أزمـة الحقل التربوي المدرسيّ في تونس: عالم رمزي مرتبك و خطاب مُتردّد ـ د. شهيد الفري

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ursulines-mons-art-fem-004نسعـى في هذا المقال إلـى تقديم قراءة تفكّك جانبًا من جوانب أزمة  المدرسة التونسية من منظور سوسيولوجي  نقدي وضمن المقاربة البنيوية التكوينية لبيير بورديو . و منطلقنا فرضيّة عقم الثقافة التربويّة للمدرسة الرّسميّة إزاء عدم استقلالية حقلها و افتقار الفضاء الاجتماعيّ لشروط تجاوز ذلك العقم.  لا تتناقض هذه الفرضية مبدئيّا مع  الإقرار بأثر المدرسة التّونسيّة في التّغيّر الاجتماعيّ، إذْ  لا يُمكن أن نتغافل عن دورها في " التنمية " بوجه ما،مع أنّ القراءات في ذلك تتعدّد و تختلفُ ، و لا يمكن أن نتجاهل بالغ أثرها في توزيع الهيمنة في الفضاء الاجتماعي ،غير أنّ الإقرار بذلك لهذه المدرسة  لا يمنعُ تأكيد عمق أزمة ثقافتها التربويّة . و لا نتناول في مقالنا هذا التربية المدرسية النظام التربوي بالنقد على محك المعايير الرسمية المعتمدة ، و لا يعنينا البعد الرّسميّ إلا باعتباره خطابًا،وهو خطابٌ  يستدعي القراءة و النّقد. أيْ لا نتعاطى من الداخل مع " حقيقة المدرسة " كما يسعى الخطاب الرسمي إلى  تشكيلها بل مع خطابات المجتمع ، طالما أنّ " لكلّ مجتمع نظامه الخاصّ المربط بالحقيقة و" سياسته العامّة " حوْل الحقيقة : أي أنماط الخطاب الّتي يستقبلُها هذا المُجتمعُ ويدفعُها إلى تأدية وظيفتها كخطابات صحيحة[1]  ".  و إذْ نفترض وجود أزمة عميقة للثقافة التربويّة فإننا لا نقصد بذلك جاهزية أيّ تقييم معياري قيميّ  بقدرما  نعني الأزمة البنيويّة –التكوينيّة لتلك الثقافـة ، و أساسًا نفترض أنّ المسار التاريخي الاجتماعيّ للمدرسة الرسميّة التونسيّة شهد انكسارات متتابعة أثّرت في ثقافتها التربويّة وأربكت طبيعة تفاعلها مع الفضاء الاجتماعيّ .

 

تتجلى أزمة المدرسة ظاهريا في تعدّد التقييمات و تتابع " الإصلاحات" و  ما هو" إصلاح" يتخذ عادةً تخذ بعدًا عمليّا براغماتيّا "تقنيًّا" دون أن يهتمّ بما نتناوله في هذا المقال من فرضية افتقار الفضاء الاجتماعيّ لشروط تجاوز عقم الثقافة التربويّة للمدرسة . ضمن الاتجاه نفسه  نجد أنّ  دافع "تغيير المدرسة " لدى الجهات الرسميّ "يتحدد في كونها " صارت مدعوة إلى تحقيق هذا وتحقيق مهامّ أخرى من أهمها إكساب المتعلمين كفايات مستديمة وفضائل التّعلم الذّاتي والتعلم مدى الحياة , بعيدا عن التلقين .و مراجعة الوسائل التعليمية والمناهج البيداغوجية التي درجت عليها وتنويعها وإرساء علاقات جديدة بين المعلم والمتعلم والمعرفة .[2] " لكن كيف يُمكن  " إرساء علاقات جديدة بين المعلم والمتعلم والمعرفة" بمعزل عن تفاعلات الفضاء الاجتماعي بمكوّناته التاريخية و بتاريخ المواجهات و الصراعات فيه؟ . و مع ذلك نجد القانون التّوجيهي ينطلق من وهم  التّساوق و التّرابط بين أساسيّات تقييم المدرسة التّونسيّة منذ الاستقلال وبين طبيعة ما يُنتظر من المدرسة إنجازه إذ يتمّ التّركيز في الفصل التّاسع من ذلك القانون على كون المدرسة "  تعمل في إطار وظيفتها التعليمية ،على ضمان تعليم جيّد للجميع يتيح اكتساب ثقافة عامة ومعارف نظرية وعملية ويمكّن من تنمية مواهب المتعلمين وتطوير قدراتهم على التعلم الذاتي والانخراط في مجتمع المعرفة [3]  ".

 و من الجدير أن نُبيّن أنّ " التّعلّم الذّاتي " و " مُجتمع المعرفة " من المفاهيم الجديدة الّتي لم تكُنْ مُتداولة في الخطاب الرّسميّ للتّربية المدرسيّة في تونس ، و" التّعلّم الذّاتي " يرتبطُ بتصوّر جديد للمُمارسة البيداغوجيّة ، و هو في المنظور الرّسميّ يُمثّلُ الشّرط الأساسيّ لمواكبة " مُجتمع المعرفة"من قبل مجتمع حوصرتْ فيه المعرفة  تاريخيّا  إنّ ذلك البعد البراغماتيّ العمليّ يُمثّلُ في حدّ ذاته وجهًا من وجوه أزمة الثقافة التربويّة إذ هو يتحدّد لدى صاحب القرار السياسيّ "تقنيًّا " بمعزل عن الفضاء الاجتماعيّ و إلزاماته . لا يمكن إزاء ذلك إلا أن نتساءل عن العالم الرّمزي المؤسس للتمثّلات ، إنّ " المعارف " المدرسيّة تبقى تراكمات قدْ لا تؤسس ذهنيات منطقية و لا تبني قدرات على التّكيّف ، وهو ما لا يتم الانتباه إليه من قبل أصحاب القرار السياسي ،و يتم إقرار حقيقة فشل المتعلّم على أساس الافتقار للكفايات دون تحليل للعوامل الحقيقية  :"..ويتبين من ناحية أخرى أن العديد من التلاميذ "الناجحين" في الدراسة يبدون عجزا واضحا كلما وجدوا ازاء وضعيات حقيقية للتواصل أو لحل المشاكل,نتيجة افتقارهم للكفايات الضرورية,وهو أمر مقلق للغاية و مسؤولية المدرسة كبيرة في هذا الباب[1]. نفترضُ أنّ الوجه الأوّل من وجوه الأزمة المدرسية يتعلّقُ بعامل تاريخي اجتماعيّ يتمثّل في ارتباك العالم الرّمزيّ للمدرسة الرّسميّة التونسيّة و عدم استقراره ، ذلك أنّ تاريخ وجودها  نسقًا تنظيميًّا كان خلال الفترة الاستعماريّة ، في سياق تاريخي شهد نوعا من الانفصال عن ثقافة التربية في المجتمع ، فقد ارتبط بعث المدارس بالمصالح الاستعماريّة و بغايات نفعيّة ، وذلك أثّر  في توزيع الهيمنة في الفضاء الاجتماعي و في حيازة رؤوس الأموال تأثيرًا أدّى إلى خلخلة العالم الرّمزي القديم للتربية والتعليم وخلق مجالا للصّراع تجسّم في التّعدّد التّربويّ و في محاولات تثبيت ذلك العالم الرمزي المهدّد دون هوادةٍ، كانتْ محاولات استرداد موقع التّأثير للتعليم الزيتونيّ مستمرّة و فية لعالم رمزيّ لا فصل فيه بيْن المعرفة و المُقدّس ،فحتى خلال مناقشات إصلاح التعليم الزيتوني  سنة 1930 نجد شيخ الإسلام الحنفيّ أحمد (شُهرَ حميدة بيرم) يقول [4] : " لا ينبغي أن تشتملَ برامج الزّيتونة إلّا على العلوم الّتي تتمثّل غايتها القُصوى في تمكين الطّالب من مزيد التّعمّق في معرفة الإسلام " و "إنّ التّعليم بجامع الزّيتونة لا يُمكنُ أن تكون له غاياتٌ أُخرى غير الغايات الرّوحيّة الخالصة". و التعدّد التربويّ انتهى مع دولة الاستقلال ، وتمّ إقصاء التعليم الزيتوني   ، لينتج ذلك عنفُا أشدّ لصراعٍ تحوّل إلى محور للتجاذبات الثقافية و السياسية . وفترة بناء الدّولة بعد الاستقلال شهدتْ نوعًا من طمس حقيقة الصّراع و الاستحواذ على الخطاب ، غير أنّها فشلتْ حيث بدأت ،  إذ "  كان النضال الوطنيّ من أجل التحرّر منطلقا من مجرّد استبدال العنصر الأجنبي بالعنصر الوطني بدون أية استراتيجية في البناء السياسي أو حتى تصوّر واضح لثنائيّة الديمقراطيّة و التّنمية " [5] . و هو عاملٌ هام تحكم في المسار الّذي اتّخذته التّربية ، فغيابُ الاستراتيجيّات  إذ شمل مُختلف المجَالات ، أثر  في اضطراب ثقافة التربية بالمدرسة التّونسيّة ، والمحور الأساسي في تاريخ الصّراع كان موقف النّخبة الحاكمة من ثقافة المجتمع ، و أساسًا صورة الدّولـة في فهم النخبة السياسية بعد الاستقلال "دولة راقية عصرية متمدنة تساهم مساهمة فعلية في ركب الحضارة كان يتطلّب بدوره الحدّ من مظاهر التعاسة والحرمان والجهل و المرض و إنشاء مجتمع سليم و مُتعلّم وتكوين الإطارات التي يحتاجها النشاط التّنموي ويتطلبها تركيز مؤسسات الدولة " [6] . خلال الفترة الاستعمارية ، و خلال مرحلة بناء الدّولة الوطنيّة تعمّق السّؤال الثّقافيّ .و مثلت التربية المدرسية، خلال الفترتين  ،حقلا ذا مسار تاريخي في صراع عنيف مع ثقافة المجتمع ، أي أنه لا يمكن أن  نفترض وجود سيرورة تاريخية لتفاعلات داخليّة هامّة في غياب الاستقلال الذّاتي للمدرسة ، ووجه الأزمة هو حدود دور الحقل التربوي المدرسي في منافسة بقية الحقول الاجتماعية فهو بمثابة  تابع من توابع الحقل السياسي  . وهو، بحكم ذلك أيضًا ، ظلّ  في تجاور  مع الحقل الاقتصادي وخادمًا لهُ فالواقع أنّ تنمية الاقتصاد و إعداد الموارد البشريّة كانت شُغلًا شاغلا للدّولة بعد الاستقلال ، لكنّ توظيف تلك الموارد في التّنمية لم ينفصل عن توزيع الهيمنة و عن أثر إيديولوجيّة التّحديث ، إذ أنّ "ما حدث في تونس هو إلغاء تامّ لكل أنواع النّخب التقليديّة إما بتهميشها ومحاربة مورد رزقها أو الاستفادة من بعض رموزها في مواقع سياسية مباشرة[7] " . ثمّ إنّ مسار َمُحاولات التّحديثِ  أربكهُ احتكار النخبة الحاكمة لآلية التشريع و للإدارة ، و لم يلق  التوجه الثقافي للنّخبة  مصادمات عنيفة إزاء واقع اجتماعي تمّ فيه خلال الفترة الاستعماريّة " تكسير مفاصل البنى الاجتماعيّة القديمة و المؤسّسات والتّشريعات المُرتبطة بها " [8] . ففي الحقل المدرسيّ ، كانت مدرسة الاستقلال مدرسةً للدّولة  ، ضمن احتكارها للنّشاط  التّنمويّ ، ذلك أنّ  " الدّولة في تونس كما في أغلب أقطار العالم الّثالث وجدتْ نفسهًا مضطرّةً للتدخّل المكثّف في النّشاط الاقتصادي بالإضافة إلى الحقل الاجتماعيّ والتّربويّ و الثّقافي [9]  ".  كانَ الاختيارُ التّحديثيّ في ذلكَ يُمثّلُ إيديولوجيا الدّولة النّاشئة ، لكنّنا نُرجّح أنه   لمْ يكُنْ في خطابه ، قياسًا مع الواقع الموضوعيّ  ،  ليُشكّلَ أكثرَ من يوتوبيا سياسيّةٍ ،  فمن جهةٍ " كان جناح الحركة الوطنيّة الذي أمسك بمقاليد الحكم عند الاستقلال متأثرا بقيم الثورة الديمقراطية البورجوازية كالقومية والليبيرالية و العلمانيّة و العقلانيّة ، معجبا بإنجازات الغرب الرأسمالي ، ويعتبر أن سبيلنا إلى التقدم هو في اقتفاء خطوات الغرب [10] " ،  و من جهةٍ أُخرى كانت الاستراتيجية غائبةً ، كما بيّنّا . وَ لنا أن نتساءل عن مسار الرّهانات في الحقول الاجتماعيّة ، ضمن تلك التّناقُضات ، و عن أثر ذلك في الحقل المدرسيّ . منذ الاستقلال ، و في تتابع للتّغييرات الطّارئة على الحقل المدرسيّ ، ظلّ الاستلهامُ التّحديثيّ أمرًا قائمًا على النّقل ،فكما يبين محمّد أركون : "[11] قد راحتْ شخصيّاتٌ سياسيّةٌ و أدبيّةٌ و فنّيّةٌ و جامعيّةٌ عديدةٌ تنفتحُ على دروس فلسفة " الأنـوار" و دلالاتها و مغازيـها ، و كانُوا يعتقدُون بأنّه يُمكنُ للمجتمعات الإسلاميّة أن تقوم بالمسار التّاريخيّ نفسه الّذي أدّى بالغربِ إلى تشكيلِ حضارة مُتصوّرةٍ على أنّها" مُتفوّقة" و"" فعّالة ومُحرّرة "  ،مسّ التقليد التحديثي الأعمـى   جوهر الفعل التعليميّ ، بينما نجد المنقول من النّظريّات التربية  يقوم على فلسفةٍ مُتباينة عن الفضاءالاجتماعيّ الّذي يستقبله و الّذي تحكمه مواجهات لها خصوصيّاتها  ، هي فلسفةٌ  تُسائلُ المعرفة والسّلطة في سياق أشمل للإحراجات الفكريّة في المجتمعات الغربيّة ، و في أطر مختلفة للهيمنة  . إنَّ حُدود الموقف السياسيّ وبساطته في التعاطي مع الحقل التّربويّ ظلّتْ تختفي خلف خطاب تحديثي متورّم ، بينما كان منطق تسخير الحقل التربويّ للحقل الاقتصاديّ مكرسا  ، ثم صار جليا وواضحا في بداية الألفية ، إذ نجد الأمرعدد 1047 المُؤرّخ في 07 ماي 2002   و المتعلق بإحداث بإحداث مجلس أعلى لتنمية الموارد البشريّة يهدف أساسًا إلى"  التوافق بين المنظومة التربوية ومنظومة التكوين المهني من ناحية والمحيط الاقتصادي والاجتماعي من ناحية أخرى[12] ".

ضمور الخطاب الإنساني للتربية واهتراء الخطاب المعرفي  زادا الحقل التربويّ المدرسيّ تفككا وجعل علاقته بالحقليْن السياسي و الاقتصادي علاقة تبعيّة . و هو ماحكم بِنيته بالجمود و بعدم الفعل ، لذلك استمرّت التغييرات في المدرسة مهمّشة لاستقلالها الحقليّ  ، و أكثر من ذلك بدت ملامح لمحاولة إدماج بعد ثقافي آخر متنافر مع تاريخ الفضاء الاجتماعيّ ، فحينَ ننظر في مرجعيات "الإصلاح التربوي" لسنة 2002  و أسسه نتبيّن ارتباطه باختيار جديد يتجاوز التّصوّرات السّابقة للتّحديث لتطرح مسألة بعدِه المُعوْلم : "مع نهايات القرن العشرين وما تقتضيه تحدّياتُ العَوْلمَة من تأهيل شامل للعقْليات وللمؤسسات ولوسائل الإنتاج تجدّد الاهتمام بالمدرسة وبرسالتها وفق شروط المرحلة الجديدة ومقتضيات كسب رهانات المستقبل "[13]  .   و نجدُ أنّ " الإصلاح التربوي" بمرجعيّته الجديدة يُمثّلُ في المنظور الرسمي "واجبا ، لأن رهانات العوْلمة تحملنا على تطوير نظامنا التربوي بأسرعِ ما يكون حتى يتخرّج منه مزيد من الإطارات الكفأة و القادرة على الخلق و على التكيّف .."[14]  . إنّ  العولمة Mondialisation   ، في المنظور الرسمي،  لم يتم التعاطي معها بحذر سياسي ، بل صارت تعتبر واقعًا  ، بلْ أكثر من ذلك ، فعلى أساس ذلك الواقع تصاغ الاختيارات التربوية  ، في إهمال للثقافي ، وضمن خطابٍ يتوهّم و يُوهمُ  بأنّ المسعى هو الإنسانيّ العامّ  ، و الحالُ أنّه يجب ألا يُخلط بين العولمــة وبين مفاهيم سابقة عنها  أسّست الإنسانيّة ، تتمثل في العالميّة   التي تمثّل ما تشترك فيه البشريّة من قيم ومثل ومعارف عبر التفاعلات الحضارية مع  تنوّع الثقافات و تعدد الاثنيات و تمايز كل هويّة عن سواها ، و " الكونيّة  Universalisme  " التي تنبني – دون نفي للخصوصية الثقافيّة – على مبدإ وحدة الحقيقة التي تؤسس للحقوق والحريّات ، و التي تسند في جوهرها إلى مرجعيات فكريّة فلسفيّة أنتجتها الإنسانيّة على اختلاف الهويّات الثقافيّة لمفكّريها ، أو كما يثبت  ادغار موران :" إنّ في الوحدة المتعدّدة مفارقة ، تتمثل في كون ما يجمعنا هو الذي يمكن أن يفرّقنا...توجد وحدة إنسانيّة و يوجد تنوّع إنساني ، وضمن التنوع الإنساني توجد وحدة ، وضمن الوحدة الإنسانية يوجد تنوّع "[15]. و إنّ التّنوّع لا يقفُ عند حدّ وجود تمايُز ثقافيّ ، بقدر ما هو يحكمُ طبيعة الصّراعات نفسها من خلال مدى ملاءمة الأجهزة الرّمزيّة لمنطق المُنافسة ، فالاقتصاديّ المُعولم و التّقاني مُلتحمان بثقافة مُهيمنة تختصّ بأجهزة رمزيّة و الخطاب الّذي يمنح المُنافسة نوعًا من الإطلاق المرتبط ببداهة موهومة لمسارات السّوق العالميّة هو خطابٌ يُقصي المُجتمعَ موضوعيًّا . فكما كان التحديث "يوتوبيا" الدولة و"إيديولوجيتها" و مُقدّسًا جديدا قام على أنقاض على أنقاض الثقافة  التي سعى السياسي إلى هدمها في تاريخ المواجهات،  صار " المعولم " مبرّرًا للاتباع المطلق دون مراعاة لضرورة حياد الحقل التربوي و تحرير تفاعلاته مع الفضاء الاجتماعي. إنّ الفعل السياسيّ لا يكفّ عن توجيه الحقل التربويّ ، لذلك منطق مّا يمكن أن يراعى ، فقد دعا ( Louis D'hainaut  ) [16]إلى أن يكون العمل التّربويّ محكومًا بفلسفة عامّة تحكم كلّ عمليّاته ، و اقترح ثلاثة مستويات للأهداف أوّلها المستوى السّياسيّ الّذي يضبط الغايات العامّة للتّربية في مجتمع مُعيّن ، و ثانيها المستوى الإداريّ الّذي يضبط أهدافًا دقيقة لتحقيق الغايات كما تكون تحدّدت سياسيًّا ، ومستوى التّنفيذ أي مستوى العمل التّربويّ ذاته و خلاله يتمّ التّجسيم من خلال الإجراءات العمليّة . لكنّ المشكل يبقى في كيفيّة الاختيار و في "علميّته" . ففي الخطاب الرسمي  نجد خلطًا   بين "الحقيقة " كما هي في المنجز المعرفي الكوني و هدما لمبدإ شرعية الأسئلة حولها و تداخلا بين التصورات عنها و إقصاء لمقتضيات الفضاء الاجتماعي و إلزاماته . وصاحب القرار السياسي يحتكر الخطاب و يُلغي كلّ دور للعلوم  الانسانية التي لا يمكن لعقلانيتها أن تنفي كون واقع المجتمع غير واقع" المعرفة"،  فالرموز لا تختفي فيه ، و العالم الرمزي الذي تبنيه تلك الرموز هو حاضن كل التمثلات و هو المؤسس المفترض لكل الخبرات و لا يمكن إلغاؤه و لا  طمسه  ، و إلّا استمرّ عقم ثقافة المدرسة في تعاليها الزّائف عن المجتمع و في تبعيّتها  للحقليْن السياسي والاقتصاديّ التي تمنعها التفاعل مع الفضاء الاجتماعي حسبما تقتضيه اللحظة التاريخية .           


[1] وزارة التّربية و التّكوين ، نحو مُجتمع المعرفة : الإصلاحُ التّربويّ الجديد ( الخُطّة التّنفيذيّة لمدرسة الغد : 2002 -2007) ص20-21
 فوكو ، ميشال(1970)  ، في" نِظامُ الخطاب" ، ترجمة محمّد سبيلا ، دار التنوير للطباعة و النشر  ، مارس 2007 ، ص 70[1].
[2] الجُمهوريّة التّونسيّة ، وزارة التّربية و التّكوين ، إدارة البرامج و الكُتب المدرسيّة ، برنامجُ البرامج ، تونس ، سبتمبر 2002 ، ص 05 .
[3] الجمهوريّة التّونسيّة ، رئاسة الجمهوريّة ، القانون عدد 80 لسنة 2002 المؤرّخ في 23 جويلية 2002 الموسوم بالقانون التّوجيهيّ للتّربية و التّعليم المدرسيّ ، الفصل التّاسع .
 العيّاشي ، مختار ، الزيتونة و الزيتونيون  في تاريخ تونس المُعاصر (1883-1958 )، مركز النشر الجامعي و جامعة الزيتونة ، تونس 2003 ، ص 97 .[4]
 ونّاس ، المنصف ، الدّولة والمسألة الثّقافيّة في المغرب العربي، سلسلة آفاق مغاربية، العدد 15  ، سراس للنشر 1995 ، ص11 .[5]
 الهرماسي، عبد اللطيف ، الدّولة و التنمية في المغرب العربي: تونس أنموذجا ، سلسلة آفاق مغاربية العدد 11  ، سراس للنشر 1993 ، ص 48[6]
 وناس، المنصف، مصدر سابق، ص 126[7]
 الهرماسي ، عبد اللّطيف ، مصدر سابق ص 38 .[8]
 الهرماسي ، عبد اللّطيف ،المصدر نفسه ، ص7 .[9]
 الهرماسي ، عبد اللطيف ، المصدر نفسه، ص260[10]
 أركون ، مُحمّد ، الفكر الإسلاميّ : نقدٌ و اجتهاد ، ترجمة و تعليق هاشم صالح ، المُؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر 1989 ، ص44[11]
 الجُمهوريّة التّونسيّة ، رئاسة الجمهوريّة ، الأمر عدد 1047 المُؤرّخ في 07 ماي 2002 المُتعلّق بإحداث مجلس أعلى لتنمية الموارد البشريّة
 وزارة التربية و التكوين ، ، نحو مجتمع المعرفة – الإصلاح التربوي الجديد : الخطة التنفيذية لمدرسة الغد 2002-2007 ، تونس جوان 2002 ص 13 – 14 .[13]
وزارة التربية و التكوين ، المصدر نفسه ، ص 23 [14]
[15] Edgar Morin , Hurmanité de l’humanité, Ed Seuil page 70 .
[16] Louis D'hainaut , Des fins aux objectifs de l'education , Col Education 2000 , Ed Labor Nathan 1980.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟