الذكاء من الحرف الحبري إلى الحرف الرقمي الضوئي د.محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Elevationان النظام التعليمي الكلاسيكي كان حقا يسلك طرائق شاقة لتوصيل المعرفة الى المتعلمين. و ذلك عبر الوسائل البيداغوجية المناسبة و الملائمة ، لإنجاز هذه المهمة التربوية ، وفق التقييمات التربوية الحداثية المنتقدة للأساتذة ، و طرائق التدريس ، و المادة المدرسة.انه حكم خلق صراعا بين جيلين متضادين على مستويات عدة، بفصل شروط و عوامل تاريخية منتجة لهما.
و لعل من الأمور أو القضايا المختلف حولها، قضية او موضوعة الذكاء، التي أسالت الأقلام بخصوصه حبرا كثيرا، ساعد اهلها على بناء نظريات عديدة تقارب الذكاء ، تعريفا ، و تحليلا ، و توضيحا ، و نقدا.فقيل بشأنه الكثير ، من حيث :
1- الوظيفة .
2- البناء .
فمن حيث الوظيفة، يعرف شترن الالماني، الذكاء، قائلا : " ان  الذكاء هو القدرة العامة على التكيف العقلي للمشاكل و مواقف الحياة الجديدة." و يرى كلفن الامريكي ان : " الذكاء هو القدرة على التعلم" ، و يقول جودار الامريكي ان : " الذكاء هو القدرة على الاستفادة من الخبرات السابقة في حل المشكلات الحاضرة و التنبؤ بالمشكلات المستقبلية ...".

اما من حيث بناؤه، فيقول بنيه الفرنسي : " ان الذكاء يتالف من قدرات اربع هي الفهم و الابتكار و النقد و القدرة على توجيه الفكر في اتجاه معين و استبقاؤه فيه ، مثل تنفيذ عدة اوامر متتالية واحدا بعد الاخر ..." بل ادى الاهتمام به الى وضع مقاييس شبه علمية لتحديد درجات الذكاء و قياسها لدى  المتعلمين ، مستثمرة بذلك المناهج العلمية  المعتمدة على اليات للبحث ، تفضي الى نتائج دقيقة ، يمكن أن يقال عنها أنها موضوعية .
و بناء على المنظور الحداثي المعتمد على الآليات العلمية لمقاربة الذكاء ، و انطلاقا من الموقف الانتقادي، للنسق التعليمي الكلاسيكي ، ما السبيل اذن ، لبناء موقف موضوعي، حول من توافرت لديه قوة الذكاء من جيلي المتعلمين ؟
أ – جيل التعليم العشوائي .
أم
ب – جيل التعليم المنظم بيداغوجيا و منهاجيا .
ان مقاربة هذا الإشكال التربوي ، يقتضي النظر فيه من زاويتين اثنين متباينتين ، وفق ما تتميز به كل واحدة منهما من خصائص و مميزات.
الزاوية الأولى : و تمثل النموذج التقليدي الذي لم يكن نموذجا تربويا ناجحا ، وفق المنظور التعليمي الحداثي الذي اجتهد في استبداله بنظير مضاد له، يستجيب لقيم الحداثة التربوية في سياق ثورة تصحيحية حملت معها الآليات البيداغوجية الكفيلة بضخ دم جديد نقي في شرايين الجسم التربوي لتدب فيه الحياة بعد ان ماتت أعضاؤه الأساس الثلاثة :
1- المدبر التربوي :  أمسى غير قادر /عاجز ، بما يحمله من ارث تربوي متهالك ، و ما يتوفر عليه من خبرات و تجارب ، على مسايرة المشروع التربوي الجديد .مما يلزم إعادة تدوير معارفه و تجاربه وفق الرؤية الحداثية التربوية الجديدة ،المنفتحة ، ليعاد ادماجه من جديد في الانطلاقة التربوية الجديدة.
2- المواد الملقنة : يعتريها السقم ، و تشكو فقر الدم و هشاشة العظام، لا قوة لها و لا طاقة على المسايرة و لا روح لها على المنافسة ، باعتبارهما قيمتان تربويتان تدفعان باتجاه تحقيق الجودة.
3- طريقة العمل: تلقينية تؤمن بالمستوى الكمي ، المرتبط أو المعتمد على شحن المتعلمين بالمواد ، دون التمييز بين الغث و السمين منها.و بمعنى أوضح ما يستجيب من المعلومات الملقنة أو المحصلة، مع المحيط و تتفاعل ايجابيا معه، و يطلق عليها المعارف او المعلومات الحية، و ما لا يستجيب منها مع المحيط و يتفاعل سلبا معه.. و يطلق عليها المعارف الميتة.هذه إذن بعض الجروح التي كشف عنها الطب التعليمي التصحيحي في سياق الرؤية الفلسفية الجديدة المتقدمة، و قدم بخصوصها وصفة دوائية علاجية تنعشه، و تنهضه من فراش المرض و السقم الذي لزمه طويلا.
* الزاوية الثانية : و تمثل النموذج التربوي الحداثي الذي جاوز طريقة اشتغال النموذج الاول ، لان رؤيته تحديثية تصحيحية، صاغت خريطة عمل جديدة همت الثالوث التربوي نفسه.
1- المدبر التربوي : و ياتي في الدرجة الثانية بعد المتعلم، قطب الرحي في العملية  التعلمية.مهمته أي المدبر التربوي، التوجيه و التحفيز و العمل على خلق روح المنافسة لدى المتعلم و تركه ياخذ المبادرة الشخصية و التفكير و السؤال و الجواب.
3- اما بخصوص المادة المدرسة : فقد غدت محكومة بمعايير من قبيل :
- الانتقاء : اي ان المادة منتقاة، بهدف خدمة المقاصد التربوية.
- الكيف : فبعد أن كانت المادة بالأمس خاضعة للمنطق الكمي المتكئ على العشوائية، أصبحت المادة في ظل المنطق التربوي الجديد، يوجهها الكيف، و ذلك من خلال الاعتماد على مقاييس محددة، تحقق الهدف المنشود.
مراعاة الذوق : من المأخذ التي أخدت على النموذج التربوي التقليدي ، عدم اهتمامه باذواق المتعلمين، مما جعلهم ،و الحكم لأصحاب النموذج الجديد ،لا يتوفرون على ، او يفتقرون لملكة الذوق التي تساعدهم على التفاعل نفسيا ،ووجدانيا ،مع المواد المخصصة لهم و هي العلة أو السبب الذي دفع النموذج البديل لأخذ أذواق المتعلمين بعين الاعتبار، و إدراج ما يناسبها من المواد عن طريق انتخاب الاجود منها ، لتفعيل آلية الذوق التي فقدت منذ زمان لدى الجيل السابق.
- اعتماد المنهج : إذا كان النموذج السابق، على حد تعبيرهم ، قد  خضع للعشوائية ، فيما يتعلق بتدريس المواد، أي أنها رهينة المزاجية و الحركة النفسية المنقسمة بين المد و الجزر. .فإن المنهج التصحيحي
برؤيته الفلسفية الجديدة، يقوم على المنهاج كآلية دقيقة يحكمها التدرج في تقديم المعلومات بكيفية نسقية ترابطية ، لا بطريقة تفكيكية تجزيئية . على اعتبار أن المنهاج هو السبيل أو القناة البيداغوجية السليمة القادرة على ايصال المعلومات بطريقة آمنة الى عقول ووجدانات المتعلمين بهذه العملية التشخيصية المقتضبة للنمودجين التربويين، وبسط خصائص كل واحد منهما ، يبدو النموذج الأول وفق توصيف الثاني ، ضعيفا بمادته ، سقيما بصفاته ،عقيما في نتائجه . مكانه الطبيعي و منظومته كافة قفص الاتهام و اصدار حكم قاس، جائر، في حقه بعد ادانته بتهم : التقصير ، وعدم الكفاءة ، وعدم القدرة على المسايرة ، .... لكن الموضوعية  الصادقة، المبنية على الحياد ، تقتضي الاحتكام إلى :
1-  منطقة التجربة .
2- ومنطق استقراء النتائج .
فبخصوص التجربة ،فان منطقها يوضح أن النموذج التربوي الأول ، حقا ، يتميز بخصائص نذكر منها :
- القسوة.
- التسلط.
- هيمنه الحكم على الكيف .
- غياب المناهج .
-  سيادة الصوت الواحد .
- سيادة الحركة التواصلية ذات الاتجاه الواحد
لكن بالرغم من هذه الخصائص التي اعتبرت نقائص وهنات في حقه ، فقد استطاعت أن تكون الشخصية المتعلمة المجدة المثابرة ، المنسجمة و روح هذه الخصائص التي اعتبرت  توابث المنظومة التعليمية وقتئذ . ففي ظل هذا النموذج العقيم، كما يوصف حداثيا ، صنع الذكاء القوي، الهادر ،الواسع المترامي الاطراف . مكن  أهله وهم كثر، أن يحملوا في رؤوسهم معارف كثيرة، و متنوعة، تستعصي على أفكار و أذهان أي جيل غيره . اذ ألقينا المتعلمين حفظة لمتون كثيرة، و مختلفة، تنتمي لمشارب معرفية متعددة: منها على سبيل الذكر :
-  حفظ القصائد الطوال من الأشعار .
-  حفظ الأشعار المنظمة للتواعد النحوية والفقهية .
-  حفظ القرآن الكريم .
مما جعلهم فصحاء ، بلغاء، حكماء ،فطناء . فإلام يعزى هذا النبوغ الذي يجعل هذه العقول تفيض معرفة و علما؟ والسؤال في هذا المقام موجه الى منتقدي النموذج التربوي الكلاسيكي ، أيغزى الى الذكاء  الفطن القوي الذي تشرب و استوعب بفعل قوة المران والمجاهدة والتربية الجادة المسؤولة  الصارمة ، هذه المعارف التي صنعت جيلا مثقفا ، علا كعبه على المستويات المعرفية كافة ، بعد أن تشربت و بعمق القياسات التربوية و الأخلاقية . أم يغزى الى عامل فاعل غير معلوم ؟
هذا، و تجدر الإشارة إلى إن الجيل التربوي الجديد، جيل الثورة المعرفية التي اغدقت عليه و امطرته بكل الالوان المعرفية النابعة من جوف الشبكة العنكبوتية والتي وضعت العالم تحت الازرار القابعة تحت امرة وسلطة نقرات اصابعه.
إذ باستطاعته  أن يطلع على ملايين المعلومات في وقت وحيز. ويمكن أن نتساءل في هذا الصدد عن مستوى الذكاء لهذا الجيل الالكتروني او بتعبير ادق، اين يتموقع ذكاؤه وسط هذا الركام الهائل من المادة والتراكم الصوتي و الضوئي الكبيرين ؟
يجيب احد علماء التقنيات الحديثة والحسرة تاكل احشاءه قائلا :"لقد دمرنا ذكاء الانسانية بهذه الاختراعات انها افسدت عل العقل نشاطه وعلى الذكاء وظيفته " ويقول اخر : "لقد عاش الذكاء في صفاء بين احضان أوراق الحبر الاسود الحرفي ، وغدا في عناء و تعاسة بين أوراق الحبر الضوئي ...." وبمعنى اوسع يقول الدكتور محمد سبيلا :"هناك مسألة تهمني شخصيا هي الكتابة الالكترونية ، اذ تعذر على رغم الصولات و التجولات في فضاء الانترنيت الانتقال من الثقافة القلمية السيابية الى الكتابة النقرية ، وقد بدا لي ان استبدال أداة الكتابة أو الانتقال من القلم إلى النقر هو من قبيل الانتقال من دين الى دين للكتابة... ."
فعلى ضوء ما قبل ،يتبدى ان النموذج الجديد بفلسفته الجديدة التي لا تخلو من ايجابيات ،قد ذلل الى حد بعيد الذكاء ، لاسيما بعد أن ربط بناءه بضرورة الانفتاح على عالم التقنية التواصلية الحديثة ، المتمثلة في الانترنيت الذي وجد فيه ضالته المنشودة ، إذ توافرت لديه كل ألوان المعارف التي تكون جاهزة بمجرد نقرة واحدة متخلصا بذلك من العنت المضني  الذي عاشه المتعلم بالأمس في ظل فلسفة النموذج الكلاسيكي . إذ لم يعد من اليسير عليه وقتئذ الوصول الى المعلومة إلا بعد عمليات بحث شاقة ، تلزمه الاحتكاك بالنصوص الحبرية المكتوبة المبثوتة في بطون الكتب، والمصادر، والمراجع ، فيقلب كلماتها  ويمحص جملها و يستقرئ تراكيبها ، ويدون مضامينها بشغف  . مما جعل ذكاءه ثاقبا متوهجا يقبل على البحث بدافع الرغبة التي لا   تقبل عن الحبر بديلا . وسلامة الذوق الذي يستمد قوته من لذة وشهوة القلم  يقول محمد سيلا في هذا الشأن :".... للكتابة القلمية رومانسيتها وسحرها ،فيها متعة امتلاك القلم والإمساك بشيء صلب ، ومتعة الانسياب المدادي ، وصناعة الحروف واتصالها وصياغة الكلمات وبناء الجمل وهي متع قد لا يجدها المرء في الكتابة الرقمية او النقرية .... "
يستشف على ضوء ما قيل،إن النموذج التربوي الكلاسيكي المتهم من لدن نده الجديد ، بكون آلياته قد تجوو زت تربويا ،وثقافيا ،و منهاجيا ، و بيداغوجيا ، هو الذي صنع الذكاء في مرحلة وجهت اليها سهام النقد مع العلم ان الموضوعية تقتضي انصاف المرحلة التي انتجت النموذج التربوي بسلبياته وايجابياته. إذ لولاه لما تحقق الجديد التربوي الذي يبدو من الخطابات المرتبطة به  و كأنه ولد من عدم لا ماضي له. مع العلم ان النموذج  القديم الذي كأن جديدا في عصره هو شيئ ينبغي ألا ينكر لأنه :
1-  ذاكرة تربوية.
2-  لبنة من اللبنات التي تدخل نسقيا في تركيبة الجسم التربوي .
3- كما انه أسس لمرحلة تعليمية انتجت رجالات يعود إلى ذكائهم القوي الفضل في بناء الصرح المعرفي الذي سيضل شامخا بقوته وفرادته يتحدى جبروت الزمان والمكان . وحتى و إن تم التسلسم بما قيل في حق هذا النمودج ، من ذوي القربى، على اعتبار أن  آليات اشتغاله ضارة، بالنسبة للمستهدفين ، تعلما، و ذكاء،وتثقيفا و تكوينا.
فهل افلح النموذج التربوي التصحيحي وما يحويه من شبكة مفهومية مستعارة أن يقدم بديلا ينشط الذكاء ويحفزه ليبدع وينتج أكثر ؟
فحتى وان لم يستطع أهل النموذج البديل تقديم جواب أو أجوبة، فان التجربة لا تنطق عن الهوى بل انما هو حق ينطق به الواقع التربوي الذي يعكس وبصدق مستوى الذكاء لدى الجيل المجايل للتقنيات الحديثة  الذي يجد معظمه صعوبة جمة في حفظ ولونزريسير من شعر او نثر . فمن الأقوى إذن ، الذكاء الذي صنعته الأوراق  و وخزته الأقلام و أنعشته رائحة الحبر المسكوب ليغدو معرفته تطرب الوجدان وتغذي الروح وتهذب الذوق ؟ او الذكاء الذي مزقته الأوراق الالكترونية والحروف الرقمية ، والكتل الضوئية ؟
د.محمد الصفاح                      
الهوامش :
1_اصول علم النفس : الدكتور احمد عزت راجع
2_مجلة الدوحة العدد  24