كيف ينبغي أن يكون التعليم ـ أوليفيي روبول ـ ترجمة : فريد أبي بكر

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Bianco-Neroلابد أن نميز بداية،بين التعليم وباقي أشكال التربية؛فهو مختلف تماما عن التربية الأسرية التي تكون بشكل تلقائي،ومختلف أيضا عن التكوين الذي يهيئ شخصا لوظيفة معينة. إن التعليم يتميز عن التربية في الأسرة على اعتبار أنه يكون بشكل قصدي،وفق برامج،وبمعية مهنيين يسهرون عليه،كما أنه يمارس داخل مؤسسة. و يختلف عن التكوين على اعتبار أنه غاية في حد ذاته؛إذ يتم تعليم شيء  لشخص ما،بينما يتم تكوين شخص لوظيفة ما؛معنى ذلك أن غاية التعليم أو على الأقل موضوعه هو التلميذ،بينما موضوع التكوين هو الوظيفة الاجتماعية،حيث المهم هو عامل المستقبل أو طبيب المستقبل.

إن المعارف المدرسية هي لأجل المتعلم وليست لأجل هدف خارجي،إنها غاية في حد ذاتها،فالنجار المتعلم أو الجراح المتعلم هو دائما وسيلة؛لا يتم تكوينه لأجل ذاته،بل لأجل شيء آخر.في حين أن التلميذ يعمل،كما يقول أفلاطون"من أجل تنميته،من أجل تربيته الخاصة"[1]؛يتعلق الأمر بمعارف نزيهة،بدون مصلحة أو غاية مهنية على الأقل في اللحظة الفورية؛فالعمل المدرسي سواء كان عقليا أو يدويا فهو يختلف بماهيته عن العمل الإنتاجي الذي يكون فيه العامل دائما وسيلة لغاية تحدد له من الخارج. في المدرسة،التلميذ يعامل كغاية،إنه يعمل لأجله ويتعلم استقلاله الخاص. أما التكوين فلا يمكن أن يكون إلا خارج المدرسة،أو بعدها،وسيكون أكثر فاعلية إذا كان مسبوقا بتعليم شخصي،يكون الشخص قادرا من خلاله على بنينة الذاكرة وتكوين الحكم،ويمكننا في هذا الجانب أن نفكر فيما يميز الرياضة المدرسية عن الرياضة المهنية لنفهم فيما يتميز العمل المدرسي عن العمل الإنتاجي.


الآن،لمعرفة كيف ينبغي التعامل مع المعارف المدرسية ،وكيف ينبغي أن يكون التعليم ،لابد من معرفة طبيعة وخصوصية من يتلقى هذه المعارف المدرسية .

 إن التجريبيين  أكدوا غير ما مرة،أن الفرد لا يكون في البداية سوى صفحة بيضاء تكتب عليها التجربة ما تشاء، وهذا هلفتيوس يعتبر أن "التربية تجعل منا ما نحن عليه"[2]؛كل ما يتعلمه المرء يأتيه من الخارج،من التجارب المحسوسة ومن التربية التي لابد أن تعتمد عليها حتى تكون فعالة. إن النموذج بالنسبة لهم هو المعلومة،التي لا يمكن للشخص أن يجدها بداخله وهذا المحتوى يأتينا من الخارج. إن قول هلفتيوس بأن إنسانا ما ليس أبدا سوى ما تعلمه،وأن التربية قادرة على كل شيء،يعني أنه لا يوجد شيء قادر على جعل التربية تفشل،بهذا المعنى ستصبح التربية عبارة عن ترويض وإشراط كما هو الشأن مع واطسون وبافلوف وسكينر؛فقولنا بأن التربية قادرة على أي شيء معنى ذلك أن نفعل بالمتعلم أي شيء ونصنع منه ما نشاء بغض النظر عن ميولاته ورغباته واستعداداته؛وهكذا فالنظرية التجريبية تختزل التعليم في نقل وطبع،إنها لا تعير الفهم أي اهتمام.

في المقابل،يؤكد أصحاب الاتجاه العقلاني أننا لا نتعلم أبدا إلا ما كنا نعرفه من قبل،وأن الذهن يحمل في ذاته حقائق،فالتجربة والتعليم لا يعملان سوى على الإيقاظ ؟؛نموذجهم في المعرفة هو المنطق والهندسة،بحيث أي شخص يجد في ذاته المفاهيم والعلاقات. لكن ماذا يريد أفلاطون أن يقول ،إذن،بمفارقته الشهيرة: "لا نتعلم إلا ما كنا نعرفه من قبل". صحيح أن لا أحد يخزن في ذاته قواعد النحو الصيني ولكن مع ذلك،كل واحد منا يحمل في ذاته قواعد النحو الكوني الذي يسمح له بفهمها وتطبيقها في الوقت الذي يتعلمها فيه. صحيح أننا لا يمكننا رسم لوحة لم يسبق لنا بتاتا أن رأيناها،ولكن يمكننا فهمها عندما نراها،ويزداد فهمنا لها بتركيز الرؤية عليها إلى درجة أننا قد نجد ذواتنا فيها. حتى تعلم الرقص أو الرسم يؤكد تلك المفارقة،مادام التلميذ ينطلق مما يعرف القيام به، فيكمن تطوره فقط في التخلص من الحركات الناشزة والحفاظ على الحركات المتقنة.

بالتالي فهذا الاتجاه الثاني يولي أهمية وقيمة كبيرتين لطبيعة الانسان،وهي طبيعة تفرض على المربي تعاملات خاصة. هذه الطبيعة التي هي أيضا ما هو خاص بكل طفل؛طريقته في التصرف،والإحساس والتعلم. وتجاهلها هو محاولة لإدخال الطفل في قالب مشترك،فبإرغامه على أن يكون كادحا كأخيه،نجازف بإثباط همته دفعة واحدة،بدل أن نعمل على إطلاق طاقته الخاصة. إن "التربية هنا لا تعني صنع راشدين تبعا لنموذج معين،بل تحرير الانسان مما يمنعه من تحقيق ذاته،والتناغم معها تبعا ل«عبقريته المتفردة» "[3].وهنا يبدو قول روسو صحيحا بمعنى من المعاني،حيث ينادي إلى غاية السنة الثانية عشرة ب«تربية سلبية» لا يكون دورها تسريع وقمع نمو الطفل،وإنما إعداده للتعلم،بحيث يعتبر أن سر التربية ليس في ربح الوقت وإنما في معرفة إضاعته.

إن أطروحة التجريبيين تعود ضدهم؛فإذا كانت التربية تصنع الانسان،لا يمكنها أن تجعل من حيوان صغير رجلا؛أي أن هناك طبيعة انسانية خاصة - «ثابت انساني» - يتحدد من خلال إمكانية التعلم،وهذا الأمر يخالف مبدأ الصفحة البيضاء. إن كان هذا المبدأ صحيحا ،لن تكون التربية سوى «طبعا» والتعليم «نقلا»،وإذا كانا شيئا آخر،فذلك لأنهما يناشدان في الطفل تلقائيته الموجودة قبلا،ومعنى التلقائية هنا القدرة على التصرف والفهم الذي يحمل شيئا من الكونية؛بمعنى آخر إنها تمنعنا من أن نقوم بأي شيء وأن نفهم بأي طريقة."يمكن بدون شك تعليم الحصان في السرك،بأن إثنان زائد إثنان تساوي خمسة،لكن لا يمكن أبدا تعليمها لإنسان"[4]. هذه الطبيعة الإنسانية تجعل التربية غير قادرة على أي شيء؛ذلك أن المربي يواجه بمقاومة من طرف الطفل لا يمكن إنكارها أوتجاهلها أو الضغط عليها دون تدمير التربية؛هذه الطبيعة،هي أولا تلك المتعلقة بالطبيعة النفسية للطفل؛وقد أكد مجموعة من علماء النفس كبياجيه وفرويد أن الطفل يمر ضرورة بمراحل،لا يمكن للمربي القفز عليها بشكل تعسفي أو اختصارها.

إن ما نستفيده من هذا الكلام،هو أن المعرفة لا يمكنها أبدا أن تُنقل لأنها ليست شيئا جامدا،كما أن المتلقي ليس – ولا ينبغي أن يكون – سلبيا. ويمكننا هنا اقتباس عبارة أراكون Aragon"الخبرة لا تقبل أن تنقل،الوثوقية هي التي تقبل أن تنقل"[5]. معنى ذلك أن التربية شيء إنساني وغير ذلك هو ترويض فقط ؛إنها حسب أوليفيي روبول "مجموع السيرورات التي تسمح لكل طفل بشري بالولوج تدريجيا للثقافة،باعتبارها ما يميز الانسان عن الحيوان"[6]،فلا أحد يمكنه تعليم اللغة والتقنيات والأخلاق لحيوان،وهو يقصد بالثقافة هنا تلك التي تكون خلف كل الثقافات؛هي الثقافة الانسانية الكونية،وهو وما يجعل من تعريفه شيئا طوباويا،إلا أن هذه الطريقة وحدها التي تحمي التربية من أن تكون فقط مذهبة.

إن نظرة بسيطة في مدارسنا،ستجعلك ترى تعليمنا ترويضا ليس أكثر،من خلال البرامج المكثفة التي تخنق الطفل و تبعده عن كل إبداع،أضف إلى ذلك نوعية العلاقات الموجودة والخطابات المتداولة،التي تحاول جعل التلميذ كما يراد له أن يكون، لا كما يريد هو أن يكون ،ولعل ذلك يظهر حتى من خلال أنواع العقوبات التأديبية. إننا بدل تعليمه أن يفكر، ويقبل، ويرفض، ويتساءل،نقدم له معلومات حتى دون فهمها،علينا أن نتفق هل نريد تعليما أم معلومات مشتتة،تعليما أم ترويضا؟

إن علاقتنا بالمعرفة والتي هي علاقة وظيفية في أغلب الأحوال،جعلت وظيفة المدرسة مختزلة في جمع النقط والمعدلات والحصول على الشهادات،وفي الوقت الذي علينا أن نتعلم فيه نضيع على أنفسنا فرصة التعلم. لقد أصبحت مدارسنا في كثير من الأحيان مجالا للسكب والتلقين،وهو ما يجعل المتعلمين عاجزين عن الإبداع والتحكم فيما يأخذونه من معلومات،غير قادرين على بذل أي مجهود .ولن تستغرب إن وجدت بعضا منهم يريد الحصول على نقط جيدة دون مجهود،حتى المعلومات والمعارف التي تقدم لهم،غير مرفوقة ببرهانها،أفكار وعبارات يرددونها حرفيا دون التساؤل عن معناها الحقيقي أو نقدها،غير قادرين على شرحها وتطبيقها في وضعيات مختلفة واستخدامها في حل مشكلات جديدة وفي الحصول على معارف جديدة،في حين أن التعليم الحقيقي هو ذلك الذي "يثير التلميذ من أجل الحوار مع ذاته،وحمله على التفكير بمعنى أن يفكر في تفكيره"[7]،وهذا طبعا لن يتحقق ما دمنا نفرض عليه معارف ثابتة وأكثر من ذلك،نأمره بإعادتها وترديدها دون فهمها. إن المعارف ينبغي أن تقدم على أساس أنها أكيدة وليس لأنها صحيحة،بحيث يمكن تكذيبها بأفكار أخرى،وعلى أن  الأفكار والنظريات كما هي بالنسبة لكارل بوبر مقبولة ما لم تفند بعد؛بمعنى أن هناك دائما القابلية للتكذيب والتفنيذ والدحض وبالتالي للنقد. إن الطفل الذي يقول بأن الشمس تشرق لأنه يراها، ليس صائبا،والطفل الذي يردد أن الأرض تدور حول الشمس لأن معلمه قالها له،كذلك ليس صائبا؛ذلك أنه يمكنه أن يعتقد العكس.وهو ما عبر عنه سبينوزا بقوله"إن ما نتعلمه دون أن نفهمه لا يمكنه أن يكون صحيحا"[8].

إننا نلتهم معلومات  دون فهمها و التفكير في فحصها،فلا غرابة في أن يأتي اسعمالنا لها مشوها،وغير متحكم فيه،وهو استعمال غالبا ما يكون ضيقا ومحصورا لأنه كان نتيجة لترويض وإشراط. إن السلوك الذي يكتسب من خلال الترويض لا يمكن تحويله ولا تعميمه،كما هو الشأن بالنسبة لكل معرفة حقيقية؛ فالعازف على البيانو –مثلا – يمكنه عزف عدد غير محدود من المقاطع المختلفة تماما عن تلك التي تعلمها،كما أنه تعلم أن يتعلم تقنيات جديدة وبالتالي تعميم ما كان يعلمه من قبل. إن نتيجة الترويض هي النقيض؛المتعلم لا يعرف فعل سوى شيء واحد،بمعنى آخر لا يعرف شيئا؛لم يكتسب أي سلطة حقيقية على الأشياء أو على نفسه،لقد كان خاضعا لإشراط يجعله يقوم برد فعل ليس بفعل.إن الترويض لا يعطينا كفايات وإنما سلوكات مكررة ومحددة سلفا من طرف المروّض،وهو ما يجعل السلوك يختفي بمجرد أن تختفي الظروف والشروط المحايثة له دون أن يستطيع الفرد تحويله أو تكييفه. لذلك فالمعرفة هنا هي من مجال المكتسب وليست من مجال المتعلم؛على اعتبار أن المعرفة تقتضي القدرة على إعادة فعلها متى نريد وكما نريد،فهي بطبيعتها حيوية،مرتبطة بنشاط من يكتسبها."أن تكون خاضعا للإشراط لا يعني أنك تتعلم؛ذلك أنك تكتسب رابطا جامدا سلطويا بين مثير واستجابة.إشراط بافلوف يسمح بالقول أن الموضوع اكتسب شيئا،وليس تعلم شيئا"[9]. إنه ترويض فقط باعتباره إكراها خارجيا يفرض على الموضوع اكتساب سلوكات معينة دون الأخذ بعين الاعتبار في الشخص مبادرته،إنه عملية بالنسبة للمروّض،وليس بالنسبة للمروض إلا سيرورة يخضع لها،وتحدث فيه دونه؛بعبارة أخرى،لا نروض أنفسنا،نحن دائما مروضون من طرف شخص آخر ومن أجل شخص آخر.

إن المعلومات ضرورية طبعا إلا أنها غير كافية؛عندما أحدد الطريق لشخص،فأنا أقدم له معلومة مفيدة له بدون شك،إلا أنها لن تساعده في أي مكان آخر. بينما عندما أعلّم شخصا كيف يقرأ خريطة،فإن ما أعلمه له سيكون ذا طابع عام،يستطيع من خلاله قراءة عدد غير محدود من الخرائط.إن محتوى التعليم  قابل للتحويل،يساعد في ظروف مختلفة جدا عن تلك التي اكتسبها فيها،وهذا النوع من الكفايات هو ما ينبغي على تعليمنا أن ينكبّ عليه،بحيث يستطيع المتعلم أن يقرأ العديد من الخرائط لوحده،والعديد من النصوص من خلال التمكن من آليات التحليل والنقد والتفكير التي تسمح له بالنظر في عمق الأشياء بدل الاكتفاء بما هو سطحي،وأيضا حثه على البحث فبدل إعطائه معلومات، تعليمه كيف يبحث عن المعلومات بنفسه. وهذا روبول يميز بين التعليم والترويض والتمهير والتلقين،"فالترويض هو تعويد الحيوانات أو الأطفال وحتى الراشدين،بالتهديد أو المكافأة؛على تنفيذ ما ينتظر منهم تنفيدا طيعا وآليا.والتمهير هو التدرب على اكتساب مهارة كالسباحة والكتابة والرقص. والتلقين هو إدخال الفرد في جماعة يكشف لها عن طقوسها وتقاليدها وأساطيرها. أما التعليم فهو الشكل الأكثر إنسانية في التعليم إذ لا يقصد إلى تنشئة تقني أو مواطن أو مؤمن بل إلى تنشئة إنسان"[10]. إن محاولة جعل التربية تقنية عصماء،هي اختزال المربى إلى حالة المنتوج،والقول أن التربية قادرة على كل شيء إنما هي محاولة لتشييء الانسان،وإذا كانت التربية لا تستطيع فعل كل شيء فإننا لا نستطيع فعل شيء من دونها.

إن ما يمارس داخل الأقسام من أشكال للترويض بوعي أو بدون وعي،إنما يقتل لدى التلميذ روح التعلم،ذلك أنه لا يفعل من شيء سوى التقليد والتكرار،بعيدا عن استخدام فهمه الخاص،أو حتى التحكم فيما يتلقاه من معلومات،وهو ما يجعل علاقته بالمعرفة آلية،جامدة،وليس في تناغم معها،وإنما فقط وظيفية،تبقى حبيسة المدرسة. فهو لا يقرأ إلا داخل القسم ولا يكتب إلا على أوراق الامتحان،في هذه الحالة ماذا سيكتب؟!إن هذا الأمر لا نجده عند المتعلمين فقط،حتى الكبار أغلبهم يطلّق المعرفة والبحث بمجرد الحصول على وظيفة،لأنه لم يتربى على طلب المعرفة لذاتها،وفي كثير من الأحيان غير مقتنع بما تعلمه.

إن غاية التعليم ليست إعطاء فقط معلومات،أو حتى مهارات ومعارف،وإنما كفاءة تفرض ألا تكون المعارف عدّة جامدة ولكن شكلا ديناميكيا. إن كفاءة لاعب الشطرنج لا تنحصر في معرفة قواعد اللعب،ولا في حفظ عدة نماذج باهرة،إنما تكمن في إيجاد الحل الأحسن في كل مرة،أما القواعد والنماذج فليست إلا وسائل مساعدة. إن ما نتلقاه من معارف وقواعد ونماذج ينبغي تلقيه بشكل يمكننا من الحكم؛"في الواقع ما هي الكفاءة في جميع المجالات:اللغوية،القانونية،التقنية،الجمالية،العلمية،السياسية،الأخلاقية،إذا لم تكن القدرة على الحكم"[11]. إن ما يميز الكفاءة عن مختلف المعارف هو أنها تتجاوزها من خلال دمجها؛فالقاضي مثلا عند وجوده أمام نازلة،يجد نفسه مضطرا لتقرير أحكام لا يجدها في النصوص القانونية أحيانا،بل يستثمرها كلها خاصة عندما يكون إزاء حالة جديدة،وهكذا لا يكون عمله آليا وإنما يوظف كفاءته واجتهاده الذي لا يمكنه إيجاده في مكان آخر. بالتالي فالكفاءة هي" امكانية انتاج،في احترام القواعد،عدد غير محدود من الآداءات التي لا يمكن التنبؤ بها،إلا أنها منسجمة فيما بينها ومتلائمة مع الوضعية"[12]،ليست هي التصرف وفق نموذج مفروض،وإنما تكييف السلوك مع الوضعية،ومواجهة الصعوبات غير المتوقعة،وانتقاء المعارف وأخذ ما ينفع في حل المشكلات،وأخيرا القدرة على الارتجال في الوقت الذي لا يقوم فيه الآخرون سوى بالتكرار؛فأن تتصرف بشكل جيد معناه أن تتصرف بذكاء،ليس إعادة إنتاج سلوكات مكتسبة،وإنما القدرة على تكييفها في حالات جديدة،وتغييرها بحسب الحالات غير العادية. "إننا نقول لشخص ما أنه يعرف أن يرقص«جيدا»،أن يسوق «جيدا»،أن يعرف لعب الشطرنج «جيدا»،أن يفكر «جيدا».  «جيدا» في كل هذه الأمثلة لا تعني الامتثال لنموذج ما، وإنما القدرة على التكيف والابتكار"[13].

 

لابد للتعليم أن يعلم كيفية البحث عن المعلومة،وجمع الوثائق المتعلقة بسؤال ما،تحليلها وتركيبها. في التعليم ذاته،تعلم البحث عن المعلومة شرط أساسي لتعلم التعلم؛تعلم يؤدي إلى تربية الشخصية بكاملها،وهو مايظهر من خلال قول روبول:"التعلم الانساني هو الذي نتعلم فيه أن نتعلم،ونتعلم الكينونة أيضا"[14]. ما معنى الكينونة؟ إنها تعلم القطع مع الامتثالية،وأن يكون الشخص ذاته لا كما يراد له أن يكون.يبقى السؤال:هل التعليم هو من يخلق كفاءة الكينونة؟

إنه يهيئ لها؛كل المعلومات والمعارف والمهارات التي يمكّن التعليم من إكسابها،هي فرص كثيرة لتعلم الكينونة. "يبقى أن «أن تكون» لا تدرّس،فلكل شخص أن يتعلمها بنفسه طوال حياته وإلى ساعة وفاته"[15].

الكفاءة إذن،هي غاية التعليم،في أي تعليم يستحق هذه الكلمة وكيفما كان نظامه،لن تجد مدرس لغة يقبل بألا يأخذ تلاميذه سوى كمّ من المعارف الجاهزة،وغير قادرين على أن يصلوا من خلالها إلى معارف جديدة،ولا مدرس للعلوم يقبل بأن يكونوا قادرين فقط على إعادة وسرد صيغ، دون القدرة على تطبيقها في حالات جديدة،وإذا كان التعليم لا يريد أن يسقط في المذهبة،عليه استعمال المعلومة بشكل نقدي؛بإعطاء التلاميذ كل الوسائل لمساءلتها،وتزويدهم بكل المعارف الأخرى التي تمكنهم من موضعة معارفهم و معرفة أسبابها،وتنمية الحس النقدي فيهم،وجعل المعلومات تواجه فيما بينها من خلال الاشتغال على كتب أو نصوص والبحث عن الحجج.

وهكذا فالتعليم هو "نشاط على المدى البعيد،يتم داخل مؤسسة خاصة،موكولة لأناس أكفاء،هدفها المقصود هو السماح للمتعلمين باكتساب معارف الفعل،ومعارف منظمة وقابلة للتحويل،بتنمية حسهم النقدي"[16]. يتضح من هذا التعريف أننا لا ندرس إلا بنية جعلهم يتعلمون و"اجعله يتعلم يمكن أن تعني:اجعله يعرف،اجعله يتصرف،اجعله يفهم؛لا يمكنها أبدا أن تعني: اجعله يعتقد"[17].

نعلم جيدا أن المعارف المدرسية هي معارف متلائمة،تتم ملاءمتها من خلال الديداكتيك مع مستوى التلاميذ؛فالمعرفة التي تدرسها المدرسة ليست هي تلك التي تكون في مراكز البحوث الجامعية. أيضا هي معارف قابلة للحجاج؛معنى ذلك أنها تقدم مرفوقة ببرهانها،ودائما يمكن انتقادها،ومسألة التعليل والنقد هاته هي من دون شك أكثر أهمية من المعارف ذاتها. إن "المعلم الذي يحمل تلامذته على انتقاد الافكار بواسطة الآليات التي درّسها لهم ،  يمكن أن نعتبره قد نجح  إلى حد ما ، لكونه استطاع أن يقربهم من مستواه "[18]،لم لا والتعليم ليس هو الترسيخ في الذهن ولا نقل المعرفة،إنه جعل الآخر يتعلم؛إنه إثارة  واستكشاف القدرات الكامنة وأن نحمل إلى الوعي المفاهيم التي يتوفر عليها كل واحد في أعماقه. فالمدرس ليس هو إذن،ذلك الذي يملي الأجوبة،إنه ذاك الذي يطرح الأسئلة،وهو هنا لا يمكن تعويضه، ونستحضر هنا رأي بعض رواد الاتجاه العقلاني  "فالمدرس بالنسبة لهم ليس هو ذاك الذي ينقل المعرفة،إنه «مولد» (أفلاطون)، «مرشد» (القديس أغسطين)، «منبه» (ألان)،لا يدرس للتلميذ سوى ما يعرفه التلميذ مسبقا"[19]،إن على المدرسة أن تعطي للمتعلمين الفرصة للتعبير بحرية عما بداخلهم،كما لا ينبغي أن يكتفي المتعلم بالأجوبة على أسئلة الأستاذ، وإنما مساعدته على طرح أسئلة أخرى جديدة،فضلا عن إكسابه الجرأة الأدبية،وثقافة القراءة وإشراك أناه في العملية التعليمية،مع الأخذ بعين الاعتبار الفروق الفردية،وإعطائهم أشياء تفيدهم في حياتهم. فالمدرس ليس هو من يدرّس الرياضيات فقط،أو العزف على الكمان فقط،أو الفلسفة فقط، فهذا النوع لا يرقى إلى مستوى المعلم. المعلم هو الذي يدرس بالإضافة إلى تخصصه شيئا آخر؛يكمن في خلق لدى المتعلم الإحساس بالسهولة في الحركة والتفكير،الاستقامة،الذوق،شهية المعرفة،شجاعة التفكير،القدرة على الحكم،والإحساس بالرشد والنضج؛ وعليه ف"المعلم الحقيقي هو الذي يربي وهو يدرس"[20].باختصار المعلم هو الذي يعلم ما لا يوجد في الكتب،بهذا المعنى فالمدرسون،الأساتذة والمكونون ليسوا بالضرورة معلمين؛فهم يتوقفون عن كونهم كذلك في اللحظة التي يكون فيها محتوى وطريقة تعليمهم مطبوعة في مكان ما؛"كتاب المعلم يلغي المعلم"[21]،وحتى الأدوات والوسائل التكنولوجية المستعملة في التعليم،تسمح بتحرير المعلم ممّا يحمله التعليم من أشياء ميكانيكية،كالإخبار،وفرض تمارين،والمراقبة،والتقويم،وهي بذلك تسمح له بأن يهب نفسه بنصيب أكبر للتعليم الذي لا يعوّض فيه؛بتعبير آخر أن يكون معلما وليس مدرسا. في جميع الأحوال لابد من الإجابة عن سؤال كانط: إذا كان الانسان نتاجا للتربية من يُربي المربين؟

يتعلق الأمر هنا بالبيداغوجيا باعتبارها ضرورية للتربية؛فلا يكفي أن تكون مستقيما لكي يكون ابنك كذلك،ولا أن تعرف اللغة الصينية لكي تعرف تدريسها. "البيداغوجيا هي هذا الفن المعقلن الذي يعطي لأولئك الذين نربيهم الوسائل والرغبة في تعلم ما لا يعرفونه"[22]. إن كلمة بيداغوجيا بالنسبة لروبول تحمل معنيين على الأقل: "هي فن بما أنها تدل أولا على كون الشخص بيداغوجيا،على اكتساب فن التربية والتعليم،وهي مهارة تكتسب بالممارسة. وهي نظرية إذ تدل بعد ذلك على نظرية هذا الفن،وهي «نظرية علمية» كما يقول دوركهايم،بما أنها تهتم بتطبيق العلوم الانسانية على فن التربية"[23]. وتبعا لذلك تكون كفاءة المدرس مضاعفة؛فهو يعرف ماذا يدرس،ويعرف كيف يدرسه،إذا كانت هناك بيداغوجيا،فلأنه لا يكفي أن تكون صينيا لكي تعرف تدريس الصينية.

الآن،كيف يمكن اكتساب هذا الفن؟أليست البيداغوجيا شيئا يتعلمه المدرس لوحده من خلال التجارب والاحتكاك مع الآخرين؟أم أن البيداغوجيا شيء يمكن تعليمه؟ جواب روبول هو النفي،على اعتبار أن ليست هناك بيداغوجيا وإنما بيداغوجيات،بالاضافة إلى ذلك،يمكن تدريس قواعد بيداغوجية،لكن أن تكون بيداغوجيا لا يمكن اختزالها في معرفة القواعد؛وإنما معرفة القاعدة المناسبة التي ينبغي تطبيقها،في الوقت المناسب،أمام المستوى المناسب،ومن أجل الشخص المناسب، معرفة – مثلا – متى نحث،من نشجع ومن نعاقب،ما علينا قوله وما علينا أن نصمت إزاءه،"يتعلق الأمر بفن قواعده غير مقننة،فن صعب تعليمه"[24]. هل معنى ذلك التخلي عن تكوين المدرسين؟

بالعكس فتكوين المدرسين ضروري،لكن هل يمكن أن نضمن أنه سيكون مثل تكوين التقنيين والاشهاريين؟ إن روبول يصرح أن المعلم لابد له أن يمتلك شيئا من العبقرية،فتكوينه لا يمكن برمجته،وبمحاولة برمجته،لا نكوّن معلمين  وإنما أضداد معلمين."إن المربي يكوّن نفسه قبل كل شيء بواسطة إرادته في التكوين والتغيير والانفتاح،وهذا التكوين الذي لا يتعلق إلا به،لا يكتسب مرة واحدة بالنسبة للجميع"[25].

 يستفاد من هذا القول؛ أنه لا يمكن أن نكوّن مدرسا،يعني برمجة ما سيصير إليه بعد عدد من سنوات الدراسة،من التمرينات والتدريبات. فمدرس لن يكون  كذلك إلا إذا تجاوز كل ما استطاع تعلمه خلال فترة تكوينه بواسطة ابتكاريته،حسه النقدي،نفسيته،مزاجه،ثقافته،لنقُل شخصيته. لا يعني هذا أن التكوين غير مفيد؛إلا أنه لا يصلح إلا شريطة تجاوزه؛أي لابد من تطعيم هذا التكوين بالمؤهلات الشخصية . لا،ليس المدرس هو الذي نكون داخل المدرس و"هناك على الأقل مهنة لا يعدّ لها أي تكوين،وهي الأكثر أهمية من بين جميع المهن،إنها مهنة رئيس الجمهورية"[26].



[1] Protagoras, selon Reboul, Olivier, Qu‘est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris,P 83.
[2] Reboul, Olivier, Qu‘est ce qu’apprendre ?, P 163.
[3] Reboul, Olivier,la Philosophie de l’éducation,PUF,1989,Paris,P 22.
[4] Reboul, Olivier,Qu‘est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris,P 168.
[5] EPS INTERROGE UN PHILOSOPHE,Revue EPS n°229 Mai-Juin c.Editions EPS, P de 9 à 14.
[6] Reboul, Olivier,la Philosophie de l’éducation,PUF,1989,Paris,P 25.
[7] Reboul, Olivier, Qu‘est ce qu’apprendre ? ,P 92.
[8] Ibid ,,P 24.
[9] Reboul, Olivier, Qu‘est ce qu’apprendre ? ,P 46.
[10] روبول، أوليفيي لغة التربية تحليل الخطاب البيداغوجي،ترجمة عمر أوكان،إفريقيا الشرق 2002،الدار البيضاء،ص 87.
[11] Reboul, Olivier,Qu‘est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris,P 196.
[12] Reboul,Olivier, Qu‘est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris,P 186..
[13] -ibid,P 42.
[14] -ibid,P 75.
[15] -ibid,P 197.
[16] Reboul, Olivier, Qu‘est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris,P 117.
[17] -ibid,P 117.
[18] Olivier Reboul,la Philosophie de l’éducation,PUF,1989,Paris,P 41.
[19] روبول، أوليفيي ،لغة التربية تحليل الخطاب البيداغوجي،ترجمة عمر أوكان،إفريقيا الشرق 2002،الدار البيضاء،ص 97-98.
[20] Reboul, Olivier, Qu‘est ce qu’apprendre ?,P 126.
[21] -ibid,P 123.
[22] Reboul, Olivier,la Philosophie de l’éducation,PUF,1989,Paris,P 53.
[23] -ibid,P 51.
[24] Reboul, Olivier, Qu‘est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris,P 111.
[25] Reboul, Olivier,la Philosophie de l’éducation,P 120.
[26] روبول، أوليفيي،لغة التربية تحليل الخطاب البيداغوجي،ترجمة عمر أوكان،إفريقيا الشرق 2002،الدار البيضاء،ص 102.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟