الزمن التربوي بين التبذير و التدبير - د. محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

temps-scolaireيعد الزمان من المعضلات الكبرى التي شغلت بال الإنسان مسببة له الحيرة ، والقلق٬ بسبب طبيعته المبنية على بنيتين متضادتين :
1-    بنية الليل : حيث الظلام و الخوف و السكون.....
2-    بنية النهار: حيث انتشار الضوء وتبدد الخوف و عودة الحركة٬ و الانتشار عبر أنحاء الكون. و هوتضاد أدهش الإنسان القديم ٬فلم يجد له تفسيرا منطقيا ، يخرجه من الحيرة العقلية والقلق الوجودي ٬ و الاضطراب النفسي. فظل يشعر بقوته وجبروته ٬ خاضعا خانعا لسلطته و سطوته ، مستسلما للعيش على السجية والعفوية ٬  يتحرك بالنهار ويسكن بالليل ٬ دون معرفة أوعلم بما يجري حوله.
لكن مع تطور البنية الذهنية الإدراكية للإنسان وفي ظل التقدم الحضاري٬ ظهرت حقيقة الزمن وانكشفت هويته ٬ عبر قراءات متعددة أجمعت على أن الزمن ليس فقط ظاهرة كونية يحكمها التعاقب المنظم لحركة الكون ٬ بل هو قيمة كبرى تتحكم في وجود الإنسان ، مركز الكون، وبناء مصيره الفكري ٬ و الثقافي والاجتماعي و الحضاري..... ولعل أجمل ما قيل في شأنه "انه طاقة غير متجددة". وبما انه كذلك ٬ فإما أن يستهلك على الوجه الأمثل، فيكون زمنا ايجابيا، نافعا، مثمرا .(الزمن الفعال الايجابي....أو ما يسمى بزمن ولوج الحضارة ).

و إما أن يستهلك بكيفية مناقضة، فيكون عامل تدمير، وهدم. أي زمن عقيم ٬ سلبي٬ أو ما يسمى بالزمن العائق. وعلى هذا الأساس يمكن القول ٬أنه إذا كان الإنسان قديما قد عانى أزمة / معضلة التفسير ٬ فان إنسان حديثا، يعيش شرنقة أو أزمة التدبير والتقدير . بمعنى ٬ أن الإنسان في ظل السياق الحضاري المعيش ذي الخصوصيات المركبة والمعقدة ٬ يجد صعوبة جمة في تدبير زمانه . والموضوعية تقتضي الجزم أن الزمن أصبح خارج السيطرة٬ بفعل سوء التدبير ٬ لا سيما الزمن التربوي . وهنا يطرح السؤال الملح ٬كيف ينفق الزمن التربوي داخل المؤسسات التربوية؟
من خلال ملاحظة وقراءة بنية الأحداث الناظمة للمشهد التربوي داخل المؤسسات التربوية ٬ يمكن القول ٬ أن الظلم واقع على الزمن٬ إذ لا ينفق بكيفية تربوية مرضي عنها .وذلك لما يصدر في حقه من هدر وتضييع  قويين.. ويتعلق الأمر في هذا الصدد بالمتمدرسين الشاهرين سيوف التمرد على الزمن٬ محاولين اغتياله كلما سنحت لهم الفرصة . و عملية التأهب للقتل عبر شحذ سنان العبث ٬ تبدأ من خارج أسوار المؤسسة ٬ إلى عقر الفصل. فالمتمدرس يخاصم الزمن ويلاحقه بالإساءة والاعتداء في كل زاوية من زوايا المؤسسة. فيلاحظ ،وهو يتلكأ ٬ ساعيا لضياع الوقت بطرائق مختلفة منها :
-    عدم الرغبة في دخول الفصل.
-    اختلاق الاعذار للخروج من الفصل.
-    عدم الالتحاق بسرعة إلى الفصول فور سماع رنين الجرس.
-    السرعة في الخروج من الفصول عند رنين الجرس.
-    الاختباء في أماكن غير مكشوفة.
-    الإحساس بالسعادة والانتشاء عند غياب الأستاذ لسبب ما.
وهي بعض المظاهر الصادرة عند المتمدرسين المعبرة وبوضوح عن علاقاتهم المتوترة / المتنافرة بالزمن ٬ الشيء الذي يجسد صورته العكرة داخل المؤسسات التربوية ٬ ويعكس بجلاء وضعه الاعتباري المشوش داخل البنية الذهنية . ومن هذا المنطلق يمكن القول أن التدبير الزمني لا يسير وفق المنطق التربوي ٬ الذي يلح على ضرورة التحكم في الزمن المدرسي ٬ لخدمة الأغراض التربوية ، وفق خريطة زمنية مضبوطة ورؤية إستراتجية واضحة ٬ بعيدا عما يسمى "فوضى التدبير الزمني". وهو وصف يصدق على مؤسساتنا التربوية٬ مع العلم أن السلطات الإدارية الوصية على القطاع ٬ ومن باب الحرص على الزمن ٬ والحفاظ عليه ٬ سطرت خريطة زمنية ٬  وزعت بمقتضاها المواد الدراسية٬ وذلك وفق وعاء زمني محدد . إلا أن سوء التدبير الذي تتقاسم مسؤوليته ٬ يجعل الزمن المدرسي لا  يسثتمر بالكيفية التربوية المتوخاة ، مما يؤثر سلبا على عملية التحصيل والمردودية لدى المتلقين . وهي نتيجة مباشرة لجملة من الأسباب النسقية٬ وعلى رأسها انعدام الإحساس بالزمن كقيمة فاعلة في الحياة ٬ يقتضي الحال التحكم فيها ، بما يحقق المنفعة على المستوى الفردي والجماعي.وذلك بالتفاعل الايجابي والبناء معها . وللخروج من معضلة سوء التدبير الزمني في بعده التربوي الفاعل العميق ، ينبغي اعادة بناء علاقة جديدة مع الزمن اللربوي ، وفق رؤية تصالحية مقنعة٬ تؤكد على أن نجاح القطاع التربوي رهين بالقدرة على التحكم في الزمن واستثماره بكيفية عقلانية ٬ ووفق معايير تدبيرية تعيد الثقة المفقودة بين المتمدرسين و الزمن و ذلك بتضافر و تكاتف جهود الفاعلين المباشرين ، و غير المباشرين، القادرين على الثاتير ايجابا في هذا الشأن. و هم :
1- الأسرة: وينبغي القيام بواجبها كاملا ٬ باعتبارها الخلية الساهرة على التربية والتنشئة الاجتماعية٬ وذلك من  خلال آليتي : 
ا. التحسيس بأهمية الوقت وقيمته في صنع الإنسان . فكريا ٬وثقافيا ٬ واجتماعيا ...... اعتمادا على أسلوبي :
- الترغيب : القاضي بالمكافأة  أثناء المحافظة على الوقت واحترام المواعيد.
- الترغيب : والرامي إلى الحرمان أو العقاب ٬ أثناء تضييع الوقت والتهاون في تقدير الزمن.
ب. والمراقبة المواكبة للتمثلات الذهنية الإدراكية حول الزمن . لمعرفة الخاطئة منها ٬ والمبادرة إلى معالجتها وتصحيحها لتصبح بذلك قناعة تربوية ٬ ترقى إلى مستوى المعرفة اليقينية العلمية ٬ فتتحول على إثرها بطريقة واعية أو لاواعية إلى سلوك عملي ممارس. بينا قد يؤدي عدم الوعي بها حتما إلى ترسيخها في البنية الذهنية ٬ وغرسها في البنية النفسية فتغدو بذلك قناعة فكرية ٬ تترجم على مستوى السلوكات والمواقف والوضعيات.
2-الإعلام: ودوره قوي التأثير  ، جم الفائدة ، حينما توجه مادته إلى توضيح أهمية الزمن وقيمته ونفعه ومردوديته على مستوى الفرد والجماعة .وذلك بتسخير الوسائط الإعلامية السمعية والبصرية بهدف التوجيه و الإرشاد.
3-السلطات الإدراية الوصية: الموكول إليها استصدار نصوص جديدة ٬ يقنن على ضوئها، التدبير الأمثل للزمن التربوي، والعمل على تحيين النصوص الموجودة والسهر على تفعيلها بقوة القانون. دون إغفال إدراج نصوص تعالج الزمن ، وقيمه، وذلك في سياق المواد المقررة .حتى يصبح مفهوم الزمن لدى المتعلم تابعا تبعية عضوية ونسقية واستعمالية لمجالات الحياة كافة.
4- الفاعلون التربويون: ويتمثل دورهم في التحسيس الدائم والمستمر والمتواصل بقيمة الوقت ٬ والاجتهاد الدؤوب لتطهير البنيات الإدراكية والذهنية للنشء من التمثلات الخاطئة٬ حول الزمن.واستبدالها بتمثالات مقدرة للزمن مع إبداء الحزم والصرامة تجاه العابثين به والمضيعين له .
5-الإدارة التربوية : ويتأسس دورها بشكل كبير على التحسيس الدائم للمتعلمين بقيمة الزمن ٬ وذلك عبر تنظيم حملات أسبوعية أو شهرية.... لتنبيه الغافلين عديمي الإحساس بأهمية الزمن ٬ مع إبداء ما يلزم من الصرامة تجاه الهدر الزمني . كما ينبغي ربط الاتصال كلما دعت الضرورة ، بأولياء أمور التلاميذ لاطلاعهم على علاقة أبنائهم بالزمن.
ليست هذه إلا بعض الاقتراحات التصحيحية لصورة الزمن العكرة داخل المؤسسات ٬ الذي يبدو وضعه الاعتباري داخلها أسفل سلم اهتمامات المتمدرسي. رغم المجهودات المبذولة من لدن الوطنيين المخلصين . الذين يدركون حقيقة الزمن وأهميته في بناء نهضة تربوية متينة الأسس. وما من شك أن بناء نهضة تربوية يرتبط بتغيير الرؤية حول حقيقة  الزمن ٬ وتصحيح العلاقة معه ٬ بغية استثماره على النحو الأفضل والأمثل . وذلك عبر اكتساب ثقافة التدبير العقلاني للزمن . كل مدبر من موقع مسؤوليته . وهو سلوك نهجته الأمم المتقدمة وجعلته أساس حياته العملية . فحققت بذاك نجاحا عاد عليها وعلى الآخرين بالنفع والخير. وباحترام الزمن وتقديره ٬ كسبت احترام الآخر، وفرضت عليه احترامها . وأصبح بذلك معيارا يقاس به تقدم وتحضر الأمم . فيقال على سبيل المثال :"الزمن الحضاري بين الولايات المتحدة وفرنسا يقدر بعشرات السنين " . مع العلم أن كليهما متقدمان. ومن هذا المنطلق ٬ يمكن القول ٬ أن مقياس التقدم الحديث، هو الزمن . وبمعنى أدق ٬ فبقدر ما تحكمت الأمم في زمنها ٬ مستثمرة إياه على الوجه الأمثل ٬ إلا وحققت النجاح المنشود وارتقت وتقدمت على سلم التحضر . و كلما عبتت بالزمن، إلا وعبث بها ٬ وقذف بها على هامش الصفوف الخلفية للأمم . وعليه ، فالزمن، إما أن يكون عامل بناء ، حينما يتم التحكم فيه والسيطرة عليه وقهره. وإما أن يكون عامل هدم، حينما تستعصي السيطرة عليه وتدبيره .
فبالتدبير الجيد إذن للزمن داخل المؤسسات التربوية، تصنع الأجيال الناجحة ، المرتبط اسمها ، بمدرسة النجاح ، التي تحمل على كاهلها هذه المهمة التربوية الثقيلة ٬ ثقل الزمن المستقبلي ، الذي لن يلين جانبه و عضده إلا للعقول الوطنية المتشبعة بثقافة القدرة على تدبير الزمن ، والتحكم فيه . كآلية لبناء وطن تسوده قيم البناء البانية لعقول متفتحة كانفتاح فيافيه، وهمم شامخة شموخ جبال أطلسه وريفه . وذلك قصد بناء نهضة الوطن والدفع به إلى مصاف الأوطان القوية على الخريطة الكونية .
أليس جديرا بأمة قامت على تقدير الزمن وتدبيره ٬ وبفضل ذلك ،ملأ صيتها الأفاق و الأمصال ماضيا ٬ أن تتبنى ثقافة التدبير الزمني ،وتحارب ثقافة التبذير . وتتمسك بها باعتبارها أساس النجاح وشرطه الضروري في المجالات كافة ٬ لاسيما المجال التربوي ، الذي هو في حاجة ماسة وملحة إلى بناء ثقافة التدبير الزمني وترسيخها في البنية الذهنية والإدراكية  للمتعلمين ، و غرسها في نفوسهم . والسهر على مواكبتها لتصبح سلوكا عمليا  في واقعهم المعيش.