طبيعة فعل الأمر داخل النسق التربوي ـ د.محمد الصفاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

color028pالمقصود بالنسق التربوي ، كل السلوكات العاملة على تحقيق التربية ، كممارسات ، تنسجم و المعايير الأخلاقية المتعارف عليها من لدن المجتمع ، على اعتبار أنها سلطة أخلاقية يتعين احترامها و الامتثال لضوابطها و يعد فعل الأمر احد الأسس التي يقوم عليها النسق التربوي ، و لعله من باب الاقتناع الراسخ ، و القناعات الثابتة لدى السواد الأعظم من القائمين على تدبير الشأن التربوي ، أن بنية الأوامر هي الكفيلة بتحقيق التربية ، و ترسيخ قيمها في البنيات النفسية و الوجدانية و الفكرية للذوات الخاضعة للتنشئة التربوية و الاجتماعية .غير آبهين و لا مكترثين لحجم الأضرار التي تخلفها هذه الأوامر على الذات المتلقية لها ، التي تجد نفسها محاصرة بسهام الأوامر المشحونة بالتبرم و الامتعاض .الشيء الذي يجعل هذه السهام الحادة عاجزة عن إصابة الهدف المتمثل في التوجيه و التقويم . و يعزى ذلك إلى كون النفس البشرية قد فطرت على رفض الأوامر لا سيما العنيفة و الخشنة منها ، ما دامت تعارض رغباتها حينا ، و تخدش كرامتها أحيانا اخرى ، على نحو يجعل هذه النفوس أو الذوات المأمورة إبداء مقاومة شرسة تجاه فعل الأمر و ذلك للتخلص من سلطته المستبدة الباحثة عن التمكن و الإخضاع .


إنها سلطة مادتها نسيج من بنيات متعالقة نفسية ، اجتماعية ، فكرية ، ثقافية ... ذات التفاعل المتشابك ، الفاعل و بقوة في ثقافة الأمر لدى الفاعلين التربويين الذين تعوز بعضهم الخبرة و المهارة.بحكم ثقافتهم.للتعامل بكيفية بيداغوجية تربوية مقبولة مع فعل الأمر .مما يجعل الخطاب التربوي لدى هذا الفريق (الأسر ، الأساتذة ...) خطابا آمرا ينتج أزمات مركبة داخل :
1- الأسر: استقراء للعديد من المعطيات المرتبطة بالحياة الأسرية ، يلاحظ أن الكثير من الأسر لا تسلك السبيل الصحيح في مجال التربية و ذلك لأنها تتعامل بقسوة مع أبنائها، و القسوة في هذا المقام لا تتجلى في العقاب البدني عند الضرب ،و لكن تتجلى في قسوة الخطاب الآمر، الصارم المبني على سلسلة من الأوامر الموجهة إلى الابن ، قصد الامتثال و التنفيذ قسرا و قرا. فتتولد لديه بموجب ذلك أحاسيس نفسية متناقضة غالبا ما تكون محكومة بالخوف .و التي تترجم لي ثلاثة مواقف :
يتجلى الأول في الاستسلام للأوامر و الاستجابة لها بكيفية ميكانيكية قسرية عبر تنفيذ محتوياتها، حتى و إن عاكست رغبته أو رغباته.
و يتجلى الثاني في التمرد الصامت على الأوامر و العمل على إيجاد  أساليب مراوغة للتخلص أو التملص من سلطة الأمر .
و يتبدى الثالث في الثورة على الأوامر، و الرفض المطلق لها ، و الإعلان صراحة عن عدم الاستجابة لها.و هو الموقف الحرج الذي يفجر الصراع بين الآباء و الأبناء ، و قد يتطور بكيفية تصاعدية، يبدأ بمغادرة الابن البيت، و مقاطعة الدروس الصفية، و ينتهي بالانحراف الذي قد يكون مبكرا أو متأخرا.
2- داخل المؤسسات التعليمية : و كما داخل البيت، يمثل فعل الأمر قوة دافعة للتربية ، و متحكمة فيها بل توجهها.لتصبح بذلك التربية بين أحضانها، المعادل الموضوعي لفعل الأمر. و على هذا الأساس، و بما أن العلاقة متوترة بين فعل الأمر، و المعني به.منطقي و بديهي أن تصبح المؤسسات التربوية فضاءات منتجة للعنف بمظاهره المختلفة. و هذا أمر طبيعي مادام فعل الأمر الصارم هو القاسم المشترك بين كلا الفضائين : الأسري ، و التربوي التعليمي ، و الذي ينظر إليه على انه تواطؤ يقتضي المقاومة العنيفة المستميتة البادية تحت عناوين مختلفة و متعددة منها :
- الرفض .
- الثورة.
- الشك.
- الكذب .
- الحيرة .
- عدم الاطمئنان .
- العنف و العدوانية .
و هي كلها مظاهر ينظر إليها على أنها سلوكات عدائية خارجة عن اللياقة الاجتماعية ، و منافية للضوابط الأخلاقية ، و المعايير التربوية.تقابل بردات أفعال تعمل على تعقيد المواقف. إلا أن عمق هذه السلوكات، ما هو إلا رغبة دفينة لدى المتضرر ، تهدف إلى التحرر من وخز سيطرة سهام الأمر المسنونة . التي تلاحق الذات المأمورة، الساعية بكل السبل و الأساليب إلى الدفاع عن نفسها ، و عن قيم تناضل من اجل تحقيقها ، لإثبات الذات، الرافضة للمراقبة و الملاحقة ، الشاعرة بالحيف ، و الذي لا سبيل لدفعه و رده ، إلا بما يجري داخل المؤسسات التربوية ، المدرج تحت عنوان العنف المدرسي،بكل مظاهره ، و هو سلوك يفسر من وجهة نظر الطب النفسي ، على انه :
1- انتقامي من سلطة الأمر الظالمة .
2- دفاعي عن كرامة الذات المكلومة، و ذلك بغية تحقيق توازن نفسي. حتى و إن كان على حساب المحيط التربوي الذي يلحقه الخلل و يصيبه الاضطراب المؤثرين بشكل ملحوظ على الإيقاع الداخلي لبنى الفضاء برمته. و على هذا الأساس يمكن القول ، إن النسق التربوي يتضمن حلقة تعرقل نظامه و تؤثر على ديناميته و تحد من فعاليته.و تكمن تلكم الحلقة في فعل الأمر ، باعتباره الحلقة الأزمة ، أو الحلقة المفتقرة للطاقة الايجابية الفعالة ، التي بفضلها تكسب الطبيعة الائتلافية مع باقي ملفات النسق لضمان انسجامه و ائتلافه ، لأداء وظيفته على الوجه الأكمل .لكن إذا كان فعل الأمر حلقة نشاز داخل النسق التربوي.كيف يمكن التعامل مع هذه الحلقة و جعلها قادرة على الانسجام مع باقي الحلقات المكونة للنظام، حتى تؤدي وظيفتها بكيفية ائتلافية ، انسجامية ؟
إن تحقيق هذا الهدف يقتضي اعتماد مدخلين اثنين ، هما :
1- إعادة النظر في ثقافته الأمر كفلسفة تقليدية غدت غير قادرة على التفاعل مع التركيبات النفسية و الوجدانية و الفكرية و العاطفية للجيل الجديد ، و مواكبة انتظاراتهم .
2- ضرورة تدبير فعل الأمر بكيفية عقلانية ، و ذلك وفق الطرائق البيداغوجية الحديثة التي نجحت إلى حد كبير، وفق ما تؤكد الدراسات المهتمة بالشأن التربوي ،في امتصاص العديد من مظاهر العنف الخطيرة التي تولد من رحم المؤسسات التربوية التعليمية بأرقى دول العالم. و لعل تدبير فعل الأمر داخل النسق التربوي هو الشيء المرغوب و المطلوب ، حتى يستقيم شأن تربيتنا داخل الفضاءات الأسرية،و كذا الفضاءات التربوية .و العمل على تجاوز النمط التربوي القائم في عمومه على فعل الأمر الصارم المشبع بثقافة العنف ، التي أنتجت نمطين بشريين :
نمط انطوائي، مستسلم، خجول ،تمكن منه فعل الأمر و احتواه و أخضعه لثقافته، فجعله قابلا للخضوع و الانقياد.تشربت بنيتاه النفسية و الفكرية روح الطاعة ، و ارتوتا بمعين الركون.مما يجعله عاجزا، و تابعا، غير قادر على بناء اختياراته في الحياة بكيفية مستقلة.
ب- نمط مشاكس ، رافض ، متمرد لا يسمع إلا صوته ، يحاكم المحيط و يراه عدوا له ، باعتباره يلاحق حريته و يجتهد للسيطرة عليه ، و مصادرة حقوقه و كبت رغباته .مما يضطره إلى البحث عن محيط بديل يقدر رغباته ، و يلائم عالمه الداخلي .
و على هذا الأساس يمكن القول إن النسق التربوي يعيش أزمة نابعة من سلطة فعل الأمر الصارمة ، التي ينبغي التصدي لها ، و العمل على تحرير النسق التربوي منها، و ذلك من خلال إعادة النظر في التعامل مع فعل الأمر ،عبر التدبير الجيد العقلاني لهذا الفعل ،  الذي يمكن تحويله من لدن الفاعلين التربويين ، كل من موقعه و زاوية تأثيره ، من فعل هدم، إلى فعل بناء، عبر استبدال أفعال الأمر الخشنة الصارمة المنفرة للنفوس ، لما تحمله من شحنات كهربائية صاعقة ، و صادمة للوجدان و العواطف، و الأفكار ، بنبرة لينه لطيفة ، جذابة تشعر المتلقي ، انه ليس مأمورا في مرتبة العبد الذي يتعين عليه التنفيذ على وجه السرعة ، لأنه في مرتبة أدنى .و تحسيسه على انه يحظى بالتقدير و الاحترام. و يمتلك الحرية لانجاز المطلوب منه وفق ما تقتضيه المصلحة لكلا الجانبين، و ذلك بالاحتكام إلى قواعد الحوار ، و التواصل ، حيث يتبادل الرأي، و تناقش الفكر البانية للمواقف التي لا مفر من قبولها حينما تكون صادقة و منطقية ، و هادئة ، بعيدة عن الاستعلاء و التعصب و الإملاء... انه السبيل القادر على احتواء أزمة فعل الأمر الصارم الخشن الذي فعل و بقوة داخل البيوت،و داخل الفضاءات التربوية ، و غيرها من المرافق.الم يحن الوقت بعد لخلخلة ثقافة فعل الأمر، و تفكيك ثوابت سلطته القائمة على فلسفة الاحتواء المختزنة لقيم رمزية صنعت لأمد طويل و لازالت الذاكرة التربوية لأجيال متعاقبة.و التأسيس لذاكرة تربوية حديثة تنبذ العنف و تؤمن بالحوار الصانع للقيم البانية للأفكار الراقية ؟