تطور الدرس الفني بفرنسا ( 1861 / 2008 ) : من تعليم الرسم نحو تدريس الفنون التشكيلية والبصرية ـ توفيق مفتاح

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ArtsPlastiquesإن الغرض من العودة لقراءة التاريخ التربوي لتدريس مادة الفنون التشكيلية بفرنسا، هو محاولة للإحالة على التطور البارز والهام الذي مس طرق تعليمها وأهدافها داخل النسق المدرسي أو النظام التعليمي عموما، وكذلك التعريف بالتحول الذي كان يشمل اختيار المعارف والمهارات التي كان يراد تعليمها للأطفال، وعلاقة ذلك بالتطور الثقافي للمجتمع الفرنسي ولطرق التفكير السائدة فيه، فرغبة مؤسسة المدرسة الفرنسية في مواكبة الاكتشافات المعرفية والعلمية الجديدة ألقت بظلالها في تلك الفترة على أساليبها وتوجهاتها وبرامجها التعليمية بما في ذلك مادة الرسم، وكانت تدفعها من محطة تاريخية لأخرى نحو إقرار مضامين مدرسية وأهداف تعليمية أكثر مسايرة للتقدم الإنساني واستجابة لحاجاته المتجددة. حيث أن المستجدات المعرفية كمعطيات علم النفس التربوي[1] والنظريات الاقتصادية وتكنولوجيا التصنيع، كانت دوما توجه رؤية المؤسسات التعليمية للشأن التربوي [2]، وتعيد تشكيل انتظاراتها من المدرسة، وتحيين تمثلاتها وتصوراتها حول تنشئة الأطفال وتكوينهم ، وفي ضوء هذه المتغيرات تحددت تدخلاتها التربوية والتعليمية في حاضرهم، و بالمحصلة في التخطيط والإعداد لمستقبلهم.

ويشكل الكشف عن جزء من الأرشيف البيداغوجي للدرس التشكيلي بالمؤسسة التعليمية العمومية الفرنسية لحظة مواتية لتبيان الحرص المستديم للمشرفين عليها بمراعاتهم لحاجات وتطلعات المجتمع من التعليم الفني، وصرامتهم في ضبط التجديد المستمر لعائلة المهارات والمعارف والخبرات التي يستوجب مد المتمدرسين بها قبل مغادرتهم الفصول الدراسية.

لذلك فالاهتمام بالنموذج التعليمي الفرنسي لمادة الفنون التشكيلية، هو بالأخير محاولة للوقوف على الخلفيات الذي قادته لتبني خيار بيداغوجي ينتهي باحتضان لمفهوم التربية على الصورة ضمن برامجه التربوية، ومحطة لفهم تداعيات ذلك على الدرس التشكيلي. الأمر الذي قد يفيد في تأطير تفكيرنا التربوي حول الدرس الجمالي عموما.

ويمكن بسط أهم المحطات الأساس التي وسمت تاريخ تدريس الفنون التشكيلية بالنظام التعليمي الفرنسي[3] خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1861 و 2008 على النحو الآتي:

المرحلة الأولى : إعادة إنتاج الصور الجميلة

عرف تدريس " الفنون التشكيلية " بالمجال المدرسي تحولا كبيرا منذ نهاية القرن التاسع عشر بأوربا، حيث استمر تدريس "مادة الرسم" في فرنسا إلى حدود سنوات 1880م بالمدارس البلدية أو المحلية « les écoles communales » ،كما استمر الوضع كذلك بالأقسام الثانوية إلى غاية سنوات 1909م. وقد كان الهدف من تدريس مادة الرسم في هذه الفترة هو تكوين المتمدرسين على امتلاك مهارات الرسامين وكبار الفنانين والنحاتين، باتباع طرق تدريس تقوم على مبدأ التدرج على غرار المنهج المتبع في تدريس اللغة ،

حيث شكل اعتماد نقل الصور والأعمال الفنية الجميلة أسلوبا وحيدا في التعلم في مادة الرسم « la méthode synthétique ». إلا أن هذه الطريقة قوبلت بعدة انتقادات، من بينها أن أسلوبها التدريسي غير موائم للمستوى العمري للتلاميذ و لروحهم الطفولية، وهو أقرب لتعليم الكبار المؤهلين لمتابعة الدراسة بمدرسة الفنون الجميلة منه إلى أطفال المدارس الشعبية. وقد كان من أهم العوامل التي ساهمت بشكل كبير في ظهور هذا المنهج التعليمي هو إسناد مهام تدريس مادة الرسم للرسامين الذين لم يتوفقوا في إيجاد حضور لهم داخل الصالونات الفنية.

المرحلة الثانية : الأولوية للرسم الهندسي

سينتقل الاهتمام ابتداء من سنة 1861م، من ملمح الفنان التشكيلي إلى تأهيل الأطفال لمهنة الصانع والحرفي، وإعطاء المادة الفنية بعدا صناعيا ومعماريا، إذ اتسم تدريسها بالطابع الهندسي « la géométrie »، متأثرا بالطريقة التحليلية « la méthode analytique » . واعتمد المنهج التدريسي خطة تقوم على الانتقال من البسيط فالمركب، انتقال ينطلق من دراسة الخطوط و القياسات والأبعاد، ثم الأشكال المستديرة، وانتهاء بالنباتات والزخارف والإنسان. فقانون 21 يونيو 1865م نظم تعليم الرسم بالمرحلة الابتدائية في تعلم ثلاث حرف فنية هي :

ـ الرسوم الخطية، أي الرسم الهندسي؛

ـ الرسم الزخرفي، أي نقل النماذج على الجبس؛

ـ الرسم بالمحاكاة، أي نقل نماذج مرسومة أو منحوتة أو منقوشة أو مصورة، أو نماذج معروضة في الفضاء، ورسم النباتات و أوراق الشجر و الفواكه.

وقد اعتبر المطبوع المدرسي « le dictionnaire pédagogique » الذي أصدره مدير المدارس الابتدائية سنة 1882م « Ferdinand Buisson » عن دار النشر « Hachette » أن مادة الرسم يجب أن تكون في خدمة جميع الفنون و الصناعات والحرف. إن هذا الاتجاه الهندسي والحرفي الذي اختزل تعليم الفنون التشكيلية في الرسم الصناعي والحرفي، كان مرده إلى التنافس الصناعي في أوربا خاصة بعد تداعيات المعرض العالمي الأول بلندن سنة 1851م. بيد أن هذا التصور التعليمي لمادة الرسم سيكون محط رفض من لدن جماعة من مدرسي مادة الرسم بين سنتي 1897م و1905م. خاصة وأن الفرنسيين وفي سياق تسابقهم الصناعي والاقتصادي ضد الأنجليز، سيعمدون منذ سنة 1855م إلى إعادة إحياء التقاليد الجمالية للرسم من خلال المعرض الدولي المقام بباريس سنة 1855م، فقد حرص نابوليون الثالث على تخصيص جناح للفنون الجميلة وللفن الصباغي الفرنسي على وجه التحديد. كل هذه العوامل ستمهد لظهور مرحلة جديدة للتعليم الفني أو تعليم الرسم ابتداء من سنة 1909م.

المرحلة الثالثة : التركيز على الرسم بالملاحظة

خلال هذه الفترة، أي اعتبارا من سنة 1909م، سيستهدف تدريس الرسم بالأساس تنمية وتطوير الإدراك والملاحظة والخيال لدى المتعلمين، اعتمادا على الطريقة الحدسية « la méthode intuitive » التي تبنت مفهوم "التجربة الحسية قبل التحليل النظري"، بتشغيل الملاحظة الدقيقة للعالم المرئي، مسترشدة بالفكرة الشائعة آنذاك " الخطأ مصدره الأذن، بينما الحقيقة تأتي عبر العين " [4] . وقد قدم المطبوع المدرسي لمؤلفه « Gaston Quénioux » تعريفا للهدف من تدريس الرسم، معيبا على الطريقة السابقة تغييبها لبعدي التفكير والتأمل، وابتعادها عن طبيعة المادة التي لها مفاهيمها وخصوصياتها التي تنصهر في فعل الرسم فقط، محددا مكونات تعليمية جديدة تتمثل في:

ـ الرسم بالملاحظة المباشرة من الواقع والطبيعة؛

ـ الرسم والتشكيل والقولبة انطلاقا من الذاكرة؛

ـ تركيب الزخارف.

ولم يسلم هذا المنهج التدريسي لمادة الرسم بدوره من الانتقادات، إذ عيب عليه اختزاله للممارسة الفنية في مجرد وسيلة يعبر بها الطفل عن مدركاته البصرية، وعما يختزنه في ذاكرته بواسطة التذكر والتمثل، و سيطرة تمارين الملاحظة على جل أنشطته التعليمية. وباستثناء بعض التعديلات البسيطة التي أدخلت عليه، فقد استمر الاشتغال بهذا الأسلوب إلى حدود سنة 1968م . وفي سنة 1925م، أي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وهو التاريخ الذي ستعبر فيه فرنسا عن رغبتها في تعزيز القيم التاريخية والثقافية للمجتمع، في هذه السنة تم إقرار تدريس مادة جديدة إلى جانب مادة الرسم، سميت "بشرح الأعمال الفنية"، أي الروائع الفنية المتعلقة بالموسيقى « les arts plastiques » والفنون التشكيلية ، وقد كانت تلك أول مرة تستعمل فيها تسمية " الفنون التشكيلية " بدل " الرسم " بشكل رسمي ضمن المقررات الدراسية تعبيرا عن أنشطة وأعمال الصباغة والنحت والمعمار والفنون الزخرفية، بالرغم من أن تسمية " الرسم " ستظل مستعملة بالوثائق الرسمية إلى حدود سنة 1964م. كما أن تحليل الأعمال الفنية تطلب في تلك الفترة الاستعانة بالصورة وسيطا معرفيا للتعلم، وهكذا أخذت الصورة تكتسب موقعها باعتبارها مرجعية تاريخية وثقافية موازية للنصوص المكتوبة في مجال التعليم الفني.

المرحلة الرابعة : الأولوية للتعبير

مع بداية ستينيات القرن العشرين، سينطلق العمل بتصور مغاير يتوخى تحريك إبداعية التلاميذ، وجعل رسومهم محط وصف و تعليق بعد الإنجاز، لاستخلاص المحددات التشكيلية التي تعكس موضوع التعبير، والاحتفاظ بها في النهاية كحصيلة للتعلم. وتم تعزيز التعليم التطبيقي، بتخصيص فقرة في نهاية كل درس، يطلع المدرس خلالها تلامذته على صور لبعض الأعمال الفنية التاريخية.

هذه المقاربة، اعتبرت بداية لتقدير الحس العفوي والتعبير الذاتي لدى لأطفال المتمدرسين، لكن في الآن ذاته حدث في الأوساط التربوية توجس من تنميط فعل التعبير التشكيلي لديهم، وحصره في وصفات تشكيلية جاهزة تتحول لإيقونات ثابتة، كما برز تخوف من سيادة الاعتقاد بأن التعبير عن إحساس أو أي شيء آخر هو الموضوع الوحيد للفن.

لكن يبقى أن أهم ما وسم هذه الفترة هو إحداث شعبة الفنون التشكيلية والمعمار بالتعليم الثانوي ابتداء من 24 شتنبر 1968م، وهو تاريخ إقامة قطيعة نهائية مع مفهوم " مادة الرسم ".

المرحلة الخامسة: رهان التلميذ الباحث

خلال المرحلة الفاصلة بين 1977 و1980 سيعلن أن تدريس الفنون التشكيلية ينبغي أن يكون منسجما مع التفكير العلمي. وتحقيقا لهذه الغاية أصبح المدرس يشغل تلامذته وفق منهجية تتبني الرسم بالمحاولة والخطأ واعتماد الفرضيات، ثم التعديل والتقويم المستمر بناء على نتائج تحليلية سابقة للرسوم المنجزة. فمثلا رسم حصان يركض يتطلب إنجاز سلسلة من الرسوم التجريبية للحصان و إخضاعها للتعديل بعد كل مرحلة ، ثم إتمام عملية البحث حتى يتم الحصول على الرسم المطابق لموضوع الدرس.

إن هذا التمشي التعليمي لمادة الفنون التشكيلية قوبل فيما بعد بعدة انتقادات من بينها، أن التلميذ يتم إخضاعه في سيرورة للبحث عن أشياء هي في الأصل موجودة ولا تحتاج لبحث، بل إن عملية البحث هذه لم يكن يعيها الطفل بقدر ما كانت هاجسا وهميا يسيطر على المدرس. ورأى المنتقدون أن مفهوم البحث في مجال الفنون التشكيلية غير محصور في تعلم بعض التقنيات والقواعد المتعلقة بالرسم، وما يستهوي الطفل ويجعله يمارس فعل البحث في المجال التشكيلي لا تتيحه هذه المقاربة التدريسية.

المرحلة السادسة : مرحلة التحليل والنقد

منذ بداية ثمانينات القرن العشرين، ومع تطور المجال السمعي والبصري، والبروز القوي للوسائط البصرية في الفضاءات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والإعلامية، أي اتساع مجال استعمال الصورة بشتى أنواعها، الإشهارية، الإخبارية، السينمائية، الترفيهية....، خاصة مع التقدم التكنولوجي والرقمي فيما بعد، ستصبح الصورة مبتذلة بالمعنى التداولي، وستنتزع منها تلك المهابة التي كانت تحيط بها قبل عقود. وبهذا التحول اكتسبت الصورة سلطة جديدة، وغدت أكثر خطورة، أي أن حضورها الوازن في الحياة اليومية للأفراد والجماعات، وتدخلها المتشعب في كل مناحي الحياة، واختراقها لكل الميادين وعدم اقتصار ارتباطها بالحقل الفني والجمالي فقط، كل هذا جعلها تخلق واقعا ثقافيا جديدا، له هويته المعرفية الخاصة، وله لغته ورموزه وعلاماته. لقد أفرزت كل هذه التحولات بنية مفاهيمية حديثة، لا يمكن فهمها وتفكيك خطابها بعيدا عن الحقول المعرفية المتنوعة التي يستمد منها أدواته التحليلية، كالسوسيولوجيا والسيكولوجيا والسيميولوجيا والفنون التشكيلية والكرافيكية....، خطاب يصعب فك شفراته في غياب تملك أبجديات " صناعة " الصورة و تقنيات تحليل المضمون البصري.

في خضم هذه المتغيرات، أتى الاهتمام بتربية المتمدرسين على التحكم في اللغة البصرية إلى جانب اللغة المكتوبة، وإكسابهم القدرة على فهم معاني الصور ودلالاتها وكشف خلفياتها، واستثمار الرصيد الثقافي والتاريخي للفن في تذوقها ونقدها أو اتخاذ مواقف منها.

إن هذا التوجه التربوي سيساعد الأطفال على امتلاك مناعة معرفية وثقافية تجنبهم الوقوع ضحية الاستهلاك المجاني أو السلبي والساذج للمضامين الإيقونية، أو التورط في شراك أوهام الصورة وخداعها أحيانا. وهذا ما سيعبر عنه المقرر الدراسي لمادة الفنون التشكيلية بفرنسا سنة 1987م، فقد دعا إلى " مقاربة وتحليل الصور مع التركيز على جوانب خاصة بتدريس الفنون التشكيلية : الحسية، الجمالية، الفنية...." وتوجيه حرص الأستاذ إلى " تدريب وتعويد تلامذته على التعامل البصري مع أعمالهم الفنية بنظرة الفنان التشكيلي..."[5]

وسيسلك البرنامج التعليمي لمادة الفنون التشكيلية لسنة 2008 م نفس المسلك في مقدمته التعريفية التي جاء فيها: " .تسمح الفنون التشكيلية باكتشاف الأعمال الفنية على تنوع أصنافها وأساليبها وحقبها التاريخية، كما أنها توفر وسائل فهم طبيعة الممارسات الفنية في علاقتها مع الإبداع في الحقل التشكيلي، والمعمار وميادين الصورة الثابتة والمتحركة والإنتاجات الرقمية، وهي تقدم أدوات فك وتأويل العالم المرئي المتجلي في المحيطين العام والخاص. وهي بهذا تؤدي للتربية البصرية وتسهم في تعلم اللغة. وتنمي الفنون التشكيلية روح الانفتاح وتساهم في نسج الروابط الاجتماعية المبنية على المرجعيات المشتركة..."[6]

وقد تم تفعيل هذه التوجهات داخل الأنشطة المدرسية، من خلال اعتماد وتوفير دعامات تعليمية بصرية مساعدة، من ضمنها كتب مدرسية نذكر منها:

ـ كتاب: " الصورة في المرحلة الإعدادية l’image au collège [7] "، الذي يقدم وضعيات بيداغوجية للتلميذ، تساعده على معالجة الصورة في كل أبعادها النفعية والتواصلية والجمالية والتاريخية...إلخ.

ـ الكتاب الورقي "تاريخ الفنون والفنون البصرية"« Histoire des arts et arts visuels » [8] المدعوم بقرص رقمي تفاعلي، وقد تم إصدارهذا الكتاب تبعا لقرار إجباري يقضي بتدريس تاريخ الفنون بكل الأسلاك التعليمية الفرنسية[9]، وهو كتاب مدرسي يعتمد التحليل والنقد والإنتاج كمقاربة بيداغوجية.

ـ الكتاب المدرسي : كيف نعرف هل هو فن أم لا ؟ Comment savoir si c’est de l’art ou pas ? » « [10] ، وهو موجه للاستعمال الفصلي في تدريس مادة الفنون التشكيلية، ويهتم في حيز كبير منه بالجانب المتعلق بتحليل الأعمال الفنية وعرض الثقافة الفنية على ضوء الإنجازات التطبيقية للمتعلمين.

خلاصة

إن استحضار المسار التاريخي لتدريس الفنون التشكيلية بكل حيثياته وتحولاته، له أهميته في سياق السعي لتطوير تدريس التربية التشكيلية بالمنظومة التعليمية المغربية في الوقت الراهن. وسواء كان هذا المسار فرنسيا أو غير فرنسي، فإن كل مطلب تغيير وارتقاء بهذه المادة على المستوى الفلسفي أو البيداغوجي أو الديداكتيكي أو غيره هو امتداد طبيعي وتاريخي لوجودها بمؤسسة المدرسة، وهو ينبع بالأساس من حاجات الفرد، ثم بعد ذلك من حاجات المجتمع ويستجيب لمستجداته الثقافية والمعرفية، ويأمل أن يواكب رهاناته الاقتصادية والاجتماعية. كما أنه تغيير لا يمكن مباشرته بمعزل عن تأهيل للبنيات القانونية و البيداغوجية والبشرية والمادية و اللوجستية الحاضنة لتدريس هذا المكون المعرفي، التي تعتبر لازمة لإنجاحه (تحيين القوانين التنظيمية والمقررات الدراسية، إحداث مؤسسات لتكوين المدرسين، فتح شعب فنية بالتعليم الجامعي، إحداث دبلومات وطنية، تنظيم المضامين والمعارف المدرسية، تجديد الأساليب والطرق البيداغوجية، توفير الوسائل التعليمية، تعميم التعليم الفني، نشر الوثائق والمؤلفات المدرسية.....)[11].

إن إصلاح وتطوير حقل التعليم بالمنظومة التربوية الفرنسية وفق التغطية التاريخية المعروضة، يظهر أنه كان يطال باستمرار الغاية المجتمعية من التعليم الفني أيضا، وهذا يعكس وعي المجتمع بأهمية هذا الصنف من التعليم في تكوين شخصية الطفل، وهو تعبير عن العناية التي توليها المدرسة للارتقاء بموقع البعدين الجمالي والإبداعي في تمشيات التربية وغاياتها، ويجد تفسيره في الحركية والتغيير المتتالي لهذه الغايات على امتداد أزيد من قرن ، فقد تم الانتقال من تكوين الفنان إلى تخريج الحرفي والصانع (1880)، وبعد ذلك الاهتمام بالملاحظة والإدراك البصري (1909)، مرورا بتنمية الحس التعبيري (1968)، ثم بعده تطوير التفكير العلمي (1977)، ووصولا إلى تكوين التلميذ النشط والفعال (1985) ثم العمل على تعميق الإدراك البصري واللمسي وتطوير الحس النقدي وربط الممارسة التطبيقية بالمرجعية الثقافية في العقدين الأخيرين.

كما ظلت الصورة أهم مستجد فرض وجوده المادي والتقني والوظيفي والثقافي على مادة الفنون التشكيلية خلال القرن العشرين، ودفعها لإعادة النظر في كثير من أهدافها ومداخلها البيداغوجية، فحتى الهوية الاسمية لهذه المادة داخل المدرسة تغيرت. فأصبح هناك استعمال لمفهوم الفنون البصرية ضمن الوثائق والأدبيات التربوية بدل الفنون التشكيلية ، وهذا تأكيد على عمق التحول واتساع الرؤية التي عرفتها هذه المادة الدراسية. اعتبارا لكون مصطلح الفنون البصرية « les Arts visuels » يحيل على كل الإنتاجات الفنية المادية التي يمكن أن تدرك بصريا، فهي تشتمل بالإضافة إلى الفنون التشكيلية بمفهومها التقليدي وممارساتها التطبيقية " أي الرسم، الصباغة، النحت، المعمار... على " التصوير الفوتوغرافي " التناظري والرقمي" و على فن الفيديو والسينما وتصميم التواصل والفنون الرقمية " الصور الثابتة والمتحركة " les arts numériques [12].

إن مفهوم الفنون البصرية ينطوي على التفكير بواسطة الصورة [13] ، فالتكنولوجيات الحديثة كآلة التصوير الرقمي، والحاسوب، والبرانم الرقمية، وآلات النسخ و الطابعات الرقمية فتحت أفقا تقنيا جديدا ورحبا أمام الفنانين المعاصرين للتواصل والتعبير عن رؤيتهم للعالم بأساليب جمالية معاصرة. و هذا جزء من الرهان الجديد الذي أضحت تحمله مادة الفنون البصرية داخل النسق التعليمي والتربوي في كثير من البلدان.


[1] من بينها النظرية السلوكية « le Béhaviorisme » في بداية القرن العشرين، والجشطلت « La psychologie de la forme » أو علم النفس الإدراكي « le gestalt »، ونظرية الذكاءات المتعددة لهاوارد كاردنر في الثمانينا ت « La théorie des intelligences multiples » ....إلخ

[2] تم تعليم الرسم الهندسي الوصفي « la géométrie descriptive » ضمن مادة الرسم تمهيدا لتكوين مهندسين صناعيين خلال المنتصف الأول من القرن 19م.

[3] Lagoutte,D et autres, 1990,les arts plastiques :contenus,enjeux et finalités, paris, ArmandColin,p.13

Lagoutte,D., 1991, enseigner les arts plastiques, Hachette Ecoles, p. 111

[4] « l'erreur vient des oreilles tandis que la vérité vient par les yeux »

[5] Ministère de l’Éducation nationale français, Bulletin officiel, spécial n° 4 du 30 juillet 1987

[6] Ministère de l’Éducation nationale français, Bulletin officiel, spécial n° 6 du 28 août 2008

[7] Colzy.A et autres, 2002, l’image au collège, Edition Belin

[8] Saey.A, Pénisson.Y, 2010, Histoire des arts et arts visuels,Paris, Edition retz

[9] Ministère de l’Éducation nationale français, Organisation de l’enseignement de l’histoire des arts, Bulletin officiel n° 32 du 28 août 2008
[10] Wateau.F, 2009, Comment savoir si c’est de l’art ou pas ?, manuel d’arts plastiques,Paris, Edition Belin,

[11] هذه البنيات والشروط الخاصة بتدريس الفنون التشكيلية وتقويتها بالنظام التعليمي، شرع الفرنسيون في إرسائها منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن 19م مع ظهور التعليم العمومي.

[12] Ministère de l’Éducation nationale français, Bulletin officiel, Hors-série n° 3 du 19 juin 2008

[13] Ministère de l’Éducation, Direction des services pédagogiques, programme d’études : Arts visuels91411, version 2008, Nouveau Brunswick, Canada.