المتعلم و انهيار سلطة النموذج الذهني المسند ـ د. الصفاح محمد

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ecole-marocaineإن مفهوم النموذج من زاوية المقاربة البسيطة ، يعني مجموعة من الصفات و الخاصات المتآلفة فيما بينها داخل نسق يؤهله ليلعب دور الإرشاد و التوجيه . و ذلك بما يملكه من مناقب حميدة يمكن اقتفاؤها و الاقتداء بها و السير على هديها قصد بلوغ الهدف ، و تلبية الرغبة و الطموح .و بمعنى أوضح فالنموذج ،هو بناء معرفي أخلاقي ينسجم مع الواقع و المجتمع و يستجيب لحاجاته و أهدافه و مقاصده و تصوراته القبلية.
و للإشارة،فالنموذج قد يكون شخصية ببعديها الفكري و الجسماني ، أو نظاما سياسيا ، أو اجتماعيا ... فنقول :
1- النموذج البشري .
2- النموذج السياسي .
3- النموذج الاقتصادي .
4- النموذج الاجتماعي.
5- النموذج التربوي.


أي المثال المقتدى به ،للوصول إلى أهداف تكون عين النموذج المقتفى. و لولا النموذج وما يقوم عليه من فلسفة الحفز على الاجتهاد و المثابرة لما تحققت الأهداف و لما تطورت الأفكار و لما ازدهرت الحضارات الإنسانية .فكل مجتمع يتخذ لنفسه النموذج الأمثل الكفيل بتحقيق طموحه في التنمية و التحديث و التطور ... كما أن كل إنسان يختار لنفسه النموذج المفضل و المرتضى لتمثل قيمه و اقتفائها ،على اعتبار أنها المرشد و الموجه له نحو تحقيق الأهداف . و الملاحظ في هذا السياق إن ثقافة النموذج كانت بالأمس القريب حاضرة على المستوى التربوي التعليمي في البنية الذهنية للمتعلمين، و ذلك بكيفية تلقائية ، بعيدا عن صرامة النظريات و سلطة المناهج .و معنى ذلك فان المتعلم في ظل التربية ما قبل العهد الرقمي ، كان خاضعا لسلطة النموذج الماثلة قيمه في ذهنه ، الثاوي بكيانه الداخلي يستفزه و يحفزه قصد تحقيق المطابقة بين الذات و الموضوع.و هو أمر يراه قريب المنال من خلال الالتزام بالبنيات المكونة لهيكل النموذج الذي يعد في واقع الحال، شخصا حقق بما يمتلكه من قيم نبيلة نجاحا ، خوله وضعا اعتباريا ذا دلالات قيمية و أخلاقية و معرفية .و على أساس ذلك تهافت المتعلمون و بإصرار على الجري وراء هذا النموذج المشترك ، الفريد ، القوي،الذي لم يكن له شريكا أو منافسا يضاهيه قوة و بسالة على ارض التعلم .مما يفسر حرص المتعلمين على تكريس قواهم على إدراك مرتبة النموذج المثال الذي يمثل وعيا جماعيا بلورته ثقافة، دعائمها القيم و نسغها العلم، الذي كان يجري تمجيده على الألسنة في كل زاوية من زوايا المجتمع .و لعلها الشرعية التي استمد منها النموذج سلطته المغذاة بواسطة روافد ثلاثة أساس :
1- الأسرة : و قد كانت فضاء لاحتضان العلم و تمجيد قضية التعلم و تحفيز المتعلم لشق طريقه نحو تحصيل العلم ، و الثناء على العلماء و أهله ، و تشجيع النجباء المضروب بتفوقهم و نجاحهم و أخلاقهم الأمثلة.
2- المجتمع : و كان مسكونا بهم و هاجس العلم ، و مدركا قيمته ، و مقتنعا بان بناء الذات الاجتماعية القوية لن تتحقق إلا بخلق و تعميم النموذج الإنساني المتعلم الناجح المتمكن من ناصية العلم المتشرب لفضيلته .و بالإصرار الجماعي ،نجح المجتمع في صناعة النموذج المثالي القوي ،القدوة ، علما و أدبا و تعلما ،و جعله هدفا،يتهافت الآخر "المتعلمون" تهافت المصارع المقاتل ،قصد بلوغ  مرتبته و مستواه و الفوز بفضائله.
3- المدرسة : مصنع الأفكار و التربة الخصبة ،المغذية لها ،بحليب الأمومة الطاهر الصافي .و نظرا لدورها الريادي التربوي، حظيت بالتقدير من لدن المتعلم و الأسرة و المجتمع . و لم لا ، و هي الساهر على صناعة النموذج القدوة ،الذي يعد مثالا يفتدى ، لتوليد نماذج أخرى مشاكهة على شاكلته ، أدبا و خلقا و مرد ودية. فالنموذج إذن ، ما هو إلا الابن الشرعي للمدرسة تربي بين أحضانها فتشرب كيانه ووجدانه القيم النبيلة ، و تشبع بفضيلة العلم الذي أحبه المتعلم بصدق و آمنت به الأسرة و مجده المجتمع و أحب أهله ورفع شأوهم.
و من الجلي الأبلج، ان هذا النموذج القدوة "الصورة الذهنية" الحامل لقيم التفوق ،حب العلم ، الإخلاص ، الالتزام ... الذي تعاون و تكاثف و تآزر على انجازه الأقطاب التربوية الفاعلة الثلاثة المتكاملة .(الآسرة ، المدرسة ، المجتمع) كان بمثابة الضمير او الصوت الموجه للمتعلم ، و السلطة الداخلية المتحكمة في سلوكا ته النفسية و الاجتماعية الرامية و الساعية دوما الى تحقيق التفوق كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا .و إليه يرجع الفضل في نجاح مهمة التربية البكر البسيطة في طرائقها القوية في مادتها،و مضامينها ، المعطاء، في محاصيلها.لكن ،و بعد ان عقد عليها القران بالغريب الدخيل ، و في ظل المتغيرات ، و موجات التجديد الجارفات تغيرت أحوال التربية ، فانقلب حال المتعلم بعد ان انهارت سلطة العديد من القيم ، و على رأسها انهيار سلطة النموذج المتمثل في الصورة الذهنية التابثة في البنية الذهنية للمتعلم ، و استبدلت بصور ذهنية بديلة يغذيها الوهم او الاوهام المتسربة من كل حدب و صوب ، متخذة طريقها نحو المتعلم عبر وسائل تسويق الوهم المتعددة تحت عناوين مختلفة ،و ذلك باسم الحداثة و الانفتاح و التحديث ...كما تسرب الوهم أيضا إلى باقي الأقطاب (المجتمع،الأسرة،المدرسة) مما أدى إلى ظهور بنية ثقافية تربوية جديدة نسخت البنية الأولى،تقوم على ناموس تربوي جديد يقوم على :
1- أسس تربوية جديدة.
2- قيم تربوية جديدة.
3- متعلم حداثي، يستجيب للشروط الموضوعية الجديدة، و يتفاعل معها بارتياح نفسي و اقتناع ذهني.
هذا، و اللافت للانتباه في هذا المقام ،ان اعتماد المتعلم على النموذج القدوة لبناء معرفته الذاتية يعد أسلوبا تربويا اهتدي إلى فاعليته بكيفية عفوية و ذلك باتفاق أضلاع التربية الثلاثة : ( المدرسة ، الأسرة ، المجتمع ). و لعله الأسلوب الذي ستكشف عنه نظريات التربية الحديثة تحت اسم التسنيد.و هو مفهوم تربوي جديد ، يعني تقديم دعم تربوي نفسي للمتعلم قصد بناء معارفه و تطوير مهاراته.و ذلك تحت إشراف و مراقبة مسند . و على هذا الأساس يمكن القول، ان متعلم الأمس قد ارتبط بالمسند في بعده الافتراضي أي كصورة ذهنية ثابتة بكيانه الداخلي ، ذات سلطة تربوية رقابية مواكبة ، نجحت إلى حد بعيد في توجيه المتعلم و تحفيزه بغية   تحقيق الأهداف .أما متعلم اليوم فقد ارتبط منهجيا و بالضرورة بمسند حقيقي "الراشد" يواكب المتعلم و يقدم له المساعدة اللازمة و الدعم النفسي الكافيين قصد بناء المهارات المطلوبة، و الرفع من مستوى المر دودية ، و ذلك من خلال إتباع أساليب تربوية مخصوصة سطرها الناموس التربوي الجديد .فهل تحقق المراد ؟ .