الممارسة المهنية اليومية للمدرس بين الحياد والاستقطاب ـ وحيد رحيم

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ecoleاستهلال :الحادثة الأولى : وقعت في فرنسا سنة 2009 وتتلخص وقائعها في تقديم أستاذة تاريخ من أصل يهودي ، " كاترين فانتورا " ( Catherine Ventura ) مشروعا لإدارة معهد " هنري لوريتز " (lycée Henri – Loritz ) يهدف إلى تمكين 144 تلميذا من زيارة معسكرات إبادة اليهود(المحرقة ) ببولونيا ولكن المديرة لم توافق إلا على 80 تلميذا بعد أن اعتبرت العدد المقترح مشطا ويستدعي مصاريف باهظة ( السفر ، الإقامة التأمين ...). هذا القرار أثار حفيظة الأستاذة التي استغلت زيارة وزير التربية للمؤسسة وحرضت تلاميذها على تنظيم احتجاج ، مما استدعى فتح تحقيق في الغرض انتهى إلى إدانة الأستاذة وإيقافها عن العمل لمدة أربعة أشهر بسبب إخلالها بواجب الحيادية ( la neutralité)[1] وسعيها المتعمد لاستغلال التلاميذ وغسل أدمغتهم عبر تخصيص الجزء الأكبر من وقتها لتنظيم الرحلات على حساب مكونات ومضامين البرنامج الأخرى.[2]

الحادثة الثانية وقعت في فرنسا كذلك ( أكتوبر 2010 ) وأسالت كثيرا من الحبر[3] و تتلخص في عرض أحد أساتذة مادة التربية المدنية والقانونية والاجتماعية ( ECJS ) بمعهد "مانوسك " ( lycée de Manosque ) لشريط فيديو مناهض للإجهاض ( anti-avortement) مما أثار حفيظة بعض التلاميذ وأوليائهم [4] والذين سارعوا إلى تقديم شكوى بالأستاذ المذكور إلى السلط المعنية ، آلت إلى فتح تحقيق إداري في الموضوع وتركيز خلية إنصات وحوار داخل المؤسسة ، ليتقرر في النهاية إيقاف المدرس عن العمل لمدة أربعة أشهر كإجراء تأديبي احتياطي " لعرضه صورا صادمة للتلاميذ ". ومن جهتها عبرت الوزارة عن رفضها لما أقدم عليه الأستاذ واعتبرته خرقا صريحا لمبدأ الحياد ولاحترام ذات الإنسان عموما (le respect de la personne ).
الحادثة الثالثة تونسية بامتياز وقد تمت سنة 2011 في أحد معاهد مدينة بنزرت ( معهد الطاهر الحداد ) حيث اتهم عدد من التلاميذ أستاذ العربية ( عبد الحميد الحولي ) بالتطاول على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم (من خلال نعته بكونه زير نساء ويتحرش بالصغار ) ، مما أثار حفيظة الأهالي الذين نظموا وقفة احتجاجية أمام المندوبية الجهوية للتربية كما ندد عدد من الأئمة بسلوك المدرس الذي خضع للاستجواب وأنكر ما نسب إليه مدعيا أن ما صرح به للتلاميذ كان حول الزعيم الهندي غاندي .
قد تكون هذه الأحداث وغيرها مجرد وقائع منفصلة ومتباعدة في الزمان كما في المكان غير أن ذلك لا ينفي وجود خيط جامع بينها قد يحيلنا مباشرة إلى مواضيع وإشكاليات أكبر وأشد تعقيدا مثل : " العلاقة التربوية " وتحديدا علاقة المعلم بالمتعلم وما يتصل بها من صعوبات في مستوى النقل الديداكتيكي ( la transposition didactique) ، "وظائف المدرسة " ومدى حياديتها عن السيستام ( le système) وعما تمليه وسائل الضغط الاجتماعي ( les moyens de contrôle social) ، " الاتجاهات التربوية " وأساليب التعبير عنها[5] ، " ديـ - أنطولوجيا المهنة " وما تفرضه من أخلاقيات ، " الكفايات المهنية  للمدرس " وما تقتضيه من مرجعية ( référenciel de compétences) ومتابعة ، الحرية والفضاء العام ...
من جهتنا سنعترف منذ البداية بصعوبة الإلمام بكل هذه المداخل التي يتقاطع فيها التربوي بالسياسي ، الديني بالمدني ، النفسي بالاجتماعي والبيداغوجي بالديداكتيكي. وبالتالي سنركز اهتمامنا في هذا الحيز المحدود على المقاربة التربوية لنسلط الضوء على مسألة بعينها هي تمهين ( professionnalisation) الممارسات اليومية للمدرس– وتحديدا مدرس التربية المدنية –  من خلال النظر في جدلية الحياد والاستقطاب بكل أشكاله (الإيديولوجي، الديني ،السياسي والأخلاقي ). وإذا كنا سننطلق في عملنا هذا من التجربة التونسية أساسا ، فإن ذلك لن يحول دون الانفتاح على بعض التجارب الأخرى وخاصة في فرنسا قصد مزيد الفهم ، التموقع والمقارنة .
المقدمــــة :
إن ما شهدته وتشهده بلادنا اليوم من حراك سياسي وفكري وما تعيشه من تجاذبات ثقافية وإيديولوجية انعكس بشكل أو بآخر على المدرسة تلك المؤسسة التي تحتضن داخل أسوارها فئات اجتماعية متنوعة في انتماءاتها وخلفياتها وتطلعاتها .
وهذا الأمر طبيعي في اعتقادنا إذا لم ننظر للمدرسة كمكان لتلقي العلوم ونيل المعارف فحسب بل كفضاء تربوي مفتوح للحوار، للتفاعل ، للعيش المشترك و لاكتساب القيم المجتمعية وبناء الأفكار والمواقف ..
ولعل هامش الحرية غير المسبوق الذي أتاحته ثورة 14 جانفي قد أثر بشكل أو بآخر على الفعل التربوي وعلى الفاعلين فيه . وهذا التأثير نلمسه أكثر وبوضوح عندما يقترن الفعل التربوي بفعل فكري- ثقافي ( عرض فلم " مدينة فارس " Persépolis على قناة نسمة ، عرض فلم  " لا ربي لا سيدي " لنادية الفاني في قاعة أفريكا ) أو بحدث سياسي ( انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الأخيرة ).[6]
ولعل خصوصية بعض المواد الاجتماعية وانفتاح مضامينها على قضايا الإنسان عامة وتحفزها الدائم لمواكبة المتغيرات وارتباطها العضوي ( rapport organique ) بالمنظومتين القانونية والسياسية للبلاد ، يجعلها الأكثر حساسية و تأثرا بما يجري من حولها والأقرب لرد الفعل لأنها من المواد الإنسانية العصية على التنميط وما يشوبه من ثبوتية ( fermeté) ورتابة ( monotonie) بل وجمود ( apathie) أحيانا .
وهذا الاستعداد الدائم للتطور واستيعاب الجديد لا نلمسه من خلال البرامج والكتب والتوجيهات الرسمية فحسب بل من خلال متغيرات أخرى كموقع المدرس والدور الذي يلعبه داخل الفصل . هذا المدرس - الإنسان قد يجد نفسه – عن قصد أو عن غير قصد – مدفوعا في اتجاه منزلقات عدة ليس أقلها فخ الذاتية ( subjectivité) والتموقع والكشف عن لونه السياسي وعن مواقفه الشخصية من بعض المسائل الخلافية مما يحوله من جهة محايدة ( partie neutre) إلى طرف من أطراف الخلاف أي من مرب منفتح على كل الرؤى والآراء إلى ملقن دغمائي ( l’information à sens unique) . وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن الحياد في تناول قضايا المادة ومضامينها اللصيقة جدا بالمسائل ذات البعد الفكري ، العقائدي والسياسي أمر عسير للغاية ويتطلب كفايات مهنية عالية وقدرة كبيرة على المناورة لا يتوفران للكل في ظل ضعف التكوين في هذا المجال وغياب ميثاق يحدد بدقة " إيتيقيا " ( éthique) المهنة وأخلاقياتها . ولعل ذلك ما قصده " سارج مسكوفيشي " ( Serge Moscovici) حينما قال : " إن ما يدرس لا يمكن بالمرة أن يتصف بالحياد ". (rien de ce qui est étudié n’est neutre froid ). وإذا كانت مختلف هذه الأفكار يمكن اختزالها في السؤال المركزي الذي طرحه من قبل الدكتور احمد شبشوب في كتابه " الأسس النظرية للتربية والتدريس ": ماذا ندرس ؟ لماذا ؟ وكيف ؟ ، فإننا سنتجاوز هذا المستوى لنطرح أسئلة أكثر عمقا واتصالا بالمدرس في ممارساته اليومية ، من قبيل البحث عن جدلية الحياد والاستقطاب (1) وهل من واجب المدرس أن يكون محايدا ؟ ( 2) لننتهي إلى البحث عن آليات تمهين العمل التربوي (3).
1- في جدلية الحياد والاستقطاب :
جاء في قاموس المعاني أن الحياد ( neutralité) هو " عدم الميل إلى طرف من الأطراف والوقوف موقف العدل والإنصاف "[7] ، وقد تسرب معنى الحياد من المجال السياسي والقانوني[8] إلى المجالين العلمي والتربوي للدلالة على ترك الميل مع العواطف عند البحث في قضية من القضايا والوقوف منها موقف الإنصاف .                                                            أما الاستقطاب ( polarisation) فهو عبارة عن " تمش ينقسم بموجبه الرأي العام إلى طرفي نقيض"[9] (la polarisation est le processus par lequel l’opinion publique se divise et va vers les extrêmes) ، أي أنه في نهاية المطاف شكل من أشكال التحيز إلى جهة أو إيديولوجيا أو حتى مجرد فكرة . وهكذا فإن لفظ الحياد يضفي على الفعل شحنة سلبية إذ يدل على الامتناع عن القيام بالشيء على عكس الاستقطاب الذي يحمل دلالات إيجابية إذ يدل على القيام بالفعل ، غير أن هذا الفعل ينزع في نهاية المطاف إلى الذاتية ( subjectivité)على عكس الحيادية التي تؤشر غالبا للموضوعية ( objectivité) .
مدرسيا يقوم الخطاب التربوي على مسلمات أساسية في مقدمتها حيادية المعرفة وحياد من يدرسها ، غير أن الواقع يثبت لنا دوما العكس . لماذا ؟ لأن المدرسة نفسها كمؤسسة موكول إليها إعادة إنتاج قيم المجتمع ورموزه وأنساقه لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تكون محايدة ، فهي تعمل باستمرار على " تنميط وقولبة وعي وإدراك الأفراد " على حد تعبير " بيير بورديو " ( Pierre Bordieu) ، من خلال تطبيع سلوكات الأفراد عبر سلطة الفعل البيداغوجي وفق ميكانيزمات تداولية ونسق من الدلالات وأنماط السلوك التي تحول المتعلم إلى متلقي يعمل على استدخال هذه المرجعيات وترجمتها على مستوى السلوك وبالتالي إعادة إحيائها وتسويقها من جديد . إن المعلم يملك سلطتي الكلام والفعل انطلاقا من مؤسسة تخول له مشروعية العمل التربوي الذي لا يعدو أن يكون عملا ترسيخيا هدفه إحداث تأهيل يتصل بالدوام لإنتاج تطبع تربوي ( habitus) يستبطن المبادئ التي ترسي تعسفا تربويا قادرا على الاستمرار بعد توقف النشاط الدراسي ، بحيث يعيش ضمنه الفاعل / الأستاذ وضعية التعالي والانغلاق التي يوفرها له فضاء المدرسة .                                                                                    الحقيقة أن فكرة كون المدرسة أداة من أدوات الضبط الاجتماعي[10] لا ينفرد بها " بورديو " فحسب إذ نجد لها صدى في كتابات " إيفان إيليتش " ( Ivan Illich) الذي دعا في كتابه الشهير " مجتمع بلا مدارس " [11] إلى تخليص المجتمعات البشرية من المدارس بسبب تاثيراتها السلبية على قدرات الأفراد وحقهم في التفكير الحر بعيدا عن كل استقطاب فكري ، إيديولوجي أو سياسي نظرا لكونها مدارس تقليدية قائمة أساسا على التلقين . من جهته يتساءل" ألتوسير" ( Althusser) قائلا : " ماذا نتعلم في المدرسة ؟ إننا نتدرب على القواعد والقوانين السلوكية التي يجب على كل فرد احترامها . وبصيغة اكثر عملية نقول إننا لا نستنسخ المهارات فحسب بل وكذلك خضوع الأفراد إلى الإيديولوجية المسيطرة على المجتمع "[12]. وصيغة الوجوب التي يتحدث عنها " ألتوسير"  تحيلنا على معنى " العنف الرمزي " الذي هو عبارة عن إيماءات و اكراهات لفظية قد تمرر عبر وسائل ناعمة ولينة ويتقبلها المتلقي برضى واقتناع ، وحتى لو لم تستوعبها رواشمهم الإدراكية والفكرية ولم تستسغها عقولهم فإن بقية وسائل الضبط الأخرى ستتكفل بالمهمة .
إن هذا الموقف من المدرسة يجعل أكثر المدرسين حيادا أشدهم استقطابا ، بمعنى أنه كلما فكر في خدمة القيم والثوابت والممارسات الاجتماعية المرجعية التي تسوق لها  البرامج الرسمية كلما خدم أهداف القائمين عليها باعتباره قد تحول إلى أداة استقطاب دون أن يشعر بذلك أحيانا إذ أن الحياد في التعليم أمر يكاد  يكون مستحيلا ، إذ " لا يوجد تعليم محايد " كما يقول رجل التربية و المفكر البرازيلي " باولو فريري " ( Paulo Freire) فهو " إما للقهر أو للتحرير"، كما أن التعليم عملية سياسية بامتياز مثلما أن السياسة عملية تربوية."[13] في مقابل ذلك فإن كل من تمرد على القيم السائدة وتموقع خارج الأطر وسعى إلى فعل إيديولوجي مضاد سيجد نفسه في القطب المقابل لعملية الاستقطاب ، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أننا في حاجة ماسة إلى تربية " لا سلطوية " إن شئنا ( non directive) تترك المتعلم وشأنه في مواجهة القضايا المطروحة وبناء مواقفه وقناعاته بعيدا عن سلطة المعلم الضاغطة وفي منأى عن ضغط السلطة والقهر الذي تمارسه أجهزتها وأنساقها التعليمية .
2- هل من واجب المدرس أن يكون محايد ؟
اعتبارا لأهمية حيادية المدرس والمؤسسة التربوية عموما ، وبالنظر إلى طبيعة النظام اللائكية   ( قانون 1905 ) [14]، خصص لها المشرع الفرنسي فصلا كاملا في الدستور هو المادة 24 التي سبقت الفصل الضامن لحرية الصحافة ، فالتعليم كمرفق عمومي ( service publique) يجب أن يدار بعيدا عن التجاذبات الفلسفية ، السياسية ، الدينية وحتى النقابية . وانسجاما مع مبدأ علوية الدستور ( le principe de la suprématie de la constitution) كرس القانون التوجيهي للتربية ( 10 /07 /1989 ) في فصله العاشر نفس هذا التوجه إذ أقر أن حرية التعبير يجب أن لا تتعارض مع مبدأي احترام التعددية والحياد ، كما أن ممارسة هذه الحريات يجب أن لا تهدد الأنشطة التعلمية . وقد أول القضاء الفرنسي هذه المواد تأويلا ضيقا ومنع استغلال المعاهد لتنظيم اجتماعات ذات طابع سياسي حتى لو تمت خلال أوقات الفراغ  ودون مشاركة أطراف أجنبية عن المعهد وتحت رقابة لجنة عينها مجلس المؤسسة [15]. في مقابل ذلك سمح مجلس الدولة لمدير أحد المعاهد بأن ينظم اجتماعا عاما خارج أوقات الدراسة وقع تخصيصه لمناقشة موضوع مدني اجتماعي في إطار ما يعرف بنوادي حقوق الإنسان . ونظرا إلى حساسية المسألة وتعقيداتها و إلى تفرع موضوع الحياد إلى مجالات عدة تشمل الجوانب السياسية والدينية والتجارية ، ونظرا إلى خصوصية المدرس كموظف عمومي وخصوصية قطاع التربية والتعليم الذي يبقى في حاجة إلى مساحة أكبر من الحرية فقد اضطر المشرع الفرنسي إلى إصدار عدة مناشير تؤطر لهذه المجالات وتنظمها ( 1963 ، 1967 ، 1989 ).
في تونس تبدو المسألة مختلفة تماما فلا دستور غرة جوان 1959 ولا القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي  لسنة 2002 [16] قد نصا على مسألة الحيادية من عدمها ، وهو ما يدفعنا إلى تلمسها إما عبر تأويل واسع للمواد المتوفرة والتي تتعلق بالحريات وبالحقوق والواجبات [17] أو من خلال ما تشير إليه أخلاقيات المهنة و ما اصطلح على تسميته بالممارسات المهنية المرجعية للمدرس والتي تثمن في المعلم حرصه على " بناء علاقة مع التلاميذ عمادها النزاهة والموضوعية واحترام شخصية الطفل وحقوقه " ( الفصل 12 من القانون التوجيهي ).                                                                                   والواقع أن المشرع التونسي وإن لم يستعمل صراحة لفظ الحياد إلا أنه قصده من خلال مصطلحات مثل الاعتدال ، الموضوعية ، النزاهة ، تقبل النقد والرأي المخالف ...            ولعل عدم الخوض في مسألة الحيادية لا يؤشر إلى فراغ دستوري أو قانوني باعتبار أن الفصل الأول من الدستور قد انحاز للهوية العربية الإسلامية للدولة ولم يتبن اللائكية كرديف للجمهورية مثلما فعلت ذلك فرنسا أو تركيا العلمانية . أما في مستوى الممارسة وفي إطار ما عرف بمقاومة التطرف والإرهاب وتجاوبا مع ما يحدث في فرنسا [18]وفي تناقض واضح مع ما سبق فإن ثنائية حياد / استقطاب لم تطفو على السطح إلا في مناسبات قليلة ارتبط جلها تقريبا بمواضيع لها علاقة بالدين الإسلامي وبمسألة الهوية عموما ونقصد بذلك ما عرف حينئذ باسم " الزي الطائفي " في إشارة إلى الحجاب أو الخمار ( المنشور 108 لسنة 1981 الصادر عن رئاسة الوزراء و المنشور 102 الصادر عن وزير التربية سنة 1996 )[19] .                                                              إن ما ذكرناه آنفا يوحي بأن للمسألة علاقة بحيز الحرية الذي كان متوفرا ، ولهذا فبمجرد اندلاع ثورة 14 جانفي واتساع هامش الحريات الفردية منها والجماعية وفي ظل التجاذبات القائمة بين مختلف التيارات السياسية طفت وبشدة مواضيع لها علاقة بثنائية الحياد والاستقطاب كمسألة الأدلجة والدمغجة والدعاية ويكفي أن نذكر بالمنشور الذي أصدرته وزارة التربية أسابيع قبل انطلاق الحملة الانتخابية المتعلقة بالمجلس التأسيسي والمحجر" للدعاية السياسية داخل الحرم المدرسي  حتى يبقى في منأى عن كل مظاهر الاستقطاب " ، لنفهم كم الصراعات الإيديولوجية وحجم الاستقطاب السياسي والحزبي الذي أصبح متاحا في خضم الحراك الراهن .
ولعل تنامي بعض الظواهر التي باتت تشهدها مؤسساتنا التعليمية بما فيها المؤسسات الجامعية و سوء تمثل وتقدير حجم وحدود الحرية التي أصبحت متاحة للمدرس كما للتلميذ ، سيدفعان بسلطة الإشراف إلى تقنين المسألة ولو بقرارات إدارية في انتظار بلورة قانون توجيهي جديد يؤسس لآليات جديدة للعمل التربوي و يأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات التي شهدتها بلادنا من جانفي الماضي إلى اليوم .
3 - آليات تمهين العمل التربوي :
ظهر مصطلح التمهين في المجال التربوي في تسعينات القرن الماضي وذلك بانقلترا ، فكندا فالولايات المتحدة وصولا إلى فرنسا ضمن توجهات إيديولوجية حمالة لتصورات جديدة عن مجالي التكوين والتدريب وعن مرجعية الكفايات الخاصة بالمدرس  وعن مكانته في المنظومة التربوية . ويتفق كل من " بيرينو " ( PH.Perrenould ) و" ألتات " ( Altet ) على أن مهنة المدرس وحرفيته في مجال التربية والتعليم لا بد أن تشمل بالضرورة عقلنة معارفه وممارساته المهنية في إطار مجموعة مرجعية يطلقون عليها اسم " الهوية المهنية " ( identité professionnelle )[20] ، وبهذا المعنى يتأسس مفهوم التمهين على مبدأين أساسيين هما الاستقلالية ( في قيادة القسم وفي بناء التعلمات وفي إثارة القضايا ونقاشها ) والمسؤولية ( تحمل تبعات اختياراته ).                                                                  ويجمع الكثير من المهتمين بالشأن التربوي أن تمهين ( professionnalisation) عمل المدرس والارتقاء بآدائه داخل الفصل لا يمكن أن يتم دون وجود ضوابط وشروط يصنفها علم الاجتماع الحديث إلى :
- كفايات مهنية ( compétences professionnelles) : تساعد على امتلاك المهنة.
- أخلاقيات مهنية ( éthiques professionnelles) : تقيد الانتساب إلى المهنة .
ويبدو أن مدرس الإنسانيات معني أكثر من غيره بهذه المرجعيات ( référentiels) لأنه في تفاعل يومي مع كم كبير من المعلومات والمواقف والسلوكيات المجتمعية التي تتطلب منه يقظة تامة    و جاهزية للتعامل مع مختلف الأفكار والتوجهات الفلسفية والمذهبية والسياسية بشكل مفتوح ومنفتح على كل التيارات دون أن يتمركز أو يسقط في الخطابات الديماغوجية. فالأستاذ والكلام لـ " كزافييه غييو " ( Xavier Guyaux)[21] مطالب أولا وأخيرا بتقديم المعلومات الضرورية التي تسهم في تطوير شخصية التلميذ وتمكنه من فهم مختلف وجهات النظر المكونة للرأي ( l’opinion) ، كما عليه أن يضع خبراته وقدراته لمساعدة التلميذ على التفكير الحر والمسؤول وعلى احترام القيم الجماعية وقواعد العيش معا المؤسسة على مبادئ الاعتدال والتسامح وقبول الآخر ونبذ الإقصاء والعنف بكل أشكاله.. وعندئذ يمكن للمتعلم أن يكون فاعلا فيواجه منفردا مختلف القضايا و يبني مواقفه بعيدا عن سلطة المعلم الضاغطة .                                                                         قد يكون الحياد إذا كفاية مهنية نوعية يستوجبها الفعل التربوي وترنو إليها عديد المواد ولكن بشرط أن يكون إيجابيا بمعنى أن يسمي الأشياء بمسمياتها وينتصر للقضايا العادلة و ينحاز للقيم الإنسانية و لا يحول دون الدفاع عن المشروع المجتمعي وإلا تحول إلى حياد كاريكاتوري غبي يسلب المدرس دوره كمرب وكقدوة ويجرده من إنسانيته . إن المعلم الذي يستسيغ البقاء في برجه العاجي بدعوى الحيادية و لا ينزل إلى أرض الواقع ليتفاعل مع هموم مجتمعه وقضاياه لا يصلح أن يكون مثقفا عضويا(l’intellectuel organique ) كما صوره " أنطونيو غرامشي " ( Antonio Gramsci) في منظومة تربوية " حوارية " ،" نقدية " بشر بها عالم الاجتماع الأمريكي " اريك فروم " ( Erich Seligmann Fromm) لتقوض نمطية التعليم البنكي (l’enseignement bancaire) [22] وتؤسس البديل.
في النهاية لا يسعنا إلا أن نقر بخطورة أن يقتنع المربون فعلا بحيادهم الذي ينزع عنهم أي توجه تربوي ويجعلهم يمتنعون عن خوض مهامهم الحقيقية . إن معلما كهذا ، يدعي الحياد و يرفض أن يقنع منظوريه  بما يعتقد أنه عادل هو إنسان ميت وكائن مغيب يمتنع عن خوض رسالته التربوية [23] . وإن تربية تدعي الحياد ما هي في النهاية إلا جسما غريبا ، معزولا عن ثقافته وهويته وتجربته لأنها تتناول المعرفة والفكر وكأنهما مفصولان عن مكامن القوة ومسارات التاريخ . إنها تربية راضية بذاتها متواطئة أو خائنة لمهمتها التاريخية.

متفقد المدارس الإعدادية والمعاهد



1. جاء في التقرير أن الأستاذة كررت خلال المحادثة مع المتفقد العام لفظ (shoah ) العبرية 14 مرة للدلالة على معنى الإبادة الجماعية ( génocide ) في اللسان الفرنسي مما يشير إلى سعي الأستاذة إلى استقطاب تلاميذها في اتجاه معين و عدم التزامها بمبدأ الحياد .
. أثار هذا القرار استياء الطائفة اليهودية التي سعت إلى إلغائه أمام المحكمة الإدارية مطالبة بتدخل سريع من وزير التربية أو من الرئيس نفسه[2]
3. انظر على سبيل المثال صحيفة " ليفيقارو " (Le Figaro) الصادرة بتاريخ 24 – 11 – 2010 .
4. وذلك عبر ما يعرف بـ LA FEDERATION DES CONSEILS DE PARENTS D’élèves( fcpe )
. د موسى عبد الله عبد الحي ( دراسات في علم النفس ) – القاهرة 1983 .[5]
. 23 أكتوبر 2011 .[6]
. المعنى اللغوي للحياد والمحيد والحيد والحيدان هو الميل عن الشيء والعدول عنه ( انظر لسان العرب لابن المنظور )[7]
9. عرف مصطلح الحياد حديثا في عالم السياسة ( بعد الحربين العالميتين ) وهو يعني عدم التحيز إلى أحد المعسكرين المتنازعين ، كما يعني عدم التحزب . أما في المجال القانوني فهو يشير إلى ضرورة أن يقتصر دور القاضي على تلقي الأدلة المعروضة عليه ودراستها وتقدير قيمتها القانونية  دون أن يأخذ منها موقفا معينا .
. استقطاب يمين يسار مثلا .[9]
. هذه الفكرة عبر عنها " إ. كانط  " في كتابه ( مصنف التربية ) إذ يقول : " إن انعدام الانضباط لدى الفرد أخطر من انعدام الثقافة لديه "[10]
Illich Ivan ( Une société sans école ) ; ED – Seuil – 1970                                                                                              .[11]
Althusser. L : ( Idéologie et appareils idéologiques de l’etat ) ; La pensée – Juin 1071                                          .[12]
. باولو فريري ( نظرات في تربية المعذبين في الأرض ) ، ت مازن الحسيني – دار التنوير للنشر – ط 1 2002 .[13]
. وقع التنصيص على مبدأ اللائكية في فرنسا في توطئة دستور 27 أكتوبر 1946 .[14]
. هذه القرارات لا تنطبق على الأعوان والموظفين العموميين إلا أثناء ممارستهم لوظيفتهم . [15]
. هو القانون عدد 80 – 2002 المؤرخ في 23 جويلية 2002 .[16]
. انظر على سبيل المثال الباب الأول من القانون التوجيهي ( في رسالة التربية ووظائف المدرسة ) وخاصة الفصول 3 ، 8 ، 9 .[17]
. انظر أزمة الحجاب في فرنسا التي انطلقت منذ أكتوبر 1981 على إثر طرد ثلاث بنات من المدارس الإعدادية الفرنسية بسبب الحجاب.[18]
. يمنع هذا المنشور التونسيات من ارتداء الحجاب خصوصا في المؤسسات الإدارية والتعليمية ليشمل تطبيقه فيما بعد المؤسسات الخاصة .[19]
. تتشكل هذه الهوية مما يبنيه الفرد من تصور لذاته في ضوء علاقته بمهنته ، بمسؤولياته ، بزملائه ، بمنظوريه وبكل الأطراف المنتمين للمهنة[20]
Xavier Guyaux ( L’enseignant doit – il étre neutre ? – bruxelles 2010                                                                          .[21]
. استعمل " باولو فريري " هذا المصطلح للدلالة على النظام التعليمي الذي ينظر للمتعلم كمستودع فارغ يملؤه المعلم .[22]
23. فريري، باولو ( التربية للمقهورين والطريق للتحرير )  ترجمة: مرزوق حلبي، القدس : معهد الدراسات  ( 2005 ) ، ص  84.