في الحاجة إلى الإنسان المتفوق ـ هادي معزوز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

modern-art-blue-yellow-paintingعندما تأمل نيتشه وضعية أوربا إبان نهاية عصر نابليون وتبخُّر حلمه في توحيد القارة، وما رافق قبل هذا الأمر من تشبع قل نظيره بتعاليم الديانة المسيحية، أطلق فيلسوف المطرقة إبانها صرخته المدوية التي أعادت النظر في الإنسان، في العالم، في الدين وفي الحياة برمتها، لقد وصلت القارة العجوز إلى عدميتها المطلقة، هاته العدمية لم تكن وليدة عهد قريب لا وليست بدايتها سيّان وبزوغ المسيحية، بقدر ما أن أولى جذورها ترجع بالأساس إلى تعاليم سقراط وفلسفة أفلاطون، هاته الفلسفة التي عملت جاهدة على إرساء تعاليم أخرى على الأرض فقضت بذلك على آخر لمسات الإغريق الذين أعطوا معنى جميلا للحياة بمعزل وبمنأى عن تلك القيم البائدة التي احتقرت الحياة والجسد، أو بلغة جيل دولوز عن العدمية الإرتكاسية، توقف نيتشه مطولا عند مآلات الانسان الأوربي ثم حاول بعدئذ الوقوف عند أهم التحولات الكبرى التي عرفتها أوربا، ليخلص أخيرا إلى أن أوربا وعلى مدى تقدمها عاشت على إيقاع صراع ثنائي بين صِنْوين، بين نوعين من الأخلاق وهما أخلاق السادة وأخلاق العبيد.
    لا يجب الامتعاض بداية من هذا التقسيم للأخلاق، بقدر ما توجب علينا النظر بعين ثاقبة للأمور، أخلاق العبيد هي الحقبة التي تسود فيها قيم لصالح أخرى، قيم تمتاز بالانصياع والسعي من الانعتاق، قيم تسعى للثورة وتغيير الواقع، وفي نفس الآن تكون أكثر تعلقا بفكرة المُخَلِّصِ الأبدي، وأشد ارتباطا بقيم الخير والشفقة والتأنيب وعدم الرضى عن النفس، عندما ننشد الحرية وعندما نعمل على صناعة الثورة فإن ذلك يعني أننا مشدودين بأغلال ومكبلين بسلاسل، وحده السجين من يسعى للحرية ووحده العبد من يَتُوق للتحرر، العبودية رمز للضعف والانصياع من ثمة كانت العصور التي تسعى للتخلص من العبودية عصورا تنزل فيها أخلاق العبيد منزلة الأس من البنيان، أو ليست "الثورة مفخرة للعبيد la révolution est une fierté de l’esclaves " كما قال نيتشه ذات يوم !

    في مقابل ذلك نجد صاحب العلم المرح يُصَرِّحُ أن أوربا قد مرت أيضا من حقبةٍ تَتُوقُ لصنع المجد ولا شيء غيره، حقبة تدعو للعمل وتَنْفي كل ما يوجد وراء هذا العالم، حيث تعتبر القوة دَيْدَنَهَا ومنطقها، لقد كان ينظر للمساواة مثلا أنها تكمن في الانتصار للقوي، القوي الذي يصنع مجد قُوَّتِهِ بنفسه من خلال روح المغامرة وتجنب قيم الخير والحق والعدالة، من هذا المنطلق تساءل نيتشه عن طبيعة هاته القيم مستفيدا من كونه فيلولوجيا، مما جعله يؤسس فيما بعد لجينيالوجيا الأخلاق، إذ استخلص أن الخير على سبيل المثال قيمة نوصي الناس على الاتصاف بها ليس لأن الإنسان خَيِّرٌ بطبعه، بل لأننا نخاف من شره وعدوانيته فنعمل على إذكاء الجانب الضعيف فيه ومن ثمة تَخورُ نزعاته العدوانية تجاه الآخرين، لقد خلق الإنسان الخير لِدَرْءِ الشر إذ في البدء كانت السيادة لهذا الأخير، لكن ليس يجب فهم أن أخلاق السادة تدعونا للشر على حساب الخير، كلا إذ ما ليست هاته الأخلاق من هذا الأمر بشيء، أخلاق السادة أخلاق بمبعد عن القيمتين معا، إنها أخلاق توجد في ماوراء الخير والشر، مادام خَلْقُ القيم ليس بريئا وإنما ينطوي على حيلة إما وضعها الضعفاء للتفوق ذهنيا على الأقوياء، أو وضعها الإنسان بصفة عامة للاشتراك في شيء ما يجنبه الخطر المُحَدّقِ به من طرف الطبيعة.
    من هذا المنطلق عمل نيتشه على زرع بذور أخرى للحياة، وعلى تغيير تلك النمطية التي أرست دعائمها الأفلاطونية من جهة ثم كرستها المسيحية من جهة أخرى، فكانت فكرة الإنسان المتفوق le sur-    homme مخرجا وملاذا لهذا التضارب المعطل لإرادة الحياة وجوهرها، حيث تحول الإنسان إلى "كائن مريض ومجنون" (1) ليس إلا، هذا المرض وهذا الجنون هو نتيجة طبعا وليس سببا، نتيجة لعب فيها من لعب وصنعها من صنع، على الأرجح ليس هذا الأمر واردا في الفلسفة فحسب وإنما يمكن أن نجده أيضا في الأدب والفن، قد نعثر عليه مثلا في كتابات الأديب الروسي الشهير دوستوفسكي، إنه أديب حقق العالمية عن طريق تعذيب شخصياته بدل أن يعلمها فن عيش الحياة، فلنتأمل مثلا أبطال "الإخوة كرامازوف"، أو رواية "المقامر" عندها سنعرف أن أوربا أصبحت تحتفل بأصحاب الهمم المُنَكّسة، وأصحاب الإرادات البائدة.
    الفلسفة هي التي صنعت الإنسان، وهي التي قتلته أيضا، عندما دعا سقراط إلى أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه، وعندما أكَّدت المدرسة السوفسطائية أن الإنسان مقياس كل شيء، نزلت القداسة من تأليه الطبيعة إلى تأليه الإنسان، بل إن الإنسان بعدئذ صنع إلها مجردا من خلاله حاول إيقاف جماح تفكيره، وحدها الطمأنينة من وَقَتِ الإنسان شر عدمية العالم، لضمان العيش بمعزل وبمنأى عن كل ما يعكر أنطولوجيا الإنسان بعد صراع مرير أحس هذا الكائن عن طريقه باليُتْمِ وفقدان الثقة في وجوده، على الأقل كان هذا الفعل ما يزال في بداياته الخجولة بعض الشيء، حيث الإنسان لازال منغمسا في الطبيعة، لكن ومع ديكارت والديكارتية ازداد مرض الإنسان عندما طرق أب الحداثة آخر مسمار في نعش الطبيعة عن طريق ثنائية الذات والموضوع، الذات العاقلة المفكرة ras cogetam، في مقابل الموضوع الذي يستقبل تمثلات الذات، هذا الاستقبال مصدره العقل، والحال أن ثورة العقل الديكارتية من استباحت الطبيعة، بل هي التي أعادت النظر في الإنسان باعتباره أكمل الكائنات وأرقاها، من ثمة عليه أن يحول الطبيعة لحساب عددي، عليه أن يروضها، على الطبيعة أن تصبح طيِّعَة لإرادة الإنسان، الذات فاعلة والطبيعة مفعول بها، أي أنه علينا تسخيرها لخدمة هذا الكائن أي أن الإنسان homo...
    عندما تأمل نيتشه هذا الوضع، رأى أن تقديس العقل من جهة أبعد الإنسان على الطبيعة، هذا البعد أضفى عليه ـ أي الإنسان ـ الإحساس بالعدمية، كلما كان العقل حاضرا بقوة كلما كبُرت عدميتنا، وكلما تَضَخَّمَت هذه الأخيرة، كلما سقطت في دوامة البحث على المُخَلِّصِ والذي لن تكون سوى القيم وتعاليم السماء، الشر فعل يأتي من الإنسان لذا عليه أن يغطي شره بإكثار التَعَبُّدِ، والخير يكمن في التسامح والتضحية ونفي الذات، هكذا أصبح الإنسان الأوربي منذ السقراطية والمسيحية حتى القرن التاسع عشر، لقد عمَّرت أخلاق العبيد مطولا والتي ستنذر بعدئذ بحربين لا هوادة فيهما، صحيح أن نيتشه تنبأ بهذا الأمر، لكَّنه وبما أنه فيلسوف سبق زمانه على غرار شوبنهاور، سيعود الفكر الغربي إلى فلسفة المطرقة لكن بعد أن حصل ما حصل، العقل وتسخير الطبيعة صنعا الأسلحة الفتاكة التي تأتي على كل شيء، تمثل الذات للموضوع هو الذي أحدث خللا في نظام الطبيعة، في المقابل من ذلك نسي الإنسان أنه هو الآخر ليس يسمو على الطبيعة بقدر ما أنه ينحدر منها، لقد طور نيتشه فلسفته في هذا الشأن انطلاقا مما جادت به أبحاث كل من لامارك وداروين في البيولوجيا، لهذا أصبحت أوربا في حاجة لكائن آخر، كائن لا يؤمن بالثنائيات الميتافيزيقية، خاصة ثنائيات الجميل والقبيح، والخير والشر، والحق والواجب، والذات والموضوع، والهوية والاختلاف، والمركز والهامش.
    إن العالم وخاصة أوربا وبعد وصولها للعدمية المطلقة ليس يمكن أن تنفلت منها إلا عن طريق الإنسان الأرقى le sur-homme،  لهذا فإن نزول زرادشت من الأعلى وما يحمل هذا النزول من رمزية هو إضفاء معنى جديد لإرادة الحياة le sens de la terre، من ثمة فزرادشت يمثل الإنسان الأعلى الذي رمى كل القيم جانبا لأنها لا تحدد إلا معنى واحدا لإرادة الحياة ألا وهو قيمة الإنصياع (2) أولم يؤكد نيتشه في كتابه العمدة son livre phare هكذا تكلم زرادشت بأن الإنسان "ليس له من الكمال من شيئ، الإنسان مجرد شيء توجب علينا التفوق عليه."(3)، التفوق على الإنسان يعني أنه ليس هدفا، إنه "مجرد حبل مشدود بين الحيوان والإنسان المتفوق، في حين أن الشيء العظيم في الإنسان هو أنه جسر وليس هدفا."(4)، الإنسان الأعلى جسر إذن لأنه كائن لا متناه، عدميته الخلاقة تكمن في أنه ليس له هدف، وما تحديد الهدف المطلق إلا قتل للحياة ولإرادة الحياة على حد سواء، من ثمة أطلق نيتشه صرخته خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما تنبأ الرجل بالمآلات الأكثر تحققا في أوربا، وهو ما حذا به إلى توجيه دعوته الشهيرة للإنسان الأوربي كي يكون راعيا وليس قطيعا، بما أنه "لا يوجد راع وإنما قطيع، كل يريد نفس الشيء وأن يكون مساويا للآخر في حين أن الذي يشعر بالأشياء بمعزل عن الآخرين يسير بنفسه نحو مأوى المجانين "(5)، إن معضلة الإنسان حسب فيلسوف المطرقة تكمن في وضع الإنسان نصب عينه هدفا ما أو مثالا يحتدى به، في حين أنه من الحريِّ بنا أن نكون ما نريد نحن وليس ما كان عليه الذين قبلنا، آنذاك تتحرك عجلة الحياة ليس عن طريق العقل الجدلي الذي أرسى دعائمه هيجل، أو عن طريق الصراع الطبقي في الفلسفة الماركسية، إن ما يميز الإنسان الأعلى عن باقي الكائنات الأخرى هو أنه تحقق لإرادة الحياة ، صحيح أنه سقط في المطلق أي مطلق إرادة الحياة، لكن هذا المطلق يتميز على الفلسفات التي كانت قبله بأنه مطلق نسبي، إنه يعود دوما، لكن عودته هذه ليست عودة التكرار وإنما عودة الاختلاف التي تقوض الهدف الواحد، وبدل أن تصنع أوفياء ومخلصين يحافظون على نفس منهج من سبقوهم، تصنع إرادات مختلفة عملت على قتل المطلق فينا ابتداءً من القيم وصولا للإنسان مرورا بالنموذج.
    العيب الذي وقعت فيه الميتافيزيقا منذ سقراط وأفلاطون هو أنها صنعت لنا مقاسا ودائرة ليس يجب اختراقها، لقد صنعت لنا تاريخ الخضوع والانصياع لمثل بعينها، وما الحال الذي وصل إليه الإنسان الأوربي إلا نتيجة لهذا الإخلاص الأعمى الذي يصنع قيما ثابتة ومنه نصنع أناسا يكررون أنفسهم بأنفسهم، لقد سعى فيلسوف المطرقة إلى إضفاء طابع الحياة عن طريق التخلص من المخلصين الذين يكررون ويطيعون دون الاحتفال بإرادة الحياة التي تكره هاته الصفات الجامدة، والحال أن الإنسان الأعلى هو من قال على لسان نيتشه بأنه لا يريد أتباعا بقدر ما يريد أناسا مستقلين بذواتهم يقول نيتشه في إحدى شذراته الشهيرة:"je ne veux pas des fidèles" حيث ما إن تُمسَّ القيم التي يؤمنون حتى يتحولون إلى وحوش ضارية، فلنتأمل كبريات الحروب التي عرفها العالم، لقد كان المطلق الثابت سببها دوما، وعليه فالإنسان الأعلى ليس ميتافيزيقا مكتملة عند نيتشه، كما أنه ليس مطلقا أو هدفا ينبغي السعي إليه، إنه سر الحياة ومحركها، والحق أن التخلص من العنف وتكريس منطق الاختلاف إنما يعتبر المتخلص من إخلاصه حامله الأول والأخير، والواقع أن من أوصل الإنسان الأوربي إلى هذيانه ومرضه إنما منبعه هذا الإخلاص، يخاطب نيتشه الإنسان الأوربي على لسان زرادشت قائلا:"الإنسان الأعلى هو معنى هذه الأرض، فلتعمل إرادتكم على جعل هذا الكائن مجرد معنى لهذه الأرض"(6)
    إن التأسيس للإنسان مرة أخرى لم ينبع من ترف فكري وصلت له أوربا، بقدر ما أنه إعلان على عدمية بعينها عمرت لعشرات القرون فحصل أن ابتعد الإنسان عن إرادة الحياة، قابعا في مفاهيم ارتكاسية كالشفقة والخير والضعف ونفي الذات والهوية... ناسيا بأن الطبيعة تؤمن بأن البقاء للأقوى وأن كل فرد ينشد هاته القيم تنعدم فيه إرادة الفعل وتغيب من عندياته روح الخلق والإبداع وروح التميز، إن صنع المجد يأتي دوما لهدف واحد ألا وهو التفوق على الأنموذج بدل تكراره، فأن تعيش معناه أن لا تنصاع لإرادة القطيع الذي يملي عليك ما يريده هو، إنه قتل للذات أي قتل للإرادة.
    فلنعد لعالمنا الإسلامي العربي كي نحفر فيه حيث نرى أنه سار على نفس المنوال عندما أرسى قيما لصالح أخرى، القوي هو من يصنع دوما تلك القيم، يصنعها على مقاسه كي يبقى مسيطرا، وما خطابه إلا نتاج لهيمنته حيث ينمحي خطابه هذا بانمحاء هيمنته، إننا في حاجة للإنسان الأعلى الذي لا يجب فهمه كإنسان خارق يصنع المعجزات، بقدر ما يجب استيعابه كإرادة للحياة تصنع الاختلاف مصدعة التكرار، وما التكرار في نهاية المطاف سوى إعادة التفكير والعيش على طريقة وأسلوب الأسلاف أي على تمجيد الماضي وتقديسه، وما تمجيد الماضي إلا غياب القدرة والإرادة على عيش الحاضر وصنع المستقبل، فلنكن إذن هذا الإنسان الذي يتخلص من النموذج درءا وتجنبا للتبعية، فلنكن ما نريد نحن ليس ما يريد الآخر، عندها سنفهم أن حاجتنا للإنسان الأعلى هي داء لعللنا ودواء لأوهامنا وجمودنا الذي طال أكثر من اللازم.        
ـــــــــــــــــــــــــــ
1-    Joachim Köhler : qui était Friedrich Nietzsche ; ed : inter nationes 2000 p : 43
2-    Voir par exemple : Joachim Köhler, qui était Friedrich Nietzsche, op cité p : 44
3-    Friedrich Nietzche, « ainsi parlait Zarathoustra », traduit par : Georges Arthur Goldschmidt, ed : LGF 1983, p : 21
4-    Ibid, p : 24
5-    Ibid, p : 27
6-    Ibid ;p :24  

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟