لغة الايديولوجيا وايديولوجيا اللغة : قراءة في تاريخ العلامة المقهور ـ حيدر علي سلامة

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

haidar-ali-salamaيلاحظ المتتبع لصيرورة وحركة الخطاب اللساني/الأكاديمي السائد، أن هناك نوعا من سيادة  أسماء كاريزمية/لسانية مركزية، وغيابا/وتغييبا لأسماء كثير من مجددي خطاب الدراسات  الماركسية - وليس الماركسية الدوغمائية – بشقيه: البراكسيسيpraxis/الابستمولوجي Épistémologie والاستطيقي Esthétique/الثقافي، سيما عند أولئك الذين شكلوا ا كثر من منعرج سوسيو-لساني لذلك الخطاب، وممن عملوا على إعادة لحمة التواصل بين بنية الأبحاث اللسانية الجديدة والخطاب الماركسي في مجمل تحولاته السيمانتيكية؛ اللسانية والثقافية/الاجتماعية. ربما كان من أبرزهم الفيلسوف البولوني "آدم شاف" الذي عمد من خلال جميع مؤلفاته الفلسفية والسوسيولوجية إلى جانب إعماله المنطقية واللسانية، إلى إعادة قراءة خطاب اللسانيات وفلسفة اللغة والمنطق في تاريخ الفلسفة الماركسية. فوفقا لرؤيته "شاف" النقدية، لم تعد اللغة مجرد انعكاس للبنية التحتية كما ظهرت في الماركسية التقليدية، بل اللغة هي مُنتج ثقافي؛ لساني وأيديولوجي، ولا يمكن حصر هذا المُنتج ضمن نظرية واحدية كنظرية الانعكاس الدوغمائية والرؤية الستالينية الضيقة. لذلك، دعا فيلسوف اللسانيات "شاف" إلى ضرورة (( التعاون بين الحقول المعرفية المختلفة. لان الإشكالية اللسانية المطروحة تتسم بدرجة من التعقيد الذي يجعل منها نقطة محورية للتواصل بين العلوم الابستمولوجية المتعددة، كاللسانيات والمنطق والاثنولوجيا والسايكولوجيا وعلوم الطب، والتي بدونها يعجز الفلاسفة عن تحليل الإشكالية اللسانية تحليلا ابستمولوجيا ))(1).   
 

ولم يتوقف الفيلسوف "شاف" عند نقطة إعادة اللحمة بين النظام التواصلي لفلسفات العلوم ذات التوجه الامبريقي، بل إننا نجده قد سلط الضوء أيضا على إعادة قراءة خطاب العلوم الإنسانية ذات الاتصال المباشر بعملية تكوين الظاهرة اللسانية/الثقافية. فبعد تنقيبه الاركيولوجي في تاريخ العلاقات الاجتماعية للمجتمعات القديمة، والتي يُطلق عليها "خطأ" بـ( المجتمعات البدائية )، توصل إلى أن ذلك التاريخ يمثل المادة الخام لمجمل المقاربات السوسيو-لسانية؛ والسوسيو-ثقافية والسوسيو-سياسية، والتي بواسطتها (( نتمكن من ربط الإشكالية اللغوية مع كل من: تاريخ وثقافة المجتمعات. فمن خلال أبحاث عالم الانتروبولوجيا الانجليزي مالينوفسكي في لسانيات المجتمعات البدائية، دُشِنت ثورة منهجية في بنية تلك الإشكالية، فصار من غير الممكن أن نفهم بنية تلك اللسانيات بمعزل عن ممارساتهم الثقافية والطقسية والدينية. وهذه الفرضية لازالت سارية المفعول، في درجة معينة، على بنية لسانياتنا في فضائنا الثقافي ))(2). بعبارة أخرى، إن طبيعة دراسة تلك المجتمعات لم تعد منفصلة عن دراسة بنية نظامها الثقافي، الذي يتأسس على منظومة لسانية تعكس تصورات تلك المجتمعات لمجمل تمثلاتها لميتافيزيقا العالم. ومن ثمة، أصبح النظام اللساني واللغوي حسب رأي الفيلسوف "شاف" هو الذي يُشكل/ويُعيد تشكيل تصورات الوعي للعالم. ولهذا، اتسمت العلاقة بين كل من: الأيديولوجيا؛ اللغة ونظام إنتاج التصورات والتمثلات المُتخَيّلة لبنية الواقع المادي والتاريخي، في كونها علاقة متداخلة ومتفاعلة. وهذا بالضبط، ما يفسر لنا إشكالية وجود بنية من القوانين الخاصة التي تعكس النظام الداخلي لعمل الأيديولوجيا، والتي تكاد أن تكون بنية مستقلة ومتحررة عن قوانين الأنعكاس وأطرها الإنتاجية الميكانيكية، والتي اعتبرت أن البنية الفوقية ليست أكثر من مجرد انعكاس للعامل الاقتصادي. فكان علينا أن نتساءل هنا، هل تبلورت نظرية لمفهوم الايديولوجيا في تاريخية خطابنا الفلسفي عامة ؟ وهل تشكلت علاقة ابستمولوجية بين كل من: الايديولوجيا والفلسفة واللغة في خطاب اللسانيات خاصة ؟
يبدو ان طبيعة بنية الأيديولوجيا المتفاعلة مع مجمل ممارسات الحياة اليومية، وعلى مختلف أشكال تلك البنية وتحولاتها بين كل من: اللغوي واللساني والثقافي، لا يمكن اختزالها في وصفات ميكانيكية جاهزة ومعدة سلفا. لان هناك "منطقا منظوريا" يُشكل طبيعة ذلك التداخل، ويتشظى بين اصغر وادق مجهريات الحياة اليومية الواعية منها واللاواعية. ومثل تلك "الممارسات المنظورية" المنشطِرة في بنية الحياة اليومية والقيّمية لأنطولوجيا "الممارسة اللسانية والفعالية اللغوية"، يستحيل عليها أن تبقى رهينة المحبسين لعلاقة انعكاسية للبنية التحتية، في حين أن هذه العلاقة، هي في الواقع، علاقة ميتافورية أكثر مما هي حرفية أو حقيقية. ومن هنا، تتأتى ضرورة عملية فهم وتأويل العلاقة المتداخلة لمفهوم الايديولوجيا مع كل من: تحليل الخطاب النقدي (critical discourse analysis) وفلسفة اللسانيات (philosophy of linguistics) بحسب "غيلنر"، فبواسطة مثل هكذا تأويل سوف تتوفر شروط "صدمة حداثوية" جديدة لزعزعة أسس التقليد الراسخة في بنية خطابنا الفلسفي، تلك الأسس التي طالما أقصت أطروحات الآخر الغربي المختلف/المغاير لمركزية الثقافة الغربية بذاتها، وربما كان من ابرز من عمل على تشكيل مثل تلك الصدمة الحداثوية/الفلسفية في تاريخ ابستمولوجيا اللسانيات واللغة: فيلسوف المنطق واللسانيات البولوني الأصل "كورزبسكي"؛ وعالم المنطق الروسي "زينوفيف"؛ وعالم السايكولوجيا الثقافية الروسي الأصل "فيغوتسكي"(3)، اضافة الى فيلسوف خطاب الدراسات الثقافية "غرامشي" ومؤسس فلسفة القطائع الابستمولوجية "التوسير" وغيرهم ممن عملوا على إعادة قراءة وتحليل ابستمولوجيا اللغة وعلاقتها بلسانيات الايديولوجيا ونظام عملها في تشكيل بنية الحياة اليومية.
فعلى سبيل المثال، حرر "التوسير" مفهوم الأيديولوجيا من سيطرة المفاهيم الوضعية عليها، فعدّ :((...نظرية الأيديولوجية المحللة في كتاب الأيديولوجيا الألمانية، نظرية “غير ماركسية” لأنها تقوم بصفة أساسية على علاقة الأنعكاس المقلوبة بين البنية العليا والبنية السفلى، وعلى الوعي “الوهمي” أو “الزائف” وعلى التقابل بين الحقيقة والكذب.... إن النظرية الماركسية “السليمة” عن الايديولوجيا هي تلك التي اعتقد التوسير انه عرضها في مختلف مؤلفاته، لأنها تختلف...جذريا عن الأطروحة الوضعية والتاريخانية التي أتت بها الأيديولوجية الألمانية... إنها في  إيجاز:
 أولا- اعتبار الأيديولوجيا ممارسة اجتماعية، ثانيا- وإنها علاقة خيالية للناس بشروط وجودهم الأجتماعي، ثالثا- وإنها خالدة، رابعا- وإنها من حيث وظيفتها، تعترف بالواقع وتتجاهله في نفس الوقت.
 ماذا يعني التوسير بمفهوم الممارسة..؟ يقصد به بصفة عامة كل عملية لتحويل مادة أولية معينة إلى إنتاج معين، بواسطة عمل إنساني معين، وبأستعمال أدوات إنتاج معينة... ويجب اعتبار الأيديولوجيا مستوى خاصا للعمل والممارسة بالمعنى السابق لا يختلف عن باقي مستويات الممارسة الأجتماعية الأخرى. لأن اعتبار الأيديولوجيا ممارسة هو الشرط الذي لا غنى عنه لكل نظرية في الايديولوجيا، ذلك لان كل ايديولوجيا، دينية كانت أم سياسية أم أخلاقية... تحول موضوعها أي “وعي الناس”. ويعرف التوسير الأيديولوجيا كممارسة موضوعها “تحويل” وعي الناس بأنها: "... نسق – يملك دقة ومنطقا خاصا – من التمثلات (أخيلة، أساطير، أفكار، تصورات)، له وجود خاص، وله دور تاريخي في مجتمع ما..." ....هناك إذن، علاقة واقعية تربط الناس بظروف وجودهم المادي، وهناك علاقة أخرى خيالية تتحقق في مستوى الايديولوجيا، بواسطتها يحيا الناس العلاقة الأولى :أي أن الايديولوجيا تحول “وعي” الناس بواقعهم إلى وعي “خيالي”. يقول التوسير في هذا الصدد : “لا تمثل الأيديولوجيا في تشويهها الخيالي علاقات الإنتاج القائمة والعلاقات الأخرى المشتقة منها، ولكنها تمثل قبل كل شيء العلاقة الخيالية للأفراد بعلاقات الإنتاج. ليست الأيديولوجيا تمثلا لنظام العلاقات الواقعية التي تهيمن على وجود الناس، بل تمثل العلاقة الخيالية لهؤلاء الناس بالعلاقات الواقعية التي يحيونها... ويحيا الناس ايديولوجياتهم، كعلاقة خيالية ونسق من التمثلات، غالبا بكيفية لا واعية حتى عندما تظهر في صور واعية، إن الأيديولوجيا“... بنيات تفرض على الأغلبية من الناس بدون أن تمر بوعيهم ))( 4).
يتضح مما سبق، أن "التوسير" عمل على تدشين قطيعة ابستمولوجية مع نظرية الايديولوجيا، خاصة مع تلك التي تشكلت وظهور كتاب (الأيديولوجيا الالمانية) لماركس، واعتبرت أن ((...الأيديولوجية وعيا خاطئا ولثاما يكفي إماطته للكشف عن ظروف العيش الواقعية. ففي رأي هذه النظريات ليست الأيديولوجية إلا تمثلا وهميا وانعكاسا منفعلا لا فعالا. وهذا يعني أن التمثلات الأيديولوجية عندها هي تمثلات وهمية خيالية ليس لها وجود واقعي وليست تتجسد في أجهزة معينة تتحكم في سير المجتمع وتكيّفه وتساهم في “إعادة علاقة إنتاج علاقات الإنتاج“. هذه النظريات لا تعتبر أن الوهم ليس يوجد في العلاقة التي تربط تلك التمثلات بالعلاقات الأجتماعية بل في التمثلات ذاتها. اهم هذه النظريات حسب التوسير هي التي جاءت في كتاب الأيديولوجية الالمانية. فعندما يقول هذا الكتاب بأن الأستلاب الفكري ناتج عن الأستلاب المادي فكأنما يفترض أن الأيديولوجية تعكس الواقع أي أنها تعكس علاقات الناس الواقعية. يرد التوسير بأن الايديولوجية علاقة من الدرجة الثانية وهي لا تعكس العلاقات الحقيقية وإنما هي علاقة وهمية بالعلاقات الحقيقية. هذا ما يؤكده "بولانتزاس" عندما يقول : “ أن نظرية ماركس الشاب حول الأيديولوجية كانت تتمركز حول الذات. كان ماركس يتصور الأيديولوجية انطلاقا من النموذج ذات - واقع - استلاب. في الأيديولوجية تفقد الذات ماهيتها العينية، والايديولوجية هي إسقاط للذات في عالم وهمي“ ذلك لأن الأيديولوجية من حيث هي مستوى من مستويات التشكيلات الأجتماعية، لا تردد صدى المستوى الأقتصادي ))( 5).
بعبارة أخرى، إذا ما حاولنا أن نترجم مجمل ما تم طرحه أعلاه بلغة اللسانيات والدراسات الأدبية والدراسات الثقافية، نجد أن مفهوم الايديولوجيا شغل أكثر من نظام ثقافي وقيّمي واخلاقي، تداخلت فيه كل من الأبعاد اللسانية والأجتماعية والسياسية، والتي تشكل المؤسسة الخيالية للمجتمع (بحسب الفيلسوف اليوناني كاسترياديس). أما مع رؤية فيلسوف النظرية الأدبية والدراسات الثقافية "تيري ايغلتون"، فقد تم تدشين منعرج ايديولوجي جديد (ideological turn). فمع هذا المنعرج اصبح مفهوم  الايديولوجيا  ممثلا لـ :
 (( (أ) عملية إنتاج المعاني والعلامات والقيم الثقافية في الحياة الأجتماعية؛ (ب) جسد الأفكار الذي يميز طبقة أو مجموعة اجتماعية معينة؛ (ت) الأفكار التي تساعد على تبرير شرعية السلطة السياسية الحاكمة؛ (ث) الأفكار الزائفة التي تساعد على تبرير شرعية الهيمنة للسلطة السياسية؛ (ج) التواصل المشوه بشكل منظم، والواهب المانح للذات موقعا وكيانا؛ (ح) أشكال التفكير المحفَزة من قبل اهتمامات اجتماعية؛ (خ) التفكير الهوياتي/المتطابق، بوصفه وهما ضروريا اجتماعيا؛ (د) وأداة ربط بين الخطاب والسلطة؛ (ذ) ووسيط يتمكن من خلاله الممثل الاجتماعي الواعي من تشكيل معنى لعالمه؛ (ر) فعل اجتماعي مُتحكم به ايديولوجيا، والذي يؤسَس عليه نسق من الاعتقادات؛ (ز) ويشكل التباسا لسانيا وواقعة ظاهراتية؛ (س) وكلاهما يمثل تطابقا سيميائيا؛ (ش) يصبح هو القناة الرئيسية التي بواسطتها تتخارج الذوات عن علاقاتها الحقيقية نحو بنية اجتماعية وهمية؛(ص) ونتيجة لعملية إنتاج المعاني والعلامات والقيم السابقة الذكر أعلاه، تتحول الحياة الاجتماعية إلى واقعة طبيعية ))(6).
من هنا، تتجلى الضرورة الراهنة لمحاولتنا الرامية إلى إعادة اكتشاف لغة الأيديولوجيا/وايديولوجيا اللغة، من اجل إعادة تفعيل منطق "لسانيات الأيديولوجيا"، ذلك المنطق الذي طالما تم تغييبه ومصادرته بأسم الأتجاه الموضوعاني المتعالي/الرياضي/المنطقي. الأمر الذي أسس لسيطرة النزعة التعميمية/التجريدية، سواء في فلسفة الأخلاق والمناهج التقليدية المعتمدة في لغة بحثها، آو في النزعة الانتقائية للمراجع والمصادر الفلسفية المستعملة، والتي في مجملها، انعكست سلبا على طبيعة الدرس الفلسفي من جهة، وصيرورة المنشور الفلسفي من جهة أخرى .
ولو قمنا بجولة فلسفية في دهاليز تاريخ إرشيفنا الفلسفي منذ تأسيسه والى يومنا هذا، لاكتشفنا سيطرة مطلقة للأتجاه الموضوعاني المنطقي/المتعالي في مختلف التوجهات والأختصاصات الفلسفية، بدء من تاريخ الفلسفة اليونانية وانتهاء بالفلسفات الحديثة والمعاصرة والحداثوية وخطاب المابعديات. حيث سنلاحظ كيف أن هذا الاتجاه عمل على تكريس تام لسيادة أنماط معرفية محددة شكلانية/تعميمية، تُقصي كل ما هو تاريخي/مشخّص، وكيف افرز في الوقت نفسه، اثارا وخيمة على "أسلوبيات اللغة المتداولة شفاهيا وكتابيا" في أقسامنا الفلسفية، حيث سيطرت اللغات المنطقية الموضوعانية Objectivisme المتعالية، المنهمِكة في البحث عن الدقة المنطقية والضبط الرياضي والاصطلاحي في إنتاج اللغة عامة، والعبارات المتداوَلة خاصة. لهذا، ساد كل من: "اللغة الشكلانية المنطقية" على حساب "لغة الحياة اليومية الطبيعية" ؛ و "التواصل الرسمي" بين المشتغلين أنفسهم في الحقل الفلسفي على حساب تحقيق تواصل بينذاتي intersubjectivité وتواصل متفاعل بين العلوم ومناهجها المختلفة interdisciplinaire. كل ذلك مهد لسيطرة "الكلمة القاموسية المجردة" بدلا من "الكلمة الحيّة المشخصة" في بنية الخطاب الأكاديمي من جانب، وفي بنية انطولوجيا الحياة اليومية من جانب آخر.
من هنا، أصبح الخطاب الفلسفي في مؤسساتنا الأكاديمية ينتج/ويعيد إنتاج ما يُعرف بـ: ((..."الكلمة القاموسية"، التي.... لا تعرف إلا ذاتها” أي سياقها هي” وموضوعها وتعبيريتها المباشرة ولغتها الواحدة والوحيدة. أما الكلمة الأخرى، الموجودة خارج سياقها، فلا تعرفها إلا بوصفها كلمة محايدة من كلمات لا تخص أحدا، إلا مجرد إمكانية كلامية ))(7). ربما لان هذا المصطلح هو الأقرب إلى عمل نظامنا الفلسفي قديما وحديثا، طالما كان يمثل خطابا لا يعبر إلا عن ذاته وعن سياقاته الأيديولوجية المُضمَرة. من هنا، اقترح علينا فيلسوف اللسانيات "باختين"(8)  مفهوم "الكلمة الحيّة" كبديل عن "الكلمة الأكاديمية الميتة"، لأنه رفض :((..التصور التقليدي الذي يرتاح إلى "الكلمات الميتة"، أو إلى "الكلمة المحايدة" كما يقول، ويذهب إلى "الكلمة المشخصة"، التي يساوي وجودها وجود كلمات الآخرين فيها،قبولا أو رفضا أو تقاطعا، فلا وجود للكلمات فرادى، فوجودها هو صراعها مع كلمات وتأثرها بكلمات أخرى وتقاطعها القلق مع كلمات لاحقة. وهذا كله يعين الكلمة كيانا حيّا، يتكون في علاقات التأثر والتأثير، كما لو كانت الكلمة جملة العلاقات الأجتماعية التي تعبرها...."الكلمة هي الظاهرة الايديولوجية بأمتياز"...."الكلمة محملة دائما بمضمون أو بمعنى ايديولوجي أو حدثي". ان الكلمة الطاهرة والمكتفية بطهرها الذاتي لا وجود لها، ذلك إنها في استعمالها اليومي لا تنفصل عن مضمون ايديولوجي محايث لها، بل إنها لا تحقق استعمالها إلا بفضل الايديولوجيا التي تلازمها. ولذلك فأن الفصل بين الكلمة وحمولتها الأيديولوجية يلغي دلالة الكلمة، لتغدو إشارة مجردة، بعد أن كانت إشارة لغوية، أي انه يكتفي بالكلمة في ذاتها ويعرض عن المتحدثين بها، كما لو كان بإمكان اللغة أن توجد بمعزل عن المتحدثين بها ))(9).

 إن طبيعة المقاربة الفلسفية بين بنية "الكلمة القاموسية"، وبنية "الكلمة الحية/اليومية"، إنما هي في واقع الأمر، مقاربة تفتح لنا أفقا جديدا نحو تأسيس منعرج ابستمولوجي؛ لساني وأخلاقي. فمن الناحية اللسانية، لم يعد في الإمكان، الاستناد على ابستمولوجيا لسانيات النزعة الموضوعانية المجردة والمرتكزة على بنية ونظام النحو Grammatique السنتاكسي Syntaxe؛ السيمانتيكي Sémantique؛ المنطقي لطبيعة الجملة المنعزِلة والمحدَدَة بأنساق اللغة الشكلانية المتعالية، والتي تعكس مجمل الاتجاهات الوضعية والتجريبية في المنطق ونظريات المعرفة التقليدية والمُسيطِرة  على تشكيلات دروس الفلسفة ومناهجها التعليمية في مؤسساتنا الأكاديمية، والتي عملت في مجملها على إنتاج خطاب عزلة وانفصال بين كل من: الفيلسوف / والعامة / والمدينة Polis؛  ولغة الفيلسوف / ولغة الشأن اليومي  ولغة الفلسفة / ولغة السياسة.
 أما من الناحية التاريخية، فما عاد ممكنا، الاستمرار في مسلسل انفصام العلاقة بين كل من الفلسفة والايديولوجيا، الذي افرز تناولا شكلانيا لمفهوم الايديولوجيا من خلال الاستناد على إعادة إنتاج تصورات استدلالية قارّة في البنية التحتية للمنظومة المفاهيمية في خطابنا الفلسفي عامة، وخطابنا الفلسفي المادي - سيما الماركسي منه - خاصة. على الرغم من أن دراسة نظرية الايديولوجيا: ((...تعني، بطريقة ما أو بأخرى، دراسة اللغة في العالم الأجتماعي. ودراسة الوسائل التي من خلالها يتم تداول اللغة في بنية الحياة الأجتماعية اليومية، بدء من أدنى المجادلات بين الأصدقاء وأفراد العائلة الواحدة وانتهاء بأعلى مراحل الجدل السياسي ))(10). فإذا حصل وتم إعادة اللحمة بين الفلسفة والايديولوجيا، حينها ربما سيؤدي ذلك إلى إحداث "صدمة حداثوية جديدة في الفلسفة،  وإلى: ((...أثراء مفهوم الايديولوجيا بوصفه نظرية وممارسة في آن واحد، والذي يتشكل بواسطة تحقيق تحول راديكالي لتصوراتنا حول اللغة، للانعراج بأنتباهنا نحو مظاهرها التداولية، التي طالما تم إهمالها أو تغييبها من قبل بعض التصورات التقليدية في اللسانيات وفلسفة اللغة. فمن اجل أن تكون العلاقة  متفاعلة بين اللغة والأيديولوجيا لابد من: التخلي التام عن التحليل المنطقي الصارم للعبارات أو لأنظمة العلامات، والتركيز عوضا عن ذلك على الوسائل التي تساعد تعابيرنا اللغوية على إنتاج تدوالية الفعل ورد الفعل من جهة؛ وعلى تحويل تلك العلاقة المتفاعلة، إلى قناة يتم من خلالها إنتاج التاريخ وإعادة إنتاج المجتمع من جهة أخرى. وبذلك تدعونا نظرية الأيديولوجيا إلى النظر إلى اللغة ليس بوصفها مجرد بنية تستخدم لأجل التواصل أو الترفيه، وإنما النظر اليها بوصفها ظاهرة سوسيو-تاريخية تُغلف انطولوجيا الصراع الأنساني ))(11).
من هنا، لا تعتبر لسانيات الأيديولوجيا وتاريخ منطقها، مجرد ملحق بسيط بتاريخ الصراع الطبقي كما هو الحال عليه في " لاهوت الماركسية الأرثوذكسي " الذي رهن تاريخ تطور الأخلاق ونسبوية القيم بالظواهر الطبيعية والحتمية البايو-مادية جدلية. وذلك لأنه بعد المنعرجات الحاصلة في اللسانيات وفلسفة اللغة، سيما مع فيلسوف اللسانيات الروسي "فولوشينوف" وباختين وغرامشي والتوسير، لم يعد في الإمكان، النظر إلى: ((...مفهوم الايديولوجيا بوصفه مجرد هتافات خطابية، أو تمثل زائف أو مشوه “للواقع”، أنما اصبح يمثل قوة مادية في قاع سياقه الثقافي المُحدَد))(12). 
الهوامش:
 (1)
Adam Schaff: De La Necessité Des Recherches Marxistes Sur Le Langage, Un Essai sur la philosophie du langage, dans son livre Langage et Connaissance, Traduit du polonais par Claire Brendel, Edition anthropos, Paris, 1969, p215

(2)
Ibidem, p214
(3) لمزيد من الاطلاع والتوسع حول المنجز الفلسفي والابستمولوجي في فلسفة اللغة في الخطاب الماركسي للفلاسفة كورزبسكي؛ زينوفيف؛ فيغوتسكي، يُنظر:
Alfred Korzybski: Science And Sanity; An Introduction To Non-Aristotelian Systems And General Semantics, The International Non-Aristotelian Library Publishing Company, USA, 4 edition, 1958
Zinoviev Alexandre :Le Communisme Comme Réalité, Traduit Du Russe Par Jacques Michaut, Edition de l’Age d’Homme, France, 1981
Lev Vygotski : Pensée Et Langage, Traduction de Françoise Sève; suivi de Commentaire sur les remarques critiques de Vygotski de Jean Piaget, La Dispute/Snédit, Paris, 3 édition, 1997
 
(4) عبد الرزاق الدواي: حول نظرية الأيديولوجية عند التوسير، دراسة منشورة في مجلة الاقلام المغربية، نسخة الكترونية، د.ت، ص ص37-38-39
(5) عبد السلام بنعبد العالي: الميتافيزيقا، العلم والايديولوجيا، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،ط2، 1993، ص ص96-97
(6)
Terry Eagleton: Ideology; An Introduction, Verso, London-New York, First Published, 1991, PP1-2
(7) د.فيصل دراج:ميخائيل باختين: الكلمة، اللغة، الرواية، دراسة منشورة في مجلة الآداب الاجنبية، سوريا،العدد99، 1999، ص126
(8) لتوسع حول مفاهيم اللسانيات ثقافيا وتاريخيا وجماليا عند باختين، يُنظر:

Mikhaïl Bakhtine: Esthétique et Théorie du Roman, Traduit Du Russe Par Daria Olivier, Edition Gallimard, France, 1978

(9) د.فيصل دراج، ص126
(10)
John B. Thompson: Studies In The Theory Of Ideology, University Of California Press, Berkeley, Los Angeles, First Published, 1984,p2
(11)
Ibid,p2
(12)
Michael Gardiner: The dialogics of critique: M. M. Bakhtin and the theory of ideology, Routledge, London, 1992,p7

(*) باحث من العراق- مختص في فلسفة خطاب الدراسات الثقافية، حاصل على درجة الماجستير في الفلسفة من كلية الآداب / جامعة بغداد عن الأطروحة الجامعية والموسومة: (إشكالية المثقف عند الفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي ) لسنة 2005. ظهرت للباحث مقالات ودراسات فلسفية في صحف عراقية وعربية، بدء من مقالنا المعنون (ميتافيزيقا الأضابير في ميثولوجيا السلطة) المنشور في صحيفة (العرب) اللندنية من عام 2002.

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟