الصراع الفكري الناعم وبناء المعرفة وتصحيحها لدى المتعلم - محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

bougie-anfasseإن  المعرفة المكتسبة من قبل المتمدرسين٬ تتسرب إليها / تقتحمها في كثير من الأحيان تمثلات خاطئة٬ فتستقرو تقطن في بنيته الذهنية الإدراكية٬ لتكون بذلك سندا له في تفسير الأحداث وتقييم المواقف وبناء الوضعيات. وهو أمر يقتضي وفق المنطق التربوي التقويم . فما السبيل المناسب إذن لمعالجة هذه الوضعية المشكل؟
وما هي آثار أو انعكاسات المعالجة أو التدخل التصحيحي؟
انه من باب الاعتقاد الراسخ الذي لا يشك فيه أن التوتر الذي يطبع العلاقة الرابطة بين التلاميذ و الأساتذة يعزى إلى التصادم الذي يحدث بين تمثلات الأستاذ والمتعلم . فالأول ومن موقعه كمدبر للشأن التربوي وحامل للمعرفة يرى أن تمثلات التلميذ خاطئة ٬ تحتاج إلى تصحيح وتقويم ٬ وهذا شأن تربوي صحيح سليم و محمود . وينسجم و دور الأستاذ المتمثل التوجيه وتحديد مواطن الخطأ. إلا أن التلميذ لا يشاطر الأستاذ نفس الرأي فيما يتعلق بمكتسباته التي يضعها موضع تقدير لا تقبل الطعن و الانتقاد ما دامت هي المعتمدة في إنتاج سلوكاته الفكرية و النفسية و الاجتماعية. انه تضارب حقيقة تضارب ، معرفي بالغ التعقيد يصعب معالجته في ضوء انحياز كل جانب إلى موقفه وتمسك كل فرد برأيه مما يسبب في خلق وضعيات معقدة تفرز :

- غياب التفاعل
- سيادة التوتر
- بروز مظاهر عدة مشوشة للقناة الرابطة بين المرسل والمرسل إليه.
وهي جملة عوائق نابعة من الذات المتعلمة٬ تتجلى بعضها في :
تمسك التلميذ بتمثلاته القارة و الثابتة.
صعوبة إدراك التلميذ لما يتلقاه من تمثلات جديدة
عدم قدرة التلميذ على بناء معرفة جديدة
الافتقار للآليات الكفيلة والقادرة على تمكينه من فهم مضامين التمتلات الجديدة
عدم الفهم يحول بينه وبين ما يتلقاه
الوضعيات المطروحة غير محفزة بالنسبة إليه
الخوف من إضاعة تمثلاته.
وهي كلها عوائق ذات مرجعية نفسية في المقام الأول أصلها جذر المراهقة التي تجعله هذه الفترة العمرية شخصية ثائرة تتخيل ذاتها في صراع أو حروب مع الآخر الذي يسعى جاهدا ،في نظره إلى احتوائه فكريا واجتماعيا٬ ونفسيا وعاطفيا ٬ الشيء الذي يجعله في مقاومة دائمة لكل ما يصدر عن الآخر من سلوكات أيا كانت طبيعتها ٬ باعتبارها مواقف عدائية.لكن هل يمكن الاستسلام لهذا الوضع ٬و ترك التلميذ يتلذذ بنشوة الانتصار؟  لتمثلاته ٬ ومواقفه ووضعياته؟
ألا يجوز مقاومة هذا التعنت وجعل صاحبه يستسلم ٬ للمسلم به ٬ أي التمثلات التربوية كما تحملها الدات العارفة (الأستاذ) المنسجمة و المعايير التربوية؟
وإذا كان الواجب التربوي يفرض ويحتم على المهتم بالشأن التربوي التعليمي أن يغير الوضعية التابث لدى المتعلم عبر آلية الاقتحام للبنية الذهنية وتنظيفها من التمثلات الخاطئة  الطاردة للثمثلات الصحيحة البانية للمعرفة اليقينية العلمية ٬ فما الآلية المناسبة إذن؟
- انه ليس من السهل واليسير تغيير ثوابت البنية الذهنية للمتعلم / التي تحركه نفسيا واجتماعيا وفكريا ٬و تتحكم في بناء وضعيات ومواقف حسب السياقات المختلفة المنتجة لها. وهي وظيفة شاقة تتطلب ما يسمى بالدبلوماسية التربوية باعتبارها الآلية أو الأداة الفاعلة القادرة على اختراق الجدار الفولاذي للبنية الذهنية الإدراكية للمتعلم وإجباره على الاستسلام طواعية للخضوع لسلطة التمثلات المرفوضة في ظل المقاومة والصد٬ وقبولها بصدى رحب بعد انهيار آليات المقاومة. وذلك الامتثال للثمتلات التربوية الشرعية وليدة الخطاب التربوي الشرعي الموافق للمعايير الخاضعة للسلطة التربوية . والجدير ذكره في هذا السياق أن الآلية البيداغوجية البناءة القادرة على انجاز هذه الوظيفة الاستبدالية أي تحرير الذهن من التمثلات خاطئة واستبدالها بتمثلات صحيحة مطابقة للمعايير التربوية وتتجلى هذه الآلية فيما يسمى بالتدخل الناعم ٬  من لدن الأستاذ ٬ الذي يتعين عليه من موقع مسؤوليته التربوية معالجة الوضعية بذكاء و فطنة ٬ وذلك بالاحتكام إلى الحوار البناء البعيد عن العنف ٬ والقاضي باختراق ذهن التلميذ وخلخلة مخزونه الإدراكي عبر تبادل الرأي الهادئ الكفيل بتحديد التمتلات الخاطئة ٬ وهي عملية شاقة نوعا ما تدعى مرحلة التشخيص وبعد أن يتم تحديد المغالطات المعرفية الخاطئة تأتي مرحلة : المعالجة البيداغوجية  التي بموجبها يتم مطاردة واقتناص الطفيليات المعرفية المغلوطة المظللة للتلميذ ٬ وتعويضها بتمثلات معرفية بديلة اصوب منها و أقوم  ، تأخذ مكانها بهدوء في ذهن التلميذ لتصبح رصيد معرفيا جديدا يزوده برؤية جديدة تسفر عن إنتاج وضعيات ومواقف جديدة وهو تحول يبدو واضحا وملموسا للتلميذ أولا ، وللمحيطين به ثانيا . و لن يتحقق هذا النشاط الفكري التربوي الا بالتدخل  العقلاني المتجسد في صراع فكري ناعم ٬ بين المرسل والمرسل إليه ٬ يحدث صدمة فكرية ناعمة لدى المستهدف يتخلص على أثرها من معارف خاطئة واكتساب معارف جديدة .
وعلى هذا الأساس يمكن الحزم على أن الصراع الفكري الناعم القاتم على :
الحوار الهادئ الموجه توجيها سليما
الاستماع إلى رأي المتعلم
استبعاد العنف
اعتماد أصول الإقناع

هو الآلية البيداغوجية القادرة على خلق الثقة بين القطبين(التلميذ / الأستاذ ) لإنجاح العلمية التعليمية ٬ والعمل على اسقاط الرؤية الكلاسيكية القائمة على السلطة والاستبداد و التحقير المحكومة بخطاب، مضمونه عبارات من قبيل :
أنت تلميذ لا تفقه
أنت مستحيل أن تنجح
أنت بليد
اسكت
أنت فاشل.............
أنت............
وإستبدالها برؤية تربوية حداثية تحكمها القيم النبيلة المنسجمة والسجايا الحميدة٬ والموافقة للذوق الاجتماعي الرفيع وذلك قصد جعل الفضاءات التربوية منبعا لقيم الخير والمواطنة ٬ ينتجها علاقات اجتماعية تربوية تحكمها المحبة و التساكن٬ لا للعنف والتشاحن النابعة من دفء عاطفة الأبوة والنبوة المؤمنين بالصراع الناعم البلسم الشافي من أمراض التوتر واضطراب العلاقات المؤدية إلى الرفض والرفض المضاد المؤثرين سلبيا على المنظومة التربوية. و لهذه الأسباب بات من الضروري اعتماد آلية الصراع الفكري الناعم كآلية للتخاطب / قناة تواصلية بين المعلم والمتعلم لما لها من فوائد جمة على العملية التعليمية التي لا يمكن أن تنجح بأي حال من الأحوال إذا لم تمتد جسور الثقة والمحبة بين القطبين ( المعلم والمتعلم) و هو نشاط سلوكي نفسي لن يتحقق إلا بغرس فضيلة الاحساس بالخطأ و الصواب في نفسه.و الجدير ذكره في هذا السياق انه بمقدور واستطاعة آلية الصراع الفكري الناعم أن ينجح في مجال التربية والتعليم وتحقق ما حققته إلية التداعي الحر في مجال علم النفس . ومعلوم أن التداعي الحر أداة بسيكولوجية يعتمدها الطبيب لإختراق بنية المريض اللاشعورية بعد تنويمه مغناطيسيا للبوح بمخزوناته / مكبوتاته الخفية وتشخيصها والعمل على معالجتها٬ وتخليص المريض منها وذلك بعد أن يكسب ثقته وينجح في تكسير مقاومته عبر صراع نفسي ناعم ألم يحن الوقت بعد لاعتماد هذه آلية داخل مؤسساتنا التربوية ؟

نعم ،ينبغي أن يصبح الصراع الفكري الناعم عقيدة تربوية تستقر في عقول المدبرين التربويين و تتشربها نفوسهم ، و ذلك لان نجاح التربية يقوم على التحكم في هذه الآلية القادرة، إن استوعبت و اعتمدت على تمكين المستهدفين من التخلص من الخطأ ، و ورفضه و قبول الصواب،اقتناعا، لا إكراها و هي فضيلة لها أهمية كبرى، و بما هي كذلك فقد قيل عنها على لسان احد الفلاسفة : " ضبط الطبيعة الصادقة و معايير الخطأ و الصواب أعظم شأنا و أهمية من حسم مسافة الكواكب و حساب أوقات دورانها."
و قد نبه فلاسفة الأخلاق إلى هذه الوظيفة الجليلة مؤكدين على أن التمييز بين الخطأ و الصواب عبر الصراع الفكري الناعم ، هو تنوير للعقل إذ الخطأ بالنسبة إليهم ظلمة و الصواب نور، و في نفس السياق يرى الفيلسوف هيوم انه كلما انتشر التعليم البعيد عن الزلل ، و عم ، و ساد الفكر القادر على التمييز بين الخطأ و الصواب كان المجتمع اقل عرضة للأوهام و التعصب و الخرافة التي تعد سبب الفوضى و الاضطراب و انهيار القيم و فساد الذوق.


الدكتور محمد الصفاح

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟