الفروق الفردية ـ ذ.حميد بن خيبش

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

anfasseإن الاهتمام الذي توليه المقاربة التربوية الحديثة لبيداغوجيا الفروق الفردية كأحد الاختيارات الأساسية لتطوير الأداء التعليمي يدفعنا لإثارة التساؤل حول مدى حضور المعطى النظري المستمد من نتائج علم النفس الفارقي , و دلائل تمثله في الممارسة الصفية .
فالسعي إلى تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص , والرفع من جودة و فاعلية النظام المدرسي , و تبني قاعدة علمية لمواجهة الهدر المدرسي ,  بالإضافة إلى ضمان مخرجات بشرية مؤهلة و قادرة على التكيف مع المتغير العالمي رهين باستثمار أفضل لحقيقة الفروق الفردية , كإحدى أهم حقائق الوجود الإنساني .
يُقصد بالفروق الفردية تلك السمات النفسية و الجسمية و العقلية التي تميز كل انسان عن غيره , و بلغة أهل القياس " هي الانحرافات الفردية عن المتوسط الجماعي في الصفات المختلفة " . و تتجلى أهمية الكشف عنها في التمكن من فهم أسلوب كل فرد في التعبير عن حاجاته و انفعالاته من جهة , وفي الإعداد الوظيفي و المهني الملائم لاستعداداته .

أما فيما يتعلق بمنشأ هذه الفروق فيُرجعه البعض إلى عامل الوراثة و الاستعداد الفطري , بينما يعتبرها البعض الآخر وليدة البيئة الاجتماعية التي يتفاعل معها الفرد , في حين يميل اتجاه ثالث إلى تبني كلا الطرحين و الـتأكيد على أن بعض هذه الفروق بيولوجي مرتبط بسنة التمايز و الاختلاف التي يقوم عليها الوجود الانساني , وبعضها الآخر مصطنع ووليد ممارسات اجتماعية و اقتصادية معينة !
لكن ما يُثير الانتباه حقا , وقبل متابعة الحديث عن حجج كل فريق , هو التركيز المفرط على هذه الظاهرة في الخطاب التربوي المعاصر , و التسليم بتعذر استئصالها مما ينجم عنه نسيان أو إغفال ما هو مشترك بين ابناء الجنس البشري ! ألم يُحدد النص القرآني وحدة الأصل و الغاية في قوله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا " ؟ بمعنى أن الناس مشتركون في سعيهم الى تلبية حاجاتهم المادية و المعنوية , إلا أن درجات هذه التلبية تتحكم فيها عوامل شتى في مقدمتها البيئة و المحيط الاجتماعي , مما يُولد فروقا مصطنعة تنضاف إلى الفروق الموروثة .
تبنى داروين ومن بعده وريثه فرنسيس غالتون مبدأ الأصل الوراثي للفروق بين البشر , وأن أية محاولة لإلغائها تُعد ضربا من العبث .يقول داروين في كتابه الشهير "أصل الأنواع" : " لا يفترض أي إنسان أن جميع الأفراد التابعين لنفس النوع قد صُبوا في القالب ذاته , فهذه الاختلافات الفردية بالغة الأهمية لنا لأنها تكون غالبا موروثة , وهو الذي يجب أن يكون معروفا لدى كل إنسان, وهي بذلك تزود الانتقاء الطبيعي بالأدوات اللازمة للعمل عليها  " , أما غالتون الذي يعده البعض " أب الفروق الفردية"  فيسوق في كتابه " العبقري بالوراثة" حججا و دلائل تثبت المنحى الوراثي الذي تتخذه السمات البشرية . إذ خلُص في أبحاثه حول العبقرية إلى كون هذه الأخيرة تتبع خطا وراثيا قارا , واستبعد أي دور للبيئة كمثير . غير أن هذه النظرة الداروينية المتطرفة قوبلت بكثير من الحذر لكونها تقدم مسوغا للإبقاء على اللامساواة و تبرير الامتيازات التي تحظى بها فئة محدودة في مجال التربية و الشغل و الوجاهة الاجتماعية (1) .


لذا يؤكد أنصار المساواة على أن الفروق البيولوجية في حقيقتها طاقة لامحدودة للنمو تعبر عن نفسها بشكل يختلف من فرد لآخر , و أن استثمارها وتطويعها  سيُسهم بشكل كبير في إثراء الحياة الاقتصادية و الاجتماعية . أما باقي الفروق فقد نشأت في ظل إطار اجتماعي يؤمن بثبوتها و استحالة التكيف بدونها , وهذا ما يُصرح به أحد العلماء الذين عنوا بدراسة الفروق الفردية وهو دافيد وكسلر في كتابه " مدى الكفاءات الانسانية " بقوله : " إن الفروق الكبيرة جدا التي نجدها في الدخل و في المركز الاجتماعي ليست بالتأكيد ناتجة عن فروق قائمة في الطبيعة , بل إنها مبالغات اصطنعها الناس و نسجوها حول تلك الفروق " (2) وقد بلغ الأمر حد إغراق السوق التربوية بالكثير من البحوث التضليلية التي تؤكد أبدية هذه الفروق في مجالات التعلم و الكفايات المهنية !
وتبدو الصيغة التوفيقية التي يقترحها اتجاه ثالث هي الأصوب , وذلك من خلال التمييز بين الفروق في الخصائص و السمات , وبين الفروق في الأداء و التي تنشأ عن النقص في استيفاء الحاجات الاساسية وهو ما يؤكده عالم النفس ابراهام ماسلو حين يُشير إلى أن سوء تلبية الحاجات المعنوية  " الأمن و الحب و الانتماء و الهوية و تحقيق الذات..."  ينقش في الناس عموما , لاسيما في جماعة المتعلمين فروقا في المعرفة و الوجدان و النزوع من شأنها أن تُعقد عمليات تعلمهم المدرسي و غير المدرسي (3).
وبما أن المشاريع التربوية الحديثة تراهن على تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في التعلم و عدالة الوصول إلى أقصى مراتب الجودة ,فإن مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين ينبغي أن تتجاوز الإطار النظري صوب تمثل واع في الممارسة الصفية . وهو ما تفتقر إليه المدرسة العربية عموما و المغربية على الخصوص بالنظر إلى طبيعة الإكراهات التي تحد من فاعلية أي مشروع تربوي , وفي مقدمتها ضعف التكوين المعرفي و البيداغوجي الذي يتلقاه المدرسون , وافتقار المدرسة إلى البنية التحتية المناسبة , والقصور الملحوظ في نشر المعرفة التربوية , دون أن ننسى مشكل تعدد الإطارات المرجعية فيما يتعلق بمنهجيات التدريس .
فكيف يمكن مراعاة الفروق الفردية في ممارسة تعليمية لا زالت متمسكة بالطريقة التلقينية ؟
وهل الأنشطة التعليمية المقترحة في هذا الصدد تقلص هذه الفروق أم تعمل على تثبيتها ؟
وما مدى تمكن المدرس من آليات و أساليب  تشخيص الثغرات و ضبط استراتيجيات العلاج؟
إنها اسئلة تفرض نفسها بحدة أمام تسرع في تنزيل التصورات و الطموحات دون تفعيل حقيقي لشروط الإنجاز .


(1)   :  د.أحمد صيداوي . قابلية التعلم .معهد الإنماء العربي .ط1 1986 .ص24
(2)   :  نفس المرجع .ص43
(3)   :  نفس المرجع . ص 18