بصدد العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي لجان جاك روسو ـ المختار منودي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

rousseauمـقدمـــة:
يعرض هذا البحث على نحو وجيز أهم الأفكار والتصورات المتعلقة بالعقد الاجتماعي وبالفلسفة السياسية عامة التي ضمنها روسو في بحثه الشهير: العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي. الأكيد هو أن هذا البحث قد فتح افاقا جديدة للبحث والتنظير والممارسة في حقل الفلسفة السياسية فبقدر ما تميز هذا البحث عما سبقه من بحوث أخرى حول العقد الاجتماعي بقدر ما مثل استمرارية نوعية لكل التراث النهضوي والتنويري على نحو عام. إن جدل التواصل والتفاصل هو وحده الكفيل بجعلنا نتقصى المسألة في حدودها الاستمرارية والقطائعية.
إن فلسفة جان جاك روسو السياسية لا تنفصل عن السياق التاريخي للقرن الثامن عشر؛ فقد شكل إلى جانب مجموعة من المفكرين تيارا فلسفيا، يعكس على نحو نظري مصالح تيار اجتماعي في طور التشكل والبروز، ونعني هنا الطبقة البرجوازية التجارية الصاعدة، يعنى بإحلال المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية أمام جبروت الحكم المطلق وأما الوصاية التي تفرضها الكنيسة على الإنسان ؛ إذ أن الخيط الرابط الذي يجمع الأدبيات التنويرية هو التنظير للفكر البرجوازي ولنظامه الذي بدأ يتبلور شيئا فشيئا، إذ أن معظم فلاسفة الأنوار قد وضعوا صوب اهتماماتهم نقد وتقويض دعائم النظام الاقطاعي الذي سيطر على الحياة العامة في جميع المستويات الاقتصادية والسياسية .


وتبرز هذه الملاحظة في طبيعة الأبحاث التي أنجزها مفكرو الأنوار، وكذا المقالات التي نشروها في هذا السياق الموضوعي. ولقد حاولنا في المحور الأول المتعلق بالسياق الموضوعي لفلسفة جان جاك روسو السياسية أن نتقصى الشروط الموضوعية: الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية لفلسفته السياسية ليتسنى لنا فهم جدة روسو على نحو مادي تاريخي.

أما المحاور الأخرى فلقد تفرعت انطلاقا مما كتبه جان جاك روسو في كتبه الأربع انطلاقا من المواضيع التي تناقشها هذه الكتب. فلقد ناقش كتابه الأول الاشكال النظري الرئيس المتعلق بالعقد الاجتماعي، أما كتابه الثاني فقد تطرق الى مفهوم السيادة، ثم كتابه الثالث الذي يدور حول أشكال الحكومات السياسية، ناهيكم عن كتابه الرابع الذي يعرض فيه روسو تصوره للدين المدني.
أولا: في السياق الموضوعي للإيديولوجية الديمقراطية الراديكالية:
صدر كتاب العقد الاجتماعي، الذي هو موضوع بحثنا وقراءتنا سنة 1762. ولقد قضى فيه روسو عشرين سنة أو أكثر في تأليفه، ويجمع أغلب دارسي وشارحي نظرية روسو السياسية أن بوادر هذا البحث الجنينية تعود الى الستة التي قضاها في البندقية حيث كان سكرتيرا لسفارة فرنسا بالمدينة الايطالية، فإلى هذه الفترة بالذات يعود بحثه المعنون ب: «Institutions politiques».

وإذا كان الباحث والمؤرخ إريك هوبزباوم قد حدد الحقبة الممتدة من سنة 1789 الى غاية سنة 1848 بحقبة الثورة، أو انطلاقا من عنوان بحثه، عصر الثورة، فإن جان جاك روسو، وتأثرا منه بالأحداث الواقعية التي كانت تقع آنذاك ضمن نطاقه القومي وخارجه، قد كان أحد أبرز الممهدين الفلسفيين لعصر الثورة. إن ما يميز عصر روسو، العصر الأوربي الحديث، هو ذاك الاتحاد العضوي الفريد الذي تم على نحو تراكمي طبعا بين المصالح الحيوية: الاقتصادية والسياسية للطبقات التجارية الصاعدة وبين الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية والميكانيكية الجديدة. هذا مع التأكيد على عناصر أساسية ورئيسة أخرى من قبيل: التوسع السريع للمدن الأوربية مع بدايات القرن الثاني عشر، نمو الصناعات والحرف، التحسينات والاصلاحات التي حصلت على أدوات الإنتاج عموما والانتاج الحرفي على نحو خاص، صعود الطبقات التجارية وتشكلها كقوة اقتصادية واجتماعية منظمة وواعية، بالإضافة الى تصاعد الاهتمام بالاكتشافات العلمية والاختراعات الميكانيكية الجديدة، نقول، على نحو أكثر من الدقة، إن احتلال العلم الموقع الحيوي والحاسم في حياة الحضارة الرأسمالية الاخذة في التشكل كان له تأثير عظيم على بلورة الفلسفة الحديثة، كما على مجمل الصراعات والتطورات الفلسفية منذ عصر النهضة.

إن الفكر السياسي الحديث، الذي بدأت بوادره الفلسفية والايديولوجية مع كتاب "الأمير" لميكيافيل هو نتاج السياق النهضوي والتنويري بما يحمله من وضعيات اجتماعية واقتصادية مشخصة ومن احتمالات وامكانات لتجاوزها ونفيها. فالاستناد على القول بأن مجال السياسة هو أولا وقبل كل شيء مجال صراع بين المصالح المادية المتباينة، وعلى ضرورة التشبث بالمبدأ العقلاني الذي يفيد بعدم وجود أي حجة تعلوا وتسموا فوق حجة العقل، وبالمبادئ البراغماتية في صيغتها الجنينية قد عبر على نظري، سياسي على نحو خاص، على وضع الطبقة البرجوازية ضمن المجتمع الاقطاعي بما هي طبقة صاعدة وفي طور التشكل.
إننا نجد جان جاك روسو يعلن ضمن كتابه العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي ما يلي:
« C’est ce que Machiavel a fait voir avec évidence. En feignant de donner des leçons aux rois, il en a donné de grandes aux peuples. Le prince de Machiavel est le livre des républicains.[1] »

إذا كان ابن خلدون، ضمن كتابه الشهير المقدمة، قد خطا خطوة عظيمة، إن لم نقل إنه قد أنجز على نحو عظيم مهمة تحرير الفكر التاريخي من وطأة الفكر الديني، بأن استبدل كل المفاهيم الغيبية من قبيل مفهوم "الله" عن نطاق البحث في التاريخ الذي لا يستقيم دون البحث في العمران، معوضا اياه بمفهوم ضرورة العمران: «La nécessité de la civilisation» فإن ميكيافيل قد بدأ مهمة تحرير الفكر السياسي من الفكر الديني، مما يجعله انطلاقا من تقصي ظروفه الموضوعية، مساهما في التأسيس للعقلانية السياسية الحديثة وللإيديولوجية الديمقراطية العلمانية، فكان عن حق كتابه "الأمير"، وكما بين لنا ذلك روسو انفا، كتابا للجمهوريين قدم أعظم الدروس الى الشعوب، انطلاقا من كونه عرى، إن صح التعبير، السياسة، مجليا اياها على حقيقتها بما هي ميدان الصراع الواقعي. إن التفريط بهذا المنطلق المنهجي المادي الذي ينطلق منه روسو في مقاربته لميكيافيل لن يمكننا من فهم واقعة تحريم كتاب الامير في بلاط روما.

إن نظاما عالميا ما كان من الممكن ان يتأسس على نحو تام إلا في حقبة كل من كولومبوس وماجلان، حيث قام التجار وقادة الحملات الوافدة مما يسمى ب "العالم القديم" في اوراسيا وافريقيا باكتشاف ما سمي ب "العالم الجديد" في نصف الكره الغربي والعمل على غزوه. وحين تمت عملية الدوران حول الأرض بحرا، على مدى قرون، هيمنت على التاريخ أحداث وتطورات اقتصادية وسياسية وثقافية وفكرية نابعة من أوربا.

لقد كانت فرنسا طوال القرن الثامن عشر المنافس الاقتصادي الرئيسي في الساحة الدولية لبريطانيا. وأثارت القلق تجارتها الخارجية التي تضاعفت أربع مرات في الفترة بين العام 1720 والعام 1780، وكان نظامها الكولونيالي في مناطق معينة (مثل جزر الهند الغربية) أكثر دينامية من النظام البريطاني. بيد أن فرنسا لم تكن في قوة بريطانيا، التي سبق لمصالح التوسع الاستعماري ان حددت جوهرياسياستها الخارجية. فقد كانت هي الدولة الأقوى، الممثلة، في أكثر من ناحية، للنموذج الجلي للملكيات الارستقراطية القديمة المطلقة في أوربا. وبعبارة أخرى، كان الصراع بين الإطار الرسمي والمصالح الخاصة للنظام القديم من جهة، والقوى الاجتماعية الطالعة من جهة أخرى، أكثر حدة في فرنسا مما كان عليه في بريطانيا[2].
يضعنا هذا النص، عموما وإجمالا، أمام الواقعة التالية: إن الصراع الطبقي الذي اخترق شتى مستويات المجتمع: الاقتصادية والسياسية والايديولوجية، الذي كان طرفاه الرئيسان المتصارعان هما كل من الطبقة الارستقراطية المستندة على السلطة الكنسية الدينية من ناحية، والطبقة البرجوازية التجارية الصاعدة المستندة على القوى الاجتماعية المفقرة الأخرى من ناحية أخرى، كان (أي الصراع الطبقي) في فرنسا أكثر حدة وانفجارا مما كان عليه في بريطانيا. وهذا أمر يغذوا مفهوما بذاته حالما نتلمس التطور الاقتصادي العميق الذي عاشته فرنسا والذي انعكس على نحو ايجابي على مستوى سياساتها الكولونيالية. عكس ما كان حاصلا آنذاك في بريطانيا. إن السنوات التي يعتبرها اريك هوبزباوم قد مثلت تاريخيا سنوات تطور التجارة الخارجية لفرنسا والتي "أثارت القلق" خاصة في صفوف الساسة البريطانيين، تحتوي على نحو عظيم عمل روسو الفذ الذي عنونه ب: العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي.
ثانيا: الإشكال النظري للعقد الاجتماعي ونتائج الفصول التسعة للكتاب الأول:
يضع ويحل الفصل السادس من الكتاب الأول المشكلة التي تشكل الاشكالية الأساسية للحياة السياسية ويحتوي أيضا مفهوم روسو عن العقد الاجتماعي.

ولقد عبر روسو عن هذه الاشكالية على النحو الاتي:
"(المطلوب هو) الاهتداء الى شكل من الاجتماع من شأنه أن يدافع عن شخص كل شريك فيه وعن أملاكه وان يحميها بكل ما يتوفر من قوة مشتركة، وإذ يتحدد بمقتضاه كل واحد مع الجميع فإنه، مع ذلك، لا يطبع إلا نفسه، ويظل حرا كما كان قبلئذ". هذا هو المشكل الأساسي الذي تكفل العقد الاجتماعي بحله[3].
ولكن الفصل السادس الذي يطرح هذه القضية مسبوق بخمس فصول أخرى، فالفصل الاول من الكتاب الأول يعلن فيه روسو الحل، بحيث يقول:
"لكن النظام الاجتماعي حق مقدس يستخدم قاعدة لجميع الحقوق الأخرى. بيد أن هذا الحق لا يتأتى البتة من الطبيعة، فهو بالتالي، مؤسس على اتفاقيات. والمقصود إنما المعرفة بهذه الاتفاقيات. وواجبي قبل بلوغ المقصود، أن أثبت ما كنت لحيني قد تقدمت به"[4].

يرفض روسو من الفصل الثاني والى غاية الفصل الخامس تأسيس المجتمع بمقتضى قانون طبيعي او على أساس الاتفاقيات الغير المشروعة التي تأسس للعبودية ولحكم وسلطة الأقوى. ففي الفصل الثاني، وعندما يعود بنا روسو الى أحد أشكال المجتمعات الأولى، ألا وهي الأسرة بما هي أشد ارتباطا بالطبيعة، فهو يطعن في القول الذي مفاده أن في ارتباط الأبناء بآبائهم ما يبرر التبعية، محاجا هذا القول بكون وصاية الوالد لا تدوم إلا طيلة الوقت الذي يحتاج ابانه الابناء ان يحفظوا بقائهم، فمتى انحلت وانفكت هذه الحاجة، انحلت وانفكت أيضا الرابطة الطبيعية. وفي الفصل الثالث يبين روسو أن المجتمع لا يمكن أن يتأسس على مبدأ "حق الأقوى" ف"الأقوى ليس قويا بما فيه الكفاية أبدا بحيث يكون سيدا على الدوام، اللهم ان يحول قوته الى حق، والطاعة الى واجب"[5]. وفي الفصل الرابع يبين لنا روسو مستندا على نتائج الفصل الثالث من كتابه الأول، أن المجتمع لا يمكن أن يتأسس على أساس اتفاقيات تشرعن العنف والاستبداد (خضوع العبد لسيده، خضوع شعب لمستعمره).

وفي الفصل الخامس يعبر روسو عن استنتاجه على النحو الاتي: "في أنه يلزم الرجوع دائما الى اتفاقية أولى"، إنها أولى في علاقتها مع كل الاتفاقيات الممكنة، وعلى وجه الخصوص، "اتفاقية الخضوع" التي يقول بها غروسيوس والتي مفادها أنه "من الجائز للشعب ان يهب نفسه للملك"[6].

"ولذا يحسن بنا، قبل ان ننظر في الاجراء الذي بمقتضاه يختار الشعب ملكا، أن نبدأ بدراسة الفعل الذي بمقتضاه يكون الشعب شعبا، وسببه أنه لما كان هذا الفعل سابقا بالضرورة على ذاك، كان الأساس الحقيقي للمجتمع"[7]. وفي الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس يعلن روسو قولا متعلقا بمبدأ
الأغلبية يعبر عنه بالكلمات التالية: "إن قانون أكثرية الأصوات قائم هو بالذات بمقتضى اتفاقية، ويفترض أن الاجماع قد حصل ولو مرة واحدة".
ومن خلال هذه الموضوعة الفذة ينقض روسو نظرية جون لوك بصدد الطابع الطبيعي (بالمعنى الفيزيقي للكلمة) لقانون الاكثرية. لتعتبر هذه الاخيرة لا تنتمي الى الجسم الاجتماعي كما تنتمي الجاذبية الى الجسم الفيزيائي. إنها تفترض القيام بمعاهدة مسبقة تحقق شرطها: وبالتالي فإنها تفترض إذن وجود فعلا بالإجماع للاتفاق اعتمادا على القانون. ولا يتوقف الفصل الخامس عند ذكر ما ذكرناه انفا، أي رفض كل فرضية حول الاساس الطبيعي للجسم الاجتماعي ونقض الاستعانة الكلاسيكية بالعقود الزائفة المستندة على القوة، بل يتعدى ذلك حد التوصل الى نتيجتين حاسمتين:

ـــ   ضرورة استجلاء قضية العقد الأصلي قبل أي عقد: العقد الذي يبرم ضمن الوثيقة التي من خلالها يتم الاعتراف بالشعب كشعب.

ـــ وكقانون الأكثرية الذي لا يمكن أن يمثل إلا على أساس اتفاقية تجيزه وتضعه، العقد الذي من خلاله الشعب هو شعب يقتضي ضمنا الاجماع.

والفصل السادس يفتتحه روسو بقوله: "إني لأفترض أن البشر قد بلغوا تلك النقطة التي بدت فيها العوائق الضارة ببقائهم في حالة الطبيعة وقد تغلبت، بما لها من مقاومة، على القوى التي يمكن لكل فرد أن يستخدمها ليدوم في تلك الحالة. وعندئذ لم يعد ممكنا لهذه الحالة البدائية أن تدوم، أما الجنس البشري فكان سيهلك ما لم يكن قد غير طريقته في الوجود"[8].

البنية المفاهيمية الغنية لهذا النص تعرف لنا الشروط الموضوعية لطرح المشكلة: فالشرط الأول يتجسد في أن "البشر" قد وصلوا الى نقطة ليست أكثر من نقطة نهائية، إنها نقطة حاسمة في وجودهم، تفصل بين حياة النوع البشري وموته. وهذه النقطة الحاسمة هي ما تقود الى الخطاب المتعلق بحالة الحرب وهي كاملة النمو. إن هذه النقطة حاسمة وقاتلة لأنها موضع التناقض الذي لا يحل في هذه الحالة، بين العوائق المطروحة على الجنس البشري من جهة، والقوى التي يمكن لكل فرد أن يعارض بها[9]. أما الفصول المتعلقة ب "صاحب السيادة"، "الحالة المدنية"، و"الملك العيني" فتضعنا أمام النتائج التالية:

أولا: إن صاحب السيادة «Le souverain» هو رمز لاتحاد الحشود والجماهير في شكل جسم، هو جسم سياسي. فلا تكون له مصالح نقيضة لمصالح الجماهير، الشعب أو الأمة. كما لا يمكن أن تتوفر له تلك المصالح المنفصلة عن مصالح الشعب. وتأسيسا على هذا الموقف فإن القوة السيادية لا تحتاج الى ضامن يضمنها حيال الشعب، فمن وجهة نظر روسو، أن الجسم السياسي محال ان ينوي الحاق الضرر بأعضائه المتحدة به اتحادا لا يقبل الفكاك. ولتأمين الجسم السياسي، ولأجل أن تسود الارادة العامة على
الارادة الجزئية أو الارادات الجزئية، يؤسس روسو، وها هنا يبرز وجهه الراديكالي الثوري لشرط "المساواة في الملكية".
ثانيا: يميز روسو، على اساس تمييزه بين حالة الطبيعة والحالة المدنية وما يترتب عليه التحول من الأولى الى الثانية من تغيرات بينة في "الانسان"، بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية. فالأولى "لا قيود لها سوى القوى التي للفرد"[10]، أما الثانية فتحدها الارادة العامة. كما يميز روسو ايضا بين الحيازة التي هي نتيجة القوة والملكية التي تستحيل تأسيسها الا على أساس سند وضعي. إن الإنسان في العقد الاجتماعي يخسر حريته الطبيعية ويربح حريته المدنية.
 ثالثا: بمقتضى الاتفاق والحق يصير البشر جميعا متساويين. فإذا كانت حالة الطبيعة تجيز قيام تفاوت فيزيقي بين البشر فإن الميثاق الأساسي وعوض أن يحل المساواة الطبيعية يحل على العكس من ذلك مساواة "أخلاقية مشروعة". وبهذا يتم الحد من التفاوتات الفيزيقية التي كانت قائمة في حالة الطبيعة.

ثالثا: حول مفهوم السيادة: نتائج فصول الكتاب الثاني الاثنا عشر:

إن الاشكال النظري الذي انطلق منه روسو في الكتاب الأول يمكن اعتباره إشكالا نظريا لكل كتاب العقد الاجتماعي، هذا لكونه يطرح القضية المحورية للحياة السياسية.
لقد تمحور موضوع الكتاب الثاني حول مفهوم السيادة بما هي ليست إلا ممارسة للإرادة العامة «La volonté générale» وهي انطلاقا من كونها كذلك فإنه يمنع منعا بتا التنازل عنها. وصاحب السيادة أو العاهل هو موجود جماعي، وبالتالي فلا يمكن أن يمثله أحد عدا أن يمثل نفسه بالذات. يقول روسو: "إن السلطان يتيسر نقله الى الغير، وأما الارادة فكلا"[11]. وتأسيسا على هذا القول الذي يفيد بأن السيادة غير قابلة للتنازل عنها فإنها أيضا غير قابلة للتجزئة لأن الارادة العامة تتعلق بجسم الشعب فهي فعل سيادي له حكم القانون: فلو انها، أي الارادة العامة، تجزئت لكانت قابلة للتنازل وهذا الامر الأخير هو ما يبرهن روسو على ضده في الفصل الاول من الكتاب الثاني.

 يقول روسو في بداية الفصل الثاني من الكتاب الثاني: "إن السبب ذاك الذي جعل السيادة غير قابلة للتنازل هو عينه الذي يجعلها غير قابلة للتجزئة، فالإرادة إما عامة أو لا تكون، وإما متعلقة بجسم أو بجزء منه فقط"[12].

ولما كانت السيادة بما هي ممارسة الارادة العامة غير قابلة للتنازل وللتجزئة كانت الارادة العامة ناجية من الخطأ. فتكون دائما على الصراط القويم ميالة دائما الى المنفعة العمومية. إذ "من المحال أن يزرع الفساد في الشعب أبد الابدين"[13]. والحق أن احتمال خداع الشعب في اغلب الاحايين ممكن نتيجة التناقض القائم بين ارادة الجميع وهي مجموع الارادات الجزئية من جانب، وارادة الكل وهي الارادة العامة. وهذه الأخيرة هي ارادة الشعب حسب روسو لا تموت الا في حالة ما إذا مات الشعب.

ويمكن القول، على نحو عام، أن روسو يتحدث من الفصل الاول للكتاب الثاني والى غاية الفصل السادس عن الجسم السياسي الذي أنتجه الميثاق الأصلي، هذا الأخير الذي أعطى الوجود والحياة للجسم السياسي. وإذا كانت الفصول الستة الاولى من الكتاب الثاني قد تطرقت للحديث عن الجسم السياسي كوجود حي استند على الميثاق الاصلي فإن الفصول المتبقية عملت على مناقشة مفهوم القوانين التي ستمنح الجسم السياسي الحركة والارادة. وهذا لأن "الاجراء الأصلي الذي به يتكون هذا الجسم ويتحد مازال لم يعين شيئا مما يجب على هذا الجسم أن يفعله من أجل الابقاء على نفسه"[14].

وخلاصة القول، أنه لما كانت السيادة بنية واحدة، وجب تنظيمها بذاتها من جهات عديدة وبعلاقات متنوعة، وفي مقدمة هذه العلاقات تأتي القوانين السياسية الاساسية. وعندما يؤسس شعب ما دستوره، فالأجدر به أن يتقيد به تقيدا صارما. فإذا تم ذلك كانت علاقة المواطنين وعلاقة المواطن بالدولة جيدة وحسنة. أما علاقة المواطنين ببعضهم فينبغي أن تتأسس على مبدأ الاستقلال التام، وأما علاقة المواطن بالدولة فينبغي أن تكون علاقة تبعية. والدولة هنا هي صنيعة ارادة الشعب وجسمه السياسي.

رابعا: في الحكومة وأنواعها: نتائج فصول الكتاب الثالث:

ينبغي علينا أن نميز في الجسم السياسي بين القوة والارادة، فالأولى تسمى سلطة تشريعية، أما الثانية فتسمى سلطة تنفيذية. وينبغي على هاتين السلطتين أن يتعاضدا إن أردنا أن تسير الأمور كما يجب أو كما ينبغي عليها أن تسير. وإذا كانت السلطة التشريعية تعود للشعب فإن السلطة التنفيذية تشتمل على

أفعال جزئية لا تدخل ضمن نطاق القانون ولا في نطاق صاحب السيادة وهو الذي لا يسع جميع أفعال إلا أن تكون قوانين.
في الفصل الأول من الكتاب الثالث يعرف روسو الحكومة قائلا: "إنها جسم يقام وسيطا بين الرعايا وصاحب السيادة لأجل التبليغ المتبادل بينهما، ومكلف بتنفيذ القوانين وبصون الحرية ما كان منها مدنيا أو سياسيا على السواء"[15].

إنها أولا جسم يقوم بدور الوسيط بين العاهل والشعب ومهمته هي تنفيذ القوانين والدفاع عن الحرية المدنية والسياسية للمواطنين. ولكن من هم أعضاء هذا الجسم؟ إنهم –حسب روسو-الحكام أو الملوك والمقصود بهم أصحاب الأمر والسلطان النافذ، أما الجسم بكامله فيسمى ب "الأمير". إن الحكومة إذن هي الممارسة المشروعة للسلطة التنفيذية والأمير هو الشخص أو الجسم المكلف الملقى على عاتقه مهام هذه الحكومة.

وفي شخص الحاكم يميز روسو بين ثلاث ارادات تختلف فيما بينها اختلافا جوهريا: فهناك ارادة الفرد الخاصة النازعة نحو تحصيل المنفعة الجزئية، وهناك ما اسماه روسو ب "إرادة الحكام المشتركة" وهي المتعلقة بالفائدة التي تعود للأمير وحده، أي إرادة الجسم، وهناك ارادة الشعب، أو ما يسميه روسو بالإرادة السيادية، وهي سواء في علاقتها مع الدولة بما هي الكل او في علاقتها بالحكومة بما هي جزء من الكل. والارادة السيادية ينبغي ان تكون دائما متغلبة وقدوة بالنظر الى جميع الارادات الأخرى. إن قوة الشعب، وقوة المواطنين، وقوة الدولة، وقوة الحكومة إنما تجري بمقادير معينة تحددها نسبها الى بعضها بعضا، والى امتداد البلاد وعدد السكان، والى وفرة الثروات الطبيعية والأموال.

إن شكل الحكومة السياسي مرهون بطبيعة الجسم الذي ينفذ القوانين ويدافع عن الحرية المدنية والحرية السياسية، فإذا كان الشعب هو من يحكم نفسه بنفسه حيث يتساوى عدد المواطنين مع عدد الحكام كانت الحكومة حكومة ديمقراطية، أما إذا كان الحكم عائدا لعدد قليل يحكم عددا كبيرا من المواطنين، كانت الحكومة أرستوقراطية، أما في الحالة التي يقل فيها عدد الحكام ليصير واحدا تكون الحكومة حكومة ملكية.

أما فضل الديمقراطية فيكمن في ربطها بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. -نلاحظ هنا أن الديمقراطية المباشرة عند روسو تتأسس على أساس الربط بين السلطة التنفيذية والتشريعية عكس تصور

مونتسكيو القائم على الفصل بين القوانين-غير أن الشعب، وهو دوما صاحب السيادة، لسوف يلهيه تنفيذ الجزئيات عن المقاصد العامة، من هنا فإن الديمقراطية الحقيقية هي التي تجعل الجسم ملقى عليه مهمة التصور والتنفيذ في نفس الان، وهذه الديمقراطية لم توجد ولن توجد على نحو نقي وخالص. يقول

روسو: "أما إذا أخذنا لفظ "ديمقراطية" في معناه الدقيق، بان ان الديمقراطية الحقانية لم توجد قط ولن توجد أبدا"[16]. أما الحكومة الأرستقراطية فهي نقيض الحكومة الديمقراطية بحيث تفصل بين الحكومة وصاحب السيادة فتقيم بدل الارادة العامة ارادتان عامتان متوازيتان.

يقول روسو: "تأتي الأرستقراطية، إذا، على ثلاث ضروب: طبيعية وانتخابية ووراثية. فأما الأول فلا يصلح إلا لشعوب على الفطرة، وأما الثاني فهو أسوء ضرب من ضروب الحكم، وأما الثالث فهو أفضلها، إنها الارستقراطية في معناها الحقيقي"[17]. أما الملكية فتعني أن تكون السلطة في يدي شخص طبيعي، وهو العاهل، وهو ما يمثل كيان الامة ورمزها الجماعي.

من الفصل الثالث الى الفصل التاسع من الكتاب الثالث يتحدث روسو عن أنواع الحكومات وأشكالها السياسية على نحو مثير، فهو لا يطرح تلك الأنواع أو الأشكال على نحو مفصول عن الوضعيات المشخصة التي من الممكن في بعض الأحيان أن تناسبها أشكال سياسية محددة من الحكومات. إن سيد الموقف بالنسبة لروسو هو أولا الوضعيات المشخصة. "عندما نسأل بإطلاق عن أفضل الحكومات، فإننا نبسط سؤالا مستعصيا عن الحل، من جهة كونه سؤالا غير متعين. أو لنقل إذا شئنا بأن لو من الحلول الصحيحة مقدار ما يوجد من توليفات ممكنة لأوضاع الشعوب المطلقة والنسبية"[18].

ومن الفصل العاشر والى غاية الفصل الرابع عشر من الكتاب الثالث نجد روسو يبين لنا كيف هناك دربان عامان يوديان بالحكومة الى الفساد وهما: انكماش الحكومة وانحلال الدولة، وكيف يبدأ الجسم السياسي بالموت منذ ولادته، فأي دولة كيفما كانت آيلة الزوال، أما الدولة الأفضل التي تسود فيها الارادة العامة التي هي ارادة الشعب فآيلة الى الزوال ايضا لكن بعد سواها من الدول. كما يبين لنا ان السلطة السيادية لا تدوم الا في حالة كون الشعب هو من يسن الدستور مجتمعا، ويحضر بفعل القانون وعلى نحو مشروع الاجتماع دون الحاجة الى دعوة رسمية.


وفي الفصل الخامس عشر تبرز لنا نظرية روسو الديمقراطية الراديكالية المباشرة، وهي ما تميز روسو عن كل الفلاسفة التنويريين وفلاسفة العقد الاجتماعي. فالسيادة غير قابلة للتمثيل النيابي ما دامت غير قابلة للتنازل، مكمن السيادة هو الارادة العامة، وحيث ان الارادة العامة لا تقبل على نحو مطلق التمثيل عنها، فإنها اما ان تكون كذلك وكما هي، أي عينها، وإما هي شيء اخر، ولا وجود لمنزلة بين

المنزلتين. من هنا فإن نواب الشعب ليسوا ممثلين عنه، ولا يمكن لهم ان يكونوا كذلك، لأنهم ليسوا الا مندوبين عنه، وليس بمقدورهم أن يقروا أي شيء البتة. إن كل قانون لا يصادق عليه الشعب باطل.

خامسا: في قضية الدين المدني أو الايديولوجية العلمانية: نتائج فصول الكتاب الرابع:

من الفصل الاول وإلى غاية الفصل السابع يبين لنا روسو أن الارادة العامة غير قابلة للفناء مهما حصل. فإذا انشق الجسم على النحو الذي حصل في روما ابان عهد مجلس الشيوخ والاباطرة تظهر إداك قاعدة الاجماع عوض قاعدة الاقتراع، وهي القاعدة التي تفعل من خلالها كل أمة يفتقر مواطنوها الى الحرية والارادة. إن الاجماع لا يصح الا ابان ابرام الميثاق الاجتماعي، أو لنقل ابان العقد الاصلي الذي بمقتضاه ينتقل الأفراد من وضع الاستقلال الطبيعي الى النظام المدني.

إن روسو وعلى امتداد هذه الفصول، يؤكد ضرورة دراسة نموذج المؤسسات الرومانية لفهم كيف أن اليات وطرق احتساب الاصوات تعبر أحسن تعبير عن طبيعة الحياة السياسية.

فلما فسدت الرابطة الجمهورية وانحلت فضيلة المواطن الجمهوري وتناحرت طبقة الأشراف وطبقة العامة. كما استبدت الاحزاب والفرق وصارت قواعد الاقتراع تتغير بتغير موازين القوى مما أدى الى دخول روما في "ميكانيكا" ستقود الى أفول جمهوريتها العظيمة. لقد كان من المفروض أن تحمي المنابر الشعبية المواطنين والشعب من تسلط الحكومة وشططها، إلا أن هذه المنابر الت سياساتها الى الطغيان ثم الى الديكتاتورية التي أحلت محل القانون صوت "الاخلاص الوطني". يقول روسو: "يتبع ذلك، إذا، أنه لا ينبغي أن ننشد ترسيخ المؤسسات السياسية ترسيخا يؤول بنا أن نسلب أنفسنا القدرة على تعطيل مفعولها. ألا إن اسبارطة نفسها تركت القوانين التي تحكمها تدخل في فترة من السبات"[19].

أما في الفصل الثامن فيعالج روسو الاشكال النظري التالي: أي دين مدني بإمكانه أن يقوي الرابطة المدنية السياسية؟ وها هنا يعرض روسو تصوره للعلمانية.

 

 

"فأما الدين، منظورا إليه في نسبته الى المجتمع، وهو الذي يكون إما عاما أو جزئيا، فيجوز أيضا أن يتفرع الى نوعين، ألا وهما: دين الانسان ودين المواطن. فأما الأول، وهو الذي لا معابد له ولا مذابح ولا طقوس، والمقصور على عبادة الرب الأعلى عبادة باطنية خالصة، وعلى الواجبات الأخلاقية الخالدة، فإنما هو دين الانجيل الطهور البسيط، وهو التأليه الحق، أو ما يجيز نعته بالحق الالهي الطبيعي. وأما الثاني فمستقر أمره في بلاد واحدة يهبها الهتها وأولياؤها حماة لها مخصوصين عليها.

ولهذا الدين عقائده وطقوسه وشعائره الدينية الظاهرة المسنونة بمقتضى القوانين: وهكذا، عدا الأمة الوحيدة، التي تتبع هذا الدين، ما من أحد إلا ويعد في نظره كافرا وأجنبيا وهمجيا، وهو لا يشيع واجبات الانسان وحقوقه الى مدى أبعد من نطاق قرابينه المقدسة. كذلك كانت جميع أديان الشعوب الأوائل وهي التي يمكن ان تنعت باسم القانون الالهي المدني أو الوضعي"[20].

إن الدين بما هو ظاهرة اجتماعية في اساسه ينقسم من منظور النص الى قسمين: دين الانسان المستند على الحق الالهي الطبيعي، ودين المواطن المؤسس على الحق الالهي المدني او الوضعي. أما دين الانسان فهو الدين الغير السياسي، الدين المفصول عن السلطة السيادية وعن الدولة، بحيث يستحيل هذا الدين الى الاقتصار على علاقة الانسان ب "ربه" وعلى واجباته الاخلاقية الصرفة، وهذا هو الدين الحق. أما دين المواطن فهو دين الدولة، أي كعقيدة وايديولوجية مسيطرة في الدولة والمجتمع المدني، يدعي من خلاله العاهل او صاحب السيادة أنه خليفة "الله" في الأرض، وأن حكمه يقوم بدور الوسيط بين "الله" و"العالم"، وهذا ما تؤسس له نظرية الحق الالهي، وما يؤسس للحكم الثيوقراطي، التي كانت سائدة في عصر روسو، الذي يعمل ها هنا على هدم أساسها النظري مستندا على التصور العلماني.

إن هذا الدين السياسي وكما اشار الى ذلك روسو في نصه، يقود الى وجهة نظر خطيرة على صعيد العلاقة بين "النحن" و"الغير" بحيث يتم النظر دائما الى "الغير" على انه اما كافر أو أجنبي إلخ. "...وهكذا عدا الامة الوحيدة التي تتبع هذا الدين، ما من أحد الا ويعد في نظره كافرا وأجنبيا وهمجيا...".

 

 

 

 

إن كل ما يكسر الوحدة الاجتماعية-حسب روسو-لا يساوي شيئا و"هذا حال المؤسسات التي تضع الانسان موضع التناقض مع نفسه، فهي لا تساوي شيئا". والدين الذي لا يكسر الرابطة الاجتماعية ويوحد الرابطة المدنية السياسية هو من دون شك ليس الا دين الانسان.

المختار منودي

[1] : Jean Jacques Rousseau, Du contrat social ou principes du droit politique, p : 52. Ediction électronique réalisé par Jean Marie Tremblay Le 24 février 2002.
[2] : أنظر: اريك هوبزباوم، عصر الثورة: أوربا (1789-1848)، ترجمة فايز الصياغ وتقديم الدكتور مصطفى الحمارنة، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، ص 129.
[3] : نعتمد ضمن هذا البحث على ترجمة عبد العزيز لبيب: المنظمة العربية للترجمة، لكتاب جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي. أنظر: الكتاب الأول، الفصل السادس، ص93.
[4] : المرجع السابق، الكتاب الاول، الفصل الاول، ص79.
[5] : المرجع السابق، الكتاب الأول، الفصل الثالث، ص 83.
[6] : المرجع السابق، الكتاب الأول، الفصل الخامس، ص91.
[7] : المرجع السابق، الكتاب الأول، الفصل الخامس، ص92.
[8] : المرجع السابق، الكتاب الاول، الفصل السادس، ص92.
[9] : أنظر: «Louis Althusser: Sur Le Contrat Social» وهذا الكتاب عبارة عن درس تم تدريسه في المدرسة العليا سنة: 1965/1966. يتساءل لويس ألتوسير بعد طرحه لقضية الشروط الموضوعية التي حددها روسو لطرح المشكلة قائلا: ما هي هذه العوائق؟ ما هي هذه القوى؟ ولأهمية ما ذكره ألتوسير سننقله هنا الى اللغة العربية ليتسنى لنا الامساك بمفهومين مركزيين عند روسو وهما: العوائق والقوى.

 العوائق: إنها ليست عوائق خارجية، فهي لا تأتي من الطبيعة (الكوارث، الزلازل، الصعوبات الطبيعية من موارد ومناخ، ومن انتاج المؤن ..إلخ). نحن على علم بأن الطبيعة قد هدأت وأنها لم تعد في حالة حرب ضد نفسها من مجيء البشر. إن الكوارث إنسانية، والعوائق لا تأتي بتاتا من الجماعات البشرية الأخرى.

إنها داخلية بحتة وعائدة الى العلاقات الانسانية القائمة. ويعبر عنها بالآثار المترتبة عن حالة الحرب العامة، المنافسة العالمية، بل وحتى في التخفيف من "سلام" هش، التهديد المستمر الذي يشعر بثقله كل فرد على ممتلكاته، حريته وحياته. ينبغي أن تفهم حالة الحرب بشعور قوي على النحو الذي عرف به "هوبس" حالة الحرب بما هي نسبة ثابتة وعالمية قائمة بين البشر، أي أنها مستقلة عن الأفراد، بحيث كانوا هؤلاء الأخيرين مسالمين. هذه الحالة تحدد حالتهم نفسها بما هم خاضعين ومحكومين، دون التمكن من العثور على أي ملاذ في العالم الذي يحمونه من اثاره القاسية، ودون أمل في راحة عقيمة للشر الذي يصيبهم.

هذه "العوائق" "تضر باحتفاظ" البشر بحالتهم الطبيعية. إن ما تهدده حالة الحرب هو ما يشكل الجوهر الأخير للإنسان، بمعنى حياته الحرة، حياته كلها باختصار، الغريزة التي "تبقيه" على قيد الحياة، وهو ما يسميه روسو في الخطاب الثاني "حب الذات".

القوى: في وجه هذه "العوائق" "المقاومة" تتعارض القوى التي يرصدها "كل فرد" لكي يتسنى له البقاء في حالة الطبيعة.

إن هذه القوى تتكون من سمات الانسان الطبيعي الواصل الى حالة الحرب. ودون هذا التحديد الأخير تغذوا مشكلة العقد الاجتماعي غير مفهومة.

عندما يتحدث روسو ضمن العقد عن "القوى"، فمن الواضح أنه ليس بصدد الحديث عن "قوى" انسان "حالة الطبيعة الأولى"، حيث لا نتعامل سوى مع حيوان حر، وحيث "الهيئات الثقافية والأخلاقية" منعدمة. إننا نتعامل مع حيوان صار، بفعل التأثير المزدوج للكوارث الطبيعية وللاكتشاف العظيم (علم المعادن)، كائنا اجتماعيا، ضمن الهيئات المتطورة والمستلبة. لقد تحددت قوة حيوان حالة الطبيعة الأولى في جسمه (الحياة) بالإضافة الى حريته، أما إنسان حالة الحرب المعممة فلديه عدة قوى أخرى، إن هذا الأخير يظل يتمتع دائما بجسمه (مع التأكيد على انخفاض قواه الفيزيائية) إلا أنه يتمتع بقوى ثقافية وأيضا بممتلكات. " إن كل فرد من المجتمع يرد إليه عندما يتم تشكيله، كما يوجد حاليا، هو وجميع قواه، التي تمثل ممتلكاته جزء منها". (الكتاب الأول، الفصل التاسع، ص 118). لقد اكتسب هذه الممتلكات خلال مسار تطور وجوده الاجتماعي، وكانت عاملا حاسما في تنمية قدراته الثقافية و"الاخلاقية".

من الممكن إذن تلخيص "قوى" فرد حالة الحرب على النحو الاتي: القوى الجسدية (الحياة) + القوى الثقافية و"الاخلاقية" + الممتلكات + الحرية. تظهر الحرية دائما بجانب القوة. " ...قوة وحرية كل انسان هما أدواته الأولى لبقائه...". (الكتاب الأول، الفصل السادس، ص90).
[10] : جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة عبد العزيز لبيب، المنظمة العربية للترجمة، الكتاب الاول، الفصل الثامن، ص 100.
[11] : المرجع السابق، الكتاب الثاني، الفصل الأول، ص105.
[12] : المرجع السابق، الكتاب الثاني، الفصل الثاني، ص106.
[13] : المرجع السابق، الكتاب الثاني، الفصل الثالث، ص109.
[14] : المرجع السابق، الكتاب الثاني، الفصل السادس، ص119.
[15] : المرجع السابق، الكتاب الثالث، الفصل الأول، ص146.
[16] : المرجع السابق، الكتاب الثالث، الفصل الرابع، ص158.
[17] : المرجع السابق، الكتاب الثالث، الفصل الخامس، ص 161.
[18] : المرجع السابق، الكتاب الثالث، الفصل التاسع، ص179.
[19] : الفصل السادس، الكتاب الرابع، ص 231.
[20] : المرجع السابق، الكتاب الرابع، الفصل الثامن، ص 243.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟