكات تصاورية التوصيل، الذي يحقق فعل القيمة الحسية للصوت المتداول بين الصورة الكاملة ببنية متعتها، وبين التَّجَلِّي الذي يحقق الأنموذج المثالي للكينونة المتخيلة، التي تتعامل مع الشعورية الوجدانية. بدلالة أن القيمة النوعية للنص تحتمل التأويل التفاعلي على وجه التقدير والاحتمالات المفتوحة على المبدأ المثالي في رؤيتها الطموحة، بواقع أن تتخلى عن الموجودات التمثيلية أو الوضعية، تلك التي لا تخلق وعيا متطورا في قياس الإحساس، الذي هو أشبه بالحركة الأميبية التي تستظهرُ كلُّ نبض في النفس. وهنا لست في مكان الإشارة إلى الأدب الغرائبي أو العجائبي، الذي عرف بكتابته أمثال جوته، وكافكا.
    وهذا لا يعني أن الخيال يخلو من التطهير البلاغي أو الحسي الذي يصاحب الكينونة المُفلِقة في حسيّتها الصوتية بمقدار النسبة الإيقاعية. وافكاري في هذا المكان تعتني بشاعرية ناهضة ستار لأنها تميّزت بنقل الأثر التاريخي المؤثر والقائم على مر الزمن، وجعلته ملبياً لمفاهيم المنطق المُكَيَّف، عبر الاتصال الذاتي الذي يذهب بمناخ الشاعرة إلى لُطْف النظر في محاكاة الموروث، أما من الناحية الجمالية فهو يمثل إنتاج محاور تعتني بالعاطفة التأملية التي تستهوي الكِنَايَة من اوسعها. وهو ما يعتني بتناولي الشاعرة التي تتحد معنوياتها الفكرية بصورتها الحسية، وهي تجتهد إلى إقناع القارئ بأهمية همتها التي تُشَيَّد بنيانها من لدن سمات علومها.
    وكون نقوداتي تتصف بمعالجة الفطرة اليقينية، باعتبارها مفهوماً منفتح على ذاتية الواقع الخاص، ومفادها أن المنبهات المستحبة تلتقي بالرؤيا الخالصة عند الشاعرة، فنجد معطيات المحسوس لا يبتعد عن التجلي الإضافي في المتخيل النوعي في العقل بما يتمثله النص. وهنا نشير بعلاقة دراساتنا بالصوت في شأن تعدد الأجناس الأدبية وخاصة الشعر، باعتباره يشكل المعيار الثقيل في خيال كينونة الوصف المعبر عن العاطفة، وهذا أيضا يختلف بين نص ونص عند نفس الشاعر، ومع هذا فهناك نصوص معينة لها خصوصيتها الجاذبة، تتكون عبر تطورات أجدها قد وقع فيها الفن الأسلوبي كمنظومة مفاهيمية، أو معجزة يحكمها الصوت بمقدار الموهبة التفاعلية بواعز مُنَادَاة الإدراك الحسي، وهذا ما سوف نشير إليه في نصوص ناهضة ستار. 
    وهنا لابد من توضيح فلسفة اهتمامي في أسلوبية بيان الصوت في الصورة الشعرية، فالصوت يحدد مكان إيقاعه طبائع وعي الألفاظ المسلم بها أن تمثل صعود النوتة، بمنزلة مهارة موزونة تعاين الأدب اللائق إن فَاءتْ به همة المتلقي، وفي هذا قسمتُ اللفظ إلى حالتين لا تتساوى في طبيعتها الإلهامية:
أولهما: لزوم اللفظ الألهامي، وهو ما يوحي إلى تناغم خالص، يتحول فيه الذهن إلى بلوغ النظم الغض.
ثانيهما: لزوم اللفظ الخارجي، وهو ما يختاره الكاتب في النظم المؤجل في حالات التشذيب، والتهذيب.
  وكل واحد من هذين الداعمين له خلائقه وموضوحاته الخاصة بمذهبه، كذلك هو بصير بمقتضاه بما يؤتي بالرهص وحسنه، مع أن الخيال الذي ينتج الصورة الشعرية احيانا يكون واحداً، وفي أحايين أخرى يكون متعدياً ببعد سياقاته التأملية، وعليه فالصوت هو التشكيل الذي يمنح المناداة الإيقاعية قراءة تستجيب لمعايشة النص بالتحبب والمواصلة والانجذاب، وهو في الوقت ذاته يمنح تصريف معاني الكلام القوة والأختلاف والادامة الطويلة، وللصوت إرادة يتمثلها الشاعر \ الشاعرة كل حسب حالته كما أجده في معايناتي، مستظهراً ما تصوره الدلالة من اللذة الملائمة للمعاني في أنْفُس الصوت، بمعنى أن تكون مرتبة الرؤى المتخيلة منعشة وخفيفة في هزات بنيويتها.
    إذن فالخيال الإيقاعي "الفنتازيا" يتفاعل مع اللفظة الصوتية كما هو الحال عند بدر شاكر السياب، وسعدي يوسف، وابو القاسم الشابي، ونبيل ياسين، وشوقي أبي شقرا، وخلدون جاويد، وعبدالله علي الأقزم. هؤلاء الشعراء بالتحديد مثلوا القصيدة الأكثر استجابة للصوت، سميت بقصيدة التفعيلة السيابية، ومن ثم بالقصيدة الحرة، وحتى الشاعرية الكلاسيكية عند الأقزم، تتصاور بنيتها بجملة من النظم الملبية لمتطلبات المعاصرة. بينما نجد النص عند البعض مشتت بين الشاعرية الحرة، وبين النثر المؤذي، وما عداهما التقليد، فإذا أخذنا ما قاله شعراء قصيدة التفعيلة، والكلاسيك المُحدِث، والقصيدة الحرة، نقرأ تلك الخصوصية الذكية في المعالجات التالية:
بدر شاكر السياب:
كم تمنى قلبي المكلوم لو لم تستجيبي – "هل كان حبا"
أبو القاسم الشابي:
يا أيَّها الطفلُ الذي قد كان كاللّحن الجميل – "قلب الأم"
نبيل ياسين:
"أين الوردة؟
في الماضي
في أغوارِ التاريخِ يجفُّ نداها فوق الأوراقْ؟
أين الوردة؟
تحت وسادةِ سيدةٍ نائمةٍ
أم في نافذةِ القصرِ الملكي" قصيدة أين الوردة".
خلدون جاويد:
"أبا اللحية النكراء سُحقاً للحيتك
ونعلُ أبي تحسين فوق عمامتك
أيا زاهقاً روح الشعوب وسافكاً
دماء البرايا بصقة بسماحتك
ظننتك صرحا شامخاً غير أنني
براءٌ من العهر الذي في ديانتك" "بذيئة"
شوقي أبو شقرا:
أنا والأرض والمزمار
ننحني على سرير الكلمة
ندفّئ قدميها الحلوتين
ونغطّي وجهها الأملس – "سرير الكلمة"
عبدالله علي الأقزم*:
"فأجبته أنَّ الحسين هو الهوى – وهو الوصول لكل باب صلاح
وهو الضمير الحيُّ حين تعذرت – مرآتنا السوداء عن الإفصاح"
    لو نظرنا في هذا التواصل المتفاعل بالصيغ التي يتوازن فيها الهم الإنساني الداخلي، حيث تتوزع المشاعر فتتخذ من الأنا الشاعرة الحالمة مصدر الإلهام، تفيد بتواصل يحتمل الدراية الممكنة فيما تستشعر من هموم الذات عند الآخر، وذلك أن تكون العلاقة بينهما تكشف عن معالجة الأزمات الإجتماعية، حيث تتحدد فيه المصاحبة التي تتراءى فيها تناغمات الخيال المنبعث من طبيعة التنظيم التصوري المعلن بالحالة الشعرية، على ضوء استخدام اللفظ المعني بتعابيره عن التأمل الكيفي، وهو يلاقح الصورة بالاحساس والتمثيلات الواقعة، ليكون الترتيب الشعري أكثر تمويلاً من حيث الجوابات الفنية التعبيرية، وأكثر تمثيلاً للمشاعرية الحسية في المستحب منه من المستكره، وذلك في الصفوة التي تزقها القدرة الوجدانية في روحانية النص.    
    ولي أن أشير إلى أن تناولي للشاعرة ناهضة ستار إنما هو وفاء مني لكل أديبة عربية خلقت شخصيتها من مكنونات فاعلية قراراتها الإبداعية المحققة لوحيِّها الشعري، وفي هذا الخصوص أقول للقارئ العربي أن يقرأ الشاعرة ناهضة ستار بكل تمعن، وثقتي بها إنها سوف تشاركني الرأي على أن جمالية الصورة الصوتية، لابد من أن تخضع لمبدأ التلاقحية التي تتوخى تبيان حساسية الألفاظ من التقديم والتأخير، وابراز النشوة في مضمراتها.
ملامح العبقرية في شخصية النص
قصيدة: بسملة المياه
=
الماءُ..
عشق صامت بك يُفضحُ 
قلْ ما تشاء .. 
الجرحُ عنك سيشرحُ 
يا ماثلا" بفم الغيوم طفولة" 
خضراء يطفئها الجفافُ 
فتقدحُ
خضراء يسكنها الحُسينُ حكاية"  
تاريخها الإنسان حين يُمَسْرَحُ
     لي أن أقول أن الشاعرة في هذا التكوين تَنَاوَلَتْ الحياة كلها بواسطة العنصر الموسوم ب "الماء"، وهي تبتدئ العنوان ب "البسملة" ألا وهي "بسم الله الرحمن الرحيم" بصورة توحي بأنها الأكثر توحداً وقرباً مع ما تعنيه البسملة من مبتدأ تميّز أصلهُ المتخيّل ضياؤهُ، فقد وجدتُ الرؤية عند ناهضة أخذت مأخذاً متواليَ التطريز، مكثف المصاهرة بمبدأ الثبوت على المعنى الخالص، الزاحف بمفهوم الموازنة دون توقف، أو خلل في النسق. وفي عنوان البسملة تكون قد أوسَعَت معنى التصاور بالتَّوَاصف المُعَاشِرُ لبعضهِ البعض.
    وإذا ما وقفنا على الفرق بين نصوص ناهضة ستار، والنصوص الرومانسية الكاذبة عند الكثير ممن تسمين بالشاعرات، وهن في حقيقة الأمر مقلدات لا غير، حيث يَصبَحُ النص عندهن غير مفهوم البتة، وكأنما الجملة في نصوصهن تطوف في عالم مختلف عن الجملة التي تليها، أو التي قبلها، مع أن مساق الوحدة الشعرية يفترض أن يعالج ارتباط البنية الحسَّية بغاياتها، لكي تتم أدخَلة الاسترخاء الحسّي بالتناصف المعنوي مع اشكالها بالمهارات المختارة بجوازها.
    وبالمقابل نجد الصورة الشعرية عند الصفوة من الشاعرات مثلت المجازية الجاذبة، حيث تساقت الصورة الشعرية حلاوة بدائع صوتها. إذن علينا أن نعترف كما لو أن ممن وقع التفضيل بينهن من الشاعرات اللاتي تناولتهن في نقوداتي فيما مضى بحذر شديد، وفي كل الأحايين كانت مهمتي تكشف عن الغموض، وشديد التكلف، والتعقيد، والمستكره منه، ومقدار المطبوع في أعمالهن، لكنهن وفي حقيقتهن يعلو فيهن الفرح والرضى، لأن الموقف الأخلاقي يتطلب من الناقد التعامل مع النص بجدية محايدة تتحلى بنكران الذات، والنهوض بمهمته على إنها مجردة من كل الصداقات والمنافع، خاصة إذا كانت تلك الصداقة مبنية على إنها وسوسة طماعية، لا تجتمع فيها النية المستحب صوابها.
   ومثل أي مقدس تبدأ ناهضة بسملتها شَأواً يبلغ فيه الإعجاز مقامهُ الحَسِنَ، وبما أن الشاعرة تناولت الشخصية التأريخية الخالدة "الحسين بن علي بن أبي طالب" تكون قد أحسنت موضعة التخيير، وأوضحت سطوع المزايا الفكرية في فلسفة هذا الرجل، فالشاعرة جعلت من فم الغيوم يرتبط ربطاً مقدساً بالماء الذي حُرمَ عليه وعلى عائلته، حين أشارت إلى أن عنوان القصيدة يُفْضِي بالمفهوم إلى قدسية ابن علي في "البسملة"، وبما أن السياق أخذ اتجاه الخطاب الروحاني، نجدها منحته حرية القول في "قل ما تشاء" وهنا يتضح في المعالجة الذاتوية إنها تختزن عاطفتها الأنثوية بالتسليم للسبط المقدس، لأثبات رأي المرأة بالمشاركة الأدبية التي أرادت لها ناهضة أن تكون وثيقة تأريخية، وشعرها يحاكي الأجيال القادمة، من مصبات النزوع المُصيب، الجلي في اتجاهه المعاصر، رغم الأذية التي سببها الآخر الجاهل لها، مثرثراً ومتثاقفا وكأنه يتعالى على مقام علمها الأدبي المحمول على بلاغته وصدقه وتميزه.
   اتصفت الشاعرة ناهضة بالاستقلالية في منجزها غير التقليدي، وأني أرى قولة حق في الشاعرة قد تجزع الآخرين، فأحيل الرأي إلى ما قاله البحتري في هذا المعنى: "انظر إلى العلياء كيف تضام*" وقولة الأمام علي بن أبي طالب مخاطبا الرسول محمد تتناول المظلومية التي وجهت لعلي في سحرة اليوم الذي ضرب فيه: "أبْدَلَني الله بهم خيراً مِنْهُم، وأبدلهم بي شراً لهم مني*" إنَّ من ابتداءات المعرفة ثقة الإنسان بعلمه، ولو تمعنا جيدا في قول الشاعرة في هذا المقطع حيث يكون تفضلا بعزته: "الجرح عنك سيشرح" نجد من الكبرياء ما قد أفصح في معالجة النسبة كعلياء الشكيمة عنده، وذلك حين اعتنت بإيراد النداءات التي وجهها الحسين للحشد الذي قتله، حتى أنهم أرادوا أن يمنعوه من الشكوى، كما منعوا أنصاره من قبله، الشكوى المعبرة عن ألم الجروح الكاثرة في جسده، فجثّوا رأسه عن جسده.
    وفي اتجاه آخر مما ميّزَ هذا النص العارف، هو أن الشاعرة عالجت بيان المضامين بتركيب ذكي تعالت به طقوس الخصب، وقولها "بفم الغيوم طفولة" والمعنى أن كل غيمة ترسل إلى الأرض ولادة أينعت من خصب رحمها، فيحقق الرضا مسلكه الروحاني، وبما أن المشاركة الحسية هنا واضحة بين الأرض ومَحَقَة عرفانية المرأة، فقد انقسمت الرؤية في البسملة لطاعتين أحداهما عمياء تمثلت باغراءات الدنيا، وطاعة بصيرة تمثلت في جلالية الماء المورث لوحدانية الخير، والمُرسَلُ من المطر، والأرض تنظر إليه فيستجيب، فتكون الموازنة بين المقصدين قد أدت دلالة فعلها المختلف، والنص بمفهومه تعمق فأتخذ من الواسطة بين الأضداد تجلي ميزتها الجدلية وقولها: "خضراء يطفئها الجفافُ \ خضراء يسكنها الحُسينُ حكاية" فالشاعرة تعي جيداً أن العرفانية الباطنة للجلالة تشترك في الحياة نصفها، وهو النصف الأهم والأكثر تسمية في رؤى من عرف ونأى بفعله عن الموبقات، كون قدراتها تحتسب التنويع والتهذيب في مقام سرادقات التنوير. والحال بين الصورتين: "يطفئها الجفاف"، و "يسكنها الحسين حكاية" فهذا ليس عجزاً يورد المعنى من فيه، إنما هو انفتاح منسوق على مخبوءات أخرى، بمعنى أن القصد تعدى محدودية الأتصال، فجعلته ينساب في مفارق متعددة وهي: أولها الفرق بين الحياة الدنيا وأهوائها المغرية. وثانيها أن الخضرة ستكون مسكن الحسين في آخرة لا نعرفها.  
الماء فيك حكاية لا تنتهي 
تهب النهار حقيقة تتفتحُ
اذ انها كتبت سطور بهائها
بفم الخلود  فصاحة تتوشحُ
هل أشرحُ الغيم الذي سكب الجفاف
وشاية"
في تيهها نتقرحُ؟
    تأتلفُ هذه الأبيات بحروفها كعروق تحتضن بعضها بعضا فَتِزهرُ أوراقها خصوبة الإيراد المتمثل بهكذا نبوغ، وكأننا أمام مواجهة تتلوها ماهية الابانة في طبائع الشعر، وعلى أَني وجدتُ نظائر المعلن التاريخي في نصوص اجملت غرابتها بنظر من لا يريد أن يقرأ، عن حادثة بقيت تستقي الطبائع الخيرة من بداهة البيِّنة من المشاعر والنوايا المتواصل وحيَّها بالتلقين العاطفي. ولم ينسَ التاريخ فداحة العار الذي صنعه العرب بارادتهم، وما برحوا أذلاء، وهذا ما أصاب من شارك، ونظم، وجيش، ومن أمر بالقتل، وتتواصل تلك الجماعات مذمومة ومكروهة على إمتِدَاد الذكرى، ورغم هذا كله فمازلت الأكثرية تصرَّ على أن يبرأ القاتل من فعلته، وهو الذي أمعن في المناصبة فنهضت مهاوي ضلالته به، ومن شدة فرحه بمقتل الحسين تمثّل في حينها بابيات عبدالله بن الزعبري، وفي تلك الأبيات تحدٍ للخالق، وقوله:
"ليت أشياخي ببدر شهدوا – وقعة الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرن من ساداتهم – وعدلنا ميل بدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا  -  خبر جاء ولا وحي نزل
لستُ من خندف إن لم انتقم – من بني أحمد ما كان فعل*"
وهو المتأثر ايضاً بقول الزعبري مردداً قولته:
"لمّا بدت تلك الحمول واشرقت –     تلك الشموس على ربى جيرونِ
نعب الغراب فقلتُ صح أو لا تصح  -  فلقد قضيتُ من الغريم ديوني.*"
    والحق الذي لا مرية فيه أن تدوين ذكرى الحسين وعائلته الذين قُتِلَوُا وهم عطاش، فهو خليق بإعجاز شجاعة هذا الرجل الذي حاكى الموت وهو العليم بالقرب منه، وكأنه ضارع أباه شجاعة، فقد خلق في تاريخ التضحية أمة، تمثلت أصالة رأيه ودقة منهجه، وهو جدير بإذكار حسبه ونسبه، لأن التصور الذهني وحده يسجي التحالف مع قضية أراد لها التاريخ أن تكون شاهدة على الخيانة، ولم يتراجع قيد أنملة بل قاتلهم في صَيْفٍ لهاب في الكرب والبلاء وهو عطش، إذن كان القتل بالحد الانتقامي من عائلة مُكَرَمَة، وهذا ما تبحث فيه القصيدة ببصيرة "الماء" تتلاءم وتتسق كونه العنصر المقدس الأول للحياة، الذي حرم على الإنسان ولم يحرم على الخنازير والقطط والفئران، وقولها المُشَرِفُ: "الماء فيك حكاية لا تنتهي \ تَهِبُ الحياة حقيقة تتفتحُ" الأوصاف تقدم بما استُحْسِن حرفية تبسط المعنى على المدى الواسع باتصاله الزمني، وفي هذا يحضر لي رأي: ت. س. إليوت عن قصيدته "الرباعيات" إنه وصفها: " بأنها أبرز لحظة في الاستحضار الشعري.*" ما الخطأ إذا ما الشاعرة استحضرت محاكاة اللحظة التاريخية، وهي تُبْرِزَ مقياس الطبع النبيل عند صاحبه، في صناعية أسلوبية تتماهى بها الموصوفات اِتساع مغالبة القريحة، وقد أجتمعت قدرتها أن تتلاقى فيها مجازية الأجناس الأدبية في نسق يطول الشعر والنثر والحكاية في جنس واحد، ومقصدها الكرنفال الاستشهادي لعائلة في زمن لم يكن بالعيد عن موت جدهم الرسول محمد، وإن أمتد الزمن إلى ما اللا نهاية، فأنظر في هذا التكريم الإلهي لهذا الرجل، وقول الشاعرة في هذا المعنى: "إذ انها كتبت سطور بهائها \ بفم الخلود فصاحة تتوشحُ" فإنَّ سبيل المعنى الذي يؤرخ سبيل الذكرى يقعُ في جلالة التصوير والسبك والصوغ فيه، فلا محال فأن الشاعرة وسعت من قدسية الحوار بينها شعراً، وبين المقام الأعلى تركة لمحاكاة الذكر المقدس. 
    وحسب النص فأن الشاعرة تبحث من خلال عبقريتها المتخيلة الاستجلاء الفكري، والاشتهاء البصري لكثرة محاسنه، بالتركيز على بدائعه القيمة الإنسانية في طبعها ونحتها وسبكها، ومخارج البَادِرِة الصوتية من منابع أدواتها، كون الشعر يوصف بمعناه، حيث يُنظر إلى أهميته التي اشتملت على هاجس القدرات الذهنية، ولي أن أحدد مصبات الموهبة الاستثنائية بتفاعلات النَّظْمُ المؤول في النقاط التالية:
أولاً: مراعاة أن لا يكون النص يزيد في المباشرة والاستكثار فَيُسقط منه باب التأويل، وأن لا يخل في إيقاع الصوت، وأميبية الصورة المتخيلة.
ثانياً: أن لا يكون النص شقشقة أو ضيراً لأدوات النص بالاستخارة، كما لو أنك تقرأ طالع القصيدة من ظاهرها، شرط أن تكون الألفاظ مدركة للمجس الميتافيزيقي حين تحرك معنى أو أكثر.
ثالثاً: ادراك مَاهِيَّة اِمتياز النص أو ماهية الأسلوب، ذلك اللفظ الذي يسري دون عائق في العقل، فيغذي ويفرح ويبقى.
    والماء الذي وظفته الشاعرة في قصيدتها هو الحاصل في أصل خَلقَتِهِ، لذا سمي بالمقدس، أن يجعل من الحياة قابلة لديمومة الاستمرار، كذلك هو الشفاء من غالبية العلل. فالصورة التي ُحمِلَتْ لنا أن الماء تتغذى عليه جميع المخلوقات، يجب أن لا نمنعه عن البشر، فنستخدمه في الحروب كنصل قاتل، أو كموت عاجل، وقول الشاعرة قاطع في هذا المعنى "الماء فيك حكاية لا تنتهي" وهي تخاطب القيم الوضعية "الفلسفة والتصوف" وفيه تحكم البلاغة والتأويل والاستسقاء الروحي للمعنى، كما لو أنها تشرف الألفاظ بذكر مرامي الفصاحة في كثرة التَّدُوَارِ لما فيه من الدقة والترميز.     
هل اكتبُ الاطفال  حين تكربلتْ
ضحْكاتهمْ .. فالوقتُ قيد يجرحُ ؟
هل أسردُ (الحاءات) ساعة نزفها
إذ أنها رغم النزيف .. ستفرحُ
لا أكتبُ الآن الدماءُ ستبتدي
رمق الحياة.. عبارة تتوضحُ
اذ هكذا عبر الوضوحُ مؤجلا
قيثار أسئلة تلومُ وتصفحُ
اذ انها ..علمتْ
فأورقت الصدى
فتزينب القدرُ العصيّ
ليفسحوا 
    "تكربلت" المفهوم مزاح من واقعة الزمكاني "كرب و بلاء" أي اسم كربلاء. المكان الذي دُفن فيه الحسين بن علي بن أبي طالب وأخوه العباس بن على، وأفراد العائلة الذين قتلوا في تلك الواقعة. وتكربلت أي ما أصاب العائلة من قتل وبلاء، والشاعرة في هذه الصيغة تُعَلي المعنى بمقامه الصحيح ب "فالوقتُ قيدٌ يجرحُ" التقدير: هو أن التصاورية تقدم الكلم على مواضعه طبيعة الحدث، أن يبسط حقيقة المأساة، أي بتمثل الخبر المستحصل من الزمن، إن في وجوه التاريخ ما هو يعد بالسخط على الحق، ومنه ما يعلي نصاب الحق، وقول الإمام علي وهو يوضح الردة في يوم "الجمل": " لقد أتْلَعُوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه*" وفي هذا يقصد الإمام مقتل طلحة وعبدالرحمن بن عتاب بن أسيد. وقولها "إذ أنها رغم النزيف ستفرحُ" وفي المعنى يراد إيمان آل البيت بالحق والحق لا يبكي، بل يفرح، لأنهم قُتِلّوُا من أجل كرامة هذه العائلة العظيمة، فهو أي الحسين من حَكَّمَ قوة الإرادة للمهمة الشاقة التي مَكَنَ عزمه لها، وانتدب نفسه للنهوض بها، ولذا فالفرح تعبير عن الشهامة والكبرياء والقدسية، فهو بهذا الفرح أذل قاتليه، ولهذا ما غضب الحسين لأنه كسب الذكر الحسن في الحياة على مر العصور. وإذا عدنا إلى عصر الرسول محمد بن عبدالله، نتذكر مخاطبة الشاعر "قيس بن معدان الكليبي*"، من بني يربوع، محمداً وكأنه يعلمه بيوم "فدك" ويوم كرب وبلاء قائلاً:
فحالف أم ولله تهبطُ تلعة – من الأرض إلاَّ أنتَ للذلِ عارفُ
ألا من رأى العبدينِ أو ذُكِرَا له – عديٌ وتيمٌ تبتغي من تحالفُ
أما العبدان فهما: العبدُ "عَدِيٌ" فهو أبو بكر، المسمى "الصديق". وتيمٌ فهو العبدُ الثاني عمر بن الخطاب. أما "التلعة" فهي أسفل الجبل أي مهبط الماء يسمى تلعة، وتسمى في عصرنا بالترعة، إذن فمحمد ربما كان يعي بما سوف يحدث بعائلة ابنتهُ وزوجها ابن عمه علي بن أبي طالب، رغم بيان الشاعر له، لكنه كان توفيقياً وخائفاً من الفرقة بينه من جهة، وبين أبي بكر وعمر من جهة ثانية. وفي هذا المعنى حين طرقت الشاعرة أبواب التاريخ من أوسعه في المختلف عليه، لأنها أرادت توضيح حقيقة ما حدث بأسلوب رمزي مقنن وموصول بحقيقته إلى الآخر، فالشعر أصبح الوعي الذي يفضفضُ لها المستفيض الحسن في الذكرى والمعنى، وهذا واضح في قولها " رمق الحياة عبارة تتوضح" وتستفيض ثانية للعزة التي تمثلت بآل البيت قولها "فتزينب القدرُ العصي.. ليفسحوا" الطموح الذي مثلته الشاعرة في القيمة الأخلاقية عند الحسين لا يمكن بيانه كله لأن الحسين يبطن أكثر ما يظهر، لذا كان بيان الشاعرة يتناص مع العلم بالوضوح والوقوف على الحقيقة الدامغة. أمَّا المراد ب"تزينب القدر" إنما هي الإبانة بأن زينب هي من جعلت القدر يتعطر بخطاها الزنبقية المستديمة بسكينتها وتأثيرها على البشرية، فكم من الناس تأثروا بضياء فكرها فأعتدلوا إلى الرافد الحقيقي للمبدأ الحسيني.    
طرق الحقيقة في سمار قميصهمْ
ليظل يبتكر الصعود ويطمحُ
حتى تلملمنا (سُكينة) حُلْمنا
تدنو الى قلق الجراح
وتمسحُ
    نرى ان هذه الصَلَوَات إنما جعلت من الشعر مناداة للروح المقدسة بعظمتها، فهي أي الشاعرة جعلت من سكينة بنت الحسين بنيان تَأمَّل تنافس فيه العلم بعبقرية قل نظيرها، وهي تفيد الحلم بالرشد المعرفي رغم طفولتها، وتجمع أطراف الحديث ونبوغه، طبعٌ يصاحبُ شدة الرفض والعناد بما يخرج من بين صدى موهبة تتملكها، وكأنها تستخرج معاني الكلام من عمق تناظرها، فتنوء بقدر كبير من التأدب كي تحجب أفعال القوم عن جلالة أهلها، وتأكيد الشاعرة للمروءات في هذا قولها: "حتى تلملمنا سكينة حلمنا \ تدنو إلى قلق الجراح \ وتمسحُ" وسكينة هنا تعيد تفسير طابور السبي إلى ما يعالجه آباؤها وهو الاعتناء بالحكمة التي تضع الإنسان أن يستعين بالصبر، لأن الصبر رحمة لا تخرج الإنسان إلى أطوار قد تؤذيه، ولأن الشاعرة اتخذت الحكمة تتويجا للغرض الذي أراغ مفهومها إليه، وهي تجمع أشتات المداليل، وتبسط معانيها في: "الطرق" أي "طرق الحقيقة في سمار قميصهم" والطرق يعني الافصاح عن حقيقة الشئ، لأنها قالت: "سمار" وتقصد جمع لونين بلون واحد وهما السواد والبياض فيكون اللون أسودَ، على أعتبار شدة طبيعة المكان وعمق مأساة الحدث، والبياض يسترشد النفوس المسبية إلى تهذيب المروءة، وهذا ما نسميه بالاطراد، في حين أنها قالت: "قميصهم" ولم تقل قمصانهم، مع مراعاة الوزن والنحو، بين الجمع والمفرد، فالكلمة مركبة بالاشارة بين القميص والجمع المعنون ب "هُم" كما نقول: كيدهم، أو مكرهم. أمّا "هُمْ" فهو ضمير منفصل مرفوع لجمع المذكر الغائب، وفي هذه الحالة لا يحتج أئمة اللغة إلى الاعتراض على أن النحو في هذا المقام غير واضح، وقولنا أن الشاعرة ساقت توخى وضع الكلام من مزية النظم أن تَتَحَولُ بالفصاحة إلى بلاغة التشبيه، حتى يكون المعنى مستوياً في مراتب القول، خاصةً وإنَّ الشاعرة اعتمدت بلاغة المعاني من فصيح مقاديرها، وحررتها من الهنات والانكسار، وهنا نقرأ الجرجاني رأيه: " نحن في صدد التحرُّز من اللحن وزَيْغِ الإعراب، فنعتدَّ بمثل هذا الصواب، وإنما نحن في أمور تُدْرِك بالفكر اللطيف، ودقائق يُصل إليها بثاقب الفهم*"           
يا اسمنا المائي ...  ياغيما يرى
كل المياه الزيف لحظة تُسفحُ
كل الحكايا والوصايا والتي ..
لا تستفيقُ
 بوهمها نتأرجحُ
يا اسمنا المائي ..
ندري أننا
عطش إليك
هوى يموجُ ويسبحُ
كي ما يعانق ضفتيك مواسما
ندري يكابدها الحنين
فتُفضحُ
إنّا عطاشاك الصغار
وعمرُنا
 دوما لبسملة المياه سيفتحُ .
    أرى أن فن التقطيع ضروري في بنية الجملة والنصُ بوحدته، حتى تتماثل الثنايا في مكون المنبوض في مستقرٍ لتلاقح آتٍ. وتبقى الشاعرة توحي للماء بصور عديدة ذات مغزى معلنُ الحكمةِ، بما يكفي للبحث في فوائده وغاياته وأهميته، ومن جهة أخرى تشير إلى استخداماته غير الأخلاقية والإنسانية التي تضر الإنسان وما نبت على وجه الطبيعة بمنعه أو فيضه عن وعلى الناس، والنسبة هنا عولجت بمزية المجاز المعني بتخيلاته الجامحة، خاصة في الاستخدام التصويري والتخصيب المركز على الماهية المنتقاة بلاغة في مبانيها، ولي أن أقول أن قوة القصيدة فرضت مبدأ تقديرها على المحاكاة النقدية، في هذه الفقرة بالذات، حيث تموسقت الألفاظ بأرقى غاياتها وفنها، صعوداً في تجليها، فقد أخذت الصُّورَة بما يلقَّاها اللحظ بوفرته الحسنة، من حيث مفهومية عناصرها اللغوية، وعلومها البلاغية، وسياقاتها الحادة، المعبرة عن إرادة المعنى حيث تتجلى الحقائق في نصها الصوتي وقولها: " كل المياه الزيف لحظة تُسفحُ \ كل الحكايا والوصايا والتي .. لا تستفيقُ \ بوهمها نتأرجحُ " وفي هذا نحو يفضي إلى أن الحقيقة كالهواء مهما أغلقت الأبواب عليها لابد وأن تتداول بين الناس فيذيع صوت المخبوء للعلن، ولا أريد أن أكون عيِّاباً، ولهؤلاء خاصة بيننا، وذلك إنه إن كان ما يذهبون إليه إلى أن زينب أو سكينة ما هن إلا من البشر، نعم هن هكذا ولكن أختير لهن خاصية الحكمة من أوسعها، والبلاغة اللفظية فصاحتها، ومن الأخلاق قوة تأثيرها على الآخر. حتى وإن كانت هذه الصفات غير روحانية، لكنها عرفانية بفكرها ومصباتها المعرفية الجامعة للبلاغة بوحيها ومن سياقات مصاف منطقها.  
    وقول الشاعرة في هذا: " يا اسمنا المائي \ ندري أننا عطشى إليك \ هوى يموجُ ويسبحُ " ما أروع هذا النظم، وكأنما حال كلامها بعيث تصفت معانيه بالمسقى الفلسفي. فهو تجسيد للحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها الآخر، فالشاعرة تعالج الحقيقة التاريخية، كي تستخرج منها المناكفة من صريح البينات المؤرخة على ألسنٍ فلاسفة عرب وأجانب وشعراء كثر، "تزينبت" في بطون الأقلام التي عاصرت تلك المرحلة، وامتدت ليومنا هذا، خاصة ما كتب عبر التاريخ عن العائلة الحسينية، ومنه قول الفرزدق في رده عن سؤال وِجَههَ للخليفة هشام بن عبدالملك من أحد مرافقيه، فأنكر ابن هشام معرفته بالرجل، فانبرى الفرزدق يرد على كذب ابن هشام، ليكشف له وللشامي الحقيقة التي تَنَكَرَ ابن هشام لها أمام مرأى ومسمع من الناس.
يا سائلي أين حل الجود والكرم؟ - عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتهُ – والبيتُ يعرفُهُ والجلّ والحرمُ 
هذا ابن خير عباد الله كلهمُ – هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله – بجده أنبياء الله قد خُتِمُوا
ما قال "لا" قط إلاّ في تشهده – لولا التشهد كانت لاؤه نعم*"
   قيلت هذه القصيدة ارتجالاً أو كما نسميها جوابات البديهة، وقد أمتاز شعراء العرب بهذه الخاصية، فوصفها الناقد قدامة بن جعفر: "أن القصيدة قيلت وحياً بلغة سلسة نسبتها ردة فعل جامحة من الفرزدق هزت هشام بن عبدالملك في أعماقه، فالفرزدق يُعَدِل بشعره عن الجهة التي تلزمه بالكشف عن تلك الشخصية أخلى الناس لها الطريق، خاصة وأن أهل الشام يحيطون بابن هشام*" وللضرورة التاريخية وجب على الفرزدق أن يفاعل جمع البلاغة على فصاحة السبك والنظم، كون شعره أتقن التعدي والاخيار، واتحد في المقاييس الكلية بمقدارها الخصب، كل بيت يساق بإيقاع ثابت الوزن والنسبة إلى مساقه الآخر، وابن هشام بهذا جَهَّل َ نفسه وأنزلها منزلة السفيه الغبي حين قال: "لا أعرفه"، ولكن الشاعر لم يلتبس عليه الأمر فأنبرى موضحاً الموقف حين رد الحقيقة إلى أصلها.
    أمَّا والحكم في شاعرية ناهضة فهو ذُو الشأن كما وصلنا، بلغ القوة والمتانة مكانها في أعمالها، أي إنها إذ جعلت من طول النص يدور ضمن إرهاصات التناغم البياني المتماسك، وأسميه التقابل على الجهتين: في المضمون، وقوة المعاني الصادقة، الجامحة في محتواها نحو كشف المساق التاريخي للواقعة المؤلمة، بدءا من التأويل المحتمل في مظاهر عليها يتنزه النص على جميع أنواع التشبيهات والظُنُونُ غير النافعة، وتميزها بما قيل فيها من نقودات محمودة، أمَّا والنقد فهو إلزام على الناقد أن يكشف عن قبول الشاهد في تلقيه النص الموحي بصدقه.
    ولا اجد بداً إلاّ أن أذكر بعض الشاعرات السامقات في العراق أمثال: د.بشرى البستاني، والشاعرة خالدة خليل، والشاعرة عاتكة الخزرجي، والشاعرة فاتن نور. اللواتي شكلن اتجاهاً خاصاً بهن كلا حسب أسلوبيتها، أما ناهضة فلها أسلوب متحد في ذاته عبر متقاربات فصاحة العلوم اللغوية الجاذبة، من استطراد، وتوشيع، وتشبيه، وايضاح، وتتميم، وغيرها الكثير. وما جاء في نمط أبعاد أدواتها فيما يتعلق في المقيّد بالفصاحة المعنوية حيث أجاز لها التوظيف الناجع في تحكيم مهارتها عبر إبانة في المعاني بلغت المعنى اللفظي الدال على مدلول لا يقف عند حدود معينة، أي أن بيانها أقام البرهان العقلي على المجاهزة الذكية في ذكر الأسماء المختلف عليها عبر التاريخ عند المسلمين، من حيث الاستفعال الفقهي واللغوي، والمخالف في تنزيل المطلق، وهذا ممَّا اختلف عليه بين المفسرين واصحاب الرأي من نقاد ومفكرين في النحو والصرف والبلاغة، وإذا تفاعلنا مع قول الشاعرة نجد إنها تقف الموقف الحاسم المنصوص اشتراطه على بيان الحقيقة وقولها: " كي ما يعانق ضفتيك مواسما \ ندري يكابدها الحنين \ فتُفضحُ" إذن الاستفعال هنا هو قدرة الشاعرة على المناشدة المحصنة بقريظها التشخيصي على استعياب أبعاد ومكونات ومحصلات البلوغ، بما يشبه السمو إلى جلب المستعار التاريخي وجعله يواظب الذكرى، وهو في رأي أهل البلاغة وخاصة عند يحيى بن حمزة العلوي اليمني هو: "عبارة عن أنْ يتعلّقَ بالكلام معنى له أقسام متعدّدة فيستوعبها في الذكر فيأتي عليها*" ورأي ناهضة إنه تحابب وتناص بالقدرة الإيحائية، خاصة فيما تعلق بالفصاحة المعنوية، ومن هذا اخترنا ما تفوه به البديع في قول كعبُ بن سعد:
  حليمٌ إذا ما الحلمُ زيَّنَ أهلَهُ – معَ الحلمِ في عين العدُوَّ مهيبُ *
وقول الحسين بن عبدالله الغريبي:
بالله يا ظَبَيَات القاعِ قُلن لنا – لَيْلايَ منكنَّ أم ليلى من البشر؟
    ولأن المعنى عند ناهضة أصبح تثبيتاً لماهية المقدس "الماء" المشبه بالشخصية الحسينية المهابة، وفي باب التأويل نقول أن "الماء" أكثره جنة للأرض وما عليها، وأقله موت بطئ، والشاعرة ملبية لجلالة العائلة الحسينية، تبعد التوهم والنسخ عن أهل البيت، ذوو الاصلاح، والالتزام، والكرم، والقدرة على فهم الشريعة، وعلم البيان، ودليلنا ما قاله علي بن أبي طالب في حالة النسخ: "اِتَّفقوا على أنَّ نسخَ سُنَّةٍ من سنن العبادة لا يكون ُ نسخاً لتلك العبادة*"وعلي هنا يقصد أصل العبادة، لأن المنسوخ ليس جزءا من الأصل في مفهوم الإيمان بالحق الذي تبناه علي في فلسفته، ومن أجل هذا المَبْدأ أرادت الشاعرة أن تكون قريبة من المقاربات المقصودة في مفهوم الشقشقة عند علي، برده على ابن عباس حين قال لعلي: "لو أطردت مقالتك" فرد علي: "تلك شقشقة هدرت ثم قرت*"، ولهذا ففي الاستطراد وجوه عدة، حيث يدخل المعنى بالذهنية المقرة لكلامه، ويعود بالرأي إلى الحقيقة بواقعيتها المشرقة المتمثلة بالمرحلة الحياتية الأولى، ثم ينسقها عبر تاريخ طويل فيكون الاشتقاق ذا وجهين:
أولهما: إيراد الأمثلة من حيث الابانة أن تتسق ماهيتها بالحقائق والحجج الدامغة.
ثانيهما: الاستطراد البلاغي عند ناهضة شكل معجزة أمتازت بها لوحدها فحققت لها التطريز والمحاسنة والإيقاع السلس.
لزينب، حين يمطرها الكلام
=
أهدتك لؤلؤها فكنتَ جمالها
ورمتْ اليك مُحبة"  اجيالها 
 نورٌ توضأ في حدائق وحيها 
فتقدّسَ النورُ الذي قد قالها 
فينا الحنين 
فأسكنته حيالها
فتقاربت تلك الشموس و بينها
قمر الطفولة تعتريه
 خلالها
كل المواجع .. أسفرتْ عن نيزك
صدقَ الحقيقة
حين باح سؤالها 
   "لزينب حين يمطرها الكلام" عنوان القصيدة التي نحن في صدد تناولها بعد قصيدة "بسملة المياه"
    أما ما دعاني لتناول "لزينب حين يمطرها الكلام" على هذا النحو من الأهمية، هو إني أيقنت بمساق جوابات النص المتدفقة بنمطيتها المتحولة بمقاديرها المعاينة، لذا أقول جَعَلتُ الأختيار ممكناً لبيانهِ، حتى وجدتني أعيد قراءة النص مرات عديدة، وذا ما دعاني أن أدخل محاور التفنن التي شدت من وحدة النص، فجعلته يخفق بملذات تستضيف القارئ على مساحتها، وهذا تـأتى من شدة اعجابي بتدوارِ القصيدة المحكم تمظهرها وسبكها ونظمها، واعتلاء الصوت الذي تطفو جواباته على طلب الإبانة المعبرة عن مبتغاها، هذا إذا اعتبرنا أن ما يحمله النص هو اعتماد مثاوي الحال المؤكد، الذي يعمل على توليد محاكاة الموروث الذي تمثل بالمظلومية، وبقي سائداً في النفوس التي بقيت تدافع عن الحق المسلوب، "خلافة علي بعد محمد" في حين أن الطرف الآخر ادعى على أنه هو صاحب ذلك الحق وليس غيره، ولهذا بقدر ما يكون المعطي الواقعي صادم، يكون الرد أكثر قسوة أن يقوم أحدهم إلى المنبر بلا عزة، لتشويه أهل العزة، وهنا لابد من الاشارة إلى تفسير علي بن أبي طالب معنى القضاء بقوله: "إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً*" وعليه لابد من أن نعثر من جوانية هذا الخلاف على شئ من العقلانية لتحقيق المعرفة المتاحة، لبناء الإيمان الممكن، لكي يبسط حرية: الأعتقاد والرأي، فَكِلتَا الحالتين تعز لهم مباءة حسنة، وتلك الحكمة ترتبط بمداراة شروط الالتزام بالاخاء، حتى لا يُشَتَتوا فيكونوا فرادى. ولكن على ما يبدو أن مشكلة التأثير الذي تمارسه الفتاوى باعتبارها الوسيلة المقبولة في أحوال الفهم الملاحظ عند البعض المتطرف، حيث بقيت العصبية الطائفية توقد استمرارية قرارات تثوير النفوس المهزوزة والمتخلفة، وتلك هي أطروحة الخلافة القائمة منذ عصور مرت تُعْلِي وتزيد من العناد جهالة، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب: "وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم أولئكم سلفُ غايتكمُ*" وبين الذين كانوا ومازالوا يتمتعون بعلاقات طيبة وحسنة مع الأخرين. يقول كانط: "أن قواعد الفكر بقيمتها اليقينية ستكون معطاة بالفطرة*" وللأسف البعض القليل من الطرف الأكثر هيمنة على القرار، اعتبروا الإرهاب حالة صحية، ولكنه وفي حقيقة الأمر أن ماهو آت إلاّ تمثيلاً للكراهية، والإضمار، والأقصاء. لأن قطع الرؤوس واللعب بها بدلاً من كرة القدم، بنظرهم يمثل حالة ايمانية ترهب الآخر، فاتخذوا الطريقة تمثيلا للوصول إلى الغايات الكاسرة، التي تصنع المكروه، لأنه إن لم نحصل على التكليف بالنسبة المؤهلة بطلت حرية اختيار افعالنا، نكون قد نُسِجْنَا على الغير من غَيْرِنا.
    "لزينب حين يمطرها الكلام" جسدت الشاعرة صورتها البلاغية التي تثير عاطفة القارئ بالتَّسَمّي، وكأنها ترسم الصورة الحيّة في انفعالات السيدة زينب، وتلك إشارة إلى خطاب زينب أمام يزيد بن معاوية، "حالة الأسر" وكان يزيد يضع في حضنه قرداً وعلى كتفه قرد آخر*، كما ورد في أقوال "الماوردي الشافعي" فكانت زينب في حديثها تطرق أبواب البلاغة، والنحو، والقياس ورجحانه، لأنه المعيار الذي تبيَّن في لغة أهلها، بينما يزيد يغلق الألفاظ فتهبط معانيها بدون نفع، لأنه استخدم الأنشاء في خطابه غير المختص بسياق القواعد المعنية بالأحداث المأساوية، الخطاب "المنتصر" المهزوم الذي يتفاخر به بقتله للحسين بن علي، بينما نجد زينب تفتح الألفاظ على التشبيه والمعاينة والايضاح، وصبرها على تحمل أعبائها، بتتميم البيان وحسن حصره، بواسطة علومها المنفتحة على "مبدأ الطراز المتضمن لأسرار البلاغة"، كما عبر عن هذا "يحيى بن حمزة العلوي اليمني"، ومن أجل هذه المبادئ تمثلت الشاعرة بعزم لا يضام، وبمنتهى الطمأنينة بما يبسطه الإعجاز من حقائق في مُناشَدةِ معانيها.
    قالت "يمطرها الكلام" لغة صافية في تصرفها الحَسن، يراد بها أن تحاكي الورود المجازي، كي يحلّ فيها الوصف جزاءً في مقصود الكلام، فقد مالت لغتها إلى أن تجعل احتساب التأويل يلامس المبتغى في التصريف والتحليل، كونه توارد على جهة الحقيقة التاريخية، وهذا يُعظمُ الدَّعَة، ومستقر صورتها اللائقة بالمعاني. في حين نجد يزيد بن معاوية يخل ويحتقر النحو، وزينب ترد كلامه بالحجة والمثال والبرهان، واشارتها إلى أن القرآن بنيت أقسامه من وسائط مهارات النحو، وحين تذكر أخاها الحسين تذكر النور والوحي والمحبة والتضحية والشجاعة، ويزيد يذكر المُلك والسلطة، ويقبل قردهُ من فيه، وهذا الفعل كان معيباً عند العرب، والشاعرة تدعم جمالية التصاورية والصوت بالملاقحة في هذه المعالجة البلاغية، وإن لم تذكر اسم يزيد في السياق، لكنها اشارت إليه في مفهوم المقابلة للأبعاد الأخلاقية، وهو ما يفيد المعنى بالتوكيد على قدرة الإنسان على اختيار افعاله، بقولها المفضي إلى الجلالية: "كل المواجع" حتى يُفَسَرْ الهتاف الروحي على إنه كعصب الجوارح تعتلي قوة، ومن مهابة بها تستفيق الأرض كالصفة المشبهة بكينونيتها، وذلك كله تمثل في "الزينبة" في قولها: "نورٌ توضأ"، ثم اختيارها الحدائق فالأرض الطيبة والعطر والجمال والريح الخفيفة والعصافير تلعب زقزقتها في الروح بهذا التدوار الأيعازي المفنن وقولها: "نورٌ توضأ في حدائق وحيّها". لم يك الشعر قد خرج عن المساق الرومانسي في هكذا توليف، لكن الشاعرة أحالت خصاله إلى الأغراض الكامنة في استرخاء تمظهر الدهشة، المستخرج من فيها فصاحة القصد المعنون بالحب الرومانسي لزينب، فجاء التواصل المعنوي بين الشكل "الرومانسية" وبين المضمون "التصرف"، إنها لم تأب صحة توليف العلوم اللغوية في مزجها اللفظي الكاشف عن شاعريتها المسندة بدرايتها المنفتحة على حرفية مضمرات أدواتها، وقولها: " فتقدّسَ النورُ الذي قد قالها \ فيك الملامح قد ( زينبتْ )" إذن، نورٌ توضأ، أي أن النور هو من يغتسل أطراف جسد زينب حين الصلاة، حتى وإن كان الماء أو التراب هو أساس التوضئ، لكن الشاعرة جعلت من النور وراثياً في عائلتها من جدها النبي إلى أبيها علي إلى الحسنين، فنورهم به اليقين والدليل للهدى، وزينب اِسم علم للمؤنث وله معان عديدة منها: "نَباتٌ مِنْ فَصيلَةِ الزَّنْبَقِيَّاتِ، يُزْرَعُ لِعَناقيدِهِ الْجَميلَةِ، وَحُسْنِ مَنْظَرِهِ وَأَوْراقِهِ الطَّيِّبَةِ النَّافِذَةِ." ويعني أيضاً: " نبات عشبيّ بصليّ مُعَمَّر من فصيلة النَّرجسيّات، أزهاره جميلة بيضاء اللون فوّاحة الرَّائحة، وبه سُمِّيَت المرأة *" إذن زينب، زينبت" أي أكتمل فيها حسن المضمون والشكل ومعجزة الكلام وقوة حجته ومصدره كونها ابنة عائلة عصم عنها الخطأ.
ما بين مولدها و صورة غرسها
جدل المسافة  ، حاملاً أغْلالُها
تمشي على  قمر الغياب بوعيها
كي تنتقي سفراً يضيئ كمالها
كي ترتقي مطراً ينوء بحمله                                              
يزجي غذاه ، مُطَمْئِنَاً أطفالها
فنمت رؤاها ، دمعة " كونية"
أمسَتْ منائر ، هدّأت زلزالها
أو يطبق الجبل الاصم بجرحه
ظلم النفوس مقطّرا سربالها
لكنها عرفت ، فأعتقت المنى
وتيممتْ  مطرَ الكلام فقالها ..
فاضته اسئلة" تفيض اجابة"
ثقبت بها رمق الوشاة ، فخالها
مثل المنابع اذ أفاض نميرها
كي ترتقي مطراً ينوء بحمله
    يستمد سفر القصيدة عند ناهضة وعيَّهُ من سندهِ إلى متنهِ بتناص مأخوذ بمأساة اختار لها الزمان 61 هجرية، المكان مدينة كربلاء الجنوب الغربي من العراق، الحدث واقعة كربلاء، وسميت في حينها واقعة "نينوى" وقد قتل الحسين بن علي، وبعض من عائلته وانصاره، ولم يبق غير العليل زين العابدين وهو علي بن الحسين، وزينب شقيقة الحسين وبعض النسوة والأطفال. والشاعرة تشير إلى السفر الأسير بقولها: "جدل المسافة..". ويأتي التساؤل معللا وارد الانطباعات التي نتلقاها عبر الحواس الموقدة بالغضب والرفض، هل هي في حقيقتها تقتضي الموقف الانفعالي المحتدم منذ عام 61هجرية ولحد الآن، والجواب الحسي هو استقرائي بالأصل للمداليل المثبتة على صفحة التاريخ المبينة لهذا التخصيص، بشاعرية توحي بتفاعل يلامس الواقع الذي حاول الكثير طمره، ولكن الميل إلى الحقيقة باق كالشمس، نجده يتصاعد تصاعداً نوعياً عبر مساقاة الحدث، وللحق أن الصور الشعرية في هذا النص تحمل في داخلها شعور بالأسى أزاء تلك الملحمة القاسية، خاصة وأن الشاعرة اختارت زينب، ومنحتها ناصية الحديث والتصرف، فجعلت من السفر يأخذ التشريف المقدس على مراحل زمن الأمكنة التي مرت بها زينب مع العائلة، لسوف يكون ثمة وقت لتهيأ به مقابلة التعارف مع أهل الشام وسيدهم يزيد بن معاوية.
    ولعل مضمون الكلام توحد في محاكاة زينب للحقيقة التفاعلية، بتصرفها الموصول بالنسب، ولهذا فهي تطرح وتحتفي بالعائلة، والمعاني تستقيم في قوة إزاحة الإطراد في بديع كلامها حيث يزداد إبانةً، وقول الشاعرة: "كي ترتقي مطرا ينوء بحمله" نقول إذا دخل المجاز في الشعر يعمق من قوة المباني الهادفة ويجعلها لينة الشعيرة، تصب طقوسها في رمزية الأقوال المتداولة في مفهوم نظرية ممولة من عقلية بدوية. ولهذا فهذه الطقوس سوف تمتد إلى أزْمِنَةٍ قادمةٍ ما دامَ الصراع الطائفي غالباً على العقلية المسطحة، ونحن نرى باعيننا أن الضحايا تتكاثر، والنفوس غاضبة، والصهيونية العالمية تنمو بقوة في شقوق الطائفية الإسلامية.
    وبما أن غرض القصيدة أصبح واضحاً بموجوده الطقوسي في زمنية محددة، حيث يشير إلى أن المدارك الحسية العاطفية ملبية لهتاف المجس الشعوري، تشد على مفاتيح تُفَعلُ عزيمة الوعي المرضي في تفاعلاته، وتفعل ديمومة تتناص مع يوميات الحدث، استحقاقَ كل ما وقع من ظلم على عائلة الحسين هو واقعي، لكن استمرار السلطة المعادية شوهت الحقائق بالتوضيح الخاطئ، وتقبَّله الناس غير العارفين بحقيقة الأمر، مع أن التاريخ بَيَّنَ واقع العائلة التي حوصرت بدائرة مغلقة في صحراء كربلاء، ومنع عنها الماء والطعام والحرية، وكان الأعلام المشوه للحقيقة يستمد قوته من الحاكمية المطلقة بقوة السيف والمال، فكان القتلُ محسوماً، دون معالجة الخواص القيمية لمجتمع تحدد معالمه الأخلاقية أقانيم إنسانية، كما عبر عن هذا أفلاطون في موضوعة مبادئ العالم "المجتمع" الثلاثة وهي "الواحد، العقل، النفس الكلية*" بواسطة اطلاق حرية المعرفة لتبيان التسامح والابتعاد عن المعصية للكبر، لكن وللسوء الطالع في طبيعة التفاهم، فأن المذابح مازالت قائمة ومستمرة لحد هذا الزمن، وكأن الأسس والتعاليم الفلسفية التي خرج من اجلها الحسين لم تعظ المعنيين أي مجابهة نحو التغيير الصادم الذي يجب أن يحصن هؤلاء الجماعة انفسهم به.
    أما إذا اتجهنا بقراءتنا نحو فلسفة المدارك الحسية الناطقة بمنطق الموازنة، وهذا ما أرادته الشاعرة أن تلزم العزة شأنها في النص، وتمده بالحيوية والعافية والرأي السديد، وإجتذاب الإيمان، بأسلوب يوعز لها أن تتخالق بالخواص الصوفية بإبانتها الرمزية بشهقات تعلو جماليتها الروحية، كون دلج التشبيه يُفَعِل من استصحاب الصورة إلى دائرة فنية يتمدد فيها اِنْقِلاب الوعي التحولي مقاربة لمدارك أفضل وأوسع، خاصة في العشق الروحاني الذي ساقته الشاعرة بالتمثيل لزينب، وقول عمر بن أبي ربيعة الروحي على لسان عشيقته: "وهل تطيق وداعا أيها الرجل" والشاعرة تقول: "ترتقي مطراً". وتأويله إنَّ رؤاها أمست منائراً، وهذا التفاضل يستدل به الموجب بصحة التآلف في قياسات الصوت. والصورة التي أجلتُ تناولها متعمداً، أردت لها أن تستكمل البيان في المسند الأول، الذي يشادي منطق وجوب التحليل، والصورة هي:
    "لكنها عرفت فأعتقت المنى"
    وتلك عودة إلى رباطة الجأش الناجع، حيث إنها أي زينب بسطت قدرتها القيادية على من تبقى معها من العائلة الحسينية: "نسوة وأطفال ومرضى وجرحى"، وهي تجمع بشخصيتها الناجعة الحكمة والصبر ورأيها السديد المختار جوازه ووقوعه، والمعنى في قول الشاعرة: "تمشي على  قمر الغياب بوعيها \ كي تنتقي سفراً يضئ كمالها" وهو الالتزام بضرورة الامتناع من الأنهيار بعيون الأسرى، لأن الشموخ عند أهل البيت أشبه بالطبع الذي لا يفارق صاحبه، وهو تجسيد علمي تفرع في ثقافة آدابهم، وقولهم صلب في شموخ الكلمة والرأي والمعنى، وزينب تعرف النواقص عند القوم في فعلهم وظنونهم وضعفهم النفسي، فتقوم على ردع قادتهم قبل جندهم، وَمعرفة زينب ذُو مهابتين: أمّا أن تؤمن بصحة الرأي فتقوله، أو إنها تتأمل مايقوله الآخر، فإما أن ترتضيه أو تعتبره جوراً على الحق. وقائد الجيش شمر بن ذو الجوشن رجل قتال ومرهب، لا يفهم من اللغة علومها ونحوها وصرفها وفنها وبلاغتها وحكمتها، بقدر ما هو مُطِيع لأوامر سيده عبيدالله بن زياد. وزينب تعي ما تريده من القوم، هو الالتِزَام بالأخلاق الإنسانية، لأن جدها من أمها هو "الرسول" محمد بن عبدالله ابن عم أبيها علي بن أبي طالب كان لا يفرق بين عربي وأعجمي، وهذا المدلول كافٍ لأن يجعل منها منائر مصدومة بالانقلاب الحاصل على عائلتها، وقول الشاعرة: " ما بين مولدها وصورة غرسها \ أمست منائر \ لكنها عرفت، فاعتقت المنى \ وتيممت مطر الكلام \ رؤيا تنير جلالها \ غرسا نبيا ماؤه" الإشارة إلى الحركة والسكون في مكان مولد زينب، يوضح مستقر التعاليم النبوية التي ائتمنتها العائلة، حيث تدوم على الكيفيات البلاغية بما يدعو أن يتفق مع الرسالة المحمدية، أي ما أرخى عليها العلم من منزلة في جميع الصفات الكريمة، ومن أجل هذا فقد أمست بوعي الحديث ملمة وناقدة، ومصب عيون الكلام يتلاقح في قريحتها تضاعيف منقحة في معانيها، أمَّا الكلام الذي تفيد به فهو علم جنوح أشبه بنعمة المطر، يهطل عليها حواره فيستقيم إصالة.
    تقول الشاعرة في إحضار الإبانة التصويرية: "فخالها \ مثل المنابع اذ أفاض نميره" أجدني أمّا منفصلاً برأيي، وميولي يَنْصَبُ في رأي الشاعرة دون وعي مستقل مني، أو أن النص الذي بين يدي تَغَلّبَ على حيلتي النقدية، فأشاع في توجهاتي وتحليلاتي إدناء بطيئ في مناقشة نص نوراني امتعني بحكمة تنهدت وعياً في قراءاتي، أضاء المحاسنة في نصوص تميَّزت فأيقظت المبادئ على نحوٍ القدسية الفاضلة. التي أساقت فكرة الضرورة الجمالية طبيعة للأحكام المقررة، ولي أن أقول في كل دراساتي الكثيرة التي مرت أفتح أبواب المعرفة بسهولة، وفطنتي تنهمر من عقلي على إحساسي ثم قلمي كالمطر، وهذا أسميته الابلاغ الإلهامي الذي يفتح لي أبواب المعرفة من أوسعها، أميل بها إلى التعريف والتحليل والإعجاز غير مترددٍ أمام صعوبة نص. بينما بهذا الإتيَان الفصيح عند الشاعرة ناهضة وجدتُ أن المحذور في التأويل يتعلَّق بالإجمال المفتوح على منظومتها الفكرية، كما هو الحال في ما تنشده الألفاظ غير المتناهية بجودتها وحسها، وسلاسة وزنها. فإذا أخذنا المشترك في معنى ثيمة "الينابيع" وثيمة نمير، لوجدنا مفسوح المِيلُودْراما ينساب كخلايا خُصِبَتْ بانسياب معنوي، لأن طبيعة الينابيع ماؤها نقي، وأما النمير فهو الماء النافع والعذب أي أنَّ مذاقهُ حلو، وهذا كلهُ ينصب في ثيمة "خالها". أي ما اِتَّضحَ في اجتهادها. وإذا ما توسعنا أكثر نقول أن "خالها" تدل على ترتيب ونسق من غير تكلُّف في النظم، وهي تشير إلى رجاحة العقل الذي أشتغلت عليه المعاني المُرَتَبَة والجامعة، وفيها بيَّنت رتب الأخلاق كي تطمحُ في سموِها المعرفي.
    وهي بهذا الأتيان تؤرخ وتبيّن لنا لِمَ شكك أتباع يزيد في "رسالة محمد"، تلك الرسالة التي تمثلت في بيانها الفكري، حيث كانت وما زالت تلك الرسالة استحصال الرأي الدلالي المنظوم في المختلف عليه، وذا ما وثقته خلائق النص من محاصيل اشتقاق علوم الشعر وبيانه وبحوره وطرقه، ببصيرته النافذة في توازن التّدوار المنظور  بجواز سبكه وحسنه.  ولذا فالوزن فَعَلَ غَضَارَة إتمام خصوبة المعاني، ولقح اللفظ حتى يستوي بمقامه، خاصة وانها استخدمت أسلوبية المتوازي، الذي يضبط التدوَّار بخلائقه، أي ما كان قائما بجوهره، وهو أن تصف الشخصية بما تدل عليها صفاتها، ذلك ما يوازي الاستخبار بعينه.
وتساكنتْ ريحا يقيم زحامها
قلق الحروف ندى يضئ رمالها
تلك الحقيقة اعتقتْ اجيالها
ترنو الى قمر يجيرُ سؤالها
فطفولة تحكي واسئلة ترى
وبشارة
أفضت اليك مآلها
حتى يجئ الصحو آخر وحشة 
سفرا" جميلا" يستظلّ ظلالها 
    تتواصل ناهضة ستار بمحاصلة جس السعة القَوْلِيَّة المُعاينة في سبر المرثيات وتجديد أحداثها، وجعلها واقعاً يتواصل بذكرياته المرة، خاصة النواحي التي تستطلع مواقف الناس من حقيقة اقتضت الانقسام الكُلّي، حيث مازالت الأمْلاء مختلفة، والأهواء محيرة في عمقها واتّساعها، متبعة كيفيتها المطلقة حيث لا نظر يحصر غير المعلن بالكَيْد، فالعزيمة بدافع الغرض الناجع تتعلق بعقل يلزم الاِيضاح واقعيته، في أمر يبسط المعنى الرمزي بكيفياته المحسوسة. وحال الشاعرة يناشد مراعاة خشية القول من دون التعرف على الحقيقة الصادمة، وكأنها تخرج الصورة التي حاول البعض اِخفاءها إلى صورة تكشف عن الوضوح، وبحسب الأصل، والنسبة، والسبب، فأن قياسات الأحداث تسبر التصرف الفكري المتحول إلى حصر المفاهيم ببعضها، وذلك من موارد فهمها لمعاينة واقع الصورة الحقيقية التي تفرق بين الألوان والأجناس المؤتلفة، ومن أجل هذا القصد نجد الشاعرة قد ناشدت المغايرة في ملمسها الحسي المعبر عن مقالة التوضيع عبر لوازم صادقة في محتواها بقولها: "وتساكنتْ ريحاً يقيم زحامها" إذن فالرمز "التساكن" أيقظ المعنى النفساني فجعل من زينب تقيم في زحام النسبة المطهرة ألا وهي "الريح". والمعنى يلزم التصور باِحقاق المبادئ الإنسانية، لأنها أي زينب عاشت اللزوم من تصور كان يجب أن لا يكون ملزما عليها، وهي مُحَاصَرَة بجماعة اللاَّأدرية في علوم الدين، وسياقاته التوليدية.
     أما الايضاح من حيث مطالعه نحت الصورة الملبية لدلالتها المتنقلة، فهو أن نبحث ملياً في معناه المنقلب بوحيه التعبري من واعز مضمونه وقولها: "وتساكنتْ ريحاً يقيمُ زحامها \ قلق الحروف ندى يضئ رمالها." إذن أوحت لأسس مرامي التنوير أن تكون ابتداء التفكر، لأنها قالت: "تساكنت" خاصة بعد أن تزاحمت الريح، وكما قال ابن قتيبة الدينوري: "للعرب الحكمة وفصل الخطاب*" وهذا ما سارت عليه العرب، على نبوغ لغة أتسعت بمعيارها الروحاني فصاحة مطهرة. إذاً فالمعاني في هذه الفقرة مترادفة دون خلل يذكر، لأن الصفات التي تُمَيْز زينب في هذه الشاعرية دالة بالوصل على الذمَّة التي اقترن بها أهلها بمفاهيم الفقه وعلومه، الممتدة عبر التاريخ، وكما يبدو فأن الشاعرة إذ أرادت أن تشابه لغتها بلغة زينب، تناصت مفاهيمها ومراميها الطقوسية، فمالت إلى تقدير اللفظ لتحكم الدلالة بميزانها الدقيق، وتفتح أبواب التأويل على مصراعيه، كونه إجماعُ الكلّ المعبر عن جمانة التَّدوار المركب لِمَا يحتويه النص بالدقة والرموز، ب "قلق الحروف \ ندى يضئ رمالها" الصورة توعز إلى الخلق الكائن في غير مكانه الواقعي، لكن الشاعرية المتحولة بالتشكيل جعلت من المكان طَيَّعاً لحالتها الشعرية، فجعلت من الندى يضئ الرمال، وما وراء ذلك من مكنون الوقوف على حقيقة المبدأ المتحول بيقينه. يقول الزمخشري: "نَوَّرَ الله حُفْرَتَهُ*" فستجد أن الشاعرة لم تبتعد قيد انملة عن هذا المبدأ، بقدر ما جعلت مفاهيمها تتحد بمعالجات معانيها باعجاز اللغة المطهرة المؤثرة، حيث اشاعت التثليث في صورتها الشعرية:
فأوله: المفهوم المتأخر لواقع حُوصرَ وعيَّهُ لأزمان مرت بقولها: "حتى يجئ الصحو آخر وحشة"
وثانيه: التعدي على البنية الواقعية وأيجاد حالة جديدة تتخالق مع المجاز ببعده الفلسفي.
وثالثه: جنوح اللسانيات أنْ تتحد تحت جناح يهذب الألفاظ لغاياتها، ونسميه التعدي بالرؤيا حيث استخراج الاعتبار جمالية فصاحته.  
     إذن فكل صورة شعرية في هذه القصيدة تتضمن ما يُرشد على توضيح الحقائق التي يعتبرها الآخر مرة في قوانينه، وما اقترن في هذا قولها: "تلك الحقيقة اعتقت أجيالها" هذا لأن ناهضة أرادت أن تقول عبر ثقافتها المبنية على حب أهل البيت، أن النبي المرسل محمد قال في علي والد زينب: "أعز اخوتي علي، وأعز أعمامي حمزة*" ويقول محمد كذلك في علي: "ألا وإني خلقتُ من طينة مرحومة أنا وعلي والحمزة وجعفر*".
    أما إدراك الملاءمة بين النص الشعري، وخوض لغة الشاعرة بجوابات علم البديع، حقق لها التفرد باستقلاليتها كشاعرة أجمع عليها الكثير من النقاد العرب على أنَّ صوتها الشعري يؤسس لمكانية مستقلة الوضوح والممايزة. وأنا هنا أزن نمطاً طاغياً بخصاله المثالية، وفي هذا يقول المفكر جروفيتش: "أن القانون لا يمتزج بالاخلأق*" وقول الشاعرة يُبصر المعنى بقرينه المرادف لفظه، وكإنما ذو الأيمان المتفوق اعتماده في مشغلها الشعري، وذا ما وصل إلينا في ما هو مطلوب، لأن بلاغتها الفنية طالت المحقق والمعلل، وهذا يعني أن مفهوم الشاعرية بميزاته المنضبطة يمثل الوجه الجديد للتوليدية التي اشترطها المجاز بمداليل واسعة في الرؤية والتمثيل، وذلك بتخليص موهبتها من التعتيم، والإنشاء، والمخاتلة غير المفهومة، وشنيع القول، كما هو الحال عند الغالبية العظمى ممن تَسمَيَّنَ بالشاعرات، اللاتي آمَنَّ بعبادة الوهم بأن تقطيع الكلام عندهن يسمى شعرا.
    ولذا ومن خصوصية ناهضة تعلمنا تمثيل الاستعارة بمزيتها المقنعة، وهو ما كنا ننتظره من رسالتها الملبية لطموحات القارئ، فالشعر لون اختص به جناسها المفلق لحالاته المبنية بما يوحى لها، على ما ينشده المتلقي، أي أن الشعر استقامت سهولته من مبدأ سلاسة التجنيس، ولهذا جاء جزلاً ولائقاً بالمعنى المقصود، ونحو ذلك قولها: "ترنو إلى قمرٍ يجيرُ سؤالها". إذا قلنا أن مركب الوصف المستدلّ في الإيماء إلى أن المشار إليها في النص وهي أيْ زينب ترنو وتتأمل في أحوال ما حصل ودل على سفر غير محمود، وكأنها تسائلُ ضوء القمر ما التبيين والتأويل في إصلاح الموقف لعائلة بسطت تطهير الحقيقة وذا حالها. وهذا دليل واضح أن الشاعرة في هذا التدوار الذكي تطرق ملذات الشعر صوراً تنطوي على صورة نسبة من الأخذ بالمتفق من البيان المعلل والمكمل لمعانيه، تعرض لناهضة كالتشبيه المُبَين دون تكليف أو استكراه، بل تجد لها في مختلفها الحسي تصادمُ مخيلتها لحظٌ يوزن به توازي المداليل لغاياتها، والسؤال الصامت يأخذ الجواب من تعليل ضوء القمر حيث يجير منشدها المُحَيّرْ، فكيف لهذه الحيرة أن تحل عقدة هي فيها، والمتعلّلُ إنما يكون ملائماً إذا ما كان التعادل دالا على مبغى الحقيقة، وإذا تأملّنا الصورة يصعب علينا الانكسار الذي نحن فيه من سفر زينب ليومنا هذا، فالذبح مازال قائماً.   
     وقولها"فطفولة تحكي واسئلة ترى" نقول الإمارات في فصيح القول تتوضح طبائعه عند أهل العلم، وإن اختلف أهل العصر كل بزمانه على ثبوت حكم القياس، على أن عائلة على بن أبي طالب هي عائلة علم ومعرفة ونقاء، فإن أجتمع البعض على هذا الرأي نجده ينقض من الآخرين على ما وافق عليه الإجماع الأول، لأنهم يعتبرون ما أُتُفَقَ عليه في ذاك الإجماع رأياً ظَنيَّاً، وزينب تؤكد ببلاغتها الفقهية إنها ولدت بحضن العلم فحازت على أصوله وبلاغته، وعليه فالإلزام "الاسئلة" يكون محل خلاف، والتوضيح يأتينا من فصاحة الشاعرة حين وسعت من مفهوم الاسئلة بأنها ترى، وهذا يعني ليس هناك من مخفي عن أهل التفريع والاصحاح والتعريف، ولأن طفولة العقيلة زينب إستَهَلَّ صوتها عذب في باح مطهر، فترعرت في حضن مصابيح العلم والتشريع، فابوها باب مدينة العلم، وهذا ما توده الشاعرة أن يتحقق بالإجماع. ولا مناص فالطفولة عند زينب تحكي الحقيقية، لأن منائر الواقعية لا يلغيها صمت المتأخر، ما دام هناك حقيقة وإن أختلف اجماع الضدين عليها.  
حوار بنصف بوح
         =
   كلامكَ الضوءُ .. 
يهديني فأعتنقُ ..  
هلّا أقمت صلاتي ..والمدى قلقُ   
اني على قلق  .. 
يفضي الى قلق  
لا يستكين و لا ، اني سأحترقُ
تاريخ اسئلتي يحتار في شفتي
أنّى لها البوح ياشمسِ ..ويا أفقُ
لا أحسن البوح ..أسمائي تبعثرني
ترتج زلزلة أسرى بها الالق
    الشاعرية المولَّدة هي من تُمَكن الشاعرة من ضبط الديباجة المترعة بالاستثنائية المجددة، وأن تَحرِص على انسجام العلوم اللغوية، لكي تكنز المكانية المُقَدَّرَة لنجاح الكلية الإبداعية، وأن الصورة الصوتية تجري من دَفَائِنْ اختلاف مناخ القصيدة، لأن بيان ماتنقله من مشاعر لا يخالف العاطفة بشئ، أي أن التصوير الفني في لحظات النظم يُخًيْل لها بالمقدرة المعنوية، كأنما يكون وارداً بما يلزم تفوق الكلام المصفوف بعناية، بمساق يحتاج للسبك والصياغة والتعبير والمحاججة، فتكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما أوردت من سير سهولة مائها، خصوبة تستدل على أن الجائز الإبداعي يوظف روح الشعر بواعز منظومة فكرية جامعة، يُبنى من خلالها النص الشعري بحرفية ناجحة، حتى كأنما يُوزَن بالمكيال، وهو أنْ يحتمل تَمَيْزَهُ بالدرجة المرضية لمقبولية مستوى شيوعه، أي أن النص الذكي نقول فيه إنه يخرج من ضيق، فيكون ذات ديمومة تعانق انسياب الحركة والتغيير. ولو أخذنا الرأي المفتوح على مناقشة مركب الأصل لوجدنا في محاور البنية السياقية محاور مركبة في نوعيتها، وإن استحصلت الهتاف الوجداني منزلة نَظْميَّة، لأن المستدل عليه احتراف فني في البنية والمناشدة العاطفية، المُدرَجة في سياقات جودة الرّصف. وعنوان القصيدة يوظف محتوى التداعي: "حوار بنصف بوح". إذن فالنص الذي بين أيدينا يمثل الاعتدال النوعي في مَنَابِت الموهبة الطاغية، خاصة وأنها قَسَّمت "البوح" إلى حالتين، نصفه معلن، والنصف الآخر ينبض به قلب المعنى، فنقول القياسات الأسلوبية في هذا اللطف الشعري أحسنت التأتي لمّا أوردت غرابة الاختلاف في تفاعلها مع خواصها وخواطرها، في البحث واعطاء رأي الناقد إثبات نظريته النقدية الخاصة.
    ومن أجل هذا وجدنا الشاعرة تجيد التعاطف بمقتضي معطيات موهبتها بالتقارب الإبداعي الخام، ولكن لكل موهوب مطب قد يكون أحيانا خفيفاً، وفي أحايين أخرى يكون مؤلماً، ولأني وجدت في هذه القصيدة بالذات، أن الشاعرة اعتمدت استنباط القافية غير الممولة من الطباق والتجنيس والمماثلة لمقتضيات المعنى، مع إنها حققت لجوابات النحو قوة جَزالته المنتجة للصورة المتخيلة، وكأنها تلقمُ ولادة الطاقة الحسَّية، التي تَكَشَفَ عن محاسن البوح، ولو قلتَ لم أجدُ قط في شعرها صورة خَطَلة فهذا منطقي. لكن القافية حين تزرع زرعاً تفسدُ نصاب النظم، وتخل في نوعيتها كشجرة لا تفيء مكانها، وهذا مما يؤدي إلى انعكاس الطاقة التفاعلية المرتبكة، على غير الجهة التي عرفناها بتقنية المصاورة الحسية، في نصوص لها اعتمدت الحوارية الناضجة، خاصة وأنها كما قلت تتشادى مع المجاز تحريرا للتميز وقولها: "كلامك الضوء يهديني فاعتنق" في هذا المعنى يتضح التداعي الحسي مؤثرا في الآخر، لأن المشاعر هنا أنثوية حتى في مقامها التوحدي، خاصة وأن الضوء ثيمة مقدسة تفتح بوابات عديدة في معانيها، فالضوء هو البيان، وهو كسب العيش، وهو الشاهد لأنه دليل مثبت للحكم، وهو الصلح كونه يقتضي إثبات دليل معين، وهو العلاقة الصادقة، وهو معرفة الأشياء سواء كانت تلك الأشياء بالحديث أو السمع، أو العبور إلى جهة معينة، أو التزكية التي تحمي الإنسان في غربته وغيرها. إذن في الضوء نقول هي اللفظة الجامعة بتعدد سمات معانيها، ولهذا فنحن أمام قبول رأي مما يتعلق بالنيةِ قولها "كلامك يهديني"، ومن خلال هذه المحاسنة اللفظية نقول أنَّ المشار إليه هو وليست هي.   
يا ليتها لغة
ضمّت ملامحنا
حتى نفيق وقد غامت بنا الطرقُ
تأرقت لحظة الاشراق في دمنا
اذ يستبيح مرايا جرفنا ...الغرقُ
طفل يهدهدني ..لا زال يقلقني
    "حتى نفيق وقد غامت بنا الطرق" "حتى نفيق" ل "حتى" عدة تفسيرات أو مخارج، ففي هذا تقصد الشاعرة بحتى.. إلى أن، والمخصوص يعني الغاية أي خبر واستخبار، لأن التخمين في هذا القصد يؤخذ بالظن، وسواء قلنا أن الكلام هو المعنى الذي تتصوره النفس، أو ما بني على الحدس الدال على الوضوح. وأمّا المركب الثاني من الجملة بمعنى أن الطرق أصبحت غَيْمَى فتبدو الطرقات أشبه بالمظلمة، خاصة وأن الكلام هنا سبقته "قد" وغامت مُغَامَّةٌ وهو القصد الذي أرادته الشاعرة أن يتفاعل كالهواء والنفس، لأن هذا تقديره حدث بعد أن فاق البشر، والحديث للجمع "نفيقُ"، والمعنى هو للتعجب، لأنها وبالتأكيد لا تريد أن تقول أفاق من الخدرِ، أو أفاق عنه النعاس، الخ. "وقد غامت" الصورة السوداوية المتوقعة بعد "قد" هذا هو حال العراق منذ مقتل الزعيم الخالد عبدالكريم قاسم وليومنا هذا، وخاصة ما نحن عليه الآن، أما الجانب العاطفي للصورة تفيق الحبيبة ولا تجد حبها إلى جانبها، وهذا يأخذ بالتأويل الواسع بمعرفته، سأوجز ما يجب إظهارُهُ من التعليل الحَسن، وأقَرِبُ تناوله لتسهل قراءته، وأوازن بين مقطع وآخر لتحصيل كلية المعاني. إذن لماذا عاطفي؟ في الصورة السابقة قالت: "كلامك الضوء يهديني فأعتنق" ودليل جواز القول يعني الاستسلام للحبيب، حيث نرى في بعض ذلك ملاحةٌ أغنت نيتها الصادقة المستفيق بها أمره، سواء كان كلامه عدلاُ أو غير ذلك، باعتبار قبولها أمر خارج عن إرادتها، وهنا الإرادة مسلوبه لصاحب القول: "كلامك الضوء" لأنه يكشف عن مخبوءات الذات من واقع ذوقها الخاص، وهذا يلزم الذات مقدار من عوالمها المنبجسة من العقل، لأنها لا تفكر بالظن بل بما يتفق بالنية. ولهذا إذا اعتبرنا الصورة الثانية فاقت ولم تجده. والغاية ما أولته الشاعرة لذاتها مشروع قبولها له، لكنها محال أن تكون هكذا بعد أن غامت بوجهها الطرق، حيث أصبح الأمر خارج عن طوعها، ولهذا قالت: "تأرقت لحظة الاشراق في دمنا" أرق فعل للمتعدي والمفعول مُرِقّ، بمعنى قد أساء حالها بعد كل ذلك التوهج للرضى بكل ما يقوله لها، ولا أدري لمَ قالت "لحظة الاشراق" فإذا كان قصدها "رق" أي عطف لطّفه وليّنه مما أثر فيها فأصبح الاشراق واجباً، لكني أجده مفهومه يتناقص مع "أرق" أي ساءت الحال، فلا وجوب للاشراق. والغاية أن لا تكون المعاني غامضة.
 أنّى ينام ....
ونبض الماء يحترقُ
احتاجك الآن
أوطانا" مسالمة"
دستورها :الحب و الانسان و الالق
احتاج خارطة" ..نبضي يصممها
اوطانها الماء يمشي خلفها الورق
اني على ورقي
عشتار اغنية
تتلو مراياي ان اسرى بي النزقُ ..
   
    "نبض الماء" الكلام النفساني أخْفَقَ تصاوره، وكأن الشاعرة تستخرج الفكرة المولدة: صحة السبك، ومدَّ في طموح معجزة الفنتازيا المركبة مبسمها، فهي أي الشاعرة، بأن تقضي الضرم حين لاح الصوت في قوة ألفاظها، فكان في بعضها وقفة للتأمل للمعاني البعيدة.
    لماذا؟
    لأنها القصد بالقول الذي يحقق مقاصدها، وقلنا كذلك أَلَاحَ بتصريف اشتقاق الكلام تعدد اِختلاف المذاهب اللغوية، حيث يأخذ التأويل حصته الكافية من غرض التفسير والغاية والشأن، ولأنهُ مُجازٌ لها تأويل الظواهر أن تكون الصورة صوتية في ذاتها معلنة لفظتها المبتكرة، "نبض الماء". النبض هو الحياة، والحياة الماء هو خضرة عروق الجسد، فإذا عطش المخلوق أرتبك الضغط عنده، وما أن شَرَبَ الماء، يزول الوهن بفعل سريان الماء في عروق الجسد، إذن الماء هو النبض في الجسد، أمَّا التأويل الثاني في الصورة "يحترق" يلزم المعنى بتقديره أَنّهُ يصيبُ فيما إذا وقع الخلاف بينهما، وهو كما ورد عند أبي الحسن البصري في مثل هكذا تفعيل إنه قال "هذا أمرٌ" والشاعرة لم ترد أن تنصرف إلى غير هذا بقرين آخر، قد لا يفيد المعنى بشئ، ولذلك تجدها فَعَلَتْ أدواتها الحسية ببلاغة مطردة. وفي التفضيل إنها لا تنفي ظهور المنع عن قيام تخصيص الحقيقة في معنى "نبض"، إنما هي تبادر إلى فهم الشئ بعينه، ولهذا جاء الاطراد معنيا بالحالة الأولى "نبض الماء" المعبر بالمجاز عن سياق يختم الشئ على غير ظاهره، بلفظ أكثر جدية لصالح المعنى، وفي هذا أعتبر علماء الزيدية والمعتزلة أن تأويل المعنى بغير مكانه يكون مخالفا للنتيجة المشار إليها بتفصيل الجذر اللغوي، وقولها: "احتاجك الآن \ أوطانا مسالمة \ دستورها: الحب، والإنسان، والألق".  
كلامك الضوء ....
أدري انه ملك
يجتاح مملكة" ..بلقيسها العبقُ
يعطي لأسئلتي مفتاح بهجتها
حتى يفيض على حاراتي الغسقُ
    بعض العرب يعملون ليل نهار على كسر معنوية المرأة فيصفونها  بأنها "عورة ناقصة العقل والدين" يقول صحيح مسلم والبخاري معاً عن الرسول محمد بن عبدالله في هذا: " يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار، فأني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة، وما لنا يارسول الله أكثر أهل النار؟ رد الرسول: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب الذي لب منكن، قالت المرأة يا رسول الله وما نقصانُ العقل والدين؟ قال: أما نُقصانُ العقل فشهادة امرأتين تعدِلُ شهادة رجل، فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين*" ولأن الكثير من أقوال محمد منسوبة إليه وهو برئ من معان ليس لها أصول ومخرجات علمية، ومحمد يوحى له كما قيل ولا يتصرف بالعلم من ذاته دون مرشده. والكثير من الكلام الذي ورد في الصحيحين مسلم والبخاري غير صحيح ولا يدعم بأدلة علمية، إنما البعض الأعراب ممن وجدوا إذلال المرأة وسيلة ومصلحة غاية لطغيانهم، نسبوا أقوالهم إلى الصحيحين عن حال لسان الرسول محمد. لذا نجد المرأة المتعلمة ترفض هذا التصنيع الإرشادي جملةً وتفصيلا، فمن النساء على أمتداد التأريخ: فاطمة الزهراء بنت محمد، والعقيلة زينب، وسكينة، ورابعة العدوية، والخنساء، وصفية بنت ثعلبة الشيبانية، وليلى بنت طريف، وليلى الأخيلية، الدعجاء بنت وهب الباهلية، وعائشة بنت الخليفة العباسي المهدي، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وجميلة بوحيرد، ونازك الملائكة، وغيرهن كثر. وهكذا بقيت المرأة هي الواهب الحقيقي للحياة، وهي السلوى، وهي البيت أي العودة للراحة والفرح، فكان لسان الشاعرات العربيات مدافعاً عن كرامة وإنسانية المرأة، نجد ناهضة ستار تعبر بشعرها المستهبُ قوة معان وفصاحة واحتدام البلاغة في ألفاظها المنيعة عن التقليد والمأسورية، وقولها: " أدري إنه ملكٌ \ يجتاح مملكة، بلقيسها العبق." بمعنى لا يغرنك إنك ملكٌ، لأن المكان الذي وطئته بلقيس فاح العبق فيه، والعبق هو تمجيد لعظمة بلقيس، لأنها تقتضي القصد والشكيمة، والخلاف الذي قصدته الشاعرة معلوم في من يهب عطاءه. والشجاعة عند الشاعرة أنها لا تخفي المعنى بل تورده. وفي قول أحدهم عن حاتم الطائي: " وحاتم الطائي وَهَّاب المِئِى" .          
أعتقتُ أسلتي
لكنها وقفت
بيني و بيني ..وهذا التيه مفترقُ
نعم .. أسيرة حرفي دائما لغتي
تداهن الوقت في سري
فأنعتقُ
أعود ثانية" ..(ماذا ؟) تزلزلني
فينبني من صحارى ظلي الغسقُ
    لو تساءلنا ما التصادم المختلف بين النبوغ الجمالي، والانشطار الداخلي للغة، وهل العنصران متممان لبعضهما، أم مختلفان؟ يقول هيجل فيلسوف التضاد، "إذا علمتَ علماً لا ضد له، وجهلت جهلاً لا ضد له، فلست من الأرض ولا من السماء*" لماذا؟ نقول: لقد لعب هيغل على المفاهيم المتناقضة القديمة في منطق افلاطون من جهة، والمعاصرة مع زمنية بدأ ظهور الماركسية، فهو ما زال يعتقد أن السماء هي المكون الآخر لحياة الإنسان، وهيغل متفق مع منطق افلاطون القائل: "أن هناك انفصالا بين الحسي والعقلي*" وأنا لا أتفق مع الأثنين معاً، لأن المعرفة بوحدتها نتاج العلاقة العضوية بين الحسي والعقلي، فلا حس بدون عقل، لأن أهم منزلات العقل في الوعي هو الحس، وفي الحريريات قول: "الإنسان صنيعة الإحساس". إذن النص تمثلته جملة أفانين المهارة النظمية بكل جوانيها المعرفية، لأنها أي الشاعرة جمعت المتضادات وأعطت كل عنصر من عناصر هذا الاختلاف رؤية مساقه الخاص، الذي يحاصل الإبداعية المستقرة في جنوح اقتدار الوعي المفلق في أصل ترتيب الصوت، يمكن أن أستقي تحليلي من لدن تعاريف النص على أوجه ثلاثة، مرتبا الغايات والمقاصد بميزانية خاصة، خالصة بوعي نوعي:
- " أعتقتُ أسلتي " نقول في الجدلية فعل يؤدي إلى التبديل في التتقديم والتأخير، في الفعل الحاصل في قيمة "أعتقتُ" التي ساقت علم المعنى إلى حوار مع المتضادات، بين أعتقتُ أسلتي \ وأعود ثانية"، وذا تطريز في نظام التبديل.
- "بيني وبيني، وهذا التيه مفترق" مساءلة أخرى في خطوات المقدرة الحسّية المبينة لسمو المنطق الكامن بالحوارية بين الأنا "الذات" وبين النبوغ الجمالي الذي أشرنا له.
- "ماذا يزلزلني.." تقوم البنى المحايدة عند ناهضة ستار على منطق التحاور بين العقلي والحسي، فينتج انعكاس مرضي للمفاهيم المثالية المنطقية.
    ولهذا يعمل النص عند ناهضة على المجاز الفطن ليكون ممولها الإبداعي ضمن علاقة مركبة بينهما، فتكون الماهية الشعورية حصيلة أدوات المنطوق التصويري، وتناص يناشد إشباع اليقين، بأن الذوق متاح في هذه الأدوات، فَيُحْسَب التطور مقروناً بالاعجاز ذاته، الذي يرشدنا إلى ما يحققه كشئ من الفضل علينا، وحال النص يتبنى الرفاهية واللذة وهو يحقق المتعة فينا، أي أن الجملة المتواصلة في لغتها وتأويلها ومجازها ومعناها هي الأفضل في النص المحسوس بشعوريته، أي أنها  تزق متتاليات المعاني من عطف كليتها على كلها. 
    أمَّا ما الذي يُشْكِلُ البنية الشعرية وخاصة في مراتب المضمون، نقول في منظور مختلف، أن تكرار حروف الجر أو اسم الاشارة في الجملة الواحدة مرتين أو ثلاثة، وخاصة تكرار حرف "الواو" فإمّا أن تكون "الواو" أشركت الجملتين، وإمّا أن تكون أبعدت المعنى عن بعضه، وقول الشاعرة بنحو موفق قد أسْجَى المعنى: " اعتقتُ أسلتي \  لكنها وقف \ بيني وبيني ، وهذا التيه مفترق " ألسَّلْتَهُ تعني فاتني أو سبقني واختصاصه المكان لأننا في التيه، ولها معان أخرى، لكن معناها هو ما وثقته لأنه يوجب تطابق المعاني ببعضها، وايضاح الغرض الذي ترتأيه الشاعرة، لأن الأسلة تباهت بين الشاعرة وبين ناهضة الإنسانة من جهة. وبين الذات الشاعرة في المعنى الفصيح، وبين ناهضة في حياتها اليومية. وهو ما توضح عند علماء البيان ضمن صنف البديع ب التوشيع، أي "معطوف  ومعطوف عليه" كما بينه يحيى بن حمزة في كتابه "الطراز". ومما وَثَقَ الصورة البيانية هو التناسق المعرفي في الاطّراد المنثور المشار إليه بتمام الفائدة، على المعنى بحرفية دالة، دون مبالغة تذكر في القصد، لأن الفصل الواقع في مكان "الواو" قد أكملت فيه الفضيلة الناعمة، لأنها لا تمدح وتنفخ في "الأنا" بل أبانت الترتيب بوضوحه الذي يفيد ولا يخل، حتى تكون المحاصلة نوعية فيما إذا أعتقد البعض، إنما هو مبجل، بينما المشار إليه في المعالجة التصويرية إنه غير مفهوم بفصيح معرفته وبلاغته. أمّا "الواو" الأخرى فكانت أكثر وعياً ودلالة من سابقتها فقد أينعت وأسجت وعطفت مشترك الذات على الفيصل في مفهوم القول الصريح، لأنها عدَّته بمقتضى معناه، خاصة وأن حرف الأشارة وَضَحَ الغاية، مع إنه وقع في مساق المحدودية الخاصة.
    أما التمجيد في الأنوية التي لا تشرك مفهوم المنظوم الأول مع المنظوم الذي يليه وهو: " نعم .. أسيرة حرفي دائما لغتي"، ففي الصور الأولى هي في موضع المغالبة الحسيّة، أما في الثانية فهي في موضع أن الحرف في قاموسها يبنى على أساس النسق الذي يُكَون المعنى بمجمله من غير تكلف باختصاصه، في جواز تعليل أن الجملتين سجت بهما الدلالة للتعريف بتمام الصواب، خاصة وأنها أكملت السبك فيما يحتمل تلاقي وجوه التصاورية الشعرية على البينة التي ترتأيها الشاعرة، في قولها المحصن بالنبوغ المعرفي الدال على وزنه وهو "فينبني من صحارى ظلي الغسق" وهنا تعتبر التشبيه حاصل في نظمها، وذلك باستعارتها الصحراء بفضائها المفتوح، هو أن يكون ظلها الغسق، ما أجمل هذا حقاً، لماذا هو جميل؟ لأنها شبهت الغسق بالليل أو الظلمة، وهذا يعني اننا أمام فلق التلقين في جوانية المعنى لتعديه الحاصل بالمقارنة، حيث صَيَّرت من الظل تجانس شكلي مع ظلمة الليل، ولذا يمكن اشتقاقه على هذين الوجهين في، "الظل" و "الغسق" والضم بكلا الحالتين عرفة.     
عذرا"...
سأكتبني شمعا بمحبرتي
أذوي انتظارا على شطيك ...
يا حدقُ..
لكن لي أملا لملمتُ غربته
لا يشبه التيه ..من غنوا ! ومن عشقوا !
عشقي ..
سلالة ضوء أنسنت وطنا
في دجلتيه ..
رياحي سوف تتفقُ ..
عشقي ..
محارة طيب أغلقت فمها
كأنها الشمس تهدي وهي تحترقُ
عشقي ..
بلا جسد دوما سيكتبني
ان شفّهُ الوجدُ ..
من طيني سينخلقُ
     المناداة تُخَيَّل إليك وكأنك المعني بمعالجة الأفانين المثيرة في نوعيتها، تقام غايتها توليد التَّصَوُّر بقياس "التبديل" المحكم في نوعه، لأنه قليل الكُلفة في المناداة لما فيها من احكام قدرة الوصول السلس إلى المتلقي، كقولها: " عشقي \ سلالة ضوء أنسنت وطناً \ في دجلتيه \ رياحي سوف تتفقُ". أحسنت الشاعرة عندما جعلت من عشقها سلالة استخبار الضوء، فهي بهذا أعلت من شأن العشق بأنسنة مَوْطِنَها فجعلت منه إمارة للضوء بدلالة منقولة بمعناها، ثم ساقت نهر دجلة ووضعته موضع الكناية، أي أن حال دجلة فسر بالانزياح التصويري، وكأننا أمام العدد الذي يكنى بها، فنقول كم، أي ما أريد من النهر أن يؤدي غرضه بتمام الإيضاح، فبدل الخير يراد من النهر دجلة أن يكون ذا خيرين.
وقولها: "عشقي \ محارة طيب أغلقت فمها \ كأنها الشمس تهدي وهي تحترق " وكما تقول الحكمة: "الشمعة تحترق كي تضئ "المكان" أو الآخرين". أمَّا وأنَّ الشاعرة أحالت الاستعارة "الشمس" إلى مفهوم أوسع فقد عمقت من أدائه، أي أنها جعلت من عشقها "محارة" تغلق فمها، وفي أحشاء المحارة لؤلؤة تحترق في سجنها كي تضئ غايتها، حتى إذا تهيأ للقارئ إمكانه تصور الحالة على واقعه العاطفي فهو في هكذا سياق يتناص في حالاته، كون دليل المجانسة حقق التشبيه بما يدل على معناه، كما وأنه توليدة لتصريعٍ محصنٍ بشروط بقيت تعالج أسباب الموصوف المبجل الذي تحتويه المحاور التي تضئ داخلها، ولكي تبقى الأضاءة مشعة في النفس كأنها الشمس تهدي الضوء من قوة احتراقها، فما توصلت إليه الشاعرة غاية في الدقة لمناجاة حالة صوفية يزدهر فيها الحوار فيرتفع كي يلتمس وجوده المقدس، ويصح في هذه الصورة الفولسفيك بمقدار مصاهرة ألفاظها على أساس إنها تبتغي المسرة والحبور، عبوراً إلى التصادم العاطفي النوعي بين ضوء الذات، وبيان محسنة ترتبت بنيتها بموصوفية المقدس.
المعالجة الثالثة في عشقي، جاء من بوابة التناص مع ما ورد في القرآن القول: "وقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" والفرق هنا ليس بذلك الغموض، لأنها أوضحت تميزها في أغلب أعمالها الشعرية، ولذا فأن التشابه غير منكر وكلنا قرأنا هذا، وهو ليس بسر، ولكن الاختلاف في المعالجة الفنية كيف تمكنت من أن تجعل شرط المستعار يختم بيان النجاح إلى علوٍ ينضج فيه الجذر فيكون، محلَّ حكم على الأصل، غير الممتنع التعليل به لاحتمال المحاسنة المعنوية في المعنى، وقولها: "من طيني سينخلق" والشأن هنا شأن التكبير لجلالية الذات، لأن المقصود جاء يحكم الوجه الذي مونته الشاعرة بقراراتها الإيمانية على وجه يشتمل قدراتها التوليدية.
تمت
                                            جعفر كمال
ملحوظة: حصلت على هذه القصائد التي تناولتها في دراستي من المواقع الألكترونية، يحزنني أنني لم أعثر للشاعرة على المجموعة الشعرية التي تحتوي هذه النصوص.


         هامش:
كتاب دلائل الإعجاز، للشيخ عبدالقاهر الجرجاني، ص79 قرأه وعلق عليه أبو فهر – محمود محمد شاكر، وصاحب القول غير معروف.
اقرأ كتاب ت س إليوت \ دراسة وترجمة يوسف سامي اليوسف.
النفري، كتاب مختارات من مواقف النفري، اختارها وقدم لها الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف.
البحتري، ديوان معارف، ص 209.
كتاب أدب الكاتب ص11 لأبي محمد بن عبدالله بن مسلم بن قتبية الدينوري.
اقرأ نهج البلاغة، من مختار كلام الأمام علي بن أبي طالب، شرحه محمد عبده مفتي الديار المصرية.
اقرأ معلقة عنتر بن شداد بن معاوية العبسي.
الحسين بن علي: أنا لا أنظر في الحسين من الجانب الديني أو الطائفي، إنما أنظر فيه فلسفة المناظرة، والحيّث اللا إنساني الذي وقع عليه وعلى عائلته، وأنظر في علومه ولغته وفصاحته وذكائه وبعده الأخلاقي، ونورانيته المعرفية في علوم اللغة والصرف والنحو والبلاغة والبيان، والعرب دائما يقتلون العظماء فيهم.
عبدالله علي الأقزم: شاعر حصل على وسام "الشاعر الفذ" من منتدى توبلي الثقافي في البحرين. 
اقرأ كتاب الطراز ليحيى بن حمزة العلوي.
نفس المصدر ص12 .
ديوان البحتري: "انظر إلى العلياء كيف تضام – ومآتم الأحساب كيف تقام"
اقرأ الإحكام في أصول الأحكام، تأليف سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآيدي. المجلد 3-4 ضبطه الشيخ إبراهيم العجوز.
كتاب نهج البلاغة لعلي بن أبي طالب ص 229. شرح الإمام محمد عبده
اقرأ كتاب تاريخ الأدب العربي لمحمد شحرور شعر قيس بن معدان الكليبي.
نقل عن ابن أعثم والخوارزمي وابن كثير ان يزيد جعل يتمثل بابيات ابن الزعبري، كتاب مثير الأحزان ص 80، وورد في كتاب ابن عساكر عن "ريا حاضنة يزيد".
أقرأ طبقات فحول الشعراء، ص200 شرح فتوح ابن أعثم.
ت. س. إليوت ديوان تعليقات على قصيدة البشر والجوف.
اقرأ كتاب الأغاني، عن واقعة قصيدة "البطحاء" للفرزدق.
اقرأ كتاب منطق أفلاطون.
كتاب تاريخ الأدب العربي، كعبُ بن سعد الفنوىّ.
كتاب دلائل الإعجاز ، تأليف الجرجاني، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر.
أبو القاسم محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري كبير المعتزلة، اقرأ كتاب: الكشاف.
أقوال الرسول محمد في ابن عمه علي بن أي طالب، كتاب صحيح مسلم.
نفس المصدر.
اقرأ كتاب المعتزلة، القاضي الدكتور أحمد الحريثي ص136
اقرأ كتاب أدب الكاتب، لأبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ص13 . 
كتاب النظرية النقدية ، تأليف ماكس هوركايمر.
كان يزيد يضع في حضنه قرد
زينب: التعريف ورد في قاموس المعاني.
كتاب المعتزلة للقاضي أحمد الحريثي.
32- صحيح مسلم ص311 ، والبخاري ص123 .
33- أسرار البلاغة . الجرجاني النحوي ص160
34 أنظ في كتاب المدخل في علم الجمال، جيورج فيلهلم فردريش هيغل، ترجمة ترجمة جورج طرابيشي.
35- اقرأ منطق افلاطون ضمن منشور كارل ماركس "النظرية الماركسية".  
36– اقرأ كتاب تاريخ الأدب العربي \ عمر فروخ \ باب الفرزدق.
37– اقرأ كتاب نقد الشعر، قدامة بن جعفر ص 108 .
38 – علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، ص231.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟