هانا أرينت و مارتين هيدجر: رسائل 1925 – 1975 ـ حميد لشهب

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

Arendt Heideggerصدرت مؤخرا عن دار النشر و التوزيع و الترجمة "جداول" ببيروت ترجمة كتاب: " هانا أرينت. مارتين هيدجر. رسائل. 1925 – 1975"، الذي ترجمه و قدم له الباحث المغربي حميد لشهب. و قد كان من الممكن أن يستمر هذا الكتاب في سباته العميق في الأرشيف الأدبي الألماني بمدينة مارباخ، لو لم تذكر إيلازبيث يونغ بروهل Elisabeth Young-Bruehl عام 1982 في كتابها " For Love of the World" هذه العلاقة الغرامية التي كانت معروفة للعموم، وذكرت بأن تبادل الرسائل بينهما مُوَثق وموجود، لكنه محتفظ به في سرية في هذا الأرشيف. بعد ذلك نجحت إلزبييتا إتينغر Elzbietta Ettinger، عام 1995، وكانت تكتب كتابا عن حياة أرينت في معاينة هذه الرسائل، و قررت أن تنشر في نفس السنة في سلسلة "بايبر Piper" كتابا بالألمانية يحمل عنوان: "هانا أرينت- مارتين هيدجر: قصة". وبما أن الصورة التي رسمتها في هذا الكتاب عن هيدجر كانت سيئة للغاية، فإن ابنه الغير البيولوجي هيرمان Hermann، الوارث الشرعي لحق التصرف في الإرث الفكري لوالده، قرر أن يضع هذه الرسائي في متناول الجمهور.


قد لم يُكتب لأي كتاب لأرينت و لهيدجر أن يعرف هذا الإهتمام الواسع الإنتشار، بل الكاسح، مثل الكتاب الذي نشر في تبادل الرسائل بينهما على الصعيد العالمي وفي مدة قصيرة جدا. اهتمت به السينما، المسرح، الندوات، حلقات الدراسة، الصحافة المتخصصة، وتلك الموجهة لجمهور عريض من القراء، الخ.

ما دفع بهانا أرينت للذهاب إلى كونيكسبريغ في خريف 1924 هو عطشها الفلسفي والإشاعات التي كانت رائجة حول "إمكانية تعلم التفكير" في جامعة هذه المدينة على يد فيلسوف شاب. لم تكن تعرف في ذلك الوقت أن الحب والفلسفة سيجمعهما إلى أن يفرقهما الموت، على الرغم من سنوات النازية التي أبعدتهما عن بعضهما البعض فكريا وفيزيقيا. وفي هذا الإطار يطرح سؤال جوهري بحجم العلاقة التي جمعتهما: ما هي القوة الخارقة التي سمحت لهما بإعادة ربط العلاقة، وهي الصهيونية الملتزمة، مع مفكر كان يؤمن بأن دور النازية في التربية من شأنه أن يحقق إنسانا جديدا؟ أكان هو الحب؟ الفكر؟ الفلسفة؟ أم شيئ أعمق وأثقل من هذا؟ وما عسى أن يكون هذا الشيء؟

ما يختفي وراء "رجوع المياه إلى مجاريها" بين فيلسوفة مقتنعة بالنموذج الأمريكي في السياسة، والتي كانت ترى بضرورة تطبيقه في أوروبا، وفيلسوف اختار العزلة والتأمل، بعدما خسر، ليس فقط حبيبته، بل مريديه وزملاءه في العمل، وبالخصوص ياسبرس - مع من ربط علاقة صداقة إنسانية وفكرية، كانت ركيزة الإتجاه الوجودي في الفلسفة –، كان هو وعيهما بأن ما حصل في أوروبا – حربين عالمتين مدمرتين- لم يكن إلا نتيجة لمناخ فكري وسياسي، حيث كانت تتضارب المواقف الفكرية والمصالح السياسية، وإيمانهما العميق بإمكانية تحقيق بداية جديدة.

ما جمعهما فكريا هو وعيهما بضرورة القطع مع التراث الموروث، كل بطريقته: أرينت بدفاعها عن فكرة ضرورة وصول أو نزول الفكر إلى العالم والإهتمام بالإنسان كإنسان في ضعفه و تجاربه ومحنه، أي فلسفة سياسة جديدة. بينما اختار هيدجر الخطاب الفلسفي Gelassenheit، في اجتهاد منقطع النظير من أجل إنقاذ الفلسفة من براثن تقليد ميتافيزيقي، أضر بها أكثر مما خدمها وتجديد عمل الجامعات.
هربت منه بعد سنتين تقريبا (من ماربورغ إلى هايدلبرغ)، لكي تثير رغبته أكثر، لكنها كانت ترجع إلى ماربورغ كلما طلب منها ذلك وناداها بالإسم المستعار الذي كان يطلقه عليها (حورية الغابة) وكأنها كانت مجرورة مغناطيسيا إليه، وهي التي كانت تلقبه بـ (قرصان البحر). بعد ذلك أرادت أن تثير غيرته عندما أخبرته بأنها تنوي الزواج من أحد تلامذته غونتر شتيرن Günter Stern، لكنه لم يحرك ساكنا، بل تمنى لها السعادة. وتم الزواج، و مع ذلك استمرت العلاقة بينهما، إلى أن انقطعت لمدة سبعة عشر سنة تقريبا، بعد انضمام هيدجر للحزب النازي، قبل أن يغادره من جديد.

في خريف 1949 رجعت إلى ألمانيا ولم تكن ترغب في مقابلة هيدجر على المستوى الواعي. قالت لزوجها شارحة: "لا أعرف ماذا سأعمل، لكن لا أعتقد بأنني سأذهب لأراهم... لا يعرف بأنني هنا، وعلى كل حال، يتهيأ لي بأنه لا يهتم بلقائي في هذه اللحظة...". كانت إذن مشغولة به على مستوى اللاوعي، بحيث حصلت على عنوانه من هوجو فريدريك Hugo Friedrich وفي يوم 7 فبراير 1950 كانت في فرايبورغ. التجأت إلى صديقتها ميري ميك ِكارثي التي كانت في باريس لتطلب منها أن تخبر هيدجر بأنها في فرايبورغ. لكن صديقتها أبت ذلك، وهذا ما دفعها إلى تكليف عامل في الفندق، الذي كانت نازلة فيه، مقابل خمسة دولارات لكي يوصل رسالة لهيدجر، مؤكدة له أن يسلمها له شخصيا وليس لزوجته أو لأي أحد كان، واعدة إياه بخمسة دولارات إضافية إذا نجح في المهمة.

ونجح عامل الفندق في المهمة وحضر هيدجر إلى غرفتها في الفندق، بعدما فقدت الأمل في حضوره، ووقف أمامها، ، والعبارة لها، مثل "كلب من فصيلة البودل". وهكذا بدأ كل شيء من جديد، اللهم أن زوجته كانت تعلم هذه المرة، إذ سبق له أن اعترف لها بالأمر.

ووقع ما لم يكن في الحسبان عندما اجتمعت إلفريدا وهانا بحضور هيدجر، وكانت رغبة هيدغر هي أن تترسم علاقته مع أرينت بموافقة زوجته. لم يكن اللقاء سهلا ولا رومانسيا، بل متشنجا للغاية، ويمكن للمرء أن يتصور حالة هيدجر أمام "الإلهتين المتصارعتين" على "الإيروس، أقدم الآلهة الإغريق". وتفيدنا الرسالة التي بعثتها أرينت إلى زوجها عن هذا اللقاء، بأنه لم يكن لقاء وديا ولا حبيا: "لقد كان هناك هذا الصباح نقاش مع زوجته من جديد – وهي تعرف منذ 25 سنة بهذه القصة – وتجعل من حياته جحيما. وقد أنكر، وهو أكبر الكذابين العنيدين، طيلة الخمسة و العشرين سنة هذه – على الأقل هذا ما يتضح من مناقشة شاقة بيننا نحن الثلاثة، بأن هذا كان أكبر شغف في حياته. أعتقد بأنني ما دمت على قيد الحياة، فإن زوجته مصممة على إغراق كل اليهود. لا يمكن للمرء عمل أي شيء، إنها سخيفة سوداء. لكن سأحاول أن أرتب الأمور في حدود الممكن".

كانت زوجة هيدجر متسلطة كأخت نيتشيه مع هذا الأخير. ومع ذلك وعلى الرغم من مغامراته الغرامية المتعددة، وعلى الرغم من أنها وهي متزوجة به حملت بابنها الثاني هيرمان من صديق شبابها الطبيب فريدل سيزار Friedel Ceasar عام 1919، وعلى الرغم من علمه بهذا؛ فإنها بقيت معه، قابلة على مضض أن تكون "رئيسة حبيباته". ولعل ما كان يشفع له هو أنه اعترف لها بخياناته المتعددة، وإرجاع ذلك إلى الإيروس Eros، الذي يضربه بجناحيه كل مرة: " إن رفرفة هذا الإله تضربني كل مرة عملت فيها خطوة مهمة في تفكيري ويقودني إلى المسارب غير الآهلة".
أصبحت العلاقة إذن بين "المتنافستين" على "الإيروس الهيديغيري" رسمية. وأصبحت اللقاءات بين أرينت وهيدجر تتم رسميا، مرة بحضور زوجته ومرة دونها، لكن كانت هناك لقاءات سرية بينهما. ولم يخل هذا الترسيم من غيرة من الجانبين، فها هي أرينت ساخطة على إلفريدا، التي كانت تعتبرها كغير مثقفة وغير مبالية بمهنة زوجها. لكن هيدجر كان ملحا على ترسيم العلاقة و لم يكن مستعدا للتضحية بزوجته. قبلت أرينت واقع الأمر ممن كانت تعتبره "الملك السري في مملكة الأفكار" و لمن تضرعت لكي لا ينساها و أكدت له عام 1929: "سأفقد حقي في الحياة لو فقدت حبي لك".

بعد الستينيات من القرن الماضي نكتشف وجها آخرا لأرينت في علاقتها مع هيدجر. أصبحت المنسقة لترجمات كتبه إلى الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية، بل ممثلة غير رسمية له في كل هذه الأمور، الحبيبة المقدمة للنصيحة في أمور بيع مخطوطاته والمتلهفة للقائه كل مرة زارت فيها أوروبا والمناقشة لأفكاره وأطروحاته. أما هيدجر، فيظهر وكأنه استفاق من سبات عميق، و بدأ يهتم بكتابات أرينت وبرامج عطلها وصحتها وينصحها بالعمل في هدوء وينتظر كل مرة رجوعها من أمريكا ليشربا نخب شكر على رجوعها سالمة إليه.

ويبقى السؤال المحير هو: أي سر إذن يختبئ وراء استمرار العلاقة بين الاثنين رغم كل هذه الاضطرابات و الإنقطاعات و خيبات الأمل. أساهم تصور أرينت للحب و اهتمامها به في أطروحتها في تعلقها به بعماء نفسي وروحي؟ أي شيء أحبت فيه وهو الذي يعتبر عند البعض كومة من خيبة الأمل والرسوب والعناد وعدم الثقة، كما زعم ذلك المحلل النفساني فيشر.

إن "تبادل الرسائل بين هانا أرينت و مارتين هيدجر" يشبه إلى حد ما طريقا سيارا يدور حول مدينة كبيرة ولهذه المدينة مداخل عدة آهلة بالأفكار والعواطف. حاولت تخصصات فكرية وإبداعية كثيرة أخذ المخرج الذي يلائمها لسبر أغوار هذه المدينة، وظلت الفلسفة غريبة نوعا ما عنها، لم يتجرأ على دخولها إلى حد الآن أي فيلسوف، اللهم بعض الشذرات من هنا وهناك. لم يحاول أي فيلسوف بناء نسق فلسفي على الرمال المتموجة والسراب الحارق الوهاج والأهوج للحب كمطلب حياتي وجودي، وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل المفكرين والفلاسفة يتحدثون عن الحب بحذر كبير، حتى وإن كان بعضهم قد عاش قصصا حب كادت أن تذهب بعقولهم. إذا كان باسكال قال فيما معناه أن للقلب عقلا لا يعرفه العقل؛ فقد نقول بأنه لربما للحب عقل لا يعرفه القلب. و نقترب هنا كثيرا مما قاله أفلاطون في كون منبع الإيروس والفلسفة هو واحد.

ما قد يهم الفيلسوف في اهتمامه بأفكار هذه الرسائل لن يكون شيئا آخر غير "مفهوم الحب" نفسه في بعده الفلسفي المحض. باستثناء رسالة أطروحتها، لم يخصص لا هيدجر ولا أرينت أية دراسة قائمة بذاتها للحب كنشاط فلسفي. لا يتعلق الأمر إذن بنسق فلسفي قائم بذاته في أعمال الإثنين، بل بما يمكن للمرء أن يستشفه على ضوء هذه الرسائل ومن خلال الشذرات الكثيرة في ما نشراه في كتابات أخرى. إن الحب ليس فقط دافعا غريزيا، إيروتيكيا عندهما، لكن له تأثير بنيوي في تفكيرهما.

عندما يتمعن المرء بأناة أسلوب هيدجر في رسائله لأرينت، فإنه يكتشف بأنه يعطي لمفهوم الحب معاني كثيرة، لها علاقة قوية بموقفه الفلسفي الأساسي: حب الآخرين Liebe zum Anderen، الحب كإرادة عارفة  Liebe als wissender Wille، الحب كحدث  Liebe als Ereignis، حب الكينونة  Liebe zum Seinوأخيرا الحب كسماح بالكينونةLiebe als Seinlassen .
بما أن هيدجر كان يطمح إلى هدم الميتافيزيقا التقليدية، فإن هذه المعاني – لنقل ميادين الحب- كانت هي سلاحه ليزعزع تصور أغسطين للحب في مضمونه المسيحي المعتق. لكنه يسقط في كل هذا في تحديدات متناقضة للحب كرغبة وكإرادة الوجود/الكينونة. عندما يفهم هيدجر الحب كإرادة، فإنه يعتقد بأن من يفكر في هذه الإرادة قد يتفاجأ بأنها قد تصبح واقعا وتدخل في حقيقة وجوده. لكن، لا تعني الإرادة مفهومة هكذا، بأنها آلة تصعيد ولا يجب أن تقود إلى الخضوع الأعمى. ومن المعروف أن التعبير القوي للإرادة العارفة عنده، تجد جذورها في مقولة أغسطين: "Volo ut sis"، والتي يعطيها دائما ترجمات معدلة: إنني أريد أن تكون، أن تصبح، ما هو أنت. ويقود هذا إلى "الإخلاص Hingabe" و"السماح Seinlassen". وهما مفهومان متناقضان في العمق. يصبح "الإخلاص" كهدية للآخرين. ولعل الأمر يتعلق هنا بصياغة معادة لـ "إنني أريد أن تكون، من أنت وكيف أنت"، طالما أن الهدية للآخرين تتمثل في: "الإجابة بالإيجاب عن وجوده هكذا Sosein وعن Daβsein". وقد سمى هيدجر هذا بـ "اللامبالاة الميتافيزيقية" للحب، الذي لا يمكن أن يكون ممكنا إلا: "على الأساس الداخلي، العمق الجوهري، لوجود الحرية". إننا نحرر أنفسنا بأنفسنا: بـ "عتق ما له كرامة في ذاته". وهنا نلمس إلى حد ما مفهوم الباتوس الأرسطي. والنتيجة هي أن الحب لا يبرهن على نفسه كشكل من أشكال الوجود مع Mitsein، والذي لا يتصارع داخليا مع الفعلي الخاص، لكنه يتيح هذا الأخير.

إذا كان حدث الحب هو دخول الجديد في الكينونة، وإذا قُدم الحب كـ "حالة طوارئ"، فإن الذي يفاجأ هو كون الجانب المهدد لهذا الدخول، يعني أن التصعيد الذاتي للذات يهدد، لا يدخل مجال الرؤية/المراقبة، أو كما عبر هيدجر نفسه على ذلك في إحدى رسائله لأرينت: "لا توجد هناك أية نفس يمكنها أن تتحكم في دخول حضور الآخر في حياتنا"، و لهذا السبب، فإنه ينصح بالاحتفاظ بهذا الحدث في الذاكرة. إلى هذا الحد، يمكن اعتبار تفكير هيدجر في الحب، من خلال رسائله لأرينت، بمثابة مقدمة طليعية لفلسفته بعد الإنعطاف die Kehre. ويعني هذا بأن تجربة الحب تعبر عن نفسها عنده من خلال رسائله تلك، وهي تجربة لا توجد في كتاباته المتقدمة، وهي التي تعبد له الطريق فيما يخص مواقفه الفلسفية المتأخرة.

يتأسس مفهوم الحب عند هيدجر في نظر البعض في "الكينونة و الزمن" على تعاليم أرسطو، لوثر وعلى مصادر العهد الجديد. ونلمس هذا في دراسة هيدجر حول أرسطو وأغسطين بين 1920 و 1926، وهي دراسة تسمح بفهم جيد بأن الأمر يتعلق في الكينونة و الزمن بمفهوم الحب. وحتى وإن كان هيدجر لا يستعمل كلمة "حب" مباشرة و صراحة، فإنه يشير إليها ضمنيا بمصطلحات مثل "الإهتمام" والعناية، والوجود مع الآخر والممتاز والجيد. ويعتبر الإهتمام حبا بالأساس. أن يحب المرء، معناه الرجوع إلى الكينونة الأصيلة في ذاتها. لا يعفي الحب المحبوب من الهموم، بل يحمل هذه الهموم له. ذلك أن قرار حب شخص ما هو قرار يفتح الطريق للمرور من الإهتمام إلى الهم، وهذا الأخير هو بالنسبة لكل وجود هنا Dasein كينونته ذاتها. إن الهم ليس هَمّا للذات، بل إنه هو بالضبط ما يحرر الذات.

في محاضرته المخصصة لأغسطين والأفلاطونية المحدثة، يقول هيدجر معلقا على أغسطين: "للحب الحقيقي ميل أساسي للتوجه نحو dilectum ut sit" ويضيف في "فلسفة الحياة الدينية، ص 333": إن هدف الحب الذي نتقاسمه في العالم المعتاد هو مساعدة الآخر الذي نحب للوصول إلى الوجود، بطريقة يجد نفسه بنفسه". وهنا نلمس من جديد محاولة هيدجر "هدم" المفهوم الإغسطيني وتحريره من الدين، بذهابه مباشرة إلى مفهوم dilectio لأغسطين، لأن حب الآخر عند هذا الأخير لا يمكن أن يتم كحب حقيقي، إلا على أساس الـ dilectio Dei. وهذا الحب الذي يحرر ويعتق المحبوب من استبداد "الْمَانْ man (أحد ما)" ويرجعه إلى قوة-وجوده، هو في نفس الوقت هدم  الفيليا philia الأرسطية.

من خلال ما قيل، يمكن التأكيد بأن محور تصور هيدجر للحب ليس هو الآخر في اختلافه Anderssein الفعلي، لكن اختلافه هو (أي هيدجر). ما هو أكيد هو أن "الحب الراعي" عند هيدجر متطابق مع تذكار الكينونة An-Denken des Seins. و بهذا يصبح التفكير و الحب أشكالا مختلفة لكون: "الإنسان هو راعي الكينونة". إضافة إلى هذا، فإن حب هيدجر لا يعني إنسانا محددا، لكن الالتقاء عند الحقيقة.

إذا كان تفكير هيدجر في الحب يعكس إجاباته المختلفة حول إشكالية معنى الكينونة، فإن أرينت تنطلق من الإشكالية الخاصة لمكان الحب، الذي لا يعتبر عندها السياسة فقط. إن "الحب كوجود بين البشر" هو البديهية التي تؤسس عليها أرينت مفهوم الحب، ويعني أنها ترفض تقليص الحب إلى سعادة فردية ذاتية. إن الحب بالنسبة لها ليس إحساساً إرادياً، بل "حدث Ereignis" يمكن أن يقع لشخص ما. إلى هنا نلمس التوافق بين أرينت وهيدجر، لكنه توافق ظاهري فقط، ذلك أنها اهتمت نقديا في أطروحتها عن أغسطين بمفهوم "حب الآخر" في معناه المسيحي. و قد قادها اهتمامها بأغسطين إلى اكتشافٍ بقي في الظل، ويتمثل في تأكيدها بأن أفكار "الكينونة والزمن" متأثرة إلى حد بعيد بالأغسطية. والنتيجة هو أن ما يجمع هيدجر و أغسطين هو "التركيز على الذات في ثوب ميتافيزيقي"، وإذا فهم المرء الأمر هكذا، فليس هناك عندهما حب للآخر، بل حب للنفس. وبهذا ترى أرينت بأن ما يجمع هيدجر وأغسطين هو "الأنانية في ثوب ميتافيزيقي". يعني أن المحبوب ليس هو الشخص الآخر، لكن الحب ذاته. تقول في هذا الإطار: "لا أحبه هو، لكن شيئا فيه، ليس موجودا فيه".

اهتمت أرينت في تعرضها لمفهوم الحب، بما اهتم به هيدجر أيضا، ويتعلق الأمر بـ "volo, ut sis"، وأعطته معنيين احتمالين: قد يعني هذا: أريد أن تكون كما هو أنت بالفعل/في الواقع/حقيقة، بحيث إذا كنت أنت في جوهرك، فإن هذا ليس حبا، لكن إدمان على الرغبة في التسلط. لكن يمكن أن يعني هذا كذلك: أريد أن تكون كما كنت، يعني عارفا، لك ثقة إلخ.

بالفعل، فقد كان لهانا أرينت تصورا خاصا عن الحب: "إن الحب من طبيعة غريبة على العالم، ولهذا السبب، وليس بسبب قِلَّتِهِ، فإنه ليس فقط غير مُسَيَّس، لكن ضد السياسة، قد يكون أقوى من كل القوى الضد سياسية". وتضيف: "إن الحب لا يهتم بما قد يكونه الشخص المحبوب، بمزاياه و مساوئه كما بنجاحاته ...".

هذا التصور الذي قد يسمى"الحب من أجل الحب"، بكل تجلياته الروحية والوجدانية والنفسية والغريزية إلخ في أسمى معانيها الإنسانية هو ما جعل أرينت تهيم حبا وعذابا في هيدجر، وهو حب خدوم، فاهم وشكور: "علمني هيدجر أن أرى العالم و أفهمه ... لقد قادني إلى ذاتي نفسها. وينطبق هذا على التفكير وعلى الإحساس ... لقد أيقظني هيدجر في كل المعاني للحياة". وتضيف: "إنني مدينة لهيدجر بكيف أنا وكما أنا، إنني مدينة له بكل شيء".

قد يدخل مفهوم الحب في إطار محاولة تصدي هيدجر للعدمية المحققة، التي اختزلت الحب في ممارسة جنسية مفتوحة، تستغله كسلاح الدمار الشامل. إذا سلمنا بذلك، فإننا نكون في عمق ما يمكن أن نتعلمه من "تبادل الرسائل بين أرينت وهيدجر" عن فكر كل واحد منهما، وبالخصوص تكميل معرفتنا بهيدجر. ما نستشفه في هذا الفكر، هو أنه لا يمكن قبول أي شيء في ومن الزمن الذي نعيشه دون تأمل الخط الذي يفرق بين العالم القديم والعالم الجديد. طبقا لهيدجر، يجب تركيز التفكير على خط التماس هذا، وليس على ما ورائه أو ما تحته. وهذا التركيز هو الذي يضمن لنا عدم تخطي هذا الخط الفاصل. لا يتعلق الأمر إذن بفاصل زمكاني، لكن بتعيين الحدود. فالكينونة لم تغب وتضمر في تاريخ التفكير على مر العصور، كما غابت في عصرنا. وهذا الخط الفاصل هو العدمية، كما يقول هيدجر: "إن ميدان العدمية المكتملة، يرسم الحدود بين عصرين للعالم". لم تكن القوة في العالم القديم، في نظره، تقود إلى الهدم والمراقبة، وفيه تطورت أعمال الجمال والحقيقة. أما العالم الجديد، حيث تطورت الأخلاق النفعية وخضعت لعقلنة حمقاء، فإنه تحقق في الهدم.

تحذر طريقة التفكير الأنطو- ثيولوجية من مغبة السقوط، ونحن نفكر على الخط، في تمجيد/الحنين إلى الماضي أو الإعتقاد اللامحدود في مستقبل زاهر، أو حتى أخذ مكان يانوس Janus الأسطوري، الذي كان له وجهان، يمكِّنانه من رؤية الماضي و المستقبل. ذلك أننا لا نتخلص بهذه الطريقة من براثن العدمية، بحيث أن الهروب إلى الوراء أو إلى الأمام، يحرمنا من التفكير في هذا الخط الفاصل بينهما. لذا، على كل فيلسوف- شاعر أن يقف على نقطة الصفر، لكي يُسائل جوهر العدمية عوض محاولة الهروب، لأن هذا الأخير ما هو في نظر هيدجر إلا خطأ لا يُغتفر.

كيف يمكن إذن المحافظة على وجهي اليانوس Janus، دون هدم واحد على حساب الآخر؟ يجيب هيدجر في كتاباته المتعددة، بأنه لا حرج في الرجوع إلى العقل، لكن شريطة أن يتساءل المرء من جديد عن عقل العقل. وأول ما يجب القيام به هو ليس فقط التعرف في هذا التجلي أو ذاك للعالم على جوهر العدمية، لأن ذلك يقودنا مباشرة إلى الدائرة المغلقة للعدمية، وبالتالي إلى التهلكة. إن العقل الأداتي النفعي، السائد في العالم المعاصر، لا يقبل بأية طريقة من الطرق الإستغناء عن التعاريف وعن التمييز. إن هذا العقل يحتفظ في ذاته بهذا السلاح، لكنه ليس سيد هذا السلاح، وبهذا فإنه محروم من حق امتلاكه، وهذا ما يعبر عنه هيدجر بحرمان العقل المعاصر من الدقة الأنطو- ثيولوجية.

إذن، إن التركيز على الخط في حد ذاته هو التعرف على مواطن إخفاق العقل. و لا يعني هذا الإخفاق السقوط في اللاعقل، بل اعتبار العقل واللاعقل كشكلين للخرافة، التي تعني العلامة التي تعيش بعد اختفاء المعنى. وكالخرافة الدينية التي تسجن الثيولوجيا في جهل فضيلة الشفاعة لرموزها الخاصة، فإن الخرافة العقلانية تسجن العقل في جهل أصله/مصدره و مصيره و تقوقعه في جنونه الخاص في التنطيم. وما ينبه له هيدجر بوضوح هو الانتباه إلى أن المرء في غالب الأحيان لم يعد قادرا على التمييز العقلي واللاعقلي بطريقة دقيقة، و لهذا يُتهم التفكير بتهمة عدم تمكنه من البقاء خارج منطق الإختيار بين إما و إما، أي بين العقل أو اللاعقل.

على من يركز على الخط الفاصل بين الماضي و المستقبل، بين العقل و اللاعقل أن يهتم بجمع ما بين الرموز intersignes، التي لا تخضع لسيطرة لا العقل التنظيمي ولا اللاعقل. وتظهر أكبر صعوبة عندما يرفض التفكير اقتراح بديل و يرفض الحل الوسط. إذن، لا يجب التركيز على منطق إشفائي يهتم بالأعراض والأسباب، بل من اللازم أن ينصب التركيز على نية المعافى، الذي لم يجد له هيدجر أية تسمية من غير التأمل والصلاة، وملء هاتين الكلمتين بمعنيين جديدين.

إن التركيز على الخط الفاصل الهيديجيري يفتح للعقل الذي يتساءل عن إمكانيته الذاتية أفاقا ليست لها أية علاقة بالماضوي، بل إنه نوع من عدم رفض الرؤية. ومن بين ما رآه هيدجر هو أن الإنسان المعاصر، الذي لا يؤمن إلا بفردانيته وجسده، لا يهمه شيء آخر من غير أمن جسده، ولم يعد يميز بين الأحياء والأموات. و يتجلى هذا في عدم تأثره في عصر "العقل و الديمقراطية و التقدم" بقتل الملايين من البشر، بقدر ما تؤثر فيه حرب قديمة. فروح العدمية بهذا المنطق لا تعمل على هدم نفسها، بل على هدم الآخرين، لأن النزعة الفردانية، التي تحولت إلى أنانية عدوانية للعدمية المجردة - حتى في العقل الوضعي التنظيمي الذي يعتبر ابنها الشرعي- هي النتيجة المنطقية التي أوصلت إليها العدمية. و هذا مغاير تماما لمنطق أباطرة الصين القدماء، الذين كانوا واعون بأن أسلحتهم هي أكبر عدو لهم.

طبقا لهيدجر، فإن المُرَكِّز على الخط الفاصل لن يجد مأمنا له إلا في المكان الذي يكون فيه أكبر خطر. وهذا الخطر بالذات هو الذي يقود ويحفز على طرح سلطان الأسئلة، المتمثل في إشكالية الطريقة التي قد تمكن من الخروج من المأزق الذي أوصلتنا إليه العدمية.

قد يكون تجاوز الميتافيزيقا من بين الحلول لهذه الإشكالية، على الرغم من أن هذا المطلب الملح لهيدجر فُهم خطأً، وبالخصوص من طرف بعض الفرنسيين، وبالأخص الماركسيين منهم، لأن تجاوز الميتافيزيقا عند هيدجر، يعني في آخر التحليل تتويجا لها، لأن ما كان يهمه لم يكن هو التحرر من الميتافيزيقا، بل تحرير الميتافيزيقا، بوضع الكينونة تاجا على رأسها. لا يعيب هيدجر على الميتافيزيقا كونها تتساءل عن الجوهر، لكنه يفرض عليها أن تتساءل عن جوهر استعمالها الخاص للعقل. في مقابل الميتافيزيقا الثيولوجية و العلمإنسانية و الدياليكتيكية والتقنية والمادية الماشية للإندثار، يتساءل هيدجر أساسا عن هذا الإندثار نفسه. هناك إذن حسب هيدجر طريقان لتجاوز الميتافيزيقا في معنى تتويجها: الأول من التحت (المادية) والثاني من الفوق، وهو الذي يهتم بالتتويج.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟