النخبة الاقتصادية في الصويرة من خلال قراءة في كتاب دانييل شروتر "تجار الصويرة" ـ أمينة وعزيز

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

georges mathieuالإطار العام للكتاب :
هذا الكتاب في الأصل أطروحة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة مانشستر البريطانية، ناقشها دانييل شروتر سنة 1984، وصدرت سنة 1988 عن منشورات كمبريدج الجامعية تحث عنوان Merchants of Essaouira : Urban Society and Imperialism in Southwestern Morocco 1844 – 1886، ومن خلال العنوان يلاحظ أنه حصر الموضوع ما بين 1844 و 1886، حيث إن السنة الأولى هي سنة قذف الأسطول الفرنسي لمدينة الصويرة بالقنابل، وكان ذلك عملية عقابية لردع المغرب عن التعامل مرة أخرى مع حركة المقاومة الجزائرية على حدودها الغربية ، وأما السنة الثانية فهي سنة قيام مولاي الحسن بحركة الى منطقة سوس لتأكيد السيادة المغربية على هذه المناطق، وهي اخر حركة قام بها المخزن المركزي ليبرهن للأوربيين والقبائل في نفس الوقت على أن المرسى السلطاني في الصويرة هو مرسى تجارة الجنوب .
ويهتم هذا الكتاب في المقام الأول بجماعة تجار الصويرة في هذه المرحلة، وعلاقات هذه الجماعة بالسلطان وبالأوربيين والقوى الجهوية في الجنوب الغربي .


مصادر الكاتب :
اعتمد المؤلف على أربعة أنماط رئيسية من المصادر الأساسية هي :
الوثائق الإدارية وكنانيش الرسوم الجمركية والأعشار التي كانت تؤدي للمخزن المركزي، وسجلات القنصليات الأجنبية، والأخبار الوصفية للرحالين والمقيمين الأجانب في المغرب، والوثائق الخاصة لعدة مؤسسات تجارية مغربية يهودية.
كما اعتمد على وثائق احدى العائلات اليهودية التي كانت تمارس التجارة خلال القرن التاسع عشر بالصويرة هي أسرة ال قرقوز حيث حصل على أكثر من مائتين رسالة بعث بها القصر ما بين 1843 و 1883 الى أفراد هذه العائلة في الصويرة .
كما رجع المؤلف إلى أرشيف النيابة القنصلية الأمريكية انذاك في موكادور، حيث اطلع على متبادلة بين ال قرقوز والقنصل العام الأمريكي في طنجة، وكذا رسائل بين قنصل موكادور ومخزن الصويرة المحلي. واعتمد كذلك على الأرشيفات الفرنسية والبريطانية .
كما لم يفت الكاتب الاطلاع على الرسائل الرسمية للمخزن المركزي الموجودة في الخزانة الحسنية التابعة للقصر الملكي، كما استطاع الاطلاع على وثائق عائلة بودميعة في إليغ، وشارك في بحث ميداني تحث اشراف عالم الاجتماع المغربي بول باسكون مما مكنه من زيارة سوس والاطلاع عن قرب على الجنوب الغربي للمغرب، كما استفاد من المعلومات التي قدمها له مجموعة من اليهود الذين كانوا مستقرين بالصويرة والذين أمدوه بعدد كبير من الوثائق العبرية .
كما اعتمد على كتابات ودراسات عديدة بالعربية والفرنسية قاربت 200 مرجع، ومنها أعمال عدد من الأساتذة المغاربة الذين اشتغلوا على القرن التاسع عشر أمثال خالد بن الصغير ، محمد الأمين البزاز، عمر أفا، أحمد التوفيق وأخرون .
الإشكالية :
شهد المغرب خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تزايدا في الإعتماد على أوربا، مما ساهم في خلخلة البنيات الاجتماعية والاقتصادية المغرية، وكانت المدن المراسي أكثر قابلية للتحول الاجتماعي وعاملا من عوامل التغيير الذي أفضى إلى اخضاع البلد بكامله لهيمنة الغرب .
فماذا كانت ردود فعل التجار المحليين على قوى التغيير الخارجية ؟ وكيف تصرف هؤلاء التجار بصفتهم من العوامل الفاعلة في التحول الاجتماعي والاقتصادي ؟
الفكرة المركزية للكتاب :
استطاع بعض تجار السلطان الوصول الى مستوى مرتفع من الثراء، خصوصا مع التسرب الأوربي حيث تحولوا من تجار للسلطان الى وسطاء تجاريين، لكن هذا الثراء كان مرتبطا بأوربا وظلت امكانات الاستثمار المحلية محدودة جدا، مما جعل نسبة تأثيرهم في المجتمع المغربي ضعيفة، حيث لم يعملوا على اعادة بناء الاقتصاد التقليدي المغربي على نمط غربي .
عرض موجز لفصول الكتاب :
في الفصل الأول ققام الكاتب بالرجوع إلى البدايات الأولى لتأسيس مرسى الصويرة من طرف السلطان سيدي محمد بن عبد الله متناولا ظروف التأسيس والموقع والتصميم ومختلف المجموعات البشرية التي استقرت بالمدينة .
أما الفصل الثاني فقد خصصه لتجار السلطان وهو الفصل الذي يهمنا في هذه القراءة  وسنعود له لاحقا.
الفصل الثالث تناول فيه التسيير الاداري للمدينة والبزار، و تعرض للحياة اليومية للحرفيين والصناع .
في حين خصص الفصل الرابع للحديث عن علاقة المدينة بأحوازها، ودور الباعة المتجولين في تصريف البضاعة في الأسواق القروية، وكذا علاقة الصويرة ببعض الأسواق البعيدة كتومبكتو .
أما الفصل الخامس فقد عالج فيه السياسة التجارية الخارجية للمخزن معرجا على الاتفاقيات التجارية التي وقعها المغرب خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
واستتبع هذا الفصل بفصل سادس تناول فيه بالتفصيل مسألة الضغوط الأجنبية ودورها في فرض اصلاحات على المخزن كانت في خدمة الأطماع التوسعية الأوربية .
في حين تناول في الفصل السابع، مساهمة  تطور تجارة الصويرة في تقوية بعض زعماء الجنوب ومحاولة هؤلاء ربط علاقات مع الأوربيين ومختلف ردود المخزن للحد من هذه الاتصالات ، ومن بينها منح امتيازات لهؤلاء الزعماء ومحاولة القيام باصلاح مالي أو ما سمي بالترتيب .
أما الفصل الثامن، فقد تناول فيه مختلف المشاكل الطبيعية التي واجهت المدينة خلال القرن التاسع عشر من جفاف ومجاعات وأوبئة، وكيف استغل أصحاب النفوذ هذه الظروف لتحقيق أرباح كبيرة .
أما الفصل التاسع والأخير، فقد خصصه لتفسير تراجع مكانة مرسى الصويرة وانتقال الثقل الاقتصادي لميناء الدار البيضاء .

النخبة الاقتصادية بالصويرة خلال القرن التاسع  عشر :
كما سبقت الاشارة فقد خصص شروتر الفصل الثاني للنخبة الاقتصادية بمدينة الصويرة، والتي كانت تعرف بتجار السلطان، ويشرح لنا شروتر ما المقصود بالتاجر في الحواضر الاسلامية، فليس المقصود صاحب الحانوت أو حتى التاجر الصغير الذي يراكم المخزونات، بل هم فئة قليلة لا يتجاوز عددها في الصويرة مثلا ينة 1847 سبعة عشر أو تمانية عشر تاجرا، وكانت لهم ارتباطات بالمخزن ولذلك حملوا لقب تجار السلطان، حيث منحهم السلاطين ظهائر يحتكرون بواستطها تجارة التصدير والاستيراد احتكارا شبه كلي، وكان أغلبهم من اليهود وهذا في حد ذاته يشكل مفارقة حسب شروتر فاليهود يشكلون أقلية ويحتلون مكانة وضيعة من الناحية الشرعية، ولا يمكن لهم أن يتولوا مناصب سياسية، لكن بالمقابل كانوا مرتبطين بالقصر ارتباطا وثيقا، ومع ازدياد حدة التسرب الأوربي أصبحوا يلعبون دور الوسيط بين التجار الأوربيين والمجتمع المغربي، وحسب جون لوي مييج فهذا التحول يعتبر انبتاقا لطبقة رأسمالية بدائية شبهها بالبورجوازية اليهودية في أوربا ابان القرن الثامن عشر، حيث تميز اليهود في كلتا الحالتين بخصائص متشابهة : المضاربة في الأثمان على المدى البعيد، استغلال ظرفيات الدورات الاقتصادية، تكوين الثروات بامتلاك الاراضي والعقارات، ثم امتداد الرأسمالية من الحواضر إلى البوادي مع حدوث تطور ايديولوجي .
لكن شروتر لا يوافق على هذه المقارنة لأنها تسقط نمودجا أوربيا للانتقال الى اقتصاد رأسمالي على محيط مغربي معين، فالتجار اليهود استطاعوا فعلا أن يكونوا طرفا في عمليات اقتصادية لها صلة بالخارج، واستفادوا من ذلك كثيرا، لكنهم لم يكونوا مجموعة سوسيو اقتصادية لها هويتها الواضحة، كما أنهم لم يشكلوا طبقة متلاحمة تتمتع بأي قاعدة مستقلة من حيث النفوذ والسلطة، وأصبحوا من جهة تجارا للسلطان ومن جهة ثانية كمبرادورات يمارسون نشاطهم في اطار علاقات القوة الجديدة مع أوربا .
وفيما يخص طبيعة العلاقة بين التجار والسلطان، فقد كان هذا الأخير هو الذي يسمح بتاجر ما ليتحول الى تاجر للسلطان يحظى بامتيازات عديدة، ويرتبطان معا بعلاقات مالية خاصة، حيث إن التاجر يعتمد في تسيير أموره على سلفات من القصر دون فوائد – لكون الاسلام يحرم الربا – مقابل تحصيل المخزن لعائدات مالية مهمة مصدرها الواحبات الجمركية التي يؤديها التاجر لأمناء المخزن في المراسي. وكان على التجار كل سنة أن يذهبوا الى مراكش لتقديم البيعة والولاء للسلطان، وكانوا يقدمون بهذه المناسبة هدايا للسلطان ، وكانت مناسبة للسلطان لمراقبة أنشطة هؤلاء التجار عن قرب .
إن هذا الرعاية السلطانية كانت تمنع على أي تاجر مستقل أن ينافس تجار السلطان، إلا أن هذه العلاقة بدأت تتغير مع خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث إن الضغوط الأجنبية استطاعت انتزاع مجموعة من المكاسب من السلطان بعد اتفاقية 1856، حيث تزايد أعداد التجار الأوربيين بالصويرة، ودخلوا في عمليات تجارية دون الخضوع لمراقبة القصر السلطاني، حيث انتقلت عدد المؤسسات التجارية بالصويرة من 39 مؤسسة سنة 1854 إلى 52 مؤسسة سنة 1866. واستطاع عدد من التجار اليهود عن طريق خضوعهم للحمايات القنصلية، أو الحصول على جنسيات أجنبية جذب رأس مال أجنبي أغناهم عن الدخول في تعاقدات الدين والسلف التي كانت تربطهم بالسلطان، ولمواجهة هذه التغيرات عمل السلطان على نقل مجموعة من التجار المسلمين واليهود من تطوان ومراكش الى الصويرة، لكن بدون فائدة حيث لم يستطيعوا الصمود في وجه المنافسة الأجنبية رغم الامتيازات الممنوحة لهم .
وتتبع شروتر خمسة نماذج لأسر شكلت نخبة الصويرة انذاك وهي أسرة آل قرقوز وأسرة آل مليح وأسرة أفرياط وأسرة توفلعز وأسرة بوهلال .
فآل قوقز أسرة يهودية كانت من أوائل الأسر التي استقرت بالصويرة، وكانوا يحظون مع مجئ كل سلطان جديد بظهير سلطاني يقرهم تجارا للسلطان وركز شروتر على شخصيتين أساسيتين هما أبرهام ويعقوب، وكانت هذه الأسرة تقدم نصائح سياسية  للسلطان بصفة غير رسمية، مما مكنهم من تحقيق ثروات ضخمة .
أما آل مليح فهي أسرة يهودية أيضا كانت تتمتع بمكانة دينية مكنتهم من الحصول على امتيازات تجارية من طرف السلطان، لكنهم دخلوا في صعوبات مالية آواخر القرن النتاسع عشر نتيجة تخبطهم في ديون متراكمة سواء في تعاملاتهم مع المخزن أو مع الأجانب .
أما أسرة آل أفرياط فقد اعتبرهم شروتر من الرأسماليين الأوائل حيث استطاعوا التكيف مع الطرق الغربية في التجارة، وتحرروا من الإطار التقليدي، وكانوا يتمتعون بحركية كبرى بسبب استثماراتهم في الخارج، وارتباطهم بزعماء الجنوب المغربي، وقدرتهم على الوفاء بديونهم، كما استطاعوا ارسال أبنائهم إلى الخارج وفتحوا دورا تجارية هناك خاصة بانجلترا .
    التجار المسلمين من جهتهم لم يكونوا يختلفون عن اليهود بل كانت تجمعهم وحدة المصالح، إلا أن التجار المسلمين كان بإمكانهم على عكس اليهود تولي مناصب سياسية، مكنتهم من تسيير شؤون المخزن على المستوى المحلي، وكان أبرزهم توفلعز وبوهلال. فالأسرة الأولى كانت من أصول سوسية ومنحهم السلطان حق احتكار تجارة الدقيق، وعين أفراد عائلتهم كأمناء للمراسي، لكنهم عانوا في نهاية القرن من مصاعب مالية. أما أسرة بوهلال فقد عين أفرادها كذلك أمناء للمراسي لكنهم دخلوا في صراعات مع الأجانب مما منع أعمالهم التجارية من تحقيق تطور ملموس .
    هذه الأسر بدأ أفرادها مسارهم تجارا للسلطان، فكانوا يحظون بالرعاية ويحصلون منه على امتيازات عديدة، ومكنهم اقتحام عالم التجارة الخارجية من تحقيق أرباح كثيرة استثمروا جزءا منها في العقارات الحضرية، لكن مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر تغيرت علاقتهم بالمخزن وبالمجتمع المغربي حيث ارتبطوا بالتجار الأوربيين، هذا الارتباط حسب شروتر مكن التجار من لعب دور مهم في الاصلاحات التي نهجها المخزن، لكنهم على عكس النخبة التجارية الأوربية لم يتمكنوا من تحقيق تغيرات سياسية لها دلالتها، حيث لم يتمكنوا من إنشاء طبقة مستقلة المصالح أو ذات قوة قاعدية .
ورغم أن هذه الأسر الخمسة استطاعت الخروج من سلطة المخزن إلا أنهم ظلوا مجرد تابعين للمؤسسات الأجنبية ومنفذين لأوامرها، بل إن الأزمة المالية التي عرفها المخزن انعكست كذلك على التجار، حتى أن آل قرقوز اضطروا سنة 1896 الى وضع عدد من دورها في الملاح على الرهن بعد ازدياد دعاوى الدائنين الأجانب ضدها ، وتضاءلت كذلك ثروات آل المليح وبوهلال وتوفلعز، وكان آل أفرياط هم الوحيدين الذين حافظوا على ثرواتهم، وذلك راجع لإلمامهم بأحوال الأسواق الداخلية وأوضاعها، واستطاعتهم نقل استثماراتهم إلى الخارج .
الخلاصات التي خرج بها شروتر :
في نهاية بحثه يخلص شروتر إلى نتيجتين أساسيتين :
  الأولى أن مدينة  الصويرة كانت تحتفظ بنواة نخبة من الأسر التجارية تقوم بتحريك عجلة التبادل ومختلف الأعمال التجارية في المرسى تصديرا واستيرادا، وكان بعض هؤلاء التجار يحققون أرباحا طائلة، لكن هذه الثروات ظلت حكرا على عدد ضئيل من الأفراد، وبالتالي لم ينعكس ذلك على سكان المدينة ككل، حيث تزايدت الفوارق الاجتماعية بشكل مهول .
   الخلاصة الثانية، هي أن تجار الصويرة لم يستطيعوا التحول إلى كتلة اجتماعية قوية، حيث ظلوا مجرد تابعين إما للمخزن أو للتجار الأوربيين أو زعماء الجنوب المغربي، وبالتالي لم تكن لهم سوى تأثيرات ضئيلة في إحداث التغير الاجتماعي، بل إنهم قد تحولوا نتيجة الحمايات القنصلية وعلاقتهم بالشركات الأجنبية إلى بذور زرعها الاستعمار .