من الشخصانية الواقعية إلى الشخصانية الإسلامية في فلسفة محمد عزيز الحبابي ـ الاعرج بوجمعة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

ABSTR45567تمهيد:
 يعتبر مفهوم الشخصانية الإسلامية من بين المفاهيم الأساسية التي شكلت صرح الفكر الفلسفي عند الحبابي، وهو ما جعله ينفرد بميزة أول من قدّم نسقا فلسفيا متكاملا. مما جعل عدد المعجبين بهذا النسق يتزايد. كما نجد كذلك من لا يعترف بانتماء هذه الفلسفة إلى الخطاب العربي المعاصر. فمثلا الدكتور محمد عابد الجابري لم يدمج في كتابه "الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية" فلسفة الحبابي لأنها في نظره كُتبت بلغة أجنبية، وبالتالي فهي "لا تنتمي إلى الخطاب العربي المعاصر. أما بالنسبة للأستاذ كمال عبد اللطيف فإن انتقاده لا يقل جذرية عن انتقاد الجابري بحيث نجده في بحثه "طبيعة الحضور الفلسفي العربي في الفكر العربي المعاصر"، يصف الفلسفة العربية المعاصرة بأنها تتصف بالهامشية والانتقائية[1]. مضيفا بأن "مؤلفات الحبابي لا يمكن وصفها بالهامشية وحسب، بل إنها أيضا درجة أعلى من الهامشية، لأنها في نظره غريبة عن واقع المغرب المعاصر.

لكن هذا النقد الموجه للفكر الفلسفي عند الحبابي لا يعني عدم وجود قول منصف له، فمثلا الدكتور سالم يفوت له نظرة أخرى من خلال بحث له تحت عنوان "الهاجس الثالثي في فلسفة محمد عزيز الحبابي". حيث يصف فلسفة الحبابي مقارنة مع الفلسفات السائدة داخل الجامعة وخارجها بأنها "أحد المذاهب الأكثر تقدما والأكثر انفتاحا على المعطيات العلمية والتجريبية الحديثة، وأكثر معانقة لقضايا الإنسان والتاريخ، وهذا ما يجعل الحبابي يقرأ فيها همومه الثالثية، ويرى فيها فلسفة تناسب مشاكله الخصوصية والتي هي مشاكل الشعوب المقهورة والتابعة. ويضيف سالم يفوت بأن الشخصانية الواقعية رغم أنها رددت أحيانا أفكار "مويني" إلا أنها لم تنقلها حرفيا ولم تحافظ على دلالتها الأصيلة، وإنما هي فلسفة بعيون مثقف مغربي عاش تجربة الاستعمار، كما عانى من الشعور بالدونية والنقص الذي تنميه تلك التجربة سواء داخل الوطن أو خارجه.

هذا الجدال حول فلسفة الحبابي بين معجب ومنتقد، يدفعنا إلى التساؤل عن أسس هذه الفلسفة؟ وكيف انتقل الحبابي من شخصانية واقعية إلى شخصانية إسلامية؟

1.    معنى الشخصانية الواقعية.

  إن الشخصانية التي يدافع عنها الحبابي ليست هي شخصانية مويني، لأنها تعكس واقع الحبابي كمسلم عايش مشاكل الشعوب المقهورة والتابعة، وهي ليست شخصانية الغربي المسيحي أو غير المتدين. أما بخصوص إضافة لفظة "واقعية" تعني في رأيه الكثير "فشخصانيتي تستمد مصادرها وتتجه محاورها إلى واقعي كمنتم للعالم الثالث، وكمغربي كانت بلاده مستعمرة سياسيا وعسكريا. وهي الآن تعاني الاستعمار الاقتصادي والثقافي[2]".

كما يؤكد الحبابي بأن الشخصانية الواقعية كافحت تاريخيا، من أجل الحريات والاستقلال وقاومت مركب النقص لدى المستعمرين ليستعيدوا شخصيتهم التاريخية والثقة بالنفس. إنها فلسفة تحد لظروف عصيبة ولسان حال المستغلين والمسحوقين في التاريخ. إذن الشخصانية الواقعية انبثقت من وجدان شخص مشبع بروح الإسلام وترعرعت في وسط مجتمعي لشاب يصارع من أجل تحرره وتحسين أوضاعه الاجتماعية.

بعد تحيد ما يقصده الحبابي بالشخصانية الواقعية يواجهنا السؤال التالي: هل الحبابي يتجه من الفلسفة الشخصانية إلى الإسلام أم العكس؟

يجيب الأستاذ محمد وقيدي بأن الحبابي ينطلق من الشخصانية نحو الإسلام لجعله شخصانيا من ناحية، ويوفق بين الإسلام والشخصانية من ناحية أخرى. أما الأستاذ بنسالم حميش يرى بأن الحبابي يقرب الشخصانية الواقعية من الإسلام، من أجل تلمس حقائق مشتركة بينهما تفضي برأينا إلى التوفيق بين الإسلام والشخصانية. ورغم أن الأستاذ حميش لا يكشف النقاب عن الأولوية في عملية التوفيق هذه، فإنه يرى أن الحبابي لم يقصد إيجاد الشخصانية الواقعية في الإسلام أو توسيع نطاقها لاحتوائه.

لكن جواب الحبابي على هذا السؤال يظهر من خلال كتبه، فكتاب "الشخصانية الإسلامية" يُظهر بأن الحبابي يؤصل لمفهوم الشخص في الإسلام وتحديد أحوله ووضعيته، اعتمادا على الاستنباط من المصادر الإسلامية الأساسية: القرآن والسنة[3]. رغم أنه يضيف بأن تاريخ الفكر الإسلامي جد واسع، وهو أقرب للنزعة الإنسانية L’humanisme منه للشخصانيةPersonnalisme  التي سنوليها عنايتنا هنا. مضيفا بأننا سنتناول بالدرس الإسلام قبل احتكاكه بالثقافات اليونانية والفارسية والهندية (وقبل تفاعله مع الثقافة الإسرائلية والمسيحية) مما سيجعلنا نبرز العناصر المكونة لشخصانية إسلامية أصيلة.

نفس الفهم التأصيلي نجده عند الأستاذ منير سغبيني بقوله بأن الإسلام يمثل الإطار المرجعي للحبابي، مضيفا  بأن الحبابي "يشعر في صميمه أنه رجل مؤمن وملتزم بإسلامه". ويردف قائلا بأن الحبابي "تأثر تأثيرا بالغا بروحانية القرآن وتعاليم الإسلام، لذا فهو يستمد فلسفته وروحانيته من التراث الإسلامي، بأبعاده الروحية والدنيوية مستندا أولا وآخرا إلى القرآن والحديث"[4].

تحاول الشخصانية الواقعية أن تصف لنا طريق التشخصن، حيث تبدأ من الكائن الذي يتعالى عن نفسه وينمي ذاته ليتحول إلى شخص ثم إلى إنسان، على اعتبار هذا الأخير التفتح الكامل للأنا، والتحقق الأقصى للإمكانات التي يحتويها. حيث يقول الحبابي "إن المذهب الواقعي Le personnalisme réaliste  الذي أنتمي إليه يرمي إلى إيجاد حكمة عملية غير مكتف بالحكمة النظرية"[5]. مضيفا الحبابي بأن "هذه المعية تعتبر قاعدة التشخصن، الفرد لا يتجاوز فرديته نحو الشخص إلا مع الآخرين، فهو بطبيعته ألفة وتواصل"[6].

كما جعل الحبابي للشخصانية منافذ تطل منها، ونقصد هنا الغدية كفلسفة يحاول من خلالها تجاوز العقبات التي واجهت الواقعية، فالغدية تعتبر امتداد للشخصانية، بل على حد قول محمد وقيدي هي المؤسسة للغدية، "يمكننا التعبير عن العلاقة الشخصانية الواقعية والغدية بالصورة التالية: أن الشخصانية الواقعية هي المذهب الفلسفي المؤسس للغدية، فعلى أساس من من مفاهيمه وتوجهاته قامت هذه الفلسفة الجديدة بمفاهيمها وتوجهاتها"[7].

التيمة التي جعل منها الحبابي موضوعا له في جُلّ كتبه "من الكائن إلى الشخص" أو "الشخصانية الإسلامية"، هي تيمة الشخص. من خلال تقديم تعريف لمفهوم الشخص وتتبع مراحل هذا المفهوم قبل الإسلام وبعده. الشخص قوة مبادرة واختيار، يلتزم، ويندمج، يشعر، فيقبل أو يرفض، تلك هي الخصائص اللازمة للاعتراف بأن الشخص استقلال ـ ذاتي[8].

فمفهوم الشخص حسب الحبابي عرف تحولا، بحيث لعب الإسلام دورا أساسيا في هذا التحول من خلال تخطيه الأطر الضيقة للمعشر وإبداله القبيلة بالأمة، فالمسلم يحيا حياة إسلامية حقيقية عندما يعي ذاته كشعور متجسم في العالم. الأفراد متساوين نظرا لانتسابهم إلى دين واحد شمولي، موضحا بأن الفرق بين الأشخاص ليس فرقا نوعيا كما عند (أرسطو) الذي ميز بين السادة والعبيد، وإنما هو فرق كيفي فحسب.

قوة أطروحة الحبابي تتجلى في أنها تحاور الأطاريح السابقة، مثلا نجده يقدم مثال الفلسفة الأرسطية، قائلا بأن أرسطو لا يعترف بمساواة الأجناس البشرية، لا وجود للمساواة بين العبيد والمواطن الأثيني العادي. نفس الفكرة نجدها عند سقراط "عندما يتحدث عن روح الحصان والكلب، لينتقل إلى روح الرقيق كأنه يجد بينهما صلة طبيعية بديهية"[9].

أما الإسلام من وجهة نظر الحبابي يفرّق بين المؤمن والكافر من جهة العمل والتقوى، فالرسالة الإلهية تخاطب المؤمنين وغير المؤمنين بالتساوي، فهي تقر للجميع بالكرامة وبقيمة نوعية، فلا وجود لأنا رفيع وأخر وضيع، مضيفا بأن الصيرورة التاريخية لا تعرف ركودا، إن المؤمن قد يرتد، كما أن الكافر قد يصبح مؤمنا. فالإسلام والشخصانية يقولان بحرية الإنسان، وبقدرته على المبادرات، "لكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات" (قرآن، البقرة، الأية 2، 147).

مفعول الشخصانية يبدأ عندما يرفض الشخص الطاعة العمياء (طاعة الأشخاص وطاعة الأشياء)، ويعترف بالقيمة العليا للعقل والفكر. كما لا يسمح فرض الوصاية على الأفراد، لقوله: "لا إكراه في الدين" (البقرة، 2، أية 256). فالسخصانية في الإسلام وكما نظر لها الحبابي تختلف في مبادئها عما قامت عليه المسيحية، التي كانت تفرض الوساطة بين البشر والخالق. الإسلام يرفض رفضا قاطعا هذه الوساطة، لقوله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعان" (البقرة، 2 أية 186). فعلى العكس من ذلك، يعتبر الإسلام أن كل كائن إنساني شخص بقطع النظر عن عرقه ولغته ولونه، إذ لا فرق بين العربي والعجمي. إلا في التقوى، لقوله: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات، 49 اية 13).

تتجلى أهمية الإسلام حسب الحبابي في كونيته، أي انه يخاطب جميع الناس، والإنسان يحقق إنسانيته عن طريق العمل الصالح، والخير، لا بالانتساب إلى قبيلة أو موطن أو لغة معينة. فالمكون الإسلامي لعب دورا مهما في انتشال الفرد من جبروت القبلية والعصبية التي كان يرزح تحتها، من خلال تحوله من كائن إلى شخص، بفضل الإسلام شعر الفرد أنه جزء من وحدة معشرية منظمة تنظيما يقوم على أخلاقية أصبح يتعالى بها عن الشوفينية والقبلية والأنانية والفردانية في امتداد أفقي متجاوزا النظام الأبوي Patriarcal والهيمنة الذكورية.

لهذه الأسباب المذكورة وغيرها، ينفي الحبابي بوجود شخصانية عند الأوتروسكين والإغريق، وكذلك الرومان لمجرد استعمالهم الكلمة اللاتينية (Persona)، بدليل أنه سادت في المجتمع الروماني مثلا الاسترقاقية Esclavagisme كما سادت العنصرية في قوانينهم وأعرفهم وكان الرقيق دائما هو من يؤدي دور المصارع Le gladiateur التي لم يرتضيها المواطن الروماني لنفسه[10].

2.    الشخصانية الإسلامية.

1.2 دلالة مفهوم الشخص في الإسلام.

حاول الحبابي البحث عن ما يقابل دلالة كلمة "شخص" في الإسلام، فوجد بأن القرآن يستعمل مفردات لا صلة لها، من حيث الاشتقاق الغوي بالجذر (ش. خ. ص) نقدم بعضها:

كانت لفظة "وجه" هي التي تدل على معنى شخص، وهذا ما يؤكد القرابة بكلمة (Persona) اللاتينية التي تدل على المظهر الخارجي. لأن الوجه يعتبر أشرف ما في الكائن، صار يدل على الكائن كله، مع امتداد في المعنى[11]. وهذا يذكرنا بالكلمة الإغريقية (Posopon) التي دلت أول الأمر على وجه (مثل Face الفرنسية) ثم على قناع (قارن Persona اللاتينية). وأخيرا أخذ "وجه" معاني أخرى منها "ظهور"و "صورة". كذلك يضيف الحبابي بأن كلمة وجه تدل على الذات الإلهية "أينما تولوا وجوهكم فتم وجه الله".

في الوجه أيضا "الأنف" الذي هو رمز الكرامة و"الأنفة". إن إخضاع أنف أحد الناس هو إذلاله. يقدم الحبابي مثلا أن بعض المقاومين الجزائريين كانوا يجدعون أنف خونة القضية الوطنية[12]. وهذه الدلالة الرمزية للأنف توجد عند جميع الشعوب. ونجد هذا عند ما كتبه (موس Mauss) عن بعض المجتمعات البدائية: إذا امتنع أحد رؤساء العشيرة عن القيام بإحدى التزاماته قيل إن "وجهه متعفن". ونقول في المغرب "باع ماء وجهه" بمعنى أنه دنس شرفه.

إضافة إلى لفظ "وجه" وقف الحبابي على لفظ "ذات"، وقال إنه مشترك بين الكائن البشري والكائنات غير البشرية، من حيوان وجماد، هكذا في القرآن يتم نعث السماء "بذات البروج" (البروج، 3 أية 1). والنار "ذات اللهب". أما من الناحية الفلسفة يقول الحبابي بأنها تدل على الماهية.

2.2 الحبابي والجوجيطو المعكوس.

تعرض الحبابي إلى جانب مفهوم "الوجه" كدلالة على مفهوم الشخص، كذلك مفهوم الشهادة، مبينا أهمية هذا المفهوم في الشخصانية الإسلامية. "مبرزا ميزة الشهادة في كونها تجعلنا نتخطى الكائن إلى الشخص، بمعنى أننا نرقى من كينونتنا الخام إلى مستوى الوعي"[13].

فالكوجيطو الديكارتي "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، كان بمثابة عصارة للفكر الديكارتي، لذا من حاول مداعبة هذا المفهوم يجب عليه قراءة المثن الديكارتي، والحبابي تحمل عناء قراءة هذا المثن من أجل تجاوزه. فالتفكير حسب ديكارت دليلا على الوجود؛ أي متى انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود، كما نجد الغير بالنسبة لديكارت غير ضروري، لأنه أتبت ذاته بمعزل عن الأخر. الحبابي سيحاول تجاوز هذه الوحدانية الديكارتيةSolipsisme  إلى الاعتراف بوجود الغير عن طريق الشهادة، يقول الحبابي فحديثي (كمسلم) عن أناي هو كذلك حديث عن الآخرين؛ أي إقرار بوجود الله وبقدرته على الخلق والعلم .. والذي خلقني هو الذي خلق الآخرين وخلق العالم  .. فعندما أشهد "أن لا إله إلا الله"، الخالق، المبدع، المريد .. أضع الشاهد الذي هو أنا في معية مع آخرين بعالم وفي تاريخ.

نجد للشهادة إيجابية من عدة نواحي:

v   فمن الناحية الأنطولوجية لها قيمة، حيث يدرك الشخص ذاته، في بداية الشهادة وفي أخرها، فالمؤمن يشهد أمام العالم وأمام الآخرين: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا" (البقرة، 2، أية 143).

v   أهمية الشهادة من الناحية السيكولوجية يترتب عنها تأسيس علاقة مع الآخر ما دام الأنا والأخر، يشتركان في أداء نفس الشهادة. فيصبح أفق الشهادة مطمح كل إنسان، كما أنه يسبب الراحة النفسية التي يخلقها هذا الفعل، على اعتبار من نطق الشهادة دخل الجنة.

v   أما من الناحية السوسيولوجية تكتسب الشهادة تشخيصا عينيا في تكييف وجودنا الشخصي وتصرفاتنا عن مواجهة الآخرين، على هذا الأساس فالمؤمن يمثل جزءا من "النحن".

v   أما من الجانب الميتافيزيقي فإن الشخص سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن، يجد نفسه ضمن مستوى جدلي تفيض فيه كل الاختيارات من الأنا، وتحرجه، في وقت واحد، لكنها اختيارات تتجه نحو الإله الخالق المدبر، حتى في حالة نفي وجوده، ألا نجد في أعماقنا أعظم الآيات الدالة على الحضور الإلهي الكلي: "وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون" (الذاريات، 15 أية 20و21).

فالآخر أو الغير يصبح مع الحبابي ضروري، عكس ديكارت ينطلق في الكوجيطو من الشك ليثبت الأنا ثم العالم ثم الله.  أما مفهوم الشهادة ينطلق من الله ليعود إلى الأنا (الأنا ـ الشاهد). إذن لشهادة وساطة مزدوجة، فبفضلها يعي الإنسان نهائيته، إزاء الحضور السرمدي اللامتناهي الأعظم، هذا دورها الأول. أما الوساطة الثانية فهي أن الشهادة تقتاد "الأنا" نحو اكتمال بإدماجه في أمة أي في "نحن"؛ لأنه من خلال الأخر اكتشف ذاتي، أقوّم سلوكاتي وأحكم على تصرفاتي.

  إذن الحبابي يجعل من الشهادة النواة الأصيلة والأصلية للشخصانية الإسلامية، وفي نفس الوقت يمدها بالدينامية الحيوية. فعندما ينطق المرء "أن لا إله إلا الله" يصبح مسلما، وبالتالي يشعر بأنه قادرا على إصدار أحكام، وأنه قادر على استخدام عقله واستثمار حريته واستقلاله الذاتي. 

ويردف الحبابي بأن تحقيق فعل الشهادة رهين بسلامة النعمة التي أنعم بها الكائن المطلق (الله) على الأنسان، وهي العقل. مبينا أهمية العقل بالنسبة للشخص، قائلا بان التشخصن يرتكز على العقل، لأنه هو القوى التي تسير القدرات على التحرر، وعلى التأليف والانسجام. مضيفا بأن للعقل دور أساسي في تعليم الشخص بغية إصلاحه، وتوجيهه. كما يمكن العقل الإنسان من فهم حتميات الطبيعة ليتجاوزها، وأن يعارض جور الأفراد ليقضي على الاضطرابات المجتمعية.

2.3          موقف الحبابي من وضع المرأة في الإسلام.

نالت قضية المرأة في أبحاث الحبابي أهمية كبيرة، خصوصا في كتابه "الشخصانية الإسلامية"، حيث عنون الفصل الثاني "بوضع المرأة". فوقف وقفة طويلة لعرض وتحليل هذا الوضع، بعطبية الحال من خلال مرجعية الكتاب والسنة. بحيث تطرق الكاتب إلى عدة مواضيع تخص وضع المرأة، كتعدد الزوجات، والمساواة بين الرجل والمرأة، إشكالية القوامة بين الرجال والنساء، ليعرج في الأخير على أشكال الأسر، أي الأموسية والأبيسية.

فخطاب الحبابي الإصلاحي شمل عدة وضعيات للمرأة، منها تعدد الزوجات، حيث نجه يقول: "لم يكن تعدد الزوجات قط لا واجبا ولا مستحبا، بل على العكس، للزوجة الحق بأن تضيف إلى عقد الزواج، شروطا تلزم الزوج باحترام الزواج الأحد، فلا يضارها وأن يؤدي لها تعويضات في حالة الطلاق"[14]. مضيفا بأن التفاضلية توجد في التقوى فقط، يقول لنتأمل سورة النساء "يأيها الناس، اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام، إنه كان عليكم رقيبا".

فالتعددية لها أسباب إما اجتماعية أو نفسية أو بيولوجية شريطة أن يكون هناك توافق مع الزوجة، لذا يقول الحبابي إن موقف الإسلام إزاء تعدد الزوجات، فإنه يدخله من النافذة الضيقة ويخرجه من الباب الواسع، إن صح التعبير (تعبير الحبابي). فالإسلام يصل بنا إلى تحريم ضمني لتعدد الزوجات لكثرة ما وضع له من قيود كالمطالبة بالإنصاف والنزاهة بين جميع الزوجات، وهذا من قبيل المستحيل: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" (النساء 4 أية 129).

أما بخصوص المفاضلة بين النساء والرجال، يقول الحبابي المرأة تتجه إلى الله بنفس الشعائر التي يتعبد بها الرجل، "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون". (البقرة 2 أية 186).

 فيمكن القول عن تحليل الحبابي إنه ينهل من الكتاب والسنة ويعترف بأن الاسلام كرم المرأة بعدما كانت مهانة ومستعبدة سواء عند العرب قبل الإسلام أو عند الإغريق والرومان.

ثم تطرق الحبابي في الفصل الثالث إلى "الرق والذمة في الإسلام". مبرزا دور الإسلام في الاعتراف بكرامة الإنسان وتساويه مع أخيه الإنسان. قائلا توجد تراتبية واحدة هي بين الإنسان وخالقه. فالإسلام على عكس الديانات والفلسفات السابقة على الإسلام (الإغريق، الرومان) التي كانت تضع تفاضلية بين العبيد والسادة، نجد الإسلام يخفف من عبئ الاسترقاق وإضعاف حدته، لاسيما العمل على إرجاع الشخصية الإنسانية للعبد وجعلها واعية عنده، ومعترفا بها لدى الأخرين.

أين نحن اليوم؟

هذا السؤال جعل منه الحبابي عنوان الفصل الثالث من كتابه: "الشخصانية الإسلامية". ونحن نحاول أن نجعل منه خاتمة واستشراف لمناقشة وضعنا اليوم والثقافة الإسلامية، ضمن زخم ثقافي هائل. محاولا الحبابي رصد مكامن القوة في هذه الثقافة (الإسلامية) خاصة في القرون الأولى للهجرة، فتميزت في نظره بـ:

ـ المرونة والسلاسة، الأمر الذي جعل مباشرتها للحقائق التاريخية والمجتمعية أكثر ضمانة لحيويتها وانتشارها.

ـ الأساس المجتمعي الواسع.

فالحبابي من خلال هذا العنوان تطرق إلى السؤال التالي: هل نرجع أسباب هذا الانحطاط إلى عوامل داخلية، أي من داخل الثقافة الإسلامية والمرجعية التي تنهل منها، أم هناك عوامل خارجية هي المسؤولة عن هذا التراجع؟

 تعددت الإجابات على هذا السؤال، ومن بين هذه الإجابات ما قدمه بعض المشاركين في ندوة (بوردو) يعزون التدهور الثقافي الإسلامي إلى أسباب نابعة من الإسلام ذاته. إن وجهة النظر هذه قابلة للمناقشة، ولق ناقشناها في مكان أخر[15].  فأبرزنا بعض الأسباب الخارجية التي أدت إلى ذلك التقهقر.

أما الحبابي يعزي هذا الانحطاط إلى أسباب أغلبها خارجية وليس هناك أي مشكل في الدين الإسلامي، مثلا نجده يناقش فكرة "الصوفية"، وكيف أصبح هذا الفهم ينصرف عن العالم إلى حياة أشبه ما تكون بالرهبانية، ولانغمار في حياة الطرق والزوايا سار في اتجاه معاد لكل تطور ثقافي أو تقدم، فاختلفا ن قصد أو غير قصد مع توجهات القرآن والسنة[16].  مضيفا الحبابي بأنه منذ القرن السابع الهجري (الثالث عشر ميلادي) بدأ تدهور الحضارة الإسلامية، والأسباب هي الانغماس في الشكليات، عبادة الماضي (العادة) مع رفض التجديد (فصار كل إبداع بدعة)، وهنا نجد ضمنيا الحبابي يتحدث عن فهمنا للدين، أي أننا تركنا الأصول وتشبثنا بالفروع.

  ختاما يمكن القول، مع الحبابي بأنه لا يمكن أن تتحقق فعليا، أية حرية إلا إذا وعاها الإنسان كتحرر، لأن التحرر صيرورة وواقع حي يستمر في الفكرة التي نكونها عنه، أي في وعينا له. وهنا تبرز قيمة الفكر الفلسفي كفكر عقلاني يراوح وضع الإنسان بين العقلاني والروحي، بحيث يعمل على إعادة تقييم علاقات البشر بعضهم ببعض، وعلاقاتهم بالطبيعة. فالمعركة التي يحياها الكائن، هي دائما معركة من أجل التحرر ومن أجل حصد مزيدا من الحريات والكرامة، ليحقق استقلاله الذاتي.

الأولى.

الهوامش :

[1] ـ أعمال ندوة الفكر الفلسفي بالمغرب المعاصر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، مناظرات رقم 23، مقال أحمد ماضي، ص 31.
[2] ـ أعمال ندوة الفكر الفلسفي بالمغرب المعاصر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، مناظرات رقم 23، مقال أحمد ماضي، ص 34.
[3] ـ محمد عزيز الحبابي: "الشخصانية الإسلامية"، مكتبة الدراسات الفلسفية، دار المعارف، الطبعة الثانية، مصر 1964.
[4] ـ أعمال ندوة الفكر الفلسفي بالمغرب المعاصر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، مناظرات رقم 23، مقال أحمد  ماضي، ص 36.
[5] ـ محمد عزيز الحبابي: "الإنسان والأعمال" الجزء الثاني: الفيلسوف، مجلة رعاية الترشيح لجائزة نوبل 1991، الطبعة الأولى، ص 29.
[6] ـ محمد عزيز الحبابي: "من الحريات إلى التحرر"، مكتبة الدراسات الفلسفية، دار المعارف بمصر، 1972 ص 48.
[7] ـ محمد وقيدي: "حوار فلسفي"، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1985، ص90.
[8] ـ  محمد .ع. الحبابي: الشخصانية الإسلامية، ص11.
[9] ـ أنظر أفلاطون: هيبياس الصغير، ص375. نقلا عن الشخصانية الإسلامية، ص12,
[10] ـ محمد .ع. الحبابي: الشخصانية الإسلامية، ص 16.
[11] ـ نجد ذلك في عباراته مثل "كرم الله وجهه" و "الوجهاء". ص 18.
[12] ـ محمد .ع. الحبابي: الشخصانية الإسلامية، ص18.
[13] ـ محمد .ع. الحبابي: الشخصانية الإسلامية، ص 32.

[14] ـ محمد. ع. الحبابي: "الشخصانية الإسلامية"، ص86.
[15] ـ قول الحبابي: Etudes Méditer ranieennes 5, paris 1959
[16] ـ محمد. ع. الحبابي: "الشخصانية الإسلامية"، ص120.


قائمة المصادر والمراجع:

  •       القرآن الكريم.
  •        محمد عزيز الحبابي: "الشخصانية الإسلامية"، مكتبة الدراسات الفلسفية، دار المعارف، الطبعة الثانية، مصر 1964.
  •        محمد عزيز الحبابي: "من الحريات إلى التحرر"، مكتبة الدراسات الفلسفية، دار المعارف بمصر، 1972.
  •        أعمال ندوة الفكر الفلسفي بالمغرب المعاصر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، مناظرات رقم 23.
  •        محمد وقيدي: "حوار فلسفي"، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1985.
  •        محمد عزيز الحبابي: "الإنسان والأعمال" الجزء الثاني: الفيلسوف، مجلة رعاية الترشيح لجائزة نوبل 1991، الطبعة

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟